بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للهِ الْوَاقِي مَنْ اتَّقَاهُ مَرَجَ الأَهْواءِ وَهَرَجِهَا . وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً كَامِنَةً فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانُ يَنْطِقُ بِهَا وَالْجَوَارِحُ تَعْمَلُ عَلَى مِنْهَاجِهَا . آمِنَةً مِنْ اخْتِلالِ الأَذْهَانِ وَغَلَبَةِ الأَهْوَاءِ وَاعْوِجَاجِهَا . ضَامِنَةً لِمَنْ يَمُوتُ عَلَيْهَا حُسْنَ لِقَاءِ الأَرْوَاحِ عِنْدَ عُرُوجِهَا . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِمَامُ التَّقْوَى وَضِيَاءُ سِرَاجِهَا . وَالسِّرَاجُ الْمُنِيْرُ الْفَارِقُ بَيْنَ ضِيَاءِ الدِّينِ وَظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَاعْوِجَاجِهَا . وَالآخِذُ بِحُجُزِ مُصَدِّقِيهِ عَنِ التَّهَافُتِ فِي النَّارِ وَوُلُوجِهَا . صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ أَزْكَى صَلاتِهِ مَا دَامَتِ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍ لَهَا فِي أَبْرَاجِهَا .... وَبَعْدُ ..
قال العسقلاني (( مقدمة الفتح ))(1/384) : (( ينبغي لكل منصفٍ أن يعلم أن تخريج صاحب (( الصحيح )) لأي راو كان مقتض لعدالته عنده ، وصحة ضبطه ، وعدم غفلته ، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطبـاق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بـ(( الصحيحين )) . وهذا معنى لم يحصل لغير من خرجا عنه في (( الصحيحين )) ، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما . هذا إذا خرج له في الأصول ، فإما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق ، فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره ، مع حصول اسم الصدق لهم ، وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا ، فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقا ، أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة ، منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح ، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج له في(( الصحيح )) : هذا جاز القنطرة ، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه . قال الشيخ أبو الفتح القشيري ـ يعنى ابن دقيق العيد ـ في (( مختصره )) : وهكذا نعتقد وبه نقول ، ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة ، وبيان شاف ، يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتـفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بـ(( الصحيحين )) ، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما )) اهـ . قلتُ : فما بلغت الجرأة عندَ احدٍ مثل من إجترأَ على صاحب الصحيح صاحب أبي عبد الله البخاري إمامُ نيسابور أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمهُ الله تعالى ، وهل خفي على من تجرأ على الصحيحين براعة ودقة الإمامين في تخريج ما يعرفُ من أحاديث من تُكلمَ فيهِ من الرواة ، فيثبتُ عند أهل الحديث ، ولا يخفى أن حديث مصعب بن شيبة عند الأمة قديماً وحديثاً صحيحٌ لا يختلفُ في صحتهِ أحدٌ من الأئمة ، فتجرأ طلاب العلم ممن لا يعرفُ حالهُ ولا إسمهُ ولا قدرهُ على الشيخين فيضعفُ من صححوا هم حديثه وأخرجوه ..!!
أما عرفَ المتكلمُ إطباق الأمةِ في القديم والحديث على تسميةِ كتابيهما بالصحيح ، أما علمَ ان تخريجَ الشيخين للرواة في القديم والحديث ممن تكلم فيهم وفي روايتهم كانَ [ كان انتقاءاً للصحيحَ من حديثِهم ، مع مجانبة ما ثبت وتأكَّد لديهما من ضعاف أحاديثهم ومناكيرها] ولهذا فإنك تجدُ للشيخين أن خرجا في الصحيح لنفرٍ ممن تكلم فيهم إلا أن أحاديثهم في الصحيح كانت منتقاة من قبل الإمام الجهبذ العلم البخاري أمير المؤمنين ، ومن تلميذه الإمام مسلم بن الحجاج إمام نيسابور رحمه الله تعالى ورضي عنهُ ، ولا يخفى أن الطاعنَ في رواةٍ قد أخرج لهم البخاري ليس لهُ بحجةٍ إلا أن يقول ضعفهُ فلان ، وهذا مما لا يختلفُ فيه فإن مصعب بن شيبة قد إختلف فيه بين موثق ومضعف ، وأن مسلم قد أخرجَ لهُ ما رأى أنهُ صح من حديثهِ تبعاً للدقة والتتبع فكيف يضعفُ حديثهُ .
وقد أعجبني ردُ شيخنا أبي محمد الألفي حفظه الله تعالى حين قال :
فَسَبِيلُ إمامِ نيسابور فِى تَفَرُّدِهِ بالتَّخريج لِمُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ الْحَجَبِيِّ ، كنحو سَبِيلِ إمام الْمُحَدِّثِينَ فِي تَفَرُّدِهِ بالتَّخريج لأبِي صَالِحٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ ، كلاهما ينتقِي من أحاديثهما الصَّحيحَ ، ويجانب المناكير والغرائب والضِّعاف ، ولكلٍّ منهما أحاديث صالحة لا مَطْعَنَ عليها ، إلا من جهة إطلاق الضَّعف عليهما .
ولتوضيح هذا المعنِي ، سأقتصر على ذكر مثالٍ واحدٍ ، مما جانب فيه إمامُ نيسابور : أبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمٌ مناكير ابْنِ شَيْبَةَ الْحَجَبِيِّ ، وضعيفَ حديثِهِ ، وهو :ما أخرجه أبو داود (348) قال : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أبِي زَائِدَةَ ثَنَا مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ الْعَنَزِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ : الْجَنَابَةِ ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَمِنْ الْحِجَامَةِ ، وَمِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ .
وأخرجه كذلك أَحْمَدُ (6/152) ، وابن خزيْمَةَ (256) ، والعقيلِيُّ (( الضعفاء ))(4/197) ، وابن المنذر (( الأوسط ))(1/181) جميعاً من طريق زَكَرِيَّا بْنِ أبِي زَائِدَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ به .وقال أبو جَعْفَرٍ : (( حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ قال : ذكرت لأبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ حديث الوضوء من الْحِجَامَةِ ؟ ، فقال : ذَاكَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ، ومُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ روى أحاديث مناكير )) .
وقال أبو بكر بن المنذر : (( فإذا لم يثبت حديث مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ بطل الاحتجاج به . وقد بلغني عن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ وعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أنهما ضعَّفا الحديثين : حديث مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ ، وحديث أبى هريرة في الغسل من غسل الميت )) .
قلت ( أبي محمد الألفي ) : فهذا الحديث من أنكر ما روى مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ الْحَجَبِِيُّ فِي جملة من مناكيره . وليس هذا بمقتضٍ طرح أحاديثه كلِّها ، من غير نظرٍ واعتبارٍ فيما يصلُحُ منها للاحتجاج ، وعلي هذا صنيع إمام نيسابور أبِي الْحُسَيْنِ فِي (( صحيحه )) .
وليُعلم ، أن تضعيف حديث الْمِرْطِ الْمُرَحَّلِ ، أخذاً بقول الْمُضَعِّفِينَ لِمُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ بإطلاقٍ ، مُقْتَضٍ بالضَّرورة تضعيفَ سائر أحاديثه فِي (( صحيح مسلم )) ، ولم يقلْ بهذا أحدٌ من أهل العلم فيما علمت !! ، فليتنبه لهذا ، فإنه من مهمات النَّظر فِي حال الرِّواة جميعاً ، وليس مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ وحده .
أتمنى من الأخوة طرح ما لديهم في حال مصعب بن شيبة . والله أعلم .