الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذا بحث في بعض أحكام السنن الرواتب؛ معناها، وحمكها، والخلاف في عدد ركعاتها والراجح منها، ووقت ومكان أدائها، وقضاء الفوائت منها.
أسال الله جل في علاه أن ينفع بها كاتبها، وقارئها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
معناها:
هي: ما كان في مشروعيته دون الواجب وفوق المندوب. معجم لغة الفقهاء ٢٢٤
والراتبة هي: المرافقة للفرائض. معجم لغة الفقهاء ١٩٣
حكمها:
حكم أداء السنن الرواتب: سنة مؤكدة، يكره تركها، عند جمهور الأئمة، إلا مالكا.
قال ابن عابدين: ويستوجب تاركها على سبيل الإصرار بلا عذر التضليل، واللوم اهـ 2/545
وقال النووي: من واظب على ترك الراتبة، أو تسبيحات الركوع والسجود ردت شهادته، لتهاونه بالدين اهـ المجموع 3/525
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية: من أصر على تركها دل ذلك على قلة دينه، وردت شهادته في مذهب أحمد، والشافعي، وغيرهما اهـ الفتاوى 23/127 وبناء على ما تقدم من كلام أهل العلم، كان لازما على كل مسلم ومسلمة المحافظة على هذه السنن الرواتب في غالب أيامه، وعدم التهاون بتركها بالكلية، أو الاستخفاف بها، اوالتكاسل عنها.
فضلها:
فضل السنن الرواتب أنها تجبر نقص الفرائض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح و أنجح، وان فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك" أخرجه الترمذي (٤١٣)
ومن فضائلها أنها من أسباب جلب محبة الرحمن، ففي الحديث: ولا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى احبه، فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولان سألني لأعطينه، ولان استعاذني لاعيذنه.
عدد ركعات السنن الرواتب:
اختلف اهل العلم في عدد ركعاتها، وذلك بسبب اختلاف الأحاديث الواردة فيها، ومن أشهر هذه الأقوال قولان:
أحدهما:انها اثنا عشر ركعة، وهو مذهب الحنفية. بدائع الصنائع 2/261
والآخر:انها عشر ركعات، وهو مذهب الشافعي، وأحمد.
إلاأن العشر ركعات عند الشافعية هو ادنى الكمال، والكمال ثمانية عشر ركعة. العزيز شرح الوجيز للرافعي 2/116، والمجموع للنووي 3/501، والمغني لابن قدامة 2/124، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح 2/14
استدل أصحاب القول الأول، وهم الحنفية على أنها إثنى عشر ركعة، بأحاديث منها:
الحديث الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ثابر على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بها بيتا في الجنة، أربع ٍقبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر.
أخرجه الترمذي من طريق المغيرة بن زياد عن عطاء عن عائشة به، برقم (414) وقال بعده: حديث غريب من هذا الوجه، ومغيرة بن زياد قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه اهـ
وأخرجه النسائي من نفس طريق المغيرة بن زياد، وقال بعده: هذا خطأ، ولعله أراد عنبسة بن أبي سفيان، فصحفه؛ ثم أخرجه من طريق عطاء عن عنبسة اهـ السنن الكبرى 1/458ـ459
قلت:وهذه علة تقدح في صحة هذا الحديث بهذا الإسناد؛ لأن الأئمة النقاد انتقدوا على المغيرة بن زياد أحاديث يتفرد بها، منها هذا الحديث.
وقد أعل غير واحد من النقاد هذا الحديث بهذا الإسناد أيضا، لأجل خطأ المغيرة زياد، كالإمام أحمد، والدراقطني، وغيرهم.
فاتفاق هؤلاء الأئمة النقاد، أحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، والدارقطني على إعلال الحديث، هو الصواب، وقولهم هو المقدم على مَن صححه مِن بعدهم، والله أعلم.
الحديث الثاني: عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة، أربعا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر صلاة الغداة"
أخرجه الترمذي من طريق مؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن أبي إسحاق عن المسيب بن رافع عن عنبسة عن أم حبيبة، وقال الترمذي: وحديث عنبسة عن أم حبيبة في هذا الباب حديث حسن صحيح، وقد روي عن عنبسة من غير وجه اهـ رقم الحديث (415)
قلت: الحديث تفرد به مؤمل بن إسماعيل عن الثوري، وقد قال الفسوي عن مؤمل: يروي المناكيرعن ثقات شيوخه، وقال محمد بن نصر المروزي: المؤمل إذا انفرد بحديث وجب أن يتوقف فيه، ويثبت فيه، لأنه كان سيء الحفظ، كثير الغلط اهـ تهذيب التهذيب 5/586
وأخرج النسائي حديث أم حبيبة من طرق عن عنبسة، غير هذا الطريق، وساق الخلاف في إسانيدها رفعا ووقفا واتصالا وانقطاعا، وفي متونها بزيادة ونقصان، كما في السنن الكبرى.
وأما تصحيح الترمذي لهذا الحديث فمراده والله أعلم بمجموع طرقه، وليس من هذا الطريق، بدليل قوله: وقد روي عن عنبسة من غير وجه.
وأماهذا الإسناد فلا يصح لتفرد مؤمل بن إسماعيل بروايته عن الثوري عن أبي إسحاق.
ماتقدم من هذه الأحاديث لا تخلو من النقد.
والمعروف من حديث ام حبيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى في يوم ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة.
اخرجه مسلم (٧٢٨)، من طريق شعبة، وداود بن هند، كلاهما عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن عنبسة عن أم حبيبة.
وليس في هذا الحديث دلالة على انها السنن الرواتب، لأنه لا يوجد في هذا الحديث تفصيل لأوقات هذه الركعات الاثنى عشر.
وقد رواه غير واحد من الرواة عن عنبسة بدون تفصيل الإثنى عشر ركعة، منهم:
عمرو بن أوس الثقفي، كما تقدم عند مسلم برقم (٧٢٨) من طريق شعبة، و داود بن هند.
وأبو صالح ذكوان، أخرجه النسائي برقم (1808و1809و1810)
وعطاء، أخرجه النسائي برقم (1796و1798) وقال: عطاء لم يسمعه من عنبسة اهـ
ويعلى بن أمية التميمي، أخرجه النسائي في السنن الكبرى (1/459)
والمسيب بن رافع عن عنبسة، أخرجه النسائي برقم (1804و1805و1806) من طريق إسماعيل، وحصين، لكن زاد حصين أبا صالح بين المسيب وأم حبيبة.
ناهيك عن فهم بعض من روى حديث أم حبيبة على غير السنن الرواتب.
فقد اخرج النسائي بسنده عن ابن جريج انه قال لعطاء بلغني انك تركع قبل الجمعة ثنتي عشر ركعة، بلغك في ذلك خبر؟ فقال عطاء أخبرت أمُ حبيبة عنبسةَ بنَ أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ركع اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة، سوى المكتوبة بنى الله له بيتا في الجنة" ثم ذكر بعده بحديث أن عطاء لم يسمعه من عنبسة اهـ السنن الكبرى ٤٥٩/١
وفي رواية شهر بن حوشب عن أم حبيبة قالت: من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم، فصلى قبل الظهر، بنى الله له بيتا في الجنة" أخرجه النسائي في السنن الكبرى 1/460
ولكن شهرا ضعيف.
وقد روي هذا الحديث عن أم سلمة، وأبي هريرة، وأبي موسى، وأعلها الأئمة، وصححوا هذا الحديث من حديث أم حبيبة، من بعض طرقها، وبعضها الآخر لا يخلو من نقد، كما تقدم.
مما تقدم يتضح عدم سلامة أدلة من قال إنها إثنى عشر ركعة من النقد، سواء نقدها في أسانيدها، أو متونها.
وأن الراجح هو رواية من ذكر هذا الحديث بدون تفصيل لأوقات أداء هذه الإثنى عشر ركعة، وبالله التوفيق.
واستدل أصحاب القول الثاني، وهم الشافعي واحمد على أنها عشر ركعات بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الصبح. أخرجه البخاري ١١٨٠ ومسلم بنحوه برقم(729)، واللفظ للبخاري.
قال الشافعي في كتاب البويطي، والربيع: وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين بعد الفجر قبل أن يصلي الصبح، وإحدى عشرة ركعة بالليل، لا أحب لأحد ترك شيء من هذا اهـ معرفة السنن والآثار للبيهقي 2/285
وهذاالحديث متفق على صحته، ولم أقف على من تكلم على إسناده أو متنه بشيء يطعن فيه.
مما تقدم يلاحظ قوة دليل من ذهب إلى انها عشر ركعات، وسلامته من النقد، بخلاف أدلة من ذهب الى انها اثنا عشر ركعة فإنها لم تسلم من الانتقاد.
والراجح والله اعلم انها عشر ركعات كما حققه غير واحد من أهل العلم، منهم ابن القيم في زادالمعاد 1/307، وبالله التوفيق.