بسم الله الرحمن الرحيم
محاضرة تحت عنوان : كيف عالج الاسلام مسالة التسامح المحاضر: ذ. ميلود لحمر أستاذ علوم القرآن وأحكامه في الجامعة المواطنة ولقد كانت هذه المحاضرة في الثانوية الاعدادية بمراكش بتاريخ 22 جمادى الثانية 1433 هـ موافق 14/05/2012 م ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... أيها الجمع الكريم أيها ... فإليكم العناون الرئيسية للموضوع : وهي على الشكل التالــي : التسامح في القرآن الكــــــــــــ ـــــريم: التسامح في السنة النبـــــــــــ وية: المعنى الشامل للتسامـــــــح: التسامح في الإســـــــــــ ـــــــــلام: روح التسامـــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــح: التسامح والحوار: قيم التسامح : خاتمة: إن التسامح" كلمة جميلة باتفاق اللغات والأعراق، والأمم كلها، ولذلك علينا أن لا نضعأيدينا على قلوبنا، وأن لا نخشى من طرح هذا الموضوع، بل يجب أن نلح عليهلنكسب أنفسنا والآخرين .
"
التسامح " يعني الصفح عمن أخطأ عليك أو تجاوز حده، أو اختلف معك اختلافاًغير أخلاقي، فالمفهوم بهذا الاعتبار قيمة أخلاقية عظمى، وانتصار لروح الخيروالأخلاق في النفس الإنسانية على روح الشر من الاستجابة لنزغات الشيطان. والتسامح كما جاء في تعريفه اصطلاحا : (هو كلمة دارجة تستخدم للإشارة إلى الممارسات الجماعية كانت أم الفردية تقضي بنبذ التطرف أو ملاحقة كل من يعتقد أو يتصرف بطريقة مخالفة قد لا يوافق عليها المرء. والتسامح بالمعنى الحديث يدل على قبول اختلاف الآخرين . ويطلقالتسامح على معاني قريبة منه وهي : العفولقوله تعالى ((خذ العفو وأمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين )) للكافرين والمشركين
الصفحلقوله تعالى (( فاصفح عنهم وقل لهم سلاماً سوف يعلمون ))وقوله أيضاً (( فاصفح الصفح الجميل )) أي الكريم الجميل للصحابة والمسلمين.
المغفرةلقوله تعالى (( والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ))
الرحمةلقوله تعالى (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) لم يرسل نبيه للقتل والذبح ولكن بعث رحمة للناس يخرجهم من الظلمات إلاالنور حتى إنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ادع الله على المشركينوالعنهم. فقال: ( إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا) رواه مسلم. التسامح في القرآن الكريم: إن الإسلام الذي جاء به رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم وقدمه ذلك التقدم الملحوظ حمل بين طياته قوانين عدة مهمة عملت على نشره في شتى أرجاء العالم الأكبر.فمن أشهر هذه القوانين المهمة التي كان لها الدور الأكبر والطائل في تقدم المسلمين في مختلف الميادين هو قانون: اللين واللاعنف والتسامح الذي أكدت عليه الآيات المباركات وهي كثيرة جدا . قال تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).(4)ويقو : (وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا).(5)ويقو : (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).(6)ويقو : (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ).(7 )ويقول: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ).(8) ويقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ).(9) ويقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (10).. إلى غيرها من آيات الذكر الحكيم. التسامح في السنة النبوية: وأما التسامح من وجهة نظر السنة النبوية فإنه يتشارك مع ما جاءت وحملته هذه اللفظة لغوياً فأن معنى التسامح هو التساهل والمساهلة في كل جوانب الحياة لذلك جاء قول الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم:(رحم الله امرئ سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى). ويتحدث القرآن الكريم عن رسالته فيقول:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ، فان الرحمة والسلم والسلام جاء بها الإسلام للناس كافة. فالرسول الأكرم صلى الله عليه وعلى اله وسلم قائد الحركة السلمية اللاعنفية الأولى في تاريخ العالم. وهو صلى الله عليه وعلى اله وسلم حامل راية السلم والسلام لأنه يحمل للبشرية النور والهداية والخير والرشاد والرحمة والرأفة . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا في المسجد عند رسول الله
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة))،
قال: فدخل رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه بيده، فسلم على النبي وجلس،
قال: ولما كان اليوم الثاني قال: ((يدخل من هذا الباب عليكم رجل من أهل الجنة))،
قال: فدخل ذلك الرجل الذي دخل بالأمس، تنطف لحيته من وضوئه، مُعلقاً نعليه في يده فجلس، ثم في اليوم الثالث،قالعبد الله بن عمرو بن العاص : فقلت في نفسي: والله لأختبرن عمل ذلكالإنسان، فعسى أن أوفّق لعمل مثل عمله، فأنال هذا الفضل العظيم أن النبيأخبرنا أنه من أهل الجنة في أيامٍ ثلاثة،
فأتى إليه عبد الله بن عمروفقال: يا عم، إني لاحيت أبي – أي خاصمت أبي – فأردت أن أبيت ثلاث ليالعندك، آليت على نفسي أن لا أبيت عنده، فإن أذنت لي أن أبيت عندك تلكالليالي فافعل،
قال: لا بأس، قال عبد الله: فبت عنده ثلاث ليال، واللهما رأيت كثير صلاةٍ ولا قراءة، ولكنه إذا انقلب على فراشه من جنب إلى جنبذكر الله، فإذا أذن الصبح قام فصلى، فلما مضت الأيام الثلاثة
قلت: يا عم، والله ما بيني وبين أبي من خصومة، ولكن رسول الله ذكرك في أيامٍ ثلاثة أنك من أهل الجنة، فما رأيت مزيد عمل!! قال: هو يا ابن أخي ما رأيت،قال: فلما انصرفت دعاني فقال: غير أني أبيت ليس في قلبي غش على مسلم ولا أحسد أحداً من المسلمين على خير ساقه الله إليه،قال له عبد الله بن عمرو: تلك التي بلغت بك ما بلغت، الى آخر الحديث .فو الله لو جربنا حلاوة العفو و التسامح ما بدلناها بكل الدنيالو عرفنا عظيم الثواب الذي ينتظر المسامح .. العافي عن الناسو قدر الراحة التي ينام بها و ليس في قلبه ذرة كره أو حقدربما كنا فهمنا لما وهب ديننا كل تلك الاهمية .. لتلك الصفة .. التسامح . المعنى الشامل للتسامح: إن المفهوم العام للتسامح لا يعني بالضرورة أن يرتبط بالجانب الاجتماعي على حساب جوانب الحياة الأخرى فكثيراً ما تستخدم هذه الكلمة في المسائل الاجتماعية حتى أنها توحي بأنها من مفرداتها أو من مصطلحاتها، الا أنه من المصطلحات ذات المعنى العام والشمولي، إذ لا يقتصر على الجانب الاجتماعي فحسب وانما يتعداه إلى الجانب الاقتصادي وحتى السياسي، وله علاقة عامه وشمولية في كل جوانب العلم والمعرفة وله دور في مختلف أبعاد الحياة. "فالتسامح" هو أساس التعامل الذي يفترض أن يحكم علاقة الناس بعضهم ببعض، أماالإصرار على رفض التسامح فهو إصرار على إلحاق الأذى بالنفس قبل الآخرين، إن من المهم أن نتحدث عن التسامح مع الذين نتفق معهم، وأيضاً مع أولئك الذين نختلف معهم أو ننتقدهم، فيجب أن نسامحهم.أنت محتاج إلى المسامحة من نفسك ومن الآخرين، وكثير من الناس يتألم لأخطائهالماضية ويظل يحملها، فلا بد أن يكون متسامحاً مع نفسه، وقادراً على نسيانأخطائه الماضية، ومسامحة كل الناس، وجرّب أن تتصدق بعرضك عليهم؛ فسوف تجدأن قلبك يتسع ويمتلئ بالسرور، وسوف تتنفس الصعداء، ولا تأنف من قولهم، فقدلا يقابلونك بالمثل: إنثقافة التسامح تشكّل صمام الأمان لعالم مطمئن ومزدهر ومتقدّم، كما تشكّلالأساس المتين لعلاقات طيبة على مستوى الأفراد والمجتمعات، لذا من واجبالجميع العمل على نشر قيم وفضائل التسامح حتى تصير ثقافة عامة، فنعيش فيعالم مطمئن ومتقدم. التسامح في الإسلام: الإسلام دين الفطرة، دين الحنيفية السمحة، دين التسامح والمحبة والأخلاق العظيمة.
والتسامحخلق الإسلام كدين منذ أن خَلَق الله الأرض ومن عليها، منذ أن بعث الأنبياءوالرسل، فكانت رسالة السماء تُسمّى على مر العصور، وفي زمن كل الأنبياءبالحنيفية السمحة كدليل على التسامح والتواصل والمحبة. ثمّ جاءرسول الله _صلّى الله عليه وسلم_ حاملاً هذه الرسالة العظيمة المتضمنة لكلمعاني القيم الإنسانية والحضارية، وفي طليعة هذه القيم التسامح، وقد جسّدهذا الخُلُق في مفاهيم عملية فحوّلها من مجرد قيمة إلى مفهوم عملي لازمحياته في جميع مراحلها، قبل البعثة وبعدها، في حالات الضعف كما في حالاتالقوة.لقد دعا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إلى إشاعة جو التسامحوالسلام بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم من الأمم، واعتبر ذلك من مكارمالأخلاق، فكان في تعامله مع المسلمين متسامحاً حتى قال الله _تعالى_ فيه: " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" (التوبة:128)، وكان مع غير المسلمين ينطلق من هذا المبدأ العظيم ليكرّسقاعدة التواصل والتعاون والتعارف بين الناس، ولتكون العلاقة الطيبة الأساسالذي تُبنى عليه علاقات ومصالح الأمم والشعوب، وحتى مع أعدائه الذين ناصبوهالعداء كان متسامحاً إلى حد العفو عن أسراهم واللطف بهم والإحسان إليهم. فهاهو أثناء عودته من الطائف، وبعد أن أدموه وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم،وبعد أن طردوه من قريتهم، وأساؤوا معاملته، يأتيه ملك الجبال يقول: مُر يامحمد. فيقول رسول الله: لعلّ الله يخرج من أصلابهم من يعبده وينصر هذاالدين. لقد كان ملك الجبال ينتظر منه إشارة ليطبق عليهم الأخشبين ويغرقهمفي ظلمات الأرض فلا ينجو منهم أحد، ولكن الرحمة في قلبه وخُلُق التسامحالذي تربّى عليه دفعه إلى الاعتذار من ملك الجبال، وقال قولته الشهيرة التيتنمّ عن مسؤولية عظيمة وخُلُق فاضل.إن التسامح وفق المنظور الإسلامي، فضيلة أخلاقية، وضرورة مجتمعية، وسبيل لضبط الاختلافات وإدارتها، والإسلام دين عالمي يتجه برسالته إلى البشرية كلها، تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم وتُرسي دعائم السلام في الأرض، وتدعو إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعاً في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم. فالجميع ينحدرون من (نفس واحدة)، كما جاء في القرآن الكريم:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾.(19)كما أن الإسلام من جهته يعترف بوجود الغير المخالف فرداً كان أو جماعة ويعترف بشرعية ما لهذا الغير من وجهة نظر ذاتية في الاعتقاد والتصور والممارسة تخالف ما يرتـئيه شكلاً ومضموناً، ويكفي أن نعلم أن القرآن الكريم قد سمّى الشِّرك ديناً على الرغم من وضوح بطلانه، لا لشيء إلاّ لأنه في وجدان معتنقيه دين.(20) والواقع أن المرء إذا نظر إلى تلك المبادئ المتعلقة بموضوع حرية التديّن التي أَقَرَّها القرآن بموضوعية، لا يسعه إلاّ الاعتراف بأنها فعلاً مبادئ التسامح الديني في أعمق معانيه وأروع صوره وأبعد قِيمه.فعالمنا اليوم في أشد الحاجة إلى التسامح الفعال والتعايش الإيجابي بين الناس أكثر من أي وقت مضى، نظراً لأن التقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يوماً بعد يوم بفضل ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب، حتى أصبح الجميع يعيشون في قرية كونية كبيرة. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هو: ما هي الجذور المعرفية والفكرية لمفهوم التسامح في الإسلام؟ للإجابة عن هذا السؤال ينبغي علينا أن نعرف الأمور التالية: أ- يعترف الإسلام في كل أنظمته وتشريعاته، بالحقوق الشخصية لكل فرد من أفراد المجتمع، ولا يجيز أي ممارسة تفضي إلى انتهاك هذه الحقوق والخصوصيات، ولا ريب أنه يترتب -على ذلك -على الصعيد الواقعي الكثير من نقاط الاختلاف بين البشر، ولكن هذا الاختلاف لا يؤسس للقطيعة والجفاء والتباعد، وإنما يؤسس للمداراة والتسامح مع المختلف. ب- إن المنظومة الأخلاقية والسلوكية، التي شرعها الدين الإسلامي من قبيل الرفق والإيثار والعفو والإحسان والمداراة والقول الحسن والألفة والأمانة، وحث المؤمنين على الالتزام بها وجعلها سمة شخصيتهم الخاصة والعامة، كلها تقتضي الالتزام بمضمون مبدأ التسامح. ومن خلال هذه المنظومة القيمية والأخلاقية، نرى أن المطلوب من الإنسان المسلم دائما وأبداً وفي كل أحواله وأوضاعه، أن يلتزم بمقتضيات التسامح ومتطلبات العدالة. فالتسامح كسلوك وموقف ليس منة أو دليل ضعف وميوعة في الالتزام بالقيم، بل هي من مقتضيات القيم ومتطلبات الالتزام بالمبادئ، فالغلظة والشدة والعنف في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، هي المناقضة للقيم، وهي المضادة لطبيعة متطلبات الالتزام وهي دليل ضعف لا قوة. فالأصل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، أن تكون علاقات قائمة على المحبة والمودة والتآلف، حتى ولو تباينت الأفكار والمواقف، بل إن هذا التباين هو الذي يؤكد ضرورة الالتزام بهذه القيم والمبادئ.فوحدتن الاجتماعية والوطنية اليوم، بحاجة إلى غرس قيم ومتطلبات التسامح في فضائنا الاجتماعي والثقافي والسياسي. ان التسامح الديني مطلب إنساني نبيل دَعَا إليه الاسلام وحث عليه ، وكيف لا يدعو إليه وقد أرادته الحكمة الإلهية واقتضته الفِطرة الإنسانية واستوجبته النشأة الاجتماعية وفرضته المجتمعات المدنية وحتّمته وما تحتاج إليه من قِيَم حضارية ومَدنية نبيلة. روح التسامح: في الإسلام تعد الكلمة أول وآخر شيء في الدعوة، ذلك لأن الدعوة إلى الله تعالى لما كان الهدف من إيصال الحق إلى القلوب ليستقر فيها ويحرك الإنسان باتجاه الفضيلة، فإن من الضروري أن تكون الكلمة الوسيلة الأساس في تحقيق هذا الهدف، بسبب ما فيها من رؤية ولين وقدرة على الإقناع، وبسبب ما تحققه من ضمانة الثبات والتمكن لأفكارها في القلوب والسلوك. فيقول تبارك وتعالى:(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).(26)والموعظة الحسنة على حد تعبير بعض المفسرين هي: التي تدخل القلب برفق، وتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة ويؤلف القلوب النافرة ويأتي بخير من الزجر والتأنيب.والدعو إلى سلوك الطريق الأحسن في مقام الجدل والصراع الفكري، هي دعوة قرآنية تخاطب كل مجال من مجالات الصراع في الحياة وتتصل بكل علاقة من علاقات الإنسان بأخيه الإنسان في مجالات الصراع.إنها دعوة الله إلى الإنسان في قوله تعالى: ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(27) ، وقوله:(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا).هذه الدعوة الصافية التي توحي للإنسان في كل زمان ومكان، أن مهمته في الحياة هي أن يثير في الإنسانية عوامل الخير ويلتقي بها في عملية استثارة واستثمار، بدلا من عوامل الشر التي تهدم ولا تبني وتضر ولا تنفع وتدفعه في الوقت نفسه إلى أن يجعل اختيار الأحسن في كل شيء وفي كل جانب من حياته شعاره الذي يرفعه في كل مكان وزمان. وإن القوة مهما كانت درجتها لن تنسجم مع طبيعة الرسالة الإسلامية، مادامت القوة تعني محاصرة العقل وفرض الفكرة عليه تحت تأثير الألم أو الخوف لذلك فإن الباري عز وجل يحذر رسوله أن يمارس التبليغ بروح السيطرة والاستعلاء، (فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر).(28)ولما كانت الأخلاق تتجلى رقة وحنانا واستيعابا للآخرين، فإننا نلاحظ أن الله تعالى يذكر نبيه بالقاعدة الذهبية التي جعلته داعيةً ناجحاً ومقبولاً، ويؤكد له أن حيازته على هذه السجية إنما هي بفضل الله وتوفيقه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران 159، وفي هذا الجو المفعم بالأخلاق وطيب القلب والعفو، نحدد علاقتنا بالأشياء والأشخاص، لتكون بأجمعها مشدودة إلى هذه القيم النبيلة، وسائدة في هذا الاتجاه. فالأصل في العلاقة بين بني الإنسان بصرف النظر عن اتجاهاتهم الأيدلوجية والفكرية، هو الرحمة والإحسان والبر والقسط وتجنب الإيذاء. التسامح والحوار: إن الحوار في معناه الصحيح لا يقوم ولا يؤدي إلى الهدف المنشود إلا إذا كان هناك احترام متبادل بين أطراف الحوار، واحترام كلِ جانب لوجهة نظر الجانب الآخر وبهذا المعنى فإن الحوار يعني التسامح واحترام حرية الآخرين، واحترامُ الرأي الآخر لا يعني بالضرورة القبول به. وليس الهدف من الحوار مجرد فكّ الاشتباك بين الآراء المختلفة أو تحييد كل طرف إزاء الطرف الآخر، وإنما هدفُه الأكبر هو إثراء الفكر وترسيخ قيمة التسامح بين الناس، وتمهيد الطريق للتعاون المثمر فيما يعود على جميع الأطراف بالخير، وذلك بالبحث عن القواسم المشتركة التي تشكل الأساس المتين للتعاون البنّاء بين الأمم والشعوب. والحوار بهذا المعنى يُعد قيمة حضارية ينبغي الحرص عليها والتمسك بها وإشاعتها على جميع المستويات. والوعي بذلك كله أمر ضروري يجب أن نعلمه للأجيال الجديدة، وبصفة خاصة عن طريق القدوة وليس عن طريق التلقين ولا جدال في أن الحوار قد أصبح في عصرنا الحاضر أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، بل أصبح ضرورة من ضرورات العصر، ليس فقط على مستوى الأفراد والجماعات، وإنما على مستوى العلاقات بين الأمم والشعوب المختلفة. قيم التسامح يتضح مما سبق ان التسامح الديني أو التسامح الشامل له قيم على أساسها يبنى وفي خضمها يحقق غايته وهذه القيم هي: 1- قيمة التسامح في كونه ضرورة وجودية: إن ما يجب تسليط الضوء عليه أن أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ذا بُعد وُجودي، أي أنه ضروري ضرورة الوجود نفسه. ولتوضيح ذلك يمكن الالماع إلى أن سُنّة الوجود قد اقتضت أن يكون وجود الناس على الأرض في شكل تجمّعات بشرية، وهي وإن اتّفقت في ما يجمع بينها من وحدة الأصل والحاجة إلى التجمّع والحرص على البقاء والرغبة في التّمكّن من مقوّمات الحياة والسّعي في إقامة التمدّن والعمران والتَّوق إلى الارتقاء والتقدّم فإنها قد تباينت في ما تتفرّد به كل مجموعة من خصوصية عرقية ودينية وبيئية وثقافية. وقد صرّح القرآن بهذه الحقيقة الوجودية فقال: ( يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).(35) وقد ألمع القرآن إلى ضرورة هذا الاختلاف النمطي، وإلى حتمية وجوده حتى يتمكّن كل فرد وكل مجتمع من العيش حسب ما لديه من إرادة وحرية واختيار وبالطريقة التي يهواها ويرتضيها دون مخالفة الشرع . وهكذا نلحَظ، أن الغاية من اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل وتنوعهم إلى ثقافات ومَدَنيات إنما هو التعارف لا التَّناكر، والتعايش لا الاقتِتَال، والتعاون لا التَّطاحن، والتكامل لا التعارض، وبات واضحاً أن أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ضرورياً ضرورة الوجود نفسه. 2- قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يقتضي الاحترام المتبادل: ان قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يُقرّ الاختلاف ويقبل التنوّع ويعترف بالتغاير ويحترم ما يميز الأفراد من معطيات نفسية ووجدانية وعقلية، ويقدر ما يختص به كل شعب من مكونات ثقافية امتزج فيها قديم ماضيه بجديد حاضره ورؤية مستقبله، هي سبب وجوده وسرّ بقائه وعنوان هويته ومَبعث اعتزازه. 3 قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه داعماًً لإقامة مجتمع مَدني: من الواضح أن التسامح الديني يُعدّ أرضية أساسية لبناء المجتمع المدني وإرساء قواعده، فالتعدّدية والديموقراطية وحرية المعتقد وقبول الاختلاف في الرأي والفكر وثقافة الإنسان وتقدير المواثيق الوطنية واحترام سيادة القانون، خيارات استراتيجية وقيم إنسانية ناجزة لا تقبل التراجع ولا التفريط ولا المساومة، فالتسامح عامل فاعل في بناء المجتمع المدني، ومشجّع على تفعيل قواعده. خاتمة: ومما تقدم يتضح لنا بجلاء إلى أي مدى يعتبر التسامح الإيجابي -بوصفه تسامحاً شاملاً أو تسامحاً دينياً- من العناصر الأساسية في تعاليم الإسلام، وبالتالي من الأهداف التي ترمي إليها التربية الإسلامية. ومن هنا فإن التزام المسلمين بذلك وحمايتهم لحقوق الانسان والجماعات المتنوعة و الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية أمر يدخل في إطار التزاماتهم الدينية التي تقضي بالحفاظ والدفاع عن الحقوق الإنسانية العامة للجميع. الكاتب ميلود لحمر بتاريخ 22 جمادى الثانية 1433 هـ موافق 14/05/2012 م