جسارة الانتقاء وأكذوبة التقليد
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير
عبد الله بن سالم البطاطي
( 2 / 5 )
نظرة في طرائق العلم :
من المتقرر عند أهل العلم - تنظيرًا وتسييراً - أن من أراد الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي في مسألة ما فإنه يصوب نظره تجاه الأدلة الشرعية ؛ يتأمل فيها ، ويستنبط مناه ، ويرجع إليها ، ويصدر عنها ، ولابد حينها أن يكون ضابطًا لأصول الاستنباط ، ومتقنًا لقواعد الاستنتاج ، ومدركًا لرسوم الاستخراج ، التي قررها أهل العلم وأصلوها وجعلوها أسساً لبيان الصحيح من المجروح ، ومعرفة الراجح من المرجوح .
ثم ايضًا ينبغي عليه أثناء سيره في طريق الاستنباط وطلب الحق أن ينظر في كلام العلماء الأعلام من محدثين ومفسرين وفقهاء وغيرهم ، ويستعين به لفتح مغاليق الفهم ، ومضايق النظر ، وعويصات المسائل ، ويستلهم منه تقريب المعاني وحل المعضلات ، وبيان المشكلات ، ثم تكون نهاية المطاف عند الخلاصة الخالصة لطالب الحق وهو الظفر - فيما يغلب على ظنه - بالحكم الشرعي الصحيح .
فاستنباط الحكم الشرعي من الدليل الشرعي بالطريقة الشرعية هو الجادة الأثرية ، والطريقة السوية ، التي تناقلها الآخرون عن الأولين ، وسطروها في المصنفات ، وتداولوها في محافل العلم والحلقات ، وهي التي كانوا يربون عليها اليافع في العلم منذ نعومة أظفاره ، ويلقنها المبتدئ في الطلب عند أول خطوة يضعها في مشواره ؛ إذ لا ينال العلم من لا يسلك سبيل العلماء .
وبنظرة فاحصة لما سبق يتبين لك تناسق هذه المنظومة تناسقًا تراكبيًا يشد بعضه بعضًا ، ويظهر لك جليًا أصالة صرح التفقه وعراقته ، وأنه ليس وليد عبث أو حدث ، بل هو جادة لمن كان جادًا ، وأنه يرتكز على ثلاثة محاور رئيسة : أصل ، وآلة ، ووسيلة .
فأما الأصل فهو الأدلة الشرعية التي عليها أمر الديانة ، وأما الآلة فهي أصول الاستنباط وقواعده ، وأما الوسيلة فهي كلام الأئمة الأثبات ، وأهل العلم الثقات ، فكل من طرق باب التفقه بهذه الطريقة فهو من أهل الطريقة ، والعالم حقيقة .
تغير المنهج السوي بعد القرون المفضلة :
هذا ما كان سائدًا في القرون الأولى المفضلة وما بعدها بيسير ، ثم في منتصف القرن الرابع وأوائل الخامس فما بعده حصل تغير في طرائق العلم أدى إلى تغيرها ، وخرج بها عن الجادة الأثرية ، وذلك حين صار كلام الأئمة - بل أربعة منهم فقط -هو الأصل الذي يدور عليه التفقه ، وتقوم حوله الدراسات والمؤلفات ، وتعقد لأجله المدارس والحلقات : تدريسًا واستذكارًا ، قراءة واستظهارًا ، تزييفًا وانتصارًا ، شرحًا واختصارًا ، نظمًا ونثارًا .
واعتني بكلام الأئمة الأربعة - أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - عناية فائقة ، بل نزل كلامهم منزلة النصوص ، وأخذ الأتباع يطبقون عليه ما يطبقونه على نصوص الوحي .
وليس هذا من المبالغة في شيء ؛ لأن الواقع المر يحكي لنا ما هو أشد من ذلك ؛ إذ قد وجد من الأتباع من لا يقبل عن إمام مذهبه قولاً حتى ينقل بالسند الصحيح كالشمس وضوحًا ، بينما هو يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ينقل بالسند الضعيف والواهي ! ! فالمذهب لا يكون مذهبًا حتى يثبت عن الإمام ، والأحاديث يحتجون بها ولو لم تثبت عن سيد الأنام صلى الله عليه وسلم .
حتى آل الأمر إلى إحداث تركيبة مخترعة في طرائق الاستنباط ومسالك التعلم لا تمت إلى طريقة الأوائل بصلة ؛ إذ بدل الأصل والآلة والوسيلة .
فبعد أن كان الأصل هو النظر في الأدلة الشرعية احتجاجًا وحجاجًا ، أصبح الأصل هو النظر في كلام الأئمة الأربعة المتبوعين .
وبعد أن كانت الآلة هي أصول الفقه صارت آلة المتأخرين هي أصول المذهب .
وبعد أن كانت الوسيلة هي كلام الأئمة عامة أضحت الوسيلة قاصرة على كلام الأصحاب .
وهذه البدائل الثلاث أخذت مكانها من الحركة العلمية في الأزمنة اللاحقة ، وتبلورت عن حدث غريب جديد يعرف ب " التمذهب " ، الذي بلغ حمأته حين آل الأمر فيما بعد إلى " التعصب المذهبي " ، وصارت نتائجه ما هو مسطر في كتب التاريخ ، ومعروف في فروع الفقهاء !
وقبع المصنفون في تصانيفهم ينصرون هذا المذهب أو ذاك ، ووظيفة العالم صارت لا تعدو أن تكون مجرد نقل لكلام الأئمة من الكتب المعتمدة حتى قال ابن الصلاح الشهرزوري ( ت 643هـ ) .
منذ دهر طويل طوي بساط المفتي المستقل المطلق ، والمجتهد المستقل المطلق ، والمجتهد المستقل ، وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة .. إلى أن قال : فقد ذكر بعض الأصوليين منا - أي من الشافعية - أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل أ . هـ [1] .
وأعلن ابن نجيم الحنفي ( ت 790هـ ) أن باب القياس مسدود منذ زمن ، وأن ما يكون من فتوى المجتهدين ليس بفتوى ، وإنما هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي ! [2] .
وجاء من أوجب على الناس اتباع المذاهب الأربعة فقط ، وحرم عليهم أن يأخذوا بمذهب أحد غيرهم ، بل حكي الاجماع على هذه المقالة ! ودونوها في كتب الأصول ، كما قال الشيخ عبدالله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي ( ت 1233هـ ) في منظومته الأصولية ( مراقي السعود ) :
والمجمع اليوم عليه الأربعة أما عداها فالجميع متعه
حتى يجئ الفاطم المجدد دين الهدى لأنه مجتهد
أي أنه لا يوجد مجتهد مطلق كحال الأئمة الأربعة حتى يخرج الفاطمي وهو المهدي المنتظر آخر الزمان !!
وأبعد النجعة الشيخ إبراهيم اللقاني المالكي ( ت1041هـ ) حين أدرج هذه المقالة ضمن منظومته العقائدية وجعلها من أمور الاعتقاد ، حيث قال في ( جوهرة التوحيد ) :
ومالك وسائر والأئمة كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم كذا حكى القوم بلفظ يفهم
فهو يقرر وجوب تقليد الأئمة الأربعة في المسائل الفقهية ، ووجوب تقليد أبي القاسم الجنيد في الطريقة الصوفية !
قال البيجوري ( ت 1277 هـ ) شارحًا كلام صاحب الجوهرة :
( فواجب تقليد حبر منهم ) فلا يجوز تقليد غيرهم ، ولو كان من أكابر الصحابة لأن مذاهبهم لم تدون ولم تضبط أ . هـ [3] .
وجاءت قاصمة الظهر ، والفاجعة التي مازال المصلحون يحوقلون منها حين قال الصاوي ( ت 1241هـ ) :
إن من خرج عن المذاهب الأربعة فهو ضال مضل ، ولو وافق الصحابة والحديث الصحيح والآية ، وربما أداه ذلك إلى الكفر ؛ لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ! ! ! [4] .
فانظر - أخي الموفق - كيف ضيقوا واسعًا ، وأحدثوا ياسقًا ، والأمر كما قال الإمام العلامة أبو شامة المقدسي رحمه الله ( ت 665 هـ ) :
وحجروا على رب العالمين مثل اليهود أن لا يبعث بعد أئمتهم وليًا مجتهدًا ، حتى آل بهم إلى أن أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب أو السنة الثابتة على خلافه يجتهد في دفعه بكل سبيل من التأويلات البعيدة ، نصرة لمذهبه ولقوله ... ثم تفاقم الأمر حتى صار الكثير منهم لا يرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث ، ويرون أن ما هم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه ، فبدلوا بالطيب خبيثًا ، وبالحق باطلاً ، واشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين .
ثم نبغ قوم آخرون صارت عقيدتهم في الاشتغال بعلوم الأصليين ، يرون أن الأولى منه الاقتصار على نكت خلافية وضعوها ، وأشكال منطقية الفوها ... بل أفنوا زمانهم وعمرهم بالنظر في أقوال من سبقهم من المتأخرين ، وتركوا النظر في نصوص نبيهم المعصوم من الخطأ ، وآثار أصحابه الذين شهدوا الوحي ، وعاينوا المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وفهموا مراد النبي صلى الله عليه وسلم فيما خاطبهم بقرائن الأحوال ؛ إذ ليس الخبر كالمعاينة ، فلا جرم لو حرم هؤلاء رتبة الاجتهاد وبقوا مقلدين [5] .
رمي الشريعة بالجمود بسبب سد باب الاجتهاد :
وفي ذيل الأزمنة المتأخرة كان لهذا التضييق والتحجير والتسلط آثاره السلبية على مجموع الأمة ؛ حيث اتخذه أهل الزيغ والفساد ، وارباب الضلالة والإفساد ممن تولوا أزمة الأمور ومقاليد الحكم في ديار المسلمين : ذريعة إلى الطعن في الشريعة ورميها بالجمود والتخلف ، وقصورها عن مواكبة المستجدات ؛ لأن المدنية الحديثة أفرزت لنا قضايا معقدة تحتاج إلى حلول مناسبة ، وهذه الحلول - قطعًا - غير موجودة في كتب الفقهاء غالبًا ؛ لأنه من النادر - والنادر جدًا - أن ينص الفقهاء على حكم معين لواقعة لم يروها ولم يعاصروا أحداثها ، مهما كان خيالهم خصبًا أو احتمالاتهم وافتراضاتهم بعيدة وواسعة ، فمصنفات العلماء إنما ألفوها بما يناسب زمانهم ، وهذا أمر لا يشك فيه أحد .
وأنا لا أقول ذلك استهانة بما خلفه لنا علماؤنا وأئمتنا - أبدًا والله - بل فيه الخير والخير كله ؛ لكن الذي ينبغي أن يعلم لكل طالب حق أن القضية الفقهية يتجاذبها أصلان لا ثالث لهما :
- الأصل الأول : معرفة حكم المسألة .
- الأصل الثاني : تنزيل الحكم على الواقعة .
فأما الأصل الأول فقد وفاه العلماء حقه ، وأتوا في مصنفاتهم بما لا مزيد عليه ولم يتركوا شاذة ولا فاذة في كافة شؤون الحياة إلا بينوا الحكم فيها وتكلموا عنها ، جزاهم الله خيرًا .
وأما الأصل الثاني فهو الذي يحتاج إلى مجتهد بصير بالدين لينظر : هل الشروط اجتمعت ، والموانع ارتفعت فينزل الحكم على الوقعة أولاً ؟
ولأجل هذا الأصل كان السف يتدافعون الفتيا وهو المعروف عند الأصوليين " بتحقيق المناط "
فكلامنا هنا على هذا الأصل الثاني إذ أين المجتهد الذي يسد حاجة الأمة في هذا الباب وهم يوجبون التقليد ويحرمون الاجتهاد ! وكيف يمكن لنفس أن تتوق لبلوغ رتبة الاجتهاد أو تتشوف لدرك تلك المعالي حيال هذا الزخم الهائل من التشديد والتضييق ؟ !
المهم أنه بسبب ذلك حصل اصطدام رهيب بين " المدنية الحديثة " والحلول الشرعية المناسبة ، أدى إلى حدوث فجوة عميقة بين قضايا العصر وأحكام الشرع ، تسلل من خلال هذه الفجوة أهل الزيغ والضلال إلى القدح في الشريعة الإسلامية ، وأخذوا يناقشون مدى صلاحيتها وحيويتها ، واستيعابها للمستجدات الحضارية ، ثم عزموا - في ردة جريئة - على اقصاء الشريعة ، واستعاروا - في سعار محموم - النتاج الغربي المشؤوم برمته ، وقدموه مشروعًا حضاريًا للأمة المحمدية ، ولا حول ولا قوة إلا الله .
خدمة مشائخ التنوير للمشروع التغريبي :
وفي ردة فعل متوقعة انبرى مشائخ التنوير ودعاة العصرنة لرفع راية التجديد - زعموا - ، وتولوا كبر تمييع الدين لترقيع حال المسلمين ، ودعوا إلى فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه من سبقهم ، لكن هذه المرة لم يفتحوه كما كان بضوابطه المعروفة عن السلف ؛ بل فتحوه فتحًا عظيمًا لو أراد أهل الأرض أن يلجوا منه لوسعهم !!
ثم زادوا الطين بلة فأحدثوا أمرين خطيرين للغاية ، أديا إلى ازهاق ما بقي من الروح في جسد " الجادة الأثرية "، وهما :
1-التأثر بالتمدن والحضارة والعمران ، وليس المراد أي حضارة أو أي تمدن وعمران ؛ بل المراد النمط الغربي خاصة لما يتمتع به من الهيمنة العالمية .
2- الانتقاء من المذاهب الفقهية ما يناسب الذوق ، ويلائم العصر ، ويكون الاختيار من الأقوال متمشيًا مع المعطيات الحضارية ، ولو كان في ذلك استدبارًا للأدلة الشرعية بل لو استلزم الأمر اقصاء المذاهب الأربعة كلها لعدم وجود القول المرتضى فيها لم يكن ثم مانع من ذلك ؛ وهذا ما حصل بالفعل حين تم الاعتراف بالمذهب الجعفري ، والمذهب الزيدي ، والمذهب الإباضي ، وادرجت هذه المذاهب ضمن ثروات الأمة الفقهية - زورًا وبهتانًا - وصارت تجتر في البحوث المعاصرة تحت الكلمة النكراء " الفقه المقارن " - تلبيسًا وطغيانًا- فإلى الله المشتكى .
فانظر أخي الكريم - إلى الهوة السحيقة التي حدثت في طرائق العلم بين الأسلاف والأخلاف ، وإلى التنافر الشديد بينهما في مناهج التعلم والطلب ، الأمر الذي كان له أثر كبير في بروز نتاج من التناقضات بل والناقضات لما مضى ، وإفراز أقوال غريبة بل شاذة بل ساقطة !
ولن أقف عند كل الملاحظات التي تدور حول تلك المناهج المنحرفة ، فإن هذا باب واسع يصعب تتبعه ، لكنني سأقف عند نقطة واحدة مهمة أرى أنها انقلاب في موازين الطلب ، ونسف للمنهجية المقررة عند السلف الصالح في تحصيل العلم ومعرفة الصواب من الأقوال ، هذه النقطة هي قولهم : للمرء أن يأخذ بأي قول يناسبه من أقوال العلماء ، وأن ينتقي منها " أطايبها " !
تلك هي " جسارة الانتقاء " ، ولها أخت في الرضاعة والوضاعة ، ورديفتها في سوء البضاعة ، ألا وهي أكذوبة التقليد " : ( من قلد عالمًا ، لقي الله سالمًا ) .
أدلتهم على هذا المنهج الفاسد :
استدل القوم في هذا المقام بما ظنوا أنه يسوع لهم سلوكهم هذه المنهجية المنحرفة ، واستندوا إلى شيء من الأحاديث النبوية ، وأقوال السلف ، والتعليل العقلي .
فأما الأحاديث النبوية فقد استدلوا بحديثين مشهورين على الألسنة وهما :
1- حديث : ( اختلاف أمتي رحمة ) [6] .
2- حديث ( أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم ) [7] .
وأما أقوال السلف فمنها ما يلي :
1- عن عون بن عبدالله بن عتبة قال : قال لي عمر بن عبدالعزيز : " ما يسرني باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حمر النعم ؛ لأنا إن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا ، وإن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا " [8] .
2- وعن عمير قال : قلت لعمر بن عبدالعزيز رحمه الله : لو جمعت الناس على شيء ؟
فقال : ما يسرني أنهم لم يختلفوا ، قال حميد : ثم كتب إلى الآفاق وإلى الأمصار : ليقضي كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم [9] .
3- وقال سفيان الثوري رحمه الله : إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه ، وأنت ترى غيره فلا تنهه [10] .
4- وقال أيضًا إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد [11] .
5- وقال إياس بن معاوية رحمه الله : إنه لتأتيني القضية أعرف لها وجهين ، فأيهما أخذت به عرفت أني قد قضيت بالحق [12] .
6- عن شريح القاضي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه : إذا أتاك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله . ولم يسن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما اجتمع عليه الناس ، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد فأي الأمرين شئت فخذ به [13] .
7- وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رحمه الله : لقد نفع الله تعالى باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة ، ورأى أن خيرًا منه قد عمله [14] .
وأما التعليل العقلي فحاصله : أن ألفاظ النصوص محتملة لعدة معان ، والشريعة واسعة ، ومبناها على اليسر والسماحة ، وقد أذن الشارع بالاجتهاد ، وما من مسألة إلا والعلماء فيها طرفان : ما بين مشدد ومخفف ، وهم منزهون عن الرأي المذموم في دين الله تعالى ، وما دام الأمر كذلك فالكل دين الله وشرعه ؛ لأنهم من إذن الشارع انطلقوا ، وفي النصوص نظروا فصارت مذاهبهم على اختلافها كشرائع متعددة ، وصارت هذه الشريعة المحمدية كأنها عدة شرائع بعث النبي صلى الله عليه وسلم بجميعها !
فلا تثريب على أحد حينئذ أن يأخذ بأي قول ؛ لأن جميع الأئمة على هدى من ربهم ، واختلافهم رحمة الله واسعة للخلق .
زد على ذلك أن توسعة المذاهب ورخصها أقرب سهولة إلى إسلام من يريد اعتناق الإسلام ، وذلك بإرشاده إلى رخص العلماء ترغيبًا له في الدخول في الإسلام وابتعادًا به عن ثقل التكاليف مباشرة خشية نفوره [15] .
ثم إن هذه الانتقائية من المذاهب قد عمل بها جماعة من الأئمة الأعلام ، فقد نقل الشعراني عن جماعة من العلماء : كأبي محمد الجويني ، وعز الدين بن جماعة الكناني ، وعبدالعزيز الديريني ، وشهاب الدين بن الأقيطع ، وغيرهم أنهم كانوا يفتون الناس على المذاهب الأربعة بما يناسب حال المستفتي ، لا سيما إذا كان من العوام الذين لم يلتزموا مذهبًا معينًا لعدم معرفتهم بنصوصه وقواعده [16] .
والخلاصة: " أن مبدأ الأخذ بالرخص أمر محبوب ، ودين الله يسر ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، والمفروض أن المقلد لم يقصد تتبع الرخص في كل الوقائع وإنما في بعض المسائل ، وكثيرًا ما قال العلماء : من قلد عالمًا فقد برئ مع الله ، اختلاف العلماء رحمة ، وربما قال بعضهم : حجرت واسعًا " [17] .
وقبل الجواب عن هذه الآثار والأقوال لابد لنا من الوقوف عند أصول مهمة تضبط هذا الباب ، وتقيم اعوجاج الفهم فيه ، ثم نعود للجواب عما أوردوه من الشبهات ، وذلك في مقالة قادمة إن شاء الله تعالى ، والله الموفق .
________________________
(1)(أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح 29 - 31 .
(2) انظر(الرسائل الزينية) لابن نجيم 108, 168 .
(3) شرح جوهرة التوحيد للبيجوري 150 ، وذكر العلامة ابن بدران الدومي أن الشيخ اللقاني هو أول من أدخل هذه المسألة في علم الاعتقاد(العقود الياقوتية) 99 ، ثم جاء من بعد اللقاني العلامة السفاريني الحنبلي(ت 1188هـ) وأدرجها في منظومته العقدية أيضًا(لوامع الأنوار البهية) 2/457 .
(4)(حاشية الصاوي على الجلالين) 3/10 ، وانظر للرد عليه(أضواء البيان) للشنقيطي 7/438 .
(5)(المؤمل للرد إلى الأمر الأول) لأبي شامة ، نقلته من كتاب الشيخ محمد سعيد الباني(عمدة التحقيق) 162- 163 والغريب أن ابن المنير(ت 683هـ) يقول : إن الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم **** ! ! وقد تعقبه في كلامه هذا الشوكاني بكلام جميل يحسن مراجعته(السيل الجرار) 1/22 ويالله العجب ، كيف سلك هذا الزقاق الضيق بعض الأئمة الأعلام كالحافظ ابن رجب الحنبلي ، وألف كتابًا سماه(الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة) ، وهو في سعة علمه ، وجودة حفظه ، وقوة عارضته وتمام معرفته وكمال آلته ، فإذا لم يكن ابن رجب وأمثاله من المجتهدين فمن إذن ؟ ! .
(6) هذا الحديث بهذا اللفظ لا أصل له في كتب السنة ، قال تقي الدين السبكي ، هذا الحديث ليس معروفًا عند المحدثين ، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ، ولا أظن أن له أصلاً(قضاء الأرب في أسئلة حلب) 264 وأقره على ذلك : الكازروفي في حاشيته على تفسير البيضاوي 2/35- 36 ، والشيخ زكريا الأنصاري في حاشيته على تفسير البيضاوي أيضًا 1/100 ، وكذلك ابنه تاج الدين السبكي في(الإبهاج) 3/18 ، وقال الألباني : لا أصل له(الضعيفة) رقم 57 والذي ورد مرفوعًا إنما هو من حديث ابن عباس بلفظ :(اختلاف أصحابي لأمتي رحمة) أخرجه : البيهقي في(المدخل) رقم 152 ، والخطيب في(الكفاية 48 ، والديلمي في(مسند الفردوس) 4/447 ، وعزاه زين الدين العراقي إلى : آدم بن أبي إياس في كتاب(العلم والحلم) انظر(تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي) رقم 60 وإسناده ضعيف جدًا . فيه : سليمان بن أبي كريمة ، وجويبر بن سعيد الأزدي ثم إنه منقطع لأن : الضحاك بن مزاحم لم يدرك ابن عباس رضي الله عنهما وأما ما نقله السخاوي عن شيخه الحافظ ابن حجر من قوله : زعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له . لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطردًا ، فأشعر أن له أصلاً عنده(المقاصد) 50 رقم 39 - وقد نقله عنه كل من جاء بعد - فهو كلام غريب جدًا ؛ لأن التعويل في هذا الفن على الاسناد لا على مجرد إيراد الحديث في كتاب ، وإلا فإن الكتب -وخاصة عند المتأخرين - مشحونة بمثل هذه الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام ، فهل يقال في مثلها إن فلانًا من العلماء ذكرها في كتابه فأشعر أن لها أصلاً عنده ؟ ! هذا ظاهر الفساد ؛ لأنه يفتح باب المخرقة وأغرب منه قول السيوطي : ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا(فيض القدير) 1/210 قال الألباني تعقيبًا عليه : وهذا بعيد عندي إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه(، وهذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده(الضعيفة) 1/141
وانظر :(المعتبر) للزركشي رقم 227 ، و(الأسرار المرفوعة) للقاري 108 - 109 رقم 17 ، و(كشف الخفاء) للعجلوني 1/66 رقم 153 ، و(المغير على أحاديث الجامع الصغير) للغماري 16
(7) أخرجه : عبد بن حميد في(المنتخب) 2/28 رقم 782 ، والدارقطني في(المؤتلف والمختلف) 4/1778 ، والبيهقي في(المدخل) رقم 152 ، 153 ، والخطيب في(الكفاية) 48 ، وابن عدي في(الكامل 2/785 - 786 الديلمي في(مسند الفردوس) 4/447 ، والقضاعي في(مسند الشهاب) رقم 1346 ، وابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم 176 ، وابن حزم في(الإحكام) 6 /82 مسألة رقم 1057 وقال : حديث ساقط وقال البيهقي : هذا حديث متنه مشهور ، وأسانيده ضعيفة ، لم يثبت في هذا إسناد(المدخل) 1/149 وقال ابن عبدالبر إسناده لا تقوم به حجة(جامع بيان العلم) 2/925 وقال الحافظ ابن حجر : ضعيف جدًا ،(المطالب العالية) 4/146 في 4194 وقال الألباني : موضوع(الضعيفة) الأرقام : 58 ، 59 ، 60 ، 61 ، 62 ، 438 وانظر(تلخيص الحبير) 4/190- 191 ،(المعتبر) للزركشي 80 - 85 ، و(العلل المتناهية) لابن الجوزي 1/282 .
(8) اخرجه ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم 1688 ، والخطيب في(الفقيه والمتفقه) رقم 745 ، وعزاه الحافظ ابن حجر إلى مسدد ، وصححه كما في(المطالب العالية) 3/105 رقم 3005 ، ونقل محققه الأعظمي عن البوصيري تصحيحه ايضًا للأثر .
(9) أخرجه الدارمي في سننه برقم 652 والخطيب في(الفقيه والمتفقه(برقم 743 ، وإسناده صحيح .
(10)(حلية الأولياء) لأبي نعيم 6/368 ، و(التمهيد) لان عبدالبر 9/229 .
(11) أخرجه ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم 1467 ، بسند حسن ومثله عن معمر ، أخرجه ابن عبدالبر برقم 1468 بسند صحيح .
(12) أخرجه : ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم 1519 بسند صحيح ، وأخرجه عمر بن شبة في(أخبار المدينة) ومن طريقه وكيع في(أخبار القضاة) 1/341 - 342 ، والمزي في(تهذيب الكمال) 3/434 .
(13) أخرجه النسائي في سننه 8م231 رقم 5399 ، والدارمي في سننه رقم 169 ، والبيهقي في(السنن الكبرى) 10/115 ، وابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم 1995 ، والخطيب في(الفقيه والمتفقه) رقم 444 ، وابن حزم في(الإحكام) 6/29- 30 ، وإسناده صحيح .
(14) أخرجه ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) برقم 1686 ، بسند صحيح .
(15) انظر(عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق) محمد سعيد الباني 72 ، 96 ، 101 ، 109 ، 175 .
(16)(الميزان الكبرى) للشعراني 1/15و 26 .
(17)(الفقه الإسلامي وأدلته) وهبة الزحيلي 9/43 وهو قد اقتبس هذا الكلام من سؤال ورد من طلبة فاس المغربية سنة 884هـ إلى العلامة أحمد بن يحيى الونشريسي(ت 914هـ) يسألونه عن الاجتهاد والتقليد والتلفيق وتتبع الرخص ، فأجاب طويل متين قوي ، منع فيه التلفيق وتتبع الرخص(المعيار المعرب) 12/9-42 .