الجمع بين هذه الأحاديثعَن عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَإِنِّي رَسُول الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث : الثّيّب الزَّانِي ، وَالنَّفس بِالنَّفسِ ، والتارك لدينِهِ المفارق للْجَمَاعَة " . لفظ مُسلم ، وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ. وَفِي لفظ عِنْد البُخَارِيّ : " والمارق من الدَّين التارك للْجَمَاعَة " . وَفِي لفظ عِنْد مُسلم : " التارك الْإِسْلَام ". وَفِي حَدِيث عِنْد النَّسَائِيّ : " زَان مُحصن " وَفِيه : " لَا يحل قتل مُسلم إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاث خِصَال : رجل يقتل مُسلما مُتَعَمدا ، وَرجل يخرج من الْإِسْلَام فيحارب الله عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُوله فيُقتَل ، أَو يُصلب ، أَو يُنْفى من الأَرْض "([1]).
فهذه الأحاديث صريحة بأنه لا يقتل إلا بهذه الثلاثة .
لكن ورد عن أنس رضي الله عنه أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي:رضي الله عنه" (اذهب فأضرب عنقه) فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها فقال له علي اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوبليس له ذكر فكف علي عنه" ثم أتى النبي فقال يا رسول الله إنه لمجبوب ماله ذكر"([2])
قال القاضي عياض:" وقوله : إن رجلاَ كان يتهم بأم ولد رسول الله: صلى الله عليه وسلم فقال لعلى: (اذهب فاضرب عنقه) الحديث قال الإمام : الظاهر أن هذا الحديث فيه حذف بسط السبب ، فلعله ثبت عنده بالبينة ما أوجب قتله ، فلما رأى علىّ كونه مجبوبا أبقاه ليراجع النبى صلى الله عليه وسلم فيه ، ولم يذكر ما قال النبى:صلى الله عليه وسلم لعلى ، ولو ذكر السبب / الموجب لقتله وجواب النبى صلى الله عليه وسلم لعلى لعلم منه وجه الفقه ، ولعل الرجل - أيضا - كان منافقا ممن يحل قتله ، فيكون هذا السبب محركا على قتله([3]) .
قال أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي: " وفي الحديث الخامس والأربعين أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه أم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مارية أم إبراهيم أهداها إليه المقوقس صاحب الإسكندرية في سنة سبع من الهجرة ومعها أختها سيرين وبعث معهما ألف دينار وعشرين ثوبا وبغلته الدلدل وحماره يعفور وخصيا يقال له مأبور كان أخا مارية بعث ذلك مع حاطب ابن أبي بلتعة فعرض حاطب الإسلام على مارية فأسلمت هي وأختها وأقام الخصي على دينه حتى أسلم بالمدينة بعد ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت في عالية المدينة وكان رجل من القبط يأتيها بالماء والحطب ويتردد إليها فقال: الناس علج يدخل على علجة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بقتله فأتاه وهو في ركي وهي البئر التي لم تطو فخرج فإذا هو مجبوب وقيل بل وجده على نخلة فلما رأى السيف وقع في نفسه ما جاء لأجله فألقى كساءه وتكشف فإذا هو مجبوب وهو المقطوع الذكر.
وعلى هذا الحديث اعتراض وهو أن يقال كيف أمرصلى الله عليه وسلم بقتل رجل بالتهمة فقد أجاب عنه ابن جرير فقال جائز أن يكون قد كان من أهل العهد وقد تقدم إليه بالنهي عن الدخول على مارية فعاد فأمر بقتله لنقض العهد"([4])
وقال النووي رحمه الله تعالى: "قيل لعله كان منافقاً ومستحقاً للقتل بطريق آخر وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنا وكف عنه علي رضي الله عنه اعتماداً على أن القتل بالزنا وقد علم انتفاء الزنا والله اعلم.([5])
قال الحافظ ابن رجب وفي " صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر علياً بقتل القبطي الذي كان يدخل على أمِّ ولده مارية ، وكان الناسُ يتحدثون بذلك ، فلما وجده عليٌّ مجبوباً تركه.
وقد حمله بعضُهم على أنَّ القبطيَّ لم يكن أسلمَ بعدُ ، وأنَّ المعاهَدَ إذا فعل ما يُؤذي المسلمين انتقض عهدُه ، فكيف إذا آذى النَّبيَّ ؟!.
وقال بعضهم : بل كان مسلماً ، ولكنَّه نُهي عن ذلك فلم ينته ، حتَّى تكلَّم الناسُ بسببه في فراش النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأذى النَّبيِّ - في فراشه مبيحٌ للدم ، لكن لما ظهرت براءتُه بالعيان تبيَّن للناس براءةُ مارية ، فزال السببُ المبيح للقتل.
وقد رُوي عن الإمام أحمد : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان له أنْ يَقْتُلَ بغير هذه الأسباب الثلاثة التي في حديث ابن مسعود. وغَيْرُهُ ليس له ذلك ، كأنَّه يُشير إلى أنَّه صلى الله عليه وسلم كان له أنْ يُعَزِّرَ بالقتل إذا رأى ذلك مصلحةً ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم معصوم من التعدِّي والحَيْفِ ، وأما غيرُه فليس لهُ ذَلِكَ ؛ لأنَّه غير مأمون عليهِ التعدِّي بالهوى .
قالَ أبو داود : سمعتُ أحمد سُئِلَ عن حديث أبي بكر ما كانت لأحدٍ بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : لم يكن لأبي بكر أنْ يقتل رجلاً إلا بإحدى ثلاثٍ([6]).
قال أبو العبَّاس القرطبيُّ: وقوله في حديث أنس :" أن رجلاً كان يُتهم بأمِّ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ هذه مارية أمّ إبراهيم ، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها رجل قبطي ، فتكلم المنافقون في ذلك ، وشنَّعوا ، فأظهر الله براءتها بما ظهر من حال الرَّجل ، وهذا نحو مِمَّا جرى لعائشة رضي الله عنها حتَّى برَّأها الله تعالى ، وأظهر من حال المرمي أنَّه حصور . كل ذلك مبالغةٌ في صيانة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهار تكذيب من تَفَوَّهَ بشيء من ذلك.
وقوله:صلى الله عليه وسلم لعلي :" اذهب فاضرب عنقه"؛ في هذا اللفظ إشكال ، وهو : أنَّه صلى الله عليه وسلم كيف يأمر بضرب عنق هذا الرجل ولم يكن هناك موجبٌ للقتل ، وقد ظهر ذلك حين انكشف حال الرَّجل ؟ ويزول هذا الإشكال: بأن هذا الحديث رواه أبو بكر البزار ، بمساق أكمل من هذا ، وأوضح فقال فيه : عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال : كثر على مارية في قبطي ابن عم لها كان يزورها ، ويختلف إليها ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذ هذا السيف فانطلق ، فإن وجدته عندها فاقتله" قال : قلت : يا رسول الله ! أكون في أمرك كالسِّكة المحماة ، لا يثنيني شيء ، حتى أمضي لما أمرتني ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؛ فقال:"بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب"، وذكر الحديث بنحو ما تقدم.
فهذا يدلّ على أن أمره بقتله إنَّما كان بشرط أن يجده عندها على حالة تقتضي قتله ولما فَهِمَ عنه علي رضى الله عنه ذلك سأله ، فبيَّن له بيانًا شافيًا ، فزال ذلك الإشكال ، والحمد لله ذي الجلال ويحتمل أن يقال : إن ذلك خرج من النبي صلى الله عليه وسلم مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر على موجب الغيرة الْجِبِلِّيَّة .
والأول أليق وأسلم . والله بحقائق الأمور أعلم .
وفيه من الفقه : إعمال النظر ، والاجتهاد ، وترك الجمود على الظواهر ، وأنَّه يجوز الإطلاع على العورة عند الضرررة ، كتحمُّل شهادة الزنى ، كما صار إليه مالك"[7]
قال ابن تيمية رحمه الله: "فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته، ولم يأمر بإقامة حد الزنا، لأن إقامة حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان محصنا رجم، وان كان غير محصن جلد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه من غير تفصيل بين أن يكون محصنا أو غير محصن علم أن قتله لما انتهكه من حرمته... فلما تبين أنه كان مجبوبا علم أن المفسدة مأمونة منه.
أو أنه بعث عليا ليرى القصة فإن كان ما بلغه عنه حقا قتله ولهذا قال في هذه القصة أو غيرها: أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب"[8].
_______________
([1]) انظر الإلمام بأحاديث الأحكام/ لتقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري ، المعروف بابن دقيق العيد (المتوفى : 702هـ)
([2]) رواه مسلم "2771" باب برأة حرم النبي r من الريبة.
([3]) إكمال المعلم شرح صحيح مسلم
([4]) كشف المشكل من حديث الصحيحين.
([5]) المنهاج ج9_ص60_ط دار إحياء التراث العربي.
([6]) انظر جامع العلوم والحكم شرح حديث رقم "14" ص171.
[7] انظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم.
[8] الصارم المسلول على شاتم الرسول / المسألة الأولى: في أن الساب يقتل سواء كان مسلما أو كافرا.