الصحوة الفكرية تعاني مجتمعات المسلمين اليوم من بساطة في التفكير، وضحالة ومحدودية في الثقافة، وهذه المشكلة تركت أثرها على جيل الصحوة باعتباره إفرازا لههذا الواقع، وأسهم البعد عن المؤثرات، والحرص على عدم الاحتكاك بالآخرين، والسعي للعزلة عن الثقافة المعاصرة لما يشوبها من انحراف وخلل، أسهم ذلك كله في تعميق هذه المشكلة لدى جيل الصحوة. لكن ملامح التغيير بدت واضحة، بل تجاوزت مجرد الشكوى والشعور بالمشكلة، إلى السير في خطوات عملية نحو تجاوز هذه الإشكالية. ومن مظاهر هذا التغيير: ارتقاء أسلوب الخطاب الدعوي والفكري في أدبيات الصحوة، وشيوع الملل من التناول التقليدي والروتيني للقضايا الدعوية والفكرية، والاعتناء بالقراءة الواعية المتفتحة، وارتقاء الحس النقدي ونموه...إلخ. وبقدر مانشيد بهذا التحول والارتقاء فلابد من التنبه لبعض المؤثرات الجانبية التي قد لايخلو منها أي اتجاه نحو التغيير. وهذه المؤثرات منها ماقد يكون نتيجة غياب التوازن والإفراط في ردة الفعل، ومنها مايكون نتيجة استيراد القالب ـ وأحياناً المضمون ـ الثقافي والفكري من الآخر، وصعوبة الفصل بين القضايا الشكلية والموضوعية، والافتقار للدقة في الانتقاء والتمييز. ومن هذه المؤثرات الجانبية، والمشكلات المصاحبة لليقظة الفكرية: - الإيغال في الجانب الفكري النظري، والغياب عن الواقع والحياة العملية، سواء في التفكير ومعالجة المشكلات، أو في السلوك الشخصي، أو ابلعد عن هموم الناس ومعاناتهم العملية، وهي شكوى نادى بها طائفة من المثقفين غير الإسلاميين، فلا نبدأ من حيث بدأ الآخرون. وهذا الأمر -الإيغال في الجانب الفكري على حساب الجانب العملي- هو ضمن دائرة القول دون العمل المذموم شرعاً {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالاتفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالاتفعلون} وقديما قال السلف :"الذي يفوق الناس في القول جدير بأن يفوقهم في العمل". - المبالغة في الشكل والأسلوب وهذا يقود إلى التقعر والتكلف المذموم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم :" إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها"( رواه أبو داوود (5005) وأحمد (6507)) . وصح عنه أيضاً:"إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"( رواه الترمذي (2018)) . ويؤدي التشدق المذموم بالبعض إلى الزهد في المصطلحات الشرعية والبحث عن بديل يتناسب مع الرقي الفكري، ويزيد من رصيد العبارات التي لايعيها الحاضرون مما يدل على رقي المتحدث وسعة ثقافته!. وما أجمل الهدي النبوي البعيد عن التكلف، والجامع لأبواب الفصاحة. - الجرأة غير الموزنة وتبدو في جوانب عدة، منها: الجرأة على الأحكام الشرعية والقول فيها بالرأي، والجرأة على حديث الشخص فيما ليس من اختصاصه ولا مما يحسنه، والجرأة على الأكابر وانتقادهم، والجرأة على النقد عموماً وتحوله إلى غاية وسمة للشخص الذي لايعجبه العجب ولا الصوم في رجب. - غياب التحقيق والتأصيل العلمي للمسائل التي يتناولها المتحدث والكاتب، والاعتماد على الآراء الشخصية، والأسلوب الأخاذ. - التعالي على الآخرين، والشعور بالتميز عنهم. إنها مضاعفات وآثار لابد من الحذر منها، ولابد من السعي لتلافيها في مسيرتنا نحو الارتقاء الفكري، ومع ذلك لاينبغي أن تعوق عن المواصلة في هذا الطريق والسير فيه، ولا أن تشغلنا عن أهميته؛ فالأمة أمام معارك فكرية، وحين تفقد النماذج الفكرية الملتزمة فسيكون البديل النموذج المنحرف الضال.