قال ابن القيم شارحاً لكلام شيخ الإسلام " الهروي"

قَالَ : وَهِيَ عَلَى ثَلاثِ درَجات. الدَّرَجَة الأولَى : غَيرَةُ العَابدِ عَلَى ضائعٍ يَستَرِدُّ ضَياعهُ. وَيَستَدرِكُ فَواته ، وَيَتدَاركُ قُواهُ .
العَابِدُ هُوَ العامِل - بِمُقتَضَى العِلم النَّافعِ - لِلعَملِ الصَّالحِ . فَغَيرَته عَلَى مَا ضَاعَ عَلَيهِ مِن عَملٍ صَالحٍ . فَهُوَ يَسترِدُّ ضيَاعَهُ بِأَمثالِهِ . وَيَجبرُ مَا فَاتهُ مِنَ الأَورَادِ وَالنَّوَافلِ وَأَنوَاعِ القُربِ بِفِعلِ أَمثَالِهَا ، مِن جِنسِهَا وَغَيرِ جِنسِهَا . فَيقضِي مَا يَنفَعُ فيهِ القَضَاءُ . وَيُعوضُ ما يَقبلُ العِوضَ . وَيَجبرُ ما يُمكِن جَبرهُ .
وَقَولهُ " وَيَستدرِكُ فَواتهُ " الفَرقُ بَينَ استِردَادِ ضَائِعه ، وَاستِدراكِ فَائتهِ ، أَن الأَولَ : يمكِنُ أَن يُستَرَد بِعينِهِ ، كَما إِذَا فَاتَهُ الحَجُّ في عَام تَمَكنَ مِنهُ .
فَأَضَاعَهُ فِي ذَلِكَ العامِ : استَدرَكهُ في العَامِ المُقبِلِ . وَكذَلكَ إِذَا أَخرَ الزَّكَاة عَن وَقتِ وجوبهَا استَدرَكهَا بَعد تَأخيرِهَا ، وَنَحوِ ذَلِكَ .
وَأَما الفَائتُ : فَإِنما يُستَدرَكُ بِنظيرهِ .
كَقَضَاءِ الْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ إِذَا فَاتَ وَقْتُهُ.
أَو يكونُ مرادُه باستردَادِ الضَّائِع وَاستِدرَاكِ الفَائتِ نَوعيِ التفريطِ في الأَمرِ وَالَنهيِ . فَيَسترِد ضائِع هَذا بِقَضائهِ وَفِعلِ أَمثَالِه . وَيَستَدركُ فَائتَ هذا - أَي سَالفه - بِالتوبةِ والنَّدم .
وأَما تدارك قُواهُ فَهو أَن يَتَدارَك قُوته بِبذلِها في الطاعَةِ قَبل أَن تَتبَدل بِالضعفِ.
فَهوَ يَغَار عَلَيها أَن تَذهبَ في غير طَاعةِ اللهِ .
ويتَداركُ قُوَى العَملِ الذِي لَحِقه الفتورُ عَنهُ بِأَن يَكسُوه قوةً وَنشاطًا ، غَيرةً لهُ وعَلَيهِ .
فَهَذِهِ غَيرَةُ العُبادِ عَلَى الأَعمَالِ . وَاللهُ أَعلَمُ .

قَالَ : الدرَجَة الثانِيَة : غَيرَةُ المُرِيدِ . وَهِي غَيرَةٌ عَلَى وَقتٍ فاتَ . وَهِيَ غَيرَةٌ قاتِلَةٌ . فَإِن الوَقتَ وَحِي التقَضي .
أَبِيُّ الجَانِبِ ، بَطِيّ الرجُوعِ .
وَ " المُرِيدونَ " هُم أَربابُ الأَحوالِ ، وَ " العُبادُ " أَربَابُ الأَورَادِ وَالعِبادَاتِ .
وكُل مرِيدٍ عَابِدٌ . وَكُلُّ عَابِدٍ مُرِيدٌ . لَكِن القَومَ خَصُّوا أَهلَ المَحَبةِ وَأَذوَاقِ حَقَائِقِ الإِيمَانِ بَاسمِ " المُرِيدِ " وَخَصُّوا أَصحَابَ العَملِ المُجَردِ بِاسمِ " العَابِدِ " وَكُل مُرِيد لَا يَكُونُ عَابِدًا فَزِندِيقٌ ، وَكُل عَابِد لَا يَكُونُ مرِيدًا فَمرَاء .
و " الوَقتُ " عِندَ العَابِدِ : هُوَ وَقتُ العِبَادَةِ وَالأَورَادِ .
وَعِندَ المُرِيدِ : هُوَ وَقتُ الاِقبَالِ عَلَى اللهِ ، وَالجَمعِيةِ عَلَيهِ ، وَالعُكُوفِ عَلَيهِ بِالقَلبِ كُلهِ .
وَ " الوَقتُ " أَعَزُّ شَيءٍ عَلَيهِ ، يَغَارُ عَلَيهِ أَن يَنقَضِيَ بِدُونِ ذَلِكَ .
فَإِذَا فَاتَهُ الوَقتُ لَا يُمكِنهُ استِدرَاكُهُ أَلبَتةَ. لِأَن الوَقتَ الثانِيَ قَدِ استَحَق وَاجِبَهُ الخَاص ،
فَإِذَا فَاتَهُ وَقتٌ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَدارُكِه .
كَمَا في المُسْنَدِ مَرفُوعًا «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذر : لَم يَقضِهِ عَنهُ صِيَامُ الدَّهْرِ، وَإِنْ صَامَهُ» .
وَقَولهُ " وَهِيَ غَيرَةٌ قَاتِلَةٌ " يَعنِي: مُضِرَّةً ضَرَرًا شَدِيدًا بَيِّنًا يُشبِه القَتلَ ، لِأَنَّ حَسرَةَ الفَوتِ قَاتِلَةٌ .
وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَلمَ المُتَحسرُ : أَنهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاستِدرَاكِ .
وَأَيضًا .
فَالغَيرَةُ عَلَى التفوِيتِ تَفوِيتٌ آخَرُ، كَمَا يُقَالُ : الِاشتِغَالُ بِالنَّدَمِ عَلَى الوَقتِ الفَائِتِ تَضيِيعٌ لِلوَقتِ الحَاضِرِ.
وَلِذَلِكَ يُقَالُ : الوَقتُ سَيْفٌ. إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ، وَإِلَّا قَطَعَكَ.
ثُم بَينَ الشيخُ السَّبَبَ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْغَيْرَةِ قَاتِلَةً. فَقَالَ:
" فَإِنَّ الْوَقْتَ وَحِيُّ التَّقَضِّي " أَيْ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ الْوَحَا الْوَحَا، الْعَجَلَ الْعَجَلَ، وَالْوَحْيُ الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ وَسُرْعَةٍ. وَيُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ وَحْيًا أَيْ مَجِيئًا سَرِيعًا.
فَالْوَقْتُ مُنْقَضٍ بِذَاتِهِ، مُنْصَرِمٌ بِنَفْسِهِ. فَمَنْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ تَصَرَّمَتْ أَوْقَاتُهُ، وَعَظُمَ فَوَاتُهُ. وَاشْتَدَّتْ حَسَرَاتُهُ. فَكَيْفَ حَالُهُ إِذَا عَلِمَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْفَوْتِ مِقْدَارَ مَا أَضَاعَ. وَطَلَبَ الرُّجْعَى فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِرْجَاعِ وَطَلَبِ تَنَاوُلِ الْفَائِتِ.
وَكَيْفَ يُرَدُّ الْأَمْسُ فِي الْيَوْمِ الْجَدِيدِ؟ {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 52] وَمُنِعَ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْتَضِيهِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا اقْتَنَاهُ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْتَنِيَهُ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِيهِ.
فَيَا حَسَرَاتِ مَا إِلَى رَدِّ مِثْلِهِ ... سَبِيلٌ وَلَوْ رُدَّتْ لَهَانَ التَّحَسُّرُ
هِيَ الشَّهَوَاتُ اللَّاءِ كَانَتْ تَحَوَّلَتْ ... إِلَى حَسَرَاتٍ حِينَ عَزَّ التَّصَبُّرُ
فَلَوْ أَنَّهَا رُدَّتْ بِصَبْرٍ وَقُوَّةٍ ... تَحَوَّلْنَ لَذَّاتٍ وَذُو اللُّبِّ يُبْصِرُ
ويُقالُ : إِن أَصعَبَ الأَحوَالِ المُنقَطِعةِ : انقِطَاعُ الأَنْفَاسِ .
فَإِنَّ أَربَابَهَا إِذَا صَعِدَ النفَسُ الوَاحِدُ صَعدوهُ إِلَى نَحوِ مَحبُوبِهِم ، صَاعِدًا إِلَيهِ ، مُتَلَبسًا بِمَحبتِهِ وَالشَّوقِ إِلَيهِ .
فَإِذَا أَرَادُوا دَفعَهُ لَم يَدفَعوهُ حَتى يُتبِعُوهُ نَفَسًا آخَرَ مِثلَهُ .
فَكُلُّ أَنْفَاسِهِمْ بِاللَّهِ . وَإِلَى اللَّهِ، مُتَلَبِّسَةً بِمَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ وَالْأُنْسِ بِهِ. فَلَا يَفُوتُهُمْ نَفَسٌ مِن أَنفَاسِهِم مَعَ اللَّهِ إِلَّا إِذَا غَلَبَهُمُ النَّومُ .
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرَى فِي نَوْمِهِ : أَنَّهُ كَذَلِكَ لِالتِبَاسِ رُوحِهِ وَقَلبِهِ .
فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ أَوْقَاتَ نَوْمِهِ وَيَقَظَتِه.
وَلَا تُستَنكرُ هَذهِ الحال :
فإِنَّ المَحبة إِذَا غَلبَت عَلَى القلبِ وملَكته أَوجَبَت لهُ ذَلِك لَا محَالة.
والمَقصود : أَنَّ الوَارداتِ سَرِيعةُ الزوَالِ .
تَمرُّ أَسرَعَ مِنَ السَّحابِ ، وَيَنقَضِي الوَقتُ بِمَا فِيهِ . فَلَا يَعودُ عَلَيكَ مِنهُ إِلَا أَثَرهُ وحُكمُه . فَاختَر لِنَفسِكَ مَا يَعودُ عَلَيكَ مِن وَقتِكَ . فإِنَّه عائِدٌ عَلَيكَ لَا مَحالَةَ . لِهَذَا يقَالُ للسُّعدَاءِ {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] وَيُقالُ لِلأَشقِيَاءِ {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] .

قَالَ : الدرَجةُ الثالِثة : غَيرَةُ العارِفِ عَلَى عَين غَطاهَا غَينٌ . وَسر غشِيَهُ رَينٌ ، وَنفَسٍ عَلقَ بِرَجاءٍ، أَوِ التَفتَ إِلَى عَطاءٍ.
أَي يَغارُ عَلَى بَصيرَةٍ غَطاهَا سِترٌ أَو حجَابٌ. فإِن الغَينَ بِمنزِلة الغطَاءِ
والحِجابِ. وَهوَ غِطَاءٌ رَقيقٌ جِدا. وَفَوقهُ الغَيمُ وهوَ لِعمُومِ المُؤمِنِينَ. وَفَوقه الرينُ وَالرانُ وَهُوَ لِلكُفارِ.
وَقوله " وَسرٍّ غَشِيهُ رَينٌ " أَي حِجَابٌ أَغلَظ منَ الغيمِ الأَوَّل .
وَالسِّر هَاهُنَا : إِمَا اللطِيفةُ المُدرَكَة مِنَ الرُّوحِ ، وَإِمَا الحَالُ التِي بَينَ العَبدِ وَبَينَ اللهِ عزَّ وَجَل . فَإِذَا غشِيَه رَينُ النفسِ وَالطبِيعةِ استَغَاث صاحِبهُ، كَمَا يَستَغِيثُ المُعَذَّبُ فِي عَذَابِه ، غَيرَةً عَلَى سِرِّهِ مِن ذَلِكَ الرينِ.
وَقَولُهُ : ونَفَسٌ عَلِقَ بِرَجَاء، وَالتَفَتَ إِلَى عَطَاء.
يَعنِي : أَن صَاحِبَ النفَسِ يَغَارُ عَلَى نَفسِه إِذَا تعَلقَ بِرَجَاء مِن ثَواب مُنفَصِل ، ولَم يَتعلق بِإِرادَةِ اللهِ وَمَحَبتِهِ. فإِن بَينَ النفَسينِ كَمَا بَينَ مُتَعلقِهمَا.
وَكَذَلكَ قَولهُ " أَوِ التَفَتَ إِلَى عَطَاءٍ " يَعنِي : أَنهُ يَلتَفِت إِلَى عطاءِ مَن دونِ اللهِ فيَرضَى به. ولَا يَنبغِي أَن يَتعلقَ إِلَا بِاللهِ، ولَا يَلتفتَ إِلَا إِلَى المُعطِي الغَنِي الحَمِيد. وهُوَ اللهُ وَحدَهُ. وَالله أَعلَمُ.

مدارج السـالكين


* * *