من غرائب بعض المتصوفة:


كثير من أمرهم غريب مسلكهم المشين في تأويل الرواية التاريخية، وتحريف الكلم عن مواضعه، وهو أمر يجعل الناظر يرتاب في كثير من الركام الذي تقذفه كتب التراجم والمناقب، ليرجع النظر فيه كرة بعد كرة، إذ أن ما نحن بصدد الحديث عنه يجلي هذا المسلك من التحريف، وذلك من خلال عرض حكاية واحدة بروايتين مختلفتين إحداهما: للمؤرخين، والأخرى للمتصوفة، ويتضح بعد ذلك المراد.

وأصل الحكاية يكمن في محاصرة السلطان بدر بن عبد الله الكثيري لبلد الخريبة من وادي دوعن بحضرموت، وقد حصل في هذا الحصار قتال ضعيف قتل فيه عبد الرحيم باسندوة، وكان ذلك في شهر ربيع الثاني سنة 945هـ، وتأمل رواية القصة عند هذين الفريقين.
أولاً: رواية المؤرخ بافقيه
"وقتل في هذه الوقعة عبد الرّحيم باسندوة، جاءه بندق من خلفه، وهو مُشْرف من دار في الخريبة، وكان عبد الرحيم مجمع الشّرور والفسوق، وذلك إنه متسمى بالمشيخة والتصوف مع تظاهره بترك الصلاة، والاجتماع بالنساء والخلوة بهن، وغير ذلك، ولأهل الموضع فيه عقيدة ومقالات قبيحة.
وكان يجتمع عنده من الزنادقة والشَّياطين خلق كثير لما يصلون إليه عنده من الزّنا بالنساء، والتمكن من الفسوق الذين لا يجدونه في موضع آخر، ولو بذلوا ما بذلوا، فالحمد لله الذي أزاله، وأزال بزواله الفسوق الذي كان مغطى على الناس بالتلبيس.
ثم وقع بين السُّلطان وبين صاحب شرق اتفاق على تسليم حصن شرق بدفع، ثم وقع الكلام بينه وبين صاحب الخريبة وأهل مصنعة القرين على تَسْليمها إليه فسَلّموها إليه يوم الخميس سادس عشر الشهر"(1).
ثانياً: رواية الصوفية
عن عبد الله باصلاح الدوعني قال: "جاء السلطان بدر إلى الخريبة وحصرها، وكان فيها الولي الصالح عبد الرحمن باسندوة، فقالوا له الناس إن السلطان بدر عَمّال يقطع نخيل الناس، وأهل البلاد خائفين لا يدخل عليهم البلاد، فقال لهم هذا الأمر ما ينطفئ إلا بقتل مائة وواحد أو مائة إلا واحد، أو بقتل واحد يتحمل عن الكل، فبقى ذلك الفكر، فجاءت له جليلوه، ووقعت في الشيخ باسندوة وقتلته، فبعد يومين بقا الصلح، وسلمت الناس الجميع، وتحمل عنهم الشيخ رضي الله عنه ونفع بهم" إ. هـ(2).
انتهى نقل الحكاية بعجرها وبجرها، وبقي علينا أن نسلط الضوء في بعض مضامينها على النحو التالي:
أولاً: الحكاية بين السند التاريخي والمنطق الصوفي
إننا هنا إنما نريد أن نوضح مسلك بعض الصوفية في تحريف الكلام بغض النظر عن صاحب القصة، إذ أن بعض الروايات التي يعدها المتصوفة مناقب لا تمت لباب المناقب بصلة، وإنما العمدة في ذلك على شهادة المؤرخ الموثوق به، ففي حين يصف المؤرخ بافقيه الصوفي المذكور آنفاً بهذه الصفات التي نربأ بأنفسنا على تكرارها نجد أن المتصوفة يجعلون صاحبها في مصاف الأولياء الذين يطالعون الغيب، ويكشفون نزول البلاء.
ومقابل فرح المؤرخ بقتل من هذه صفاته نجد المتصوفة يتوكئون على ما يطلقون عليه تحمل البلاء، وهذه المنزلة لا يبلغها إلا الخاصة كما سيأتي، وفي حين سلمت الخريبة للسلطان بدر على حد راوية المؤرخين، تسند الرواية الصوفية البطولة لمن ينسبون إليه الولاية.
ثانياً: المبررات لهذه الأفعال
والعجيب حقا أنهم لو جروا على منطق المؤرخين، وثبت لديهم بالأدلة القاطعة نسبة هذه الأفعال من ترك الفرائض ومخالطة النساء الأجانب لمن يعدونه وليا لبادروا إلى انتحال الأعذار، والأعجب أن يستدلوا على باطلهم هذا بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، والأشد عجباً اختراع مصطلحات جديدة مثل تعدد صور الأولياء، ومعاقرة الأضداد.
فلو سلموا للرواية التاريخية في ترك الصلاة، ومخالطة النساء الأجانب لاخترعوا لنا تعدد الأولياء في صور كثيرة، وبرروا مخالطة النساء بأنه فعل الأضداد لتكثيف ما لطف من الحال الذي لو استمر لتلف الصوفي من جرائه، وقد ضبط بعض متصوفة حضرموت على هذين الحالين أعني ترك الصلاة ومخالطة النساء فعزوا ذلك إلى ما ذكر من العذرين.
ولم يعرف أهل الإسلام هذا النوع من الهراء من التعاليم الإسلامية، فلا شك إن هذا فعل النابذين للنصوص، الذين عرجوا على بضاعة الزنادقة ممن رام هدم الدين، فتستر باسم التصوف.
وإليك أمثلة مما يعدها هؤلاء المتصوفة مبررات لترك الصلاة أو الاجتماع بالنساء والخلوة بهن:
1- في مناقب عبد الرحمن بن محمد الجفري صاحب تريس حين أتاه غريب وهو يسقي زرعاً له فدخل وقت الصلاة فقام الغريب يصلي وصاحب تريس في سناوته لم يتركها حتى خرج وقت الصلاة وبعد ذكر عدد من عجائبه ذكر له الغريب مرور وقت الفريضة ولم يصلها فدخل به إلى تسع خلوات، فوجد في كل واحدة منهم صورة عبد الرحمن تصلي فاعتذر له الغريب(3).
أما الخلوة بالنساء والاجتماع بهن ففي طبقات الشعراني الكبرى ما يندى له الجبين، ونربأ بمقالنا عن ذكره إذ تكفي الحوالة عليه، وفي منحة الإله أن شيخا بن أحمد المتوفى بسوربايا كان إذا قبّل بنتاً من بنات النصارى، أو بنات المسلمين يقبلها ولا ينكر عليه أحد أبداً، وبعد موته وجدوا أنه ما من بنت من بنات النصارى قبلها إلا ودخلت دين الإسلام، ولا بنت من بنات المسلمين قبلها إلا واحتجبت عن الخروج إلى الناس، والبروز إليهم!(4).
وفيها أيضاً أن رجلاً غريباً رأى امرأة مقبلة قام إليها وقبّلها ورجع إليهم، فأساء الحاضرون به الظن، وأنكروا فعله، وتكلموا عليه، فقال: ما سرت وقبلت تلك المرأة إلا وقد رأيتها في اللوح المحفوظ أنها تتزوج برجل شريف، ففرحت لها بذلك، وبشرتها به!(5).
ومن جنس ذلك لما أنكر أبو حميد على محمد بن علي لاطفته نسوة كان له بهن علاقة من جهة الأم، فلما نام وقام من نومه وأراد أن يتوضأ فإذا هو قد فقد فرجه وخصيتيه وبقي كالمرأة، فأتى إلى الشيخ محمد بن علي مستغفراً فقال له الشيخ: نحن ما نخاطبهن إلا ونحن مثلك، فرجع لأبي حميد ما فقده(6).
ثالثاً: تحمل الولي البلاء
أما تحمل الأذى فهذه شنشنة نعرفها من أخزم، فلم يكتف المتصوفة بكون المذكور آنفاً من الأولياء بل رفعوه إلى مرتبة عندهم يسمونها تحمل الأذى الذي سينزل بالأمة، وفي دستور الصوفية المتأخرين وهو الطبقات الكبرى للشعراني حكايات من هذا القبيل الذي عزا إليه قتل المذكور في القصة، ويحتل القطب المكانة الكبرى في حمل الأثقال حسب مقامه الكبير عندهم فهو يحمل هموم الأمة كلها!
فنجد مثلاً أن أبا العباس المرسي قال: كم من بدل وولي بين أظهرهم لا يلقون إليه بالاً مع أنه يحمل أثقالهم ويدفع الأغيار.
ونرى الرفاعي لما مرض مرض الموت قال: جرت أمور اشتريناها بالأرواح، وذلك أنه أقبل على الخلق بلاء عظيم فتحملته عنهم وشريته بما بقي من عمري فباعني.
ومحمد بن هارون كشف له عن صاعقة تنزل على بلد فأمر بذبح ثلاثين بقرة وطبخها في زاويته.. وعلي الديري جرت له مصائب فقال محمد عنان: أنه تحمل بها البلاء، وفي قصة أخرى أنه تحمل مرض شخصاً معيناً(7).
ولا نطيل بذكر هذه الترهات والغلو الذي ينافي العقيدة الصحيحة من دعاوى معرفة علم الغيب، وتصرف الأولياء بالنفع قال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106].
تنبيه!
لقد أعياني البحث عن سند هذه الظاهرة وهي تحمل البلاء عند هؤلاء المتصوفة لغربتها عن الشرع الحنيف، فتتبعت نشأتها، فهالني ما وقفت عليه في هذا الشأن، فإن تحمل الموت أو البلاء عند بعض الشيعة يرجع إلى ما يزعمونه من تحمل الحسين القتل ليدفع عن شيعته البلاء، وهو ما يتفق مع ما يدعيه المبطلون عن تحمل المسيح عيسى ابن مريم ما تحمل من الخطايا، فاختلقوا عقيدة الصلب {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، فإن كان ما ذهبت إليه صحيحاً وإلا فالبحث لا يزال جارياً(8).
رابعاً: موقف بدر أبي طويرق من الصوفية
لم يسلم الأمراء والحكام في حضرموت من إلقاء العنان للصوفية وأقطابها، يتصرفون في شؤونهم إما رغبة في محبتهم، أو رهبة لما للمتصوفة من تبعية المجتمع، ولم تذكر لنا سجلات التدوين أي فصاماً بين الفريقين إلا النزر الذي يعد خروجاً عن المألوف، ولعل من هذا النزر تنكيل السلطان بدر بن عبد الله الكثيري الملقب بأبي طويرق ببعض أقطاب الطريقة.
وباعثه ذو اتجاهين أحدهما سياسي والأخر علمي، فلا يخفى علينا الغاية للسلطان بدر في إحكام السيطرة على حضرموت كافة، وهي غاية ما لبث أن توصل إليها، وقضي له الأمر، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف ربما نشأت معارضة من قبل المتصوفة خوفاً أن يئول الحكم إلى من لا يكون طوع إرادتهم.
والثاني في البواعث يكمن في هوى السلطان بدر العلمي، وميله إلى الفقهاء حيث مكنهم من تولي المهام العلمية في دولته، كالفقيه عبد الله بن عمر بامخرمة تولى قضاء الشحر مرتين، والشيخ علي بن علي بايزيد التولبي تولى إدارة المدرسة البدرية بالشحر، وغالباً ما يقترن الباعثان السياسي والعلمي في مواقف السلطان بدر مع الصوفية.
ولم يكن قتل عبد الرحيم باسندوة مثالاً واحداً يجلي موقف السلطان بدر مع الصوفية.
بل وجدت مواقف أخرى لعل أبرزها:
1- موقفه من معروف باجمال:
يعد معرف باجمال من أعلام التصوف ت 769هـ، وقد أفردت ترجمته بمؤلفات شحنت بالطوام من الخوارق، هذه الخوارق جعلت الناس يعتقدون فيه ويبالغون في ذلك، ولما دخل السلطان بدر بو طويرق شبام قبض على الشيخ معروف وأهانه، فأمر بأن يعلق في عنقه حبل، وأن يطاف به في البلاد، وينادي عليه هذا معبودكم يا أهل شبام(9).
ومن عجيب أمره أن السلطان حين أمر بعض أمرائه أن يقوم بهذا التعزير، وكان هذا الأمير من المعتقدين في معروف باجمال فتوقف عن ذلك، فأرسل الشيخ معروف أن افعل ما أمرت به وأنا ضمينك على الله بالجنة!(10).
2- عمر بامخرمة:
وعمر بن عبد الله بامخرمة من أقطاب متصوفة حضرموت، وله أحوال لم يرضها الفقهاء، وكذا له ديوان حوى كثير من مضامين الصوفية، وعلاقته مع السلطان بدر بين مد وجزر كما تبدو في قصائده في الديوان، ولكن الذي انتهى إليه أمره أن عزل السلطان بدر هذا الصوفي في سيئون، ولم يزل بها تحت المراقبة مسجونا حتى مات(11).
ومن شعره ما يدل على نفيه أو الحكم بطرده إلى أبعد من ذلك كقوله:
وين هينين ووادي المسحرة من صلالة
وفي بعض شعره يصرح بالندم على سوء العلاقة مع السلطان بدر، ويزكي ما عليه السلطان من العقيدة كقوله:
فإنه الفاضل القائم بحسن اعتقاده
نسبه واهتمام العلويين به:
لقد طوى السلطان بدر حضرموت طياً وخضعت له البلاد كلها، حتى دخلت تريم في ولايته بعد أن حصرها عشرين يوماً ثم رماها بعلوق "الروم" في شهر ذي الحجة سنة 927هـ، وكان بها محمد بن أحمد بن جردان وآل يماني وآل عمر، وقد استسلموا وبذلوا له الطاعة.
وقد أريد خطف هذه الانتصارات ورجوعه إلى ابتهالات جماعة من العلويين في البحث والتنقيب عن سلسلة نسب السلطان بدر، ثم أسفرت نتائج بحوثهم أنه ينتهي إلى يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام.
ولما أن تحققوا صحة هذه النسبة ذهب سبعة منهم إلى ضريح النبي هود المزعوم واعتكفوا هناك متضرعين إلى الله سبحانه أن يقيض هذا السلطان لحفظ القطر كله.
قال صاحب الدشتة: "وظهرت آثار الإجابة في السنة نفسها إذ طرق بدر جميع الجهة الحضرمية، واستولى عليها من عين بامعبد غرباً إلى ظفار شرقاً، وذلت له رقاب أهلها في بضعة شهور، ولم يبق بها إلا مواضع حقيرة استملكها فيما بعد(12).
شهادة حسن السيرة والسلوك:
وفي هذا السياق يأتي ما زعمه صالح بن علي الحامد في تاريخه من قوله: "والمفهوم من سعي الإمام العيدروس في الصلح بين ابن يماني والكثيري كان الغرض الأكبر منه صد بدر بن عبد الله الكثيري من تريم والإبقاء على دولة آل يماني، وهكذا استمرت دولة آل يماني بتريم حتى شاء الله أن يشاء العلويون بعد اختبارهم الدولة الكثيرية ومعرفة حسن سيرتها أن تنضم تريم إليها فكان ذلك"(13).
ويعلق الأستاذ كرامة بامؤمن متهكماً: إنما كان ذلك بفعل سلاح بنادق أبو فتيلة التي تسمى علوق الروم، ووصف دعوى الحامد بقوله: "أما ما ادعاه الأستاذ صالح بن علي الحامد فمن مزالق نزعته الشيعية التي اتصف بها الفكر الصوفي الحضرمي"(14).
ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر، تأليف محمد بن عمر الطيب بافقيه وأسرة بافقيه فرع من أسرة آل عيديد، قال عبد الله الحبشي: وأغلب الظن أنه عاش إلى ما بعد الأربعين من القرن الحادي عشر (1040هـ).
(2) أنس السالكين باهارون العلوي الحكاية التاسعة والثمانون بعد الثلاثمائة صفحة من المخطوطة (421).
(3) كنوز السعادة الأبدية من كلام علي بن محمد الحبشي مخطوط ص26.
(4) المخطوطة ص82، وقد حذفها محقق المنحة محمد أبو بكر باذيب موضعها من المطبوعة 182.
(5) المخطوطة ص80-81، وقد حذفها من المنحة باذيب موضعها من المطبوعة ص181.
(6) الجوهر الشفاف، وفيه حكايات أخرى من هذا الباب، الحكاية الثانية والعشرون بعد المائة، وانظر ما جاء في محاسن الأوصاف: (ص111)، وفيه ما وقع لجعفر بن أحمد خلطة من نساء أجانب فوقع في خاطر بعضهم شيء من تلك الخلطة، قال: فاستغفرت الله من إنكاري على أوليائه العارفين، وذكر أن مشائخه أذنوا له!
(7) طبقات الشعراني: (ص245-390-360-515-530-558-594-597-910).
(8) انظر مقالات في التشيع: 4/ 16.
(9) كان معروف باجمال مؤيداً لإمامة علي بن عمر الكثيري على شبام، فكان هذا سبباً في القبض عليه إضافة إلى مبالغة الاعتقاد فيه.
(10) النور السافر عن أخبار القرن العاشر: 1/ 136 وعلق: فانظر إلى مشهد هذا الشيخ العظيم الذي يرى الأشياء كلها من الله الحكيم!
(11) إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت: (1/ 444).
(12) تاريخ الدولة الكثيرية: 1/ 54 نقلاً عن دشته زين العابدين بن عبد الله بن شيخ العيدروس.
(13) تاريخ حضرموت للحامد.
(14) الفكر والمجتمع في حضرموت ص296.
منبر علماء اليمن:
http://olamaa-yemen.net/main/article...ticle_no=13128