توبة الداعي إلى البدعة:إن من أعظم الآيات الجامعات في القرآن قول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، فالعبد منهي عن القنوط من رحمة الله تعالى وإن عظمت ذنوبه وكثرت، ومنهي أيضا عن أن يقنط الناس من رحمة الله تعالى مهما قالوا وفعلوا، قال بعض السلف إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله.والقنوط يكون إما بأن يعتقد أن الله لا يغفر له ولا يقبل توبته إذا تاب؛ كالراهب الذي أفتى قاتل تسعة وتسعين أن الله لا يغفر له فقتله وكمل به مائة ثم دل على عالم فأتاه فسأله فأفتاه بأن الله يقبل توبته، وإما بأن يظن أن نفسه لا تطاوعه على التوبة وهو مغلوب معها وقد استحوذ عليه الشيطان، فهو ييأس من توبة نفسه وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يعتري كثيرا من الناس؛ كالذي يرى للتوبة شروطا تعجيزية لكثرتها وعسرها في ظنه، فيتعذر عليه فعلها، فييأس من أن يتوب، وإن كان يعتقد أنه إن تاب قبل الله توبته وغفر له ذنبه.ومذهب سلف الأمة وأئمتها -أهل الرحمة والعدل- أن التوبة من كل ذنب ممكنة، وأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعها حتى الكفر والشرك بشرط التوبة منه، ولا يغفر لمن مات كافرا؛ قال تعالى: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم}، وقال في حق المنافقين: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم}، وقد يغفر ما دون الشرك لمن لم يتب، لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، والله أعلم.فالآية الأولى مطلقة في حق التائبين من أي ذنب، فإن التائب من الشرك يغفر له أيضا بنصوص القرآن واتفاق المسلمين، وأما الثانية فلا يجوز أن تكون في حق التائبين كما يدعيه بعض الوعيدية كالمعتزلة والخوارج، فإنه خص فيها الشرك بأنه لا يغفره وما عداه لم يجزم بمغفرته؛ بل علقه بالمشيئة، فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك وأن المغفرة هي لمن يشاء دل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك؛ لكنها لبعض الناس، وحينئذ فمن غفر له لم يعذب ومن لم يغفر له عذب، وهذا مذهب الصحابة والسلف والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار وبعضهم يغفر له، كل بحسب ما يستحق.والمقصود أن الداعي إلى البدعة ليس دون الداعي إلى الكفر ولا مثله، فإذا كان الله يقبل توبة من دعا إلى الكفر وحارب الرسول وقتل من المؤمنين من قتل؛ فكيف بتوبة الداعي إلى البدعة، والذي كثيرا ما يكون معذورا، وحتى وإن لم يتب فقد يقبل الله توبته ما دام لم تثبت في حقه الحجة التي توجب تكفيره، فإنه حينئذ لن يغفر له إلا إذا تاب، وفي قول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى كفاية لمن تدبره: "وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعا، وفيها رد على طوائف؛ رد على من يقول إن الداعي إلى البدعة لا تقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائيلي فيه: "أنه قيل لذلك الداعية فكيف بمن أضللت؟ وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث وليسوا من العلماء بذلك؛ كأبي علي الأهوازي وأمثاله ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة وما يحتج به وما لا يحتج به؛ بل يروون كل ما في الباب محتجين به، وقد حكى هذا طائفة قولا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر وتوبة من فتن الناس عن دينهم، وقد تاب قادة الأحزاب؛ مثل أبي سفيان بن حرب والحارث ابن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم بعد أن قتل على الكفر بدعائهم من قتل وكانوا من أحسن الناس إسلاما وغفر الله لهم، قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}، وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم: "يا عمرو أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله"، ...، وأيضا فالداعي إلى الكفر والبدعة وإن كان أضل غيره فذلك الغير يعاقب على ذنبه؛ لكونه قبل من هذا واتبعه وهذا عليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة مع بقاء أوزار أولئك عليهم فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم وأما هم فسواء تاب أو لم يتب حالهم واحد؛ ولكن توبته قبل هذا تحتاج إلى ضد ما كان عليه من الدعاء إلى الهدى، كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة".فمن كان يدعو إلى بدعته ثم تاب فإنه لابد له من إصلاح ما أفسده حين ضلاله ليتوب الله عليه، إذ من كان للناس عليه حق؛ فعليه أن يكثر من الحسنات ليمحو بها الله عنه ما أسلفه، وذلك بأن يقوم بضد ما كان يفعله قبل التوبة، كمن كان يدعو إلى الكفر والشرك؛ فبعد توبته عليه أن يدعو إلى الإسلام والتوحيد، ومن كان يدعو إلى الفاحشة عليه أن يدعو إلى العفاف، وهكذا من كان يدعو إلى البدعة عليه أن يدعو إلى السنة، وبعض أهل العلم لم يقبل توبة الداعي إلى البدع لما رآه من حق العباد الذين أضلهم، وحقيقة قوله التي تلائم أصول الشريعة أن يراد بذلك أن التوبة المجردة تسقط حق الله من العقاب، وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة وهذا حق، ولا فرق في ذلك بين ظالم وظالم، فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فإنه يستوفي منه في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يحذر الإفلاس يوم القيامة بأن يستكثر من الحسنات، ومع هذا فإذا شاء الله أن يكرم التائب بتعويض المظلوم من عنده فلا راد لفضله، كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، والله أعلم.ولقد دعا الله تعالى إلى التوبة أهل الشرك والتثليث وأهل الذنوب عموما مهما كانت وممن كانت، ووعد بالمغفرة لمن استجاب، ولو كانت ذنوبه عظيمة، فإن الله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب، قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقال: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: انظروا إلى هذا الكرم عذبوا أولياءه وفتنوهم ثم هو يدعوهم إلى التوبة.فهذا هذا، ولقد أخطأ من جعل الدعاة إلى البدع أعظم من الدعاة إلى الكفر والشرك والذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا والذين قتلوا المؤمنين والمؤمنات، قال شيخ الإسلام في المجموع: "وهذا القول الجامع بالمغفرة لكل ذنب للتائب منه كما دل عليه القرآن والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب كقول بعضهم أن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنا؛ للحديث الإسرائيلي الذي فيه (فكيف من أضللت)، وهذا غلط، فإن الله قد بين في كتابه وسنة رسوله أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع"، وقال في موضع آخر: "فإذا تاب الرافضي من ذلك واعتقد فضل الصحابة وأحبهم ودعا لهم؛ فقد بدل الله السيئة بالحسنة كغيره من المذنبين"، ولا منافاة بين نصوص التوبة والمغفرة لأهل الذنوب بأنواعها وبين نصوص الوعيد، والبدع من الذنوب سواء أكانت مغلظة أو مخففة، فإنه قد علم يقينا أن كل ذنب فيه وعيد فإن لحوق الوعيد بمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ومن هذه الشروط عدم التوبة، والله أعلم.وأما قول من قال من أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها، فمقصودهم أن المبتدع لا يتوب ما دام يرى بدعته حسنة ودينا يتقرب به إلى الله تعالى، لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، ومع هذا فليس ببعيد أن يمن الله عليه فيعلم بأن بدعته سيئة فيتوب منها فيتوب الله عليه ويبدل الله سيئاته حسنات، كما هو واقع، مثل الخوارج الذين تابوا ورجعوا مع عبد الله بن عباس لما أرسله علي بن أبي طالب لمناظرتهم، وفي مثل هؤلاء قال شيخ الإسلام في المجموع: "ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، ..".ولشيخ الإسلام كلام جامع في المسألة حيث قال في المجموع: "وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار، فإن كثيرا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها فعلم بالعلم العام أنها قبيحة؛ كالفاحشة والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينا فلا يعلم أنه ذنب إلا من علم أنه باطل، كدين المشركين وأهل الكتاب المبدل فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه وأهله يحسبون أنهم على هدى، وكذلك البدع كلها، ولهذا قال طائفة من السلف -منهم الثوري-: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى ولو تاب لتاب عليه كما يتوب على الكافر، ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقا فقد غلط غلطا منكرا، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه ما دام مبتدعا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة فإنه يتوب منها كما يرى الكافر أنه على ضلال؛ وإلا فمعلوم أن كثيرا ممن كان على بدعة تبين له ضلالها وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله؛ والخوارج لما أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم رجع منهم نصفهم أو نحوه وتابوا، وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد العزيز وغيره، منهم من سمع العلم فتاب، وهذا كثير".وهكذا يحمل كلام سلف الأمة وأئمتها في عدم قبول توبة أهل البدع والدعاة إليها على ما ذكره شيخ الإسلام، وعلى غيره مما لا يحصيه إلا الله تعالى، كأن يقولوا ما قالوه في شأنهم على سبيل الزجر والتغليظ لردع صاحب البدعة وتنفير الناس عنه وعن بدعته ابتغاء السلامة لهم جميعا، وهذا لا يناقض حقوق الأخوة وواجب التأليف، بل هو من قبيل استعمال الدواء الكريه في تطبيب المريض، من أجل إذهاب العلة وتحصيل الشفاء، والله أعلم.