تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: سيد القراء وزينتهم - بَكْري بن عبد المجيد الطَّرابيشي / بقلم الشيخ محمد زياد التكلة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي سيد القراء وزينتهم - بَكْري بن عبد المجيد الطَّرابيشي / بقلم الشيخ محمد زياد التكلة

    سيد القراء وزينتهم
    بَكْري بن عبد المجيد الطَّرابيشي
    (1338-1433)
    بقلم الشيخ محمد زياد التكلة

    هو الشيخ المقرئ الصالح القدوة المعمّر، بكري بن عبد المجيد بن بكري بن ((حسن))[1] الطرابيشي، الدمشقي، الحنفي، التاجر. المتفرد في الشام بعلو الإسناد في القراءات السبع، وكان فيها صاحب أعلى سندٍ في الدنيا فيما يُعلم[2].
    أسرته، وترجمة أبيه: تعتبر عائلة الطرابيشي من الأسر الدمشقية العريقة التي تعدد فيها أهل العلم والفضل والتجارة[3]، ويقول شيخنا المترجم إن سبب التسمية أن أحد أجداده أول من جلب الطربوش -لباس الرأس المعروف- من النمسا إلى دمشق وتاجر فيه.
    ووالد شيخنا هو العالم الفقيه الزاهد الورع عبد المجيد الطرابيشي[4] (1290-1363)، درس على جماعة، أبرزهم العالم الزاهد عبد الحكيم الأفغاني، والمفتي محمد عطا الكَسْم، والعلامة عبد القادر بَدْران، وأجازا له، ومنهم محمود رشيد العطار، ومحمد أمين سويد، وبسبب صلته مع ابن بدران كان بعضهم يتهمه بالوهابية! كما يقول شيخنا، وقال لنا: كانت له صلة جيدة مع العلامة محمد سعيد الباني، وصديقًا للعلامة محمد جمال الدين القاسمي، ويثني عليه. ويقول: كان تاجراً، جمع العلم والتجارة، ثم تحولت تجارته للأواني، ولما رأى صعوبة التوفيق مع العلم ترك التجارة وتفرغ للعلم، فجمع بين الصلاح والعلم، واشتهر بذلك، ويقول: لما جاء الملك فيصل بن الحسين لدمشق طلب أن يُنتقى له عدد من العلماء، فاختير الوالد منهم، وكان يُجرى له معاش بمثابة رئيس ديوان إلى وفاته، ولم يؤلف. كان الشيخ عبد المجيد من علماء دمشق المعروفين[5]، ويُعرف بأبي حنيفة الصغير، تنقل في عدة مساجد إماما وخطيبا ومدرّسا، أشهرها جامع السادات بين سنتي 1314 و1337، ثم جامع السنانية إمامًا للحنفية مدة طويلة، وله دروس في البيت أيضًا، ورفض مناصب عديدة، ولا سيما في الإفتاء، وكان مبتعدًا عن الحكام، نافرًا عن الغيبة، والولائم، مؤثرًا الخمول والزهد إلى وفاته، ولكن كانت جنازته حافلة جدًّا، بحيث كان النعش في باب الجابية، وآخر المشيعين عند بيته في باب السريجة. أعقب ثلاثة أبناء: توفيق (تاجر)، ثم شيخنا بكري، ثم أحمد (صيدلي)، وابنتين، رحمه الله تعالى.
    مولده ونشأته: وُلد شيخنا في محلة باب السريجة بدمشق يوم الخميس 18 ربيع الأول[6] سنة 1338، ونشأ في كنف أبيه المذكور، الذي زرع فيه حب العلم والخير من صغره، واستفاد من علمه وتوجيهه، وأخذ عنه العربية، ويقول: كان لطيفًا معنا، وقدوة لنا، ولم نر منه أي شيء يسيء، وكان له أحسن الأثر في تسليكي، ولم أُحوجه أن يأمرني بالصلاة، وكان عنده صفاء الصوفية، وليس بصوفي. وقال: كان يعاملني كأخ. وقال: كان منزلنا منزلًا إسلاميًّا محافظًا، وكنا حتى آلة التصوير لا يمكن أن تدخل البيت، ولا تعليق صور، ولا تلفاز، ولا حتى لعبة الطاولة أو الشدّة (ورق اللعب)، ولا يمكن أن يتلفظ أحد أمام الوالد بكلمة لا تُرتضى أو غيبة، فإذا سمع شيئًا من ذلك يردد: ((تُب علينا يا تواب، تب علينا يا تواب، تب علينا حتى نتوب))، بمعنى: غيّروا الحديث! رحمه الله. قلت: وأدخله المدارس العادية، ثم درس الثانوية التجارية بمدرسة التجارة، وتخرج منها بتفوق. لم يواصل الدراسة بعدها، فقد أخرجه أخوه توفيق ليشاركه في محلهم لتجارة الأدوات المنزلية (العصرونية) وبقي مدة تقارب ربع القرن، إلى أن انفصلت الشراكة في حدود سنة 1965م، بعد 3 أو 4 سنوات من دخوله مجال البناء، كما أخبرني المهندس عبد المجيد ابن شيخنا. يقول شيخنا: كنتُ بحمد الله ملازمًا للجماعة منذ صغري، وكنتُ لا أرى في المسجد إلا الكهول وكبار السن! ولم يكن فيه من الشباب غيري أنا وابن إمامه الشيخ محمد بركات، ويقول: كنتُ أؤم الناس منذ صغري. وأخبرني المهندس عبد المجيد ابن شيخنا: كان والدي يؤم في جامع السنانية بعد وفاة والده عدة سنوات، قائمًا محل أخيه أحمد إلى أن يتأهل، على الطريقة القديمة من توارث الوظائف العلمية. التوجه للقرآن: يقول شيخنا: إن الوالد لم يتم حفظ القرآن في شبابه، فكان يتحسر على ذلك، ورغب أن أكون حافظًا له. لما بلغ شيخنا الثانية عشرة -أثناء دراسته الإعدادية- دفعه والده لقراءة القرآن وتجويده على الشيخ المقرئ والفقيه الحنفي عبد الوهاب الحافظ، الشهير بدِبْس وزَيت (ت1389)، وكان على شدته يعتني عناية زائدة بالمترجم لأجل أبيه، ويقول شيخنا: بقيت عنده في إتقان الفاتحة وسورة الناس خمسة عشر يومًا! وأول سورة الفلق، فلم أُطق ذلك، لكنه أثّر فيّ كثيرًا في ناحية الجودة والإتقان، ثم نقلني والدي بعد ذلك إلى تلميذه الشيخ عز الدين العِرقْسُوسي، من تلامذة أبي فيما أحسب، فأعانني، ووجد عندي أساسًا، ووجهني لحفظ القرآن، وشجّعني كثيرًا، وختمتُه وعمري خمس عشرة سنة، وأنا لا أزال في المدرسة. قال شيخنا: ثم تعرفت على شيخ فاضل من الحفاظ، واسمه عبد القادر الصَّبّاغ، وكان إماما في الجامع الأموي، وكان تاجرًا معروفًا، فكنت أجلس معه وأتدارس القرآن، وكان أخذ القراءة عن الشيخ أحمد الحُلْواني الكبير[7]، فتقوّت عندي القراءة جدًّا وتحسنت، ثم فاجأني وقال لي: لا بد أن تقرأ القراءات. ولم يكن لي أي فكرة عنها، فأخذني إلى شيخ القراء محمد سليم بن أحمد الحُلْواني، ولم يكن له منازع. وذكر شيخنا أنه قرأ القرآن أيضًا على الشيخ المعمر مصطفى حَمْدي الجُوَيجاتي (ت1411)، وأنه أتقن القرآن عليه وعلى الصباغ بعد حفظه على العرقسوسي.
    القراءة على الشيخين الحلواني والديرعطاني: قال شيخنا: كان الشيخ الحلواني شديدًا قليل الإقراء، ولم يقرئ قبلي إلا قليلين يعدّون عدًّا، فطلب أن أُسمعه شيئًا، فقرأت عليه ربعا من ﴿أقم الصلاة لدلوك الشمس﴾، وبحمد الله رأى فيّ أثر الشيخ عبد الوهاب في الأداء، والعرقسوسي في الحفظ، وعبد القادر الصباغ في الإفادة، فأُعجب بي، وتلقاني بوجه رحب، ولم يكن يُعهد منه ذلك! فقد كان من يقرأ عليه يحتاج للوساطات وغيرها! وربما لأنه -كما قيل لي- له معرفة بوالدي رحمه الله، ووالدي كان له اسمُه في البلد. ثم استقرأني بعض الشيء فوجد عبارتي صحيحة من قراءة الكتب، فاكتفى بذلك، وما كان أحد يدخل هذا العلم ويقرأ إلا يرجع لقراءة المتون والشروح، فصرتُ أقرؤها وحدي، وحفظتُ الشاطبية والدرة. قلت: بدأ شيخنا بالجمع عليه سنة 1359، واستوفاه سنة 1361، وحضر معظم الختمة الشيخ المقرئ محمود فائز الدَّيْرْعَطاني ، وأجاز له الحلواني إجازة خاصة وعامة، وتأتي، وكان شيخنا من أواخر من جمع عليه، وتوفي شيخه بعد سنتين[8]. وقال لنا شيخنا: أعتقد عقيدةً أني أخذت القرآن عنه بالصفة والدقة التي تلاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاها عن جبريل! وقال: كان شديدًا ودقيقًا، يرد على القارئ: أنت نقصت هنا نصف حركة في المد! وقال: مرة كان هطل ثلج وبقي أثره في الشوارع، فجئت عند شيخنا الحلواني، وخشيت عليه أن ينزل لي في هذا الوضع من فوق لأسفل، ولعلي أمسكت حلقة بابه، ورجعت. وفي اليوم التالي سألني: لماذا لم تأت عندي أمس؟ فقلت له إني أتيت ولم أدق الباب. فزعل كثيرًا أني لم أدق عليه. وقال: كان يحتفي بي كثيرًا، كما يحتفي بأكرم الناس إليه، وكنت أقرأ عليه في بيته، يقرئني وحدي بين الظهر والعصر. قلت: وبعد وفاته انتقل إلى تلميذه الشيخ الديرعطاني المذكور، فقرأ عليه ختمة لوَرْش، ثم للسُّوسي[9]، ثم جمع عليه العشرة الصغرى، وأجازه بها، وذلك سنة 1366 تقريبًا. ويذكر عنه شيخنا أنه صاحب أداء مدهش، يخرج القرآن من فمه كالدر المنثور، وله حافظة هائلة، وذكاء منقطع النظير، مع كونه ضريرًا، يدرك بالحركات والأصوات وربما ما هو أقل من ذلك ما لا يدركه المبصرون[10]، ويذكر عنه قصصًا أقرب للخيال في هذا، ويقول: إنه يحفظ ربما عشرة آلاف بيت في علوم القرآن. واستحضاره قوي جدًّا فيها وفي الفقه واللغة، ويذكره بالعفة التامة، بل يقول: ((كان هذا الشيخ أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا)). وأخذ عن غيرهم، ويأتي ذكرُهم في الكلام على مرويات شيخنا.
    الحياة العلمية والعملية: قال لنا شيخنا: حضرتُ أشياء للشيخ بدر الدين الحسني (ت1354) وأنا صغير، وتوفي وأنا عمري 16 سنة. ولقي عددًا من العلماء صحبة والده، منهم الشيخ محمود رشيد العطار (ت1363). وكان شيخنا يتردد على الشيخ محمود قاسم بعيون الرنكوسي (ت1405) في أحد مساجد باب السريجة، فقرأ عليه التوحيد والأصول والمنطق والمصطلح، وذلك وهو في سن العشرين تقريبًا، وقال لنا: إنه أكثر من أفاد منه، ويقول: أعطاني رعاية كبيرة. وقال: هو الوحيد الذي يستطيع أن يقول إنه تلميذ حقيقي للشيخ بدر الدين الحسني، وإلا كل الناس يقولون إنهم تلاميذ بدر الدين! وفي الخامسة والعشرين رجع إلى شيخه الأول في القرآن الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت وقرأ عنده الفقه الحنفي والأصول، فقرأ حاشية ابن عابدين كاملة؛ سوى بعض التكملة، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح بكمالها، وكتاب المنار في أصول الفقه. وحضر كذلك دروس الشيخ صالح العقاد في الفقه الشافعي بالنورية، وكان من زملائه عليه المشايخ: محمود فايز الديرعطاني، وأبو الحسن الكردي، ومحمد سكر، ومحمد بن لطفي الصباغ، الذي قال لنا: كان الشيخ بكري على صلة وثيقة بالعقاد. وحضر أيضًا عند الشيخ حسن حبنكة لما تأسس مجلس القراء الأسبوعي، ويقول: كنت أجلس معه مجالس خاصة آخر حياته، وتغيّر موقفه تمامًا عن نشاطنا الدعوي. وبعده صار رأس المجلس الشيخ حسين خطاب، وكان القراء يتناوبون القراءة بالقراءات في المجلس، وقال لي المهندس عبد المجيد: واظب الوالد على المجلس مدة طويلة. قلت: جمع شيخنا بين العمل التجاري والعمل الدعوي، وكان كما يقول: تاجرًا في الصباح، طالب علم في المساء. وكان المسؤول المالي كما أخبرنا، وعضوًا إداريًّا فيهما، وكانت تجري بعض اجتماعاتهم في بيته، ويقول ابنه المهندس عبد المجيد: كان قد فرّغ جهوده لهم، ويعمل بهدوء كما هي طبيعته. أخبرني الشيخ زهير الشاويش: بقي في الجماعة إلى ما بعد الانتخابات، في حدود 1963م، وأول تعرفي بالشيخ بكري كان سنة 1945م لما عدت من مصر، وحصل هجوم من الفرنسيين في دمشق، فذهبنا نحو ثمانية أشخاص ننقل الجرحى والموتى من القلعة، فالتقينا معه حينها مع أعضاء الجماعة. قلت: وكان له نشاط في تدريس القرآن وتحفيظه للأسر الملتزمة كما أخبرنا شيخنا محمد أديب الصالح، وقال: إن عقليته التجارية والمنظمة كان لها أثر إيجابي فعّال في التخطيط للدعوة. وقال لي الشيخ عصام العطار: إن خدماته كانت متعددة في نطاق العمل، وله نشاط بكل الأنشطة الاجتماعية، وفي شتى المجالات، وإن نشاطاته الخيرية كانت أبعد مدًى من إطار الإخوان. قلت: وكان من مؤسسي جمعية ومدرسة دار الحديث الأشرفية سنة 1373 (يوافقه 1953)، وكان فيها من أعضاء الهيئتين العامة والإدارية، وتولى مسؤوليتها المالية[11]، وبقي في شؤون الدعوة إلى أيام الوحدة بين مصر وسوريا. وبعد الانفصال اتجه للعقار وتجارة البناء، وبورك له في هذا الأمر، ونجح فيه، رغم ما أصيب من نكبة قاسية عند استيلاء الدولة على مشروعه الكبير في منطقة دمّر. وكان من ثمار عمله وتجارته وعلاقاته: بناءُ عدد من المساجد وتجديد بعضها، مثل جامع الخير الذي تكفل بغالب نفقته، وجامع المرابط، وجامع الحَمَد، ودار الحديث الأشرفية، وشارك في لجان بناء عدة مساجد في منطقة دمشق -كما أخبرني ابنُه المهندس ربيح- منها سبعة مساجد في منطقة دُمَّر، وجامع عبد الله بن رواحة عند دوار باب مصلى، وعمل في إكساء عدة جوامع. وساهم بالتعاون مع الشيخ علي الطنطاوي في بناء مساكن للفقراء، وساهم في عدة جمعيات، حلَّ محله فيها ابنُه المهندس ربيح لما تفرغ للإقراء[12]، كما أخبرني المهندس عبد المجيد. وحدثنا شيخنا، قال: جامع الخير أممتُ فيه بين سنتي 1962 إلى 1990م، ولبنائه قصة، وهي أن بعض المفسدين أرادوا في الأرض المجاورة المطلة على دمشق أن يبنوا فندقًا وماخورًا، وحاولنا منعهم، ولم نستطع إلا أن نبني جامعًا بجوار المكان، فصدّهم ذلك عن المشروع، وأفسدناه عليهم ولله الحمد! وصرت أصلي فيه وأُقرئ فيه. وبعد أن أنشأ الشيخ حسن حبنكة مجلس الإقراء الذي يحضره كبار مشيخة القراء في الشام؛ شارك فيه شيخنا. ولم تخلُ بصمات شيخنا في بعض الأمور العامة مع صعوبة الوضع وعلو سنّه، فكان أحد موقّعي بيان رابطة علماء الشام حول التغلغل الرافضي في بلاد الشام، كفَّ الله شرهم.

    [يتبع]


    وآفة العقلِ الهوى ، فمن علا *** على هواه عقله ، فقد نجا
    ابن دريد

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: سيد القراء وزينتهم - بَكْري بن عبد المجيد الطَّرابيشي / بقلم الشيخ محمد زياد التك

    سنواته الأخيرة: بقي شيخنا في المجال التجاري إلى أن بلغ الشيخوخة، ثم شرح الله صدره للتفرغ للإقراء في جامع الخير المجاور لمنزله في حي المهاجرين، محلة خورشيد (آخر الخط)، فأول من جمع عليه الشيخ الفاضل المأسوف عليه عبد الهادي الطباع رحمه الله (ت1430) ، وختم عليه جمعًا للعشرة فجر الخميس 19 ربيع الأول سنة 1415، وقرأ عليه جملة من المشايخ، وجمع عليه القراءات بضع وعشرون قارئًا، فيهم عدد ممن نشط في الإقراء في البلدان، وختم عليه لحفص زيادة على مائتي رجل[13]، وزادت شهرة الشيخ في هذا المجال، ولا سيما بعد وفاة أقرانه في الشام، وقبل بضع عشرة سنة انكب الناس عليه، وصار يترخص في الإجازة على طريقة المحدّثين من الاختبار، أو قراءة طرف، وإجازتهم إجازة عامة -بل هذه طريقة معروفة عند القراء أيضًا، وإن كان المتأخرون لم يشتهر عندهم ذلك، مثل القراءة نظرًا- فأخذ عنه الإجازة عدد لا ينضبط، واشتهر عند المشتغلين بالقراءة والرواية أمر علو شيخنا، ورُحل له من البلدان. وكان من لطف الله في أمر تغرب أولاد شيخنا: أن كان يسافر لهم باستمرار ويجلس عندهم أوقاتًا طويلة، ويفتح الباب للناس للقراءة عليه: فكم قرئ عليه في المدينة عند ابنه المهندس عبد المجيد، وفي الرياض عند ابنه الطبيب حمزة، وفي دبي عند ابنه الطبيب سميح، وكذلك في مكة، وعَمّان. وكان شيخنا يجلس للإقراء نحو خمس ساعات يوميًّا، مع علو سنه، وتراجع صحته، وكون أسفاره هذه مقصدها الأول صلة الرحم والاستجمام! وأُجري حفل تكريم ضخم لشيخنا مع كوكبة من كبار القراء في دمشق، على مدرجات جامعة دمشق في 13 صفر 1427، كان له صدًى واسع في الشام. كما تم تكريمه في الجائزة العالمية لخدمة القرآن الكريم التي تقيمها الهيئة العالمية لتحفيظ القرآن الكريم سنة 1432 وأُعطي فيها جائزة ((أكبر شيوخ الإقراء)) على مستوى العالم، واستلم الجائزة ابنه الطبيب سميح. وفي إحدى زيارات شيخنا رحمه الله للرياض سنة 1426: أكرمني المولى سبحانه بالاقتراح والتنسيق والإعداد مع الإعلامي البارز فهد السنيدي واستضافه ضمن برنامجه: صفحات من حياتي، على قناة المجد الفضائية، فكان أول ظهور إعلامي على الفضائيات لشيخنا فيما أحسب، تكلم فيه عن حياته وذكرياته. ثم في سنة 1429 استضافه تلميذه الشيخ شيرزاد عبد الرحمن طاهر في برنامج أهل القرآن على قناة نور دبي، وعمل أخونا الفاضل مروان خالد مع زملائه حلقة وثائقية عن شيخنا في قناة المجد، ضمن سلسلة القراء سنة 1430، وبهذه الأمور وغيرها طبقت شهرة شيخنا الآفاق، وصار معروفًا حتى عند العوام، ورأينا من دلالات القبول لشيخنا ما يثلج القلب، ويبشر بالخير. وقبل نحو أربع سنوات توقف شيخنا عن الإقراء العام، وصار لا يقبل إجمالاً إلا من سبق أن بدأ معه القراءة، ويقرئ على ما تسمح به صحته، والسبب كما يقول شيخنا: إنه لا يريد أن يتوقف عن الإقراء إلى الوفاة. ويريد أن يُختم له بذلك. ويقول تلميذه الكبير الشيخ محمد شقرون: كنا نذهب إليه فيكون مريضًا أحيانًا، فيقول لنا: اقرؤوا ولا ترجعوا، فإننا نتداوي بكتاب الله، وهو على فراشه يستمع إلينا، ويصحح تلاوتنا، ويبكي حينما تمر آيات كتاب الله عليه، يبكي بكاء مريرًا، وتنزل من عينه دموعًا، فهو يتدبر القرآن. قلت: وآخر من بلغني أنه ختم عليه جمعًا: الشيخان خالد الرز، وعبد الرحمن عبد النافع، من دوما، وآخر من ختم عليه لحفص: الشيخ شيرزاد عبد الرحمن طاهر، ويقول: آخر أيام قراءتي عليه كان يفرد لي ساعتين وأكثر، وكانت ثقيلة عليه، وكان يقول: إن شاء الله نختم.. إن شاء الله نختم. وكانت آخر ختمة عليه. وقال: ما كنت أظن أني سأختم عليه! وإجمالًا تنشط الشيخ قليلًا بعد أن أجرى له ولده عملية تبديل الركبتين، وصارت حركته أسهل، وذلك قبل نحو 15 سنة في تقديري. ولكن مع علو السن كانت صحة شيخنا تتراجع، وفي المدة الأخيرة سقط وأُصيب بكسر، وضَعُف. أخبرني ابنه المهندس عبد المجيد: كان يشتكي من آلام شديدة في الرقبة، وفُحص في الشام وقالوا إنها آلام رقبية عادية، وكان أخي معاذ يصر على أن يأتي للفحوصات في دُبَيّ، فلما أتى تبيّن أنها بسبب ورم سرطاني متقدم بالغدة الدرقية، وانتشر المرض في جسمه، وكان شيخنا يشعر بدنو أجله من قبل، وأنا جئته في دبي قبل عشرة أيام من وفاته، فكان يكثر التشهد بشكل كبير جدًّا، ثم ودّعتُه للسفر، وقلت له: سآتي بعد أسبوعين. فقال لي: لا تتأخر عن أسبوع. وبحمد الله رجعتُ كما طلب مني وأدركته ليلة وفاته، وتعرف عليّ، وكان واعيًا إلى صبيحة وفاته، ويومها أصر على الوضوء والصلاة رغم تعبه الشديد، وصلى الفجر، ولكثرة اهتمامه بالصلاة مع شدة تعبه كرر الصلاة عدة مرات، بعدها استلقى، وبقي كأنه نائم، إلى أن توفي في سكينة وهدوء بعد سويعات. ولما جاء الطبيب الشرعي لمعاينة الوفاة قال: هذه أول مرة أرى فيها وجه ميت وهو منور بهذا الشكل. وقام بتغسيل الوالد أخواي حمزة وعماد. قلت: توفي في منزل ابنه الطبيب سميح، ظهر الخميس، أول ربيع الآخر، سنة 1433، وقد أتم خمسًا وتسعين سنة وأيامًا، وصُلّي عليه في مسجد محمد حسن الشيخ (الذي يؤمُّه الشيخ شيرزاد) بعد صلاة الجمعة، في حضور أبنائه وبعض كبار تلامذته ومحبيه، وأمَّ الناس عليه ابنه المهندس عبد المجيد، وقال: إن المسجد كان ممتلئًا، وقدّر الحضور فوق خمسة آلاف مصل. ودفن في مقبرة القوز بدُبَيّ، وكان شيخنا أوصى أن يُدفن حيث يموت اتباعًا للسنّة، وكان قد أهدى كل شيء في حياته لذريته كما أخبرني ابنُه عبد المجيد، رحمه الله شيخنا رحمة واسعة، ورزقنا وإياه الفردوس الأعلى، وبارك في ذريته وتلامذته، ونَشَر أجره وطيب ذكره في الآفاق.
    وكان يتمنى -رحمه الله- قبل أيام من وفاته أن يعود لبلده دمشق، ولكن قدر الله أن يموت بعيدًا عن بلده، ويُرجى له بهذا مزيد خير، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: توفي رجل بالمدينة ممن وُلد بالمدينة, فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((يا ليته مات في غير مولده)), فقال رجل من الناس: لم يا رسول الله؟ فقال: ((إن الرجل إذا مات في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره من الجنة))[14]. وقال لي المهندس رَبيح: كان الوالد صابرًا محتسبًا على ألمه الشديد، مع أن ما فيه من أصعب الأورام عند الأطباء، وكان يردد الشهادتين كل وقته، ولا يغفل عن ذكر الله ليلًا ولا نهارًا، وفي الجُمَع الأخيرة كان يجاهد نفسه ويجلس مع أخي حمزة ليقرأ سورة الكهف، وكان يرجو أجر الشهادة في مرضه الذي توفي فيه، وفي موته غريبًا، رحمه الله رحمة واسعة.
    عائلته: تزوج شيخنا سنة 1945م من عائشة آل عرفة، إحدى بنات عمومة الشيخ ياسين عرفة، وأنجب منها تسعة أولاد، وجلُّهم بلغ الذروة في العلوم الكونية، مع الاستقامة والفضل، وكان شيخنا دائم الإشادة بأولاده والثناء عليهم والفخر، وحُقَّ له ذلك، وكذلك يثني على زوجه، وسمعته يقول بحضرة شيخنا العقيل: هي صبرت عليّ في محنتي المالية الطويلة، وساندتني في حياتي، ولا نفترق سفرًا ولا حضرًا. ويذكر ابنه الطبيب سميح: أنه كان مع انشغاله الكثير يبدي اهتمامًا، متابعًا لكل فرد من العائلة عن تطوره وتقصيره، كانت متابعته من بعيد دقيقة، ومن الأمور التي أذكرها باستغراب، أن القواعد التي كان يضعها كان من الصعب تجاوزها، رغم أني لا أذكر أنه طيلة حياتي ضربني، فكان تأثيره النفسي علينا هائلًا، لا يحيجه أن يضربنا، نعم، كان يعاتب، ربما عتابًا شديد اللهجة، لكن لم تكن سياسة الضرب عنده، كان يربينا بالمثل، كنا نراه صادقًا في أقواله، وفي كلامه مع الناس. قلت: كان على خطا أبيه الشيخ عبد المجيد في التربية بالقدوة. وأولاد الشيخ هم: المهندس محمد عبد المجيد (مولده 1948م)، والطبيب عماد، والمهندس رَبيح، والطبيب سَميح، والطبيب معاذ، والطبيب حمزة. وله ثلاث بنات، اثنتان تخرجتا من الصيدلة، والثالثة أخصائية في هندسة التصميم. وأحفاده يزيدون على الأربعين، ومن أبنائه وأحفاده عددٌ ممن حفظ القرآن وقرأه على الشيخ، من الذكور والإناث. وكان يتابع أحفاده في دراستهم، ويوجههم، وكل من تفوق منهم يعطيه خمسمائة ليرة تشجيعًا له. بارك الله في ذرية الشيخ، ووفقهم للخير والصلاح والفلاح.
    من أقوال أهل العلم فيه:
    ذكر شيخنا عن والده الشيخ عبد المجيد الطرابيشي رحمهما الله أنه قال: أنا لو لم تكن عليّ نعمة في وجودي إلا أن رُزقتُ بابني بكري فأنا فائز أو رابح في هذه الدنيا! قالها شيخنا، ثم عقّب: وأين أنا منه علمًا وأدبًا ومكانة! وقال شيخ القراء محمد سليم بن أحمد الحُلْواني في إجازته: ((قرأ علينا ولدنا الشاب النجيب، والفاضل الأديب، الشيخ بكري أفندي، ابن الفاضل العلامة، التقي الفهامة، الأستاذ الشيخ عبد المجيد الطرابيشي)).
    وقال الشيخ المقرئ محمود فايز الديرعطاني في شهادته على إجازة الحلواني: ((الشاب الصالح المفضال الشيخ بكري ابن الأستاذ العلامة الشيخ عبد المجيد الطرابيشي.. فإنني أشهد بأهليته لقراءة هذا الفن وإقرائه على الوجه الأكمل)). ووصفه في إجازته له: ((الفاضل الأديب، والعالم اللبيب، صاحب الإجازة المسطرة في صدر هذه العجالة، الشيخ بكري ابن المرحوم الفاضل العلامة الشيخ عبد المجيد الطرابيشي)).
    وقال الشيخ علي الطنطاوي: ((هو العبقري الكبير في تربيته لأولاده، وحَمْلِه لهَمِّ الأمة)). (نقلًا عن مجلة ضياء ص40) وكتب لأحد المسؤولين: الشيخ بكري معروف عندنا، ولا يتجاوز الحق. حدثنا بذلك شيخنا عنه، ضمن قصة ذكرها. ويأتي أن الأستاذ الشيخ عصام العطار حدثني أن الشيخ الطنطاوي كان يزكّيه ويعينه.
    وكان شيخنا عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله يثني عليه، وسمعت منه أشياء فاتني تقييدُها! ولكن أخبرني ابنه الأستاذ محمد، قال: كان والدي يرسل له طلابًا ليقرؤوا عليه القرآن، ويقول لهم: هذا من الرعيل الأول، وهو أكبر القراء الآن. ويزكيه عند طلاب العلم، ويوصيهم به.
    وقال شيخنا محمد زهير الشاويش في كلمته التي نعى فيها شيخنا: ((كان الشيخ بكري فقيهًا عالمًا متقنًا، وقد انفرد بعلو السند للقرآن الكريم، وسبق له أن كان عضوًا إداريًّا في ((الشبان المسلمين))، ثم في ((جماعة الإخوان المسلمين)) في دمشق سنوات عدة، وكان رحمه الله سليم المعتقد، يهتم بالشؤون العامة، وخادمًا للناس في كل أحواله)).
    وحدثني شيخنا محمد أديب صالح عصر الاثنين 5/4/1433 ومما قال: الشيخ بكري رحمه الله ما علمنا عنه إلا خيرًا، وخُتم له عمره بخدمة القرآن، وعلاقتنا قديمة جدًّا من الخمسينيات بالعمل الدعوي، مشوبة بالعلم، وكانت جيدة، وهو يكبرني بست سنوات، وكانت له صلة كبيرة بالسباعي، يحضر اجتماع الإخوان، وكان نعم الرجل، وكان يعتني بالقرآن للأسر الإخوانية، ويشجع الطلاب والأساتذة على أعمالهم، وكان له مشاركة فعالة جدًّا في بناء المساجد كما سمعنا.
    وحدثني شيخنا محمد بن لطفي الصباغ بعد المغرب ليلة الثلاثاء 6/4/1433 فمما قال: معرفتي بالشيخ بكري قديمة جدًّا ووثيقة، وكان يعرف والدي، وكنتُ أتردد على دكانه مع أخيه في العصرونية مقابل دار الحديث الأشرفية، وبعده تعرفنا عليه في الإخوان، وكان من مؤسسيهم، ويمتاز باللطف والمؤانسة، ويتكلم بالفصحى، ثم صرت أجتمع به لما نحضر درس الشيخ صالح العقاد في غرفته بالنورية. ثم ترك العصرونية، واشتغل بالبناء، ولما أسنّ تفرغ للإقراء، وما اشتهر بالإقراء إلا بعد أن خرجنا من الشام، لكنه كان مشهورًا بالإصلاح بين الناس والدعوة إلى الله، وكان فقيهًا حنفيًّا، ولكنه يحضر درس العقاد في مغني المحتاج للخطيب الشربيني الشافعي، وما من شك أنه كان قمة في الفضل والخير والإحسان إلى الناس وتربية أولاده، كلهم على اتجاه طيب. وكان قديمًا في الإخوان مع الأستاذ عبد الرحمن الباني، لذلك لما جاء الرياض وما كان معه أولاده نزل عند الشيخ الباني في بيته بشارع الوزير، وله جهود في عمارة المساجد، ولطابعه التجاري وهدوئه لم يتعرض للسجن فيما أعلم. وكان منذ نشأته في الاتجاه الإسلامي، وعلى الرغم أن نشأته مع المشايخ لكن كانت فيه نزعة سلفية طيبة، وكان ينكر الخرافات، ويستدل على ذلك بأقوال في المذهب الحنفي، وينكر على غلاة الصوفية، وكان يقول إنه سلفي. ولما توفي في دبي خشيت أن ينقلوه فاتصلت بابنه عبد المجيد معزيًّا، وقال لي: إنه أوصى أن يُدفن حيث يموت، فحمدت الله. وكنا نجتمع معه جلسات طويلة، وكان يثني علينا ونثني عليه كثيرًا، وعنده غيرة، وفي عدد من الأمور حصلت فكان فيها متحمسًا جدًّا للخير، وعنده صفة التواضع، وكان سخيًّا بالإجازات، وأجاز بعض من كلّمتُه عنهم. وقال مغرب الاثنين ليلة الثلاثاء 13/4/1433: الشيخ الطرابيشي من كبار المهذَّبين، نادرًا ما يواجه أحدًا بما يسوؤه، حتى لو خالفه، وعلاقته مع الألباني فيها احترام، ولكنه لا يواجه مثله! وقلت له: قد كان قال لنا: إنه كان من أقرب الناس إلى الألباني. فقال: هذا صحيح.
    ومما قال شيخ القراء والعلماء في دمشق محمد كريّم راجح في لقاء بمجلة الحرس الوطني (العدد 257): ((ليس أعلى من سندي في دمشق إلا سند الشيخ بكري الطرابيشي، هذا قرأ على الشيخ محمد سليم الحلواني، أنا حفظت الشاطبية على الشيخ محمد سليم الحلواني و [ما] جمعت عليه، وسنده أعلى من سندي بدرجة، ولذلك أنا -توقيراً لهذا الرجل واحترامًا- أعدُّه أستاذي)).
    ومما قاله الشيخ كريّم في كلمة بتاريخ 16/4/1433: أحب أن أقول بصراحة: موت الشيخ ثُلمة في الإسلام لا يسدها إلا خَلَفٌ مثله.. والرجال منهم من يعملون بالخفاء، وسمعته عند الله عظيمة، ومن هؤلاء الذين يعملون بالخفاء، ولا يريدون أن يُعرَفوا وسمعتهم عند الله طاهرة في ظني: الشيخ بكري الطرابيشي عليه رحمة الله، اللهم عوّض المسلمين خيرًا، أهل الشام لا يكادون يفهمون من هو الشيخ بكري الطرابيشي، لا يكادون يفهمون من هو الشيخ عبد الرزاق الحلبي، هؤلاء هم الأساطين التي يقوم عليهم سمعة هذا البلد ووجودها وأمثالهم ممن من الله عليهم من الفضل، الشيخ بكري الطرابيشي عليه رحمة الله يصدق عليه قول ربنا جل جلاله: ﴿إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية يرجون تجارة لن تبور، ليفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور﴾، فلقد كان رحمه الله تاليًا لكتاب الله، ولقد كان رحمه الله مقيمًا للصلاة، لقد كان رحمه الله ينفق من المال ما أوجب الله عليه أن ينفق، وينفق ربما أكثر من ذلك كما عرفته.. والشيخ بكري كم أنفق، وكم زوّج، وكم ستر من العوائل.. ولقد كان تاجرًا، وكان صدوقًا، ولعله من أوائل من شارك في بناء دمشق بناء حديثًا.. وفي إحدى الرمضانات كان قويًّا لا يزال جاء إليّ إلى البيت، وقال لي: انزل أنا عاوزك. نزلت أنا وإياه، قال: أريد أن أقرأ أنا وإياك كل يوم عشرة أجزاء قرآن في رمضان، فركبت معه السيارة، وكنا نمشي إلى الزبداني، وإلى غير الزبداني، وإلى الفيجة، ففي كل مكان، وأحيانًا نقرأ في السيارة، عشرة أجزاء، نعود بعد ذلك أنا إلى بيتي يوصلني، وهو يذهب إلى بيته، عشرة أجزاء كل يوم! وكان جامعًا قارئًا، جمع على شيخنا الشيخ محمد سليم الحلواني.. فالشيخ بكري سنده أعلى من سندنا نحن، وأنا والله كنت أعامله كشيخي، وهو كان يعاملني برتبة ابنه، لا والله كان يعاملني برتبة أكثر من شيخ، وكان يقول لي: والله يا أخي أبا سعيد ما جلست معك مرة إلا استفدت منها، وكنتُ أسمع منك آية من كتاب الله كأنها الآن نزلت. يعني الرجل صاحب القيمة هو الذي يعرف للآخرين قيمتهم! .. لو شئت لتكلمت ساعات في فضل أخي وحبيبي وصديقي، وأولادُه أولادي وأحبائي.. أريد أن تستفيدوا من الشيخ بكري، فإن الشيخ بكري كان مدرسة، بل كان جامعة، يستفيد منها الإنسان العلوم العليا.. بحقٍّ لقد خسرنا خسارة كبيرة بوفاة هذا الرجل. انتهى المقتطف من كلامه. وحدّثني الشيخ محمد كريّم راجح في اتصالي به ليلة الخميس 29 ربيع الآخر 1433، قال: ((الشيخ بكري رحمه الله معرفتي به قديمة، وكان فرغ من عند الشيخ محمد سليم الحلواني قبل أن أقرأ عليه الشاطبية، والشيخ سليم كان لا يخرج الطالب من عنده إلا إذا كان جيدًا. والشيخ بكري في أخلاقه وفي كرمه ووقوفه عند حدود الله آيةٌ، ولا تُعرف عليه هناة. وفي رمضان كان يمر عليّ في بيتي ويأخذني بسيارته إلى طريق الفيجة أو مضايا، ونقرأ معًا ونعود، فكان يقرأ معنا عشرة أجزاء يوميًّا. وكان يملك نصف مشروع دمر والنصف الآخر لسهيل الخياط، ثم أمّمت الدولة هذا، ولو كان أعطي حقه منها ما كان في الدنيا مثلُه في الغنى، وهو حدّثني أن بعض من اشترى فيها جاءه يستسمحه، فقال لهم: لما أُمِّمَتْ وعلمتُ أنها ستُباع سامحتُ كل من يكون فيها! كان رجلًا يهتم بشراء البيوت للفقراء وبناء المساجد، وكان فعّالًا للخير، كان عصاميًّا، من أوائل من بنى دمشق البناء الحديث. كان مؤمنًا تقيًّا نقيًّا منفِقًا متصدقًا، ولا يحب أن يُذكر. وكان متفقهًا على مذهب أبي حنيفة، لكن ما كان مقلدًا مائة في المائة، بل كان متفتحًا. والله أصلح في ذريته، أنا أعرفه حق المعرفة، لم يكن يعيش التصوف، ولم يكن سلفيًّا من النوع المتحجر يشدد الوقوف في العبارة والكلمة، بل كان يعرف روح الإسلام وما كان عليه السلف في القرون الثلاثة الأولى، وعودي عداءً شديدًا من قبل المتصوفة، حتى في المسجد الذي بناه هناك من يحاربه، لأن عندنا في دمشق الفكر أكثره صوفي مائة في المائة. وأظن أنه انتسب إلى الإخوان، ورأى فيهم أسلوبًا جديدًا للدعوة إلى الله، ولأجل قيام الحكم الإسلامي، وكان يسعى لهذا سعيًا حثيثًا، وأولاده كانوا كذلك، وأوذوا كذلك. إذا ذُكر أنه أوتي من الخلق أحلاه، ومن الفكر أعلاه، وفي السماحة قلَّ من يؤتاه: فهو الشيخ بكري الطرابيشي، وأنا أعرفه معرفة جيدة، وذريته على غاية من الخير والبركة. وكان تجويده آية من الآيات، طَبَعَهُ الشيخ الحلواني طبعةً جيدةً جدًّا، وسندُه أعلى الأسانيد، ومن يأتي لها يجد الشيخ أولًا، فهو أستاذنا، وكان يثني عليّ خيرًا، ويقول: لا أجلس معك إلا أستفيد منك! وكان يعرف قيمة الرجال، وقيمة الإسلام، ومُثُل الإسلام، رحمه الله رحمة واسعة))[15]. قلت: ومن المعلوم أن الشيخ كريّم كان يحيل عدة مرات على شيخنا في معرفة تطبيق بعض الأحكام، مثل الضاد، والإخفاء الشفوي، ويقول: هو آخر من قرأ على الحلواني، فارجعوا إليه، وخذوا منه كيفية قراءته.

    [يتبع]

    [يتبع]

    وآفة العقلِ الهوى ، فمن علا *** على هواه عقله ، فقد نجا
    ابن دريد

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: سيد القراء وزينتهم - بَكْري بن عبد المجيد الطَّرابيشي / بقلم الشيخ محمد زياد التك

    ومما قال لي الأستاذ الشيخ عصام العطار في اتصال ليلة الخميس 29 ربيع الآخر 1433: الشيخ بكري الطرابيشي رحمه الله كان أكبر منا، ومن أصحاب المسؤوليات في جماعة الإخوان، وكان المحاسب فيها، وكان مجدًّا، لطيفًا، صاحب خلق رفيع، غيورًا، يهتم بالواقع، وكان متعدد الخدمات في نطاق العمل، محبًّا لإخوانه، مهتمًّا بهم، بجانب التربية والتعليم، من جهة ما هو قادر عليه، ومن جهة القرآن، والتطبيق العملي، وحفظ الناس، والصلاة، والجماعة، وليس من هذه الزاوية فقط، بل بكل النشاطات الاجتماعية للجماعة. فله نشاط متعدد، ولكن له اهتمام خاص بالمساجد وعمارتها، والأعمال الخيرية، ومساعدة الأسر الضعيفة، كان له نشاط كبير في هذا الصعيد، مثل اهتمامه بالعمل التربوي، وجهوده في هذه الأمور أبعد مدًى من إطار الإخوان. وكان موضع ثقة واحترام، فهو يستطيع أن يوفر في هذا المجال للناس المحتاجين، وليس مساعدة عابرة، بل يسعى للأسر المستورة أن يكون لهم سَكَن، وله صلة قوية بالشيخ الطنطاوي، ويستعين به، وكان يزكيه عند أصحاب الإمكانات، وكان للطنطاوي قَبولٌ كبير، فكان يساعد الشيخ بكري في هذا المجال. كان شخصية محترمة في نطاق الإخوان، ويشارك بمختلف المجالات، وكان عنصر جمع وتأليف خير، وله صلة بالأستاذ السباعي، ومن الطبيعي لمن في مكانته أن تتم اجتماعات في بيته. وفي سنة 1963 أو 1964 طلعتُ للحج، ووأغلقوا عليّ باب العودة، وزارني الشيخ بكري أكثر من مرة في آخِن، وهذا لم يكن يعلنه، وبات عندنا في البيت، وبيننا معرفة وثيقة وأخوّة وصداقة ليس ضمن الإطار الحركي فقط، أنا وهو وزهير الشاويش. وقال لي الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم: إن الشيخ رحمه الله كان صلاحه ظاهرًا، ويكفيك النظر إلى وجهه! وأكرمنا بزيارته وتشريفه مرات في البيت والاستراحة، وكان دقيقًا جدًّا، وقال لي: تستطيع ضبط ساعتك على موعد حضوري المسجد! وأذكر لما قرأ عليه الشيخ (فلان، قارئ مشهور) أمامنا كيف ردّه مرات متعددة. وترحم عليه ودعا له كثيرًا، ودمعت عيناه عندما تذكر بعض أخباره. وقال الشيخ أيمن بن رشدي سويد في قناة أهل القرآن الفضائية: كان رحمه الله تعالى متعففًا، مستقيمًا معروفًا بالتقوى، معروفًا بعمل الخير، معروفًا بالعمل الاجتماعي، ببناء المساجد، بالجلوس للتعليم، وخاصة في الثلاثين سنة الأخيرة التي قصده الناس فيها لعلو إسناده، لم يتقاضَ في حياته قرشًا واحدًا فيما نعلم على تعليم كتاب الله عز وجل، بل كان تاجرًا يعيش من تجارته، ولا يأكل على القرآن شيئًا أبدًا، جزاه الله تعالى عنا كل خير. وقال الشيخ إلياس البرماوي في إمتاع الفضلاء (1/393): رأيته متواضعًا محبًّا لطلابه، رقيق القلب، يطلب من طلابه أن يدعوا له، وتدمع عيناه لذلك، سمحًا لطيفًا، حسن المعاشرة، طيب النفس، دمث الأخلاق. ووصفه زميلنا الشيخ عبد الله بن صالح العبيد في كتابه الإتقان (7) بالشيخ المقرئ الصالح. وقال زميلنا الشيخ رياض بن عبد المحسن السعيد في موقع ملتقى أهل الحديث: رحم الله شيخنا العلامة بقية أهل القرآن بكري الطرابيشي، اتصلت به بعد مجيئه لمدينة الرياض في بعض المساجد، وكان بهي الطلعة، حسن الصورة، عليه المهابة والوقار في مشيته وجلسته وحديثه، خفيف الظل، لايرد من طلبه ممن يريد العلم والقراءة، تذكر رؤيته بالسلف الصالح، ووقار الرعيل الأول، قرأت عليه بعضاً من القرآن، ثم قرأت عليه المقدمة الجزرية كاملة مع بعض تعليقاته، ثم طلبت منه الإجازة العامة لي ولأولادي فحرر لي إجازة بقلمه، ثم كتب قراءتي عليه على غلاف رسالة المقدمة الجزرية بخطه الشريف، ثم جلست معه أسأله عن حياته وسيرته فذكر لي سيرة مختصرة، والأهم ذكر لي عقيدته السلفية، ونبذه للتأويل وعقيدة أهل البدع في الأسماء والصفات، رحم الله ذلك الوجه المنور الوقور، وجمعنا معه في الفردوس الأعلى. وقال المهندس سعيد ابن الشيخ محمد كريم راجح ضمن قصيدة في مدح قراء دمشق عند حفل تكريمهم:
    ورثوا القراءة كابرًا عن كابرٍ
    شهدت أسانيدٌ لها عصماءُ

    سندٌ إلى سندٍ إلى أن أدركوا
    سندَ النبيِّ وتلكمُ النَّعْماءُ

    أَحْبِبْ يأقواها وأدناها له
    سندٌ علا وعَلَتْ به العلياءُ

    سندٌ لبَكري ذلك الشيخُ الجلي
    يلُ مهابةً والمقرئُ القراءُ

    شيخٌ عظيمُ القدر فيهم ماجدٌ
    وعريفُهم شادت به العُرَفاءُ
    وقال الشيخ عبد الرحمن بن علي الريس، من تلامذة الشيخ:
    ربي لك الحمد بالإفضالِ أجمعه
    حمدًا كثيرًا وشكرًا كاملًا عَطِرا

    ثم الصلاةُ على خيرِ الورى أبدًا
    ثم السلامُ عليه الدَّهْرَ ما ذُكِرا

    يا رَبِّ أُخرى لك الحمدُ العظيمُ جرى
    لَمّا بدا في دمشقَ الشامِ ذا القَمَرا

    يا شيخُ بكري حباكَ الله روضَتَهُ
    فِرْدَوسَهُ بمقامٍ في العُلا اشتَهرا

    كُسيتَ خُلْقًا زَكا أَكْرِم به خُلُقًا
    حتى غَدا أثَرًا في الناسِ منتشِرا

    ما قلتَ إلا أخي كالدُّرِّ تنثُرُها
    من فيكَ قد خَرَجَت يا سيِّدًا قَمَرا

    تصاغرتْ أنفُسٌ منّا بمعشركم
    تواضعًا ما رأت عيني له بشَرا

    أولاكمُ الله من عليائه شرَفًا
    لما علا بكمُ الإسنادُ وافتَخرا

    شيخيْ الجليلَ وأستاذَ الورى عَلَما
    جُزيتَ خير الجزا إقراءك الدُّرَرا

    بوركتَ من ثقةٍ من مُتقنٍ وكفى
    ثم السلامُ على المختار قد صَدَرا
    وقال الشيخ إبراهيم بن محمد كُشيدان الليبي، من تلامذة شيخنا البارزين، معارضًا قصيدة الخاقاني[16]:
    بدأتُ بحمد الله ذي الفضلِ واليُسْرِ
    وصلّيتُ تعظيمًا على الكوكب الدُّرِّي

    محمدٍ الهادي الرحيمِ وصَحْبِه
    وعِتْرَتِهِ سُحْبِ المكارمِ والبِرِّ

    أبا ماجدٍ لا زال ذكراكَ عاطرًا
    وإتقانكم للعشر معْ صحةِ الحِجْرِ

    لقد حُزْتَ خَمْسًا: رقَّةً وتواضعًا
    ولُطفًا وإحسانًا وطولًا من العُمْرِ

    حظيتَ بإسنادٍ عَلا كلَّ فرقدٍ
    فخَلَّفتَ للإسلامِ صرحًا من البِرِّ

    أضاءتْ به الشامُ بل الكونُ كلُّهُ
    وإنه نورٌ حاجبٌ شدةَ الحَرِّ

    لأجلِ كتاب الله أفنى حياتَه
    كريمًا وميمونًا تقيًّا بلا وِزْرِ

    هنيئًا مريئًا والدك عليهما
    ملابسُ أنوارٍ من الله ذي البِرِّ

    سأدعو لكم ما عشتُ في السرِّ والجهرِ
    وأسألُه التوفيقَ للذكرِ والشُّكرِ

    وأدعو إلهي أن يُثيبَك جنّةً
    سلامٌ من الله أيا شيخَنا البكري

    وخيرُ صلاةٍ مع أحبِّ تحيةٍ
    على المجتبى والآلِ مع صحبِهِ الغُرِّ

    ولا فخرَ إن الفخرَ يدعو إلى الكِبْرِ
    وحسبيَ فضلًا أن شيخيْ هو البكري


    وآفة العقلِ الهوى ، فمن علا *** على هواه عقله ، فقد نجا
    ابن دريد

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: سيد القراء وزينتهم - بَكْري بن عبد المجيد الطَّرابيشي / بقلم الشيخ محمد زياد التك

    متفرقات ووقفات ومواقف
    الحج: حج المترجم المرة الأولى مع أبيه سنة 1361 (توافقها 1942م) كما أخبرنا، ويقول: كان معنا عدد من أهل الفضل، مثل الشيخ حسن حبنكة، والشيخ إبراهيم الغلاييني، والشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، والشيخ عيسى البيانوني، وكان الحرم آنذاك غير مبلط، ومفروشًا بالحصباء، فكنا نقعد مع الشوام عند الركن الشامي في غير أوقات الصلاة، وكان المسعى محاطًا بالدكاكين، وعدد الحجاج في الإحصاء الرسمي 150 ألفًا، وحصل أن وقع الوالد في الجمرات وأدركناه والحمد لله، ومن صفاء الوالد أنه كان يبكي ويقول: هل أنا عبد المجيد الطرابيشي أستحق هذا الإكرام؟ وهل أنا أستحق أن أكون في هذا المكان؟ وفي تلك الحجة زار مع وفد علماء الشام الملك عبد العزيز، ويقول: جلستُ قريبًا منه. وذكر لنا قصة في ذلك. وأخبرني الشيخ علي سيف أن شيخنا أخبره، أنه التقى بأحد العلماء الشناقطة وأجاز له في تلك الحجة، ولكنه نسي اسمه! ثم حج المرة الثانية أيام الملك فيصل بن عبد العزيز، وتحسنت أوضاع الحج. ثم حج مرات بعدها، ولاحظ مبكرًا مشكلة الازدحام عند الجمرات، وأوجد لها حلّ الأدوار المتعددة من أكثر من أربعين سنة، وطوّرت الفكرة، وقدّم كتابًا في ذلك لابنيه عبد المجيد ورَبيح، مع سعيد ابن الشيخ كريّم راجح، ولكن فكرته تأخرت عن التنفيذ، وغلبه صاحب فكرة الجسر العلوي، وعارضه شيخنا، في قصة كرر ذكرها وتفاصيلها، ولم تنفذ فكرته إلا بعد وقت مديد، والله يفعل ما يريد!
    الصبر على المحن: حدثنا شيخنا محمد أديب الصالح، قال: حدثني الشيخ بكري: أنه جاء مع مجموعة من الشباب المتدين لزيارة شيخنا إبراهيم الغلاييني في بلدتنا قَطَنا أيام الاحتلال الفرنسي، ولدى عودتهم رآهم أحد الدَّرَك (الشرطة) وعليهم سيما الالتزام واللحية، فتعرض لهم بالأذية، وساقهم إلى المخفر، وسَجَنهم، فوصل الخبر للشيخ الغلاييني، وكانت له مكانة كبيرة، فنزل سرايا الحكومة، وزجر الشرطة على تعرضهم لضيوفه، واعتذروا لهم، وأطلقوهم. ثم حصل عليه تضييق أمني في حكم البعث، وكان لا يُسمح له بالسفر إلا بإذن خاص من المخابرات[17]، وإذا رجع كان ملزمًا بالذهاب إليهم لسؤاله عما حصل له، وحُرم أولادُه من دخول البلاد، إلى أن رفع حظر السفر بعد أن طعن في السن! وكان يقول: حوربت محاربة كبيرة، لكن بحمد الله لم يحصل لي أذية في شخصي إلا مرة واحدة، أساء لي أحدهم بالكلام، ربما أراد أن يبتزني، إنما آذوني في مالي. قلت: وحدثنا شيخنا مرارًا عن نكبته المالية، خلاصتها أنه اشترى مع شريكه الشيخ سهيل الخياط أرض مشروع دُمّر كاملة لاستثمارها وعمارتها، وأنه وضع فيها وشريكه جميع إمكانياتهما المالية، ثم صدر قرار نحو سنة 1967 من الدولة بمصادرتها، وحاول شريكه استردادها بعد سنة 1970م واستصدر أمرًا من رئيس الجمهورية بذلك، وكان قد قابله بعد أن اشتُرط عليه دفع سبعين ألف ليرة للدقيقة الواحدة! لكن بعد وقت قصير جدًّا من قرار الرد صدر قرار آخر بالاستملاك من جديد! وقال لنا شيخنا: خسرنا فيها المليارات، وعوضونا عن الألف واحدًا فقط! وقال: إنه بقي عشر سنوات حتى ردّ ديونه ونهض مرة أخرى، وقال لنا: إن بعض دائنيه عرضوا عليه المسامحة ببعض حقهم، فرفض سوى أن يسدد لهم كامل ما عليه، وفعلًا تم ذلك بعد وقت. ويقول: ولله الحمد لا يمكن لأحد أن يقول إنه ساعدني بمال في تلك المحنة[18]. وأخبرني المهندس عبد المجيد ابن شيخنا: إن من أعظم مواقف الوالد في أحداث سنة 1980م لما اضطر أولاده أن يغادروا البلاد، فقد تحمّل الوالد آثارًا كبيرة نتيجة ذلك، وكان موقفه عظيمًا من ناحيتين: من جهة كونه والدًا، ومن جهة ثباته وصبره لمبدئه الذي يؤمن به، وكانت أزمة كبيرة، وبعضهم صار يتزلف ويطرق أبواب المسؤولين، ولكنه لم يفعل شيئًا من ذلك رغم الضغط عليه، بل جابه بعضهم. قلت: ولما كان شيخنا نشيطًا في بناء المساجد وعمارتها حصل تضييق عليه من جهة وزارة الأوقاف؛ التي منعته من جمع التبرعات، وطالبته بحساباته في بعض المرات. وضايقه بعض غلاة المتصوفة، وأشاعوا عنه تهمة الوهابية -كما اتُّهم أبوه من قبل-، وبعضهم أبطل الصلاة خلفه! وقال لي الشيخ محمد كريّم راجح حفظه الله: ((عودي عداءً شديدًا من قبل المتصوفة، حتى في المسجد الذي بناه هناك من يحاربه)). وأخبرني الشيخ فواز الدوماني أن بعضهم كان يقول للطلاب: خذوا عنه القراءة والسند ولا تأخذوا عنه العقيدة! ولكن لم يضره شيء من ذلك ولا مما قبله، ويعزو سبب ذلك لكونه تاجرًا حرًّا غير مرتبط بوظيفة.
    الإخلاص: قال لي الشيخ زهير الشاويش: كان أثناء عمله مع شباب المسلمين ثم في الإخوان محاسبًا لا يُظهر نفسه أبدًا، وحتى أموره الخيرية لا يُظهر شيئًا، وصفته البارزة أنه كان متواضعًا لا يحب الظهور. ويقول ابنه الطبيب سميح عن مساعي أبيه الخيرية: إنه ظهر لنا بعضها، وبعض ذلك نحن أبناؤه لم نكن نعرفه، وكان يساعد بعض تلامذته بشكل غير مباشر، ويتحرج من ذكر ذلك، ومعظم قصصه في هذا سمعتُها من أطراف أخرى. قلت: وبنحوه قال لي المهندس ربيح أيضًا، مع كونه ساعد أبيه الأيمن في دمشق. وفي لقاء شيخنا على فضائية نور دبي ذكر المقدِّم أن للشيخ مساعدات للفقراء، فقاطعه شيخنا: وقال بلطف: هذه تكون بيني وبينك! ورفض أن يخوض فيها. قلت: وأخبرني الشيخ فواز الدواني أن مسجد الخير الذي بناه شيخنا كان يريد تسميته: (جامع الطرابيشي)، ثم جاء على ذهنه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فانشرح صدرُه لتسميته بجامع الخير راجيًا الفلاح، وعدل عن تسميته باسم عائلته. قلت: وكان شيخنا يرفض بشكل قاطع الهدايا من طلابه، ولا يأخذ أجرًا على الإقراء مطلقًا، لا يريد أن يتعجل من أجره شيئًا، بل حاولتُ به وعرضتُ على شيخنا أن أهديه (صدقة جارية) باسمه -وليس هدية عينية- فلم يُجبني! وذكر تلميذه الشيخ عدنان سعد الدين: أن الشيخ كان إذا أُهديت له هدية، أخذها بلطف من الطالب، ثم ردّها له بابتسامة قائلًا: قبلت هديتك، لكن اعذرني يا أخي، اسمح لي أن أردّها إليك، أريد أن يكون أجر القراءة خالصًا لوجه الله، لو لم تكن تقرأ علي لقَبِلْتُها. وذكر أيضًا أنه في إحدى حفلات التكريم التي أُجريت له، أمسك الهدية دون أن يفتحها، ونادى أحد طلاب العلم، وأهداه إياها، وكانت هدية قيمة. قلت: ويتصل بالإخلاص أن الشيخ رحمه الله لم يكن يُحب الظهور، وإذا ذهب إلى محفل لا يُظهر نفسه بأنه أحد العلماء أو المقرئين، ويتواضع للغاية، ولولا هيئته وسمته، وما كتب الله له من القبول -على ما نحسب ونرجو- ما كان ليعرفه أكثر العامة ، ولا سيما قبل اللقاءات التي في الفضائيات وحفلات التكريم -وكلُّها قُبيل وفاته-، وأذكر في أول اللقاءات الفضائية التي أُجريت معه، وكانت على قناة المجد: ما وافق على اللقاء إلا بعد الإلحاح عليه من بعض من يقدّرهم. وأستطرف هنا حكايتين أذكرهما للعبرة والفائدة تتصلان بهذا الشيخ التقي الخفي: في إحدى دعوات الشيخ ابن قاسم له في الرياض أراد أن يأخذه لمسجد يصلي فيه التراويح، ثم ينطلق معه للاستراحة، واستشارني في مسجد مناسب، فقلت: يحسن أن يكون الإمام متقنًا للأداء، وليس صاحب صوت حسن وحسب[19]، واقترحتُ أن نصلي عند الشيخ صابر عبد الحكم، فقد جمع الأمرين بارك الله فيه، وذهبنا هناك، وسُرَّ الشيخ بكري بقراءته، ولما أردنا الخروج من المسجد كان الناس يأتون يسلّمون على الشيخ ابن قاسم، فكثيرون يعرفونه لأنه من القضاة والمفتين والمدرّسين المعروفين في الرياض، وعليه المشلح (البشت)، وهو ممسك بيد الشيخ بكري يساعده في مشيه، ولم ينتبهوا كثيرًا لشيخنا، إلى أن وصلنا مكان الأحذية، وهنا انحنى الشيخ ابن قاسم -جزاه الله خيرًا- وألبس شيخنا حذاءه، فهنا انتبه الناس للشيخ وصاروا يسألون: من هذا الشيخ الذي معه؟! وتسامع الناس باسم الشيخ، ورأيت الشيخ صابر عبد الحكم يشق الصفوف لما وصله الخبر قاصدًا الشيخ، فسلّم عليه بحرارة، وهكذا فعل جماعة، وأثنى الشيخ بكري على قراءة الشيخ صابر، وقال لنا: ما شاء الله، صوته جميل، وأداؤه متقن، وعنده خشوع. وقصة أخرى حدّثنيها أحد كبار أصحاب الشيخ، ورغب أن لا يُذكر اسمه، أن شيخنا أخبره، أنه أيام أحداث الإخوان في الشام كان أحد أبنائه يحتاج لإذن سفر من شعبة التجنيد للمرة الثانية خلال سنة، وكان النظام آنذاك لا يسمح بالسفر لمن في حاله إلا مرة واحدة في السنة، وذهب شيخنا لشعبة التجنيد التي قرب جامع زيد بن ثابت، وحاول فيهم، وشددوا عليه بالرفض، ولم يأبهوا لطلبه، وبينا هو كذلك إذ دخل الشعبة الشيخ سارية بن عبد الكريم الرفاعي، وقام مسؤول الشعبة ومن معه لاستقباله، لأنه يعرفونه، فهو مشهور، ولا سيما في منطقة جامع زيد، فلما دخل رأى الشيخ بكري جالسًا على كرسي، فسارع إليه وأهوى وقبّل يده، واحتفى به، فلما رأى المسؤول ذلك رجع لشيخنا، وقال له: ماذا كان طلبك؟ قال: إعطاء إذن سفر جديد لابني، فقال: هذا الطلب ليس إلا من صلاحية القائد العام للجيش أو وزير الدفاع، ولكن إكراماً لك سأوقعه وأختمه، ولو علّقوا مشنقتي بالمَرْجة! ويقول شيخنا: سافَرَ الابن بهذا الإذن إلى بريطانيا، وبعد أيام قليلة حصلت مداهمة من الأمن للقبض عليه، فأنجاه الله بسبب موقف الشيخ سارية. فكان شيخنا يذكرها للشيخ سارية ويدعو له.
    سلامة الصدر وطهارة القلب: من المعروف ما يحصل عند الأقران من تنافس وغيرة، وما أكثره في القراء! ولكني رأيتُ شيخنا ساميًا في هذا الباب، فهو كثير الإشادة بأقرانه في السن ممن نفع الله بهم، فكان كثيرًا ما يشيد بالشيخين أبي الحسن الكردي، ومحمد سكر، رحم الله الجميع، وقال في لقاء قناة المجد: إن الله جعل على يديهما الخير الكبير، فأكثر من قرأ القرآن في دمشق أخذ عنهما. وأثنى على الشيخ محمد كريّم راجح حفظه الله وبارك في حياته، مع أنه في علو الإسناد برتبة شيخهم الديرعطاني، فقال في ذلك اللقاء: ((إن الله منّ على أهل دمشق بالشيخ محمد كريّم راجح، فهو ما شاء الله حجة بالفقه، يعني الآن مفخرة دمشق لا شك، بل قد يكون مفخرة للعالم الإسلامي كله علمًا.. يمكن لاحظتم فيه العلم، والفضل، وحسن القراءة، والأدب، وحسن الأداء، ما شاء الله خطيب دمشق بلا منازع)). وحدّثنا شيخنا رحمه الله قائلًا: دُرر الشام الآن أربعة، كلهم عندكم في الرياض، فاحرصوا عليهم: عبد الرحمن الباني، ومحمد بن لطفي الصباغ، ومحمد أديب الصالح، ومحمود شاكر، هؤلاء لم يبق في الشام مثلهم. [20] وكان شيخنا الصباغ يقول عنه: إنه من كبار المهذبين، ونادرًا أن يواجه أحدًا بما يسوؤه، ولو خالفه.
    التواضع: فأما مع أقرانه ومن قاربهم فقد تقدم شيء منه ضمن موقف سلامة الصدر، وقد سمعته يقول لما قرأ عليه الشيخ عادل الكلباني طرفًا وطلب منه الإجازة: نحن نأخذ عنك! أنا ما عندي شيء! إلا أنه طال بي الأجل قليلًا، إخواني وأقراني رحمهم الله سبقوني إلى رحمة الله، فخلّوا الدرويش هذا! (فما صفي في الميدان إلا حميدان)! وإلا بكري الطرابيشي مثلُه مثل غيره! وقال معناه في اللقاء ضمن برنامج القراء في قناة المجد، وكان يكرر هذا المعنى. ولما زار شيخنا العقيل رحمهما الله سنة 1426 كان يكرر: أنا هدفي من الزيارة أن تدعو لي، نريد دعوة من أهل الصلاح من أمثالكم، وأنا أحب الصالحين ولستُ منهم! وقال لي الشيخ علي سيف إنه حاول أن يقبّل يد الشيخ العقيل أول دخوله عليه -ولم أكن وصلتُ المجلس- ولكن الشيخ العقيل ما مكّنه! وقال لي الشيخ علي سيف: لما زار الشيخ أحمد القلاش في المدينة -وهو يكبر شيخنا بأكثر من عشر سنين- طلب الشيخ القلاش الإجازة، فامتنع شيخنا، وقال: أنت أكبر مني! فأصر القلاش، وأصر شيخُنا، فقال القلاش: لا تخرج من عندي حتى تجيزني! فقال شيخنا: أوافق أن أجيزك بشرط أن أقبّل يدك! وامتنع الشيخ القلاش! وبعد وقت من التمنع قال له مازحًا: تريد تقبل يدي أو تعضها المهم أجزني! فقبّل يده وأجازه! ولما سلم عليه للوداع كلاهما حاول تقبيل يد الآخر ومغالبته بذلك! قلت: تواضعه ليس مع الكبار من أقرانه فقط، بل مع طلابه أيضًا، وأمرُه بارز ظاهر للعيان، وهو يكرر القول: إني أستحي أن أقول إن فلانًا وفلانًا من تلاميذي، فهم كانوا تلاميذنا بالأمس، ثم صاروا إخواننا، وبعضهم صاروا شيوخنا! وقال لنا: كما كان الشيخ محمود شاكر المصري يكتب لأحمد راتب النفاخ: إلى تلميذنا النفاخ. ثم صار يكتب: إلى أخينا النفاخ. ثم صار يكتب: إلى أستاذنا النفاخ. ومعروف أنه يطلب دائمًا من تلامذته الدعاء. وكان يرفض تقبيل يده، معروفًا بذلك، وقال لي الشيخ فواز الدوماني: كان يقول لنا نحن الطلاب عنده: لو جاز أن أقبل أياديكم لقبّلتها، لأنكم يد الله التي امتدت إلي بالرحمة، فبكم أرجو أن يرحمني ربي! قلت: ومرة غافلتُه وأنا أودّعه آخر مجلسٍ في دبي وقبّلتُ يده عند مصافحته، فقبض بيدي، وقال: هذه من أين أتيتَ بها؟ فقلت له: هذه ليست (تَلْبَسة) المشايخ -كما يقال في الشام-، بل فيها آثار عن الصحابة فمن بعدهم، ولابن المقرئ جزءٌ في تقبيل اليد، وأنا أحبكم في الله، و.. هنا باغتني الشيخ وقبّل اليد التي في يده، فأيُّ تواضع كان عند شيخنا الجليل! ويقول تلميذه الشيخ عدنان سعد الدين: إن الشيخ كان يرفض رفضًا قاطعًا عندما يدخل المسجد أن يقوم أحد من طلابه بخلع حذائه، ويؤكد عليهم في هذا، وينحني مع ما عنده من آلام في المفاصل، ويخدم نفسه بنفسه. وقال لي الشيخ علي سيف: ما رأيتُ في حياتي مثل تواضعه هو والشيخ أحمد القلاش، كان أعجوبة في ذلك، وبعيدًا عن القراءة لما صحبته وسافرتُ معه رأيت العجب الذي ما شهدت مثله، وأخبرني الشيخ فواز العتيبي أنه ذهب للشيخ ليقرأ عليه، فأكرمه، وأخذه للجامع بسيارته، وعزمه إلى بيته، ودخل المطبخ، وعمل له الإفطار بنفسه! وهو في حدود السادسة والثمانين!
    محبته لتلاميذه: كان كثير الاحترام لهم، معتنيًا بتربيتهم، ويساعد المحتاج منهم، وربما ساعدهم في شراء مسكن أو في مهر الزواج، وكان يسأل عن أحوالهم المادية والعلمية وعن أعمالهم بالتفصيل، ليعرف من يحتاج منهم للإعانة، أو التوجيه، ويحفظ ذلك، ومن اهتمامه بهم أنه يحفظ مواقفهم في القراءة عليه! ويسأل عنهم وعن أخبارهم باستمرار. وقال لي ابنه المهندس ربيح الذي كان معتمد والده في دمشق: كان يعامل تلاميذه وكأنهم أبناؤه، أو أكثر من أبنائه، وكان يقول لهم: أنتم أبنائي. وصار في النهاية يقول لبعضهم: أنتم أشياخي. وكان رحيمًا بهم، ولا سيما الغرباء، وإذا شعر أن أحدهم قارب سفره فإنه يضغط على نفسه وراحته ويعطيه وقتًا أكثر، ولا يحب أن يتكلف أو يتأخر. قلت: وكان يثني جدًّا على كبار تلامذته، ويصرح بالاغتباط بهم، مثل المشايخ عبد الهادي الطباع، وحسام السبسبي، ومحمد شقرون، ووئام بدر، وعبد الله الأبرش، ومحمد بوركاب، وعصام عبد المولى. وتقدم كلامه عنهم أنهم كانوا طلابه، ثم صاروا إخوانه، ثم صاروا شيوخه. وكان مسرورًا بانتشار طلابه في البلدان: في الجزائر، والمغرب، وليبيا، والإمارات، والكويت، والرياض، وطرابلس، وغيرها. وكان معروفًا بدقة المواعيد سواء في مسجده، أو مواعيد الإقراء، بل هذه سمة في حياته. ومن صفاته التي لاحظتها: رحمته بطلبة العلم الصغار ومن هم من أوساط الناس في الإقراء، ولا سيما الغرباء والفقراء، مع الدقة وعدم التساهل، ولكن إذا جاءه أحد من كبار الناس أو المشهورين وتفرّس أن عنده شيئًا من الاعتزاز بالنفس فإنه يشد عليه في الملاحظات أكثر، ولا يتسمح معه بأدنى ملاحظة، وربما تشدد في إجازته ولم يقبله، ورأيتُ من حكمة ذلك أن يعطي درسًا عمليًّا يجبر الرجل على التواضع عند الطلب، وأن يعطي الأمر حقه بما يتناسب مع حاله، ولا أرى أن أذكر أسماء عدد من المشاهير والمختصين الذين فعل معهم الشيخ هذا. وكان يوجه الطلاب للاهتمام بالعلوم المتنوعة، وبالعلوم الكونية، ويقول: هكذا كان يوصي مشايخنا. وكان يقول: من نحو خمسين سنة إذا أردتَ أن تنشئ مسجدًا لا تكاد تجد مهندسًا مسلمًا يخططه لك، حتى الأوقاف تستعين بمهندسين نصارى، فصار عندنا فكرة مع زملائي أن نسد حاجة المسلمين في هذه الأمور والعلوم الكونية، فوجهنا أولادنا لذلك، وبحمد الله نشأ من أولادي ومن شباب المسلمين من صار بارعًا في ذلك الأمر[21]. وقال لنا مرة: الشافعي رحمه الله يقول: العلم علمان، علم أديان وعلم أبدان، والآن صار علم الطب فرض كفاية على المسلمين، كنا في الشام أكثر الأطباء نصارى أو شر منهم، والآن بفضل الله صار عندنا أطباء يزيدون عن الحاجة، وابني سميح ولله الحمد يحاضر في العالم كله، وأخوه معاذ بحمد الله على درجة عالية أيضًا، كتبت عنه جريدة البعث أنه أجرى عملية في دبي لم يحصل مثلها في الشرق الأوسط. فقال ابني لما سألته: ليس بالشرق الأوسط فقط، بل لا يوجد من عملها إلا طبيب آخر في فرنسا. فالحمد لله اختلف الوضع الآن، والوضع أحسن. ويتصل بهذا أنه كان يقول فرحًا: إن قراءة القرآن الآن عامة، والإتقان أفضل، تجد البنغالي والأعجمي يقرأ القرآن بإتقان، وتجد في البلدان مثل فلسطين تخرج في دورة واحدة 15 ألف حافظ، ونحن في وقتنا لم يكن يحفظ ويقرأ في الشام إلا بضعة أفراد، ما كنا إلا ثلاثة أو أربعة نطلب القراءات! ولما أخبرتُه في دبيّ عن جهود إقراء أمّات كتب الحديث في الكويت سُرّ كثيرًا واستبشر، وقال: جيد أن تنتشر هذه الأمور، والحمد لله الآن بدأت تنتشر قراءة القراءات والحديث، وفي أيامنا ما كان يشتغل بالقراءات في الشام إلا اثنان أو ثلاثة، والآن النساء كثيرات، فضلًا عن الرجال والحمد لله. وقال: كنا منذ صغرنا محافظين على الجماعة، ولم يكن يأتي المسجد سوى الكهول، فالآن وضع الشباب مع الجماعة يُثلج الصدر، فالصلاح الذي في الشباب الآن لم يكن موجودًا في دمشق. وهذان مثالان من أمثلة كثيرة لحرصه على الناس، وحمل هموم الأمة، تلك الخصلة التي لم تفارقه طوال حياته. التشجيع: كان الشيخ يقدّم بعض تلاميذه للإمامة، ويشجّعهم، ويثني عليهم، ولما قرأتُ عليه بعض القرآن في دبي وودعته للسفر كان يقول لي: لا بد أن تأتيني في دمشق وتكمل علي، وأنت قراءتك كذا وكذا! يجبر خاطري ويشجعني! أذكر استشهادًا بلطفه وتشجيعه: أني لما زرته الزيارة الأخيرة في دبي كان يكرر للإخوة الذين في مجلسه هناك: هذا من أماثل إخواننا (!) الأفاضل أهل العلم والفضل والخير في الشام، ونعرفه من قديم، وهذا كذا وكذا.. كله من باب التشجيع مع تواضعه وتحسينه للظن، وليتني أكون كما ذكر، وأستغفر الله تعالى. ومن تشجيعه أنه كان حريصًا على دفع طلابه المتقنين للإقراء، وينوّه بهم، ومنه سعيه أن يُستفاد من تلميذه الكبير الشيخ وئام بدر، فكان يقول لنا مرات: هو يحتاج لمن يساعده ليقوم بالأمر، لا بد أن يُدفع[22]، وقال لي في دُبَيّ: هو أكثر من تعبت عليه من تلاميذي، وهو أمثل من قرأ عليّ، وهو عالم، واستفاد من أخينا الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، وأي واحد يقرأ عليه فأنا أُجيزه بعد أن أسمع قراءته سليمة، وحُثّوه أن يقرئ الناس وأن يفيدهم. ولما زرت الشيخ في دبي كان يقول: أبلغ الشيخ عبد العزيز بن قاسم أن وصيتي أن يفرّغ الشيخ وئام ولو يومين في الأسبوع ليُقرئ، فهو مفخرة أهل الرياض في القراءات! وآخر ما ودّعته قال لي: أشدّد أن تكلّم الشيخ ابن قاسم في ذلك. وفي إحدى لقاءاته مع الشيخين الباني والصباغ أوصاهما به وصية كبيرة. فقال الشيخ الصباغ: إذا أنت راضٍ عنه فنحن راضون عنه! وقال للشيخ العقيل في مجلسه سنة 1426: الشيخ وئام من فضل الله أنه جمعني به على القرآن، وأسأل الله أن يتقبل ذلك، وإن شاء الله يفرِّج عني بهذا العمل! وإذا سئل في الإمارات كان يشيد كثيرًا بتلميذه الشيخ محمد شقرون، وفي الكويت بالشيخ السبسبي، وفي الجزائر بالشيخ بوركاب، وغيرهم، وثناؤه على هؤلاء متكرر، وبعضه صرَّح فيه شيخنا على الفضائيات،أبدى فيه وأعاد، وسمعتُه يقول عن كلا الأولين وعن الشيخ وئام بدر: إنه يخلفه بعده! ويقول الشيخ شيرزاد: كان أحيانًا يقطع قراءتي، ويقول لي: إني أحبك في الله. وأخبرني الشيخ علي سيف أن شيخنا عمل هذا مع الشيخ مصعب الزغيبي.


    وآفة العقلِ الهوى ، فمن علا *** على هواه عقله ، فقد نجا
    ابن دريد

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    Lightbulb رد: سيد القراء وزينتهم - بَكْري بن عبد المجيد الطَّرابيشي / بقلم الشيخ محمد زياد التك

    الوفاء:
    كان رحمه الله دائمًا يلهج بذكر مشايخه وأفضالهم عليه، وينشر مناقبهم، وقصص نبوغهم، وقلَّ أن يمر مجلس عام دون الإشادة بأحدهم، وفي بعضها يقول: أريد أن أعرّف الناس بأخبارهم. وكان كثير الوفاء والتواصل مع أحبابه، ويسأل عنهم دائمًا، فإذا جاء الرياض مثلًا تواصل معهم، وبادر بعضهم بالزيارة، ولا سيما المشايخ: عبد الرحمن الباني رحمه الله، ومحمد بن لطفي الصباغ، وكذلك يسأل عن الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم، ويلبي دعواته دائمًا، وزار سماحة الشيخ عبد الله العقيل مرتين، وكان مسرورًا بزيارته[23]، وزار الشيخ ابن باز من قبل، والمشايخ: محمد أديب صالح، ومحمود الميرة، ومحمد عبد الحميد الإسكندري، وغيرهم. وفي دمشق كان وَصولًا مع أصحابه، وكان مثلًا يأخذ جاره الشيخ عبد الغني الدقر بسيارته يوميًّا للنزهة، ويتزاور مع الشيخ عبد القادر الأرناؤوط[24] -وقد سمعته يثني عليهما، رحم الله الجميع- ومع الشيخ محمد كريّم راجح، ويتواصل مع الشيخ زهير الشاويش[25] في لبنان، وزاره أكثر من مرة. ومن مواقفي الخاصة معه: وافق أن اجتمعت به قَدَرًا في رحلة جوية من دمشق إلى الرياض، ولما وصلنا قمتُ بأقل ما يكون من واجب خدمة الصغير للكبير، والتلميذ لشيخه[26]، وكان ينتظر في المطار الشيخ عايض الدوسري، وساعد في تسهيل إجراءات الشيخ، وانتهى الأمر معنا، لكنه لم ينتهِ عند شيخنا! فكان عندما أزوره يقول: أنت الذي خدمتني ذاك اليوم في المطار! وكيف حال ذاك الشيخ الذي كان خَدَمنا معك؟ كرر هذا الأمر عدة مرات ولمدة سنوات، فتأملوا في هذه الأخلاق الرفيعة! واتصلتُ هاتفيًّا بالشيخ سارية بن عبد الكريم الرفاعي -حفظه الله وبارك فيه وفي جهوده- لأسأله عن موقفه مع الشيخ في قصة شعبة التجنيد مع ابن شيخنا: معاذ، فقال لي: أنا نفسي لا أتذكر التفاصيل، فالقصة من 35 سنة تقريبًا، وبالأصل ما عملتُ معه شيئًا، لكن هو كان دائمًا يذكر لي القصة، ويشكر لي، ويقول إنني تفضلت. وأستغفر الله، ما عملتُ له شيئًا! وكان وفيًّا مع تلامذته، يسأل عنهم وعن أخبارهم، وإذا لقيه أحدٌ منهم سألهم عن المشايخ الذين يعرفهم، وكم مرة حمّلني سلامه للمشايخ في الرياض. وقال لي الشيخ علي سيف: كنت لا أتصل عليه مرة إلا ويسألني عن زميلي الشيخ مصعب الزغيبي، ويقول: كيف مُيَسَّر؟ هكذا كان يسميه، وآخر ذلك قبل ثلاثة أسابيع من وفاته رحمه الله. الإنفاق: كان الشيخ كثير الإنفاق والسعي في وجوه الخير، واشتهر في بناء المساجد، والمساكن للفقراء، وتزويج الشباب؛ ولا سيما من طلبة العلم، وكان يساعد طلابه، واشترك في ذلك مع بعض التجار والمشايخ؛ كما تقدم بعضه. وأخبرني الشيخ فواز الدوماني: إن الشيخ ساعد أحد طلابه واشترى له بيتًا على العظم في إحدى ضواحي دمشق، وآخر قام بإكساء بيته، وقال: أنا أهداني الشيخ لمهري خمسين ألفًا، ولا أتحرج من نشر هذا، وبسببه تمكنت من المجيء للكويت، وآخر ممن كان يساعده طَلَبه وتكفل بسفره للإمارات، وغير ذلك. وقال الشيخ كريم راجح: الشيخ بكري رحمه الله لما كنا نطلب منه لشيء كان يعطينا. وقبل أن يتوفى شيخنا وزع جميع ما لديه على ذريته، رحمه الله تعالى.
    الحرص على الخير إلى الممات:
    تقدم أنه قبيل وفاته أوقف الإقراء العام إجمالًا إلا لمن كان سبق أن بدأ في قراءة عليه، وقال إنه محتفظ ببعض التلاميذ لأنه حريص جدًّا أن يموت وهو يقرئ! رحمه الله. وفي دعوةٍ عند الشيخ ابن قاسم كان شيخنا يعدد ما أنعم الله عليه، ويقول: بحمد الله أعيش عيشة أحسن من الملك (فلان)، ورأيت من العز كل ما أردت، وتفردت من بين أقراني، وأولادي بحمد الله متفوقون في مجالاتهم مع صلاحهم واستقامتهم، وكذا.. وكذا، فقط بقي لي شيء واحد أتمنى أن تساعدوني فيه. فقلنا له: ما هو؟ فقال: أن تدعوا لي بحسن الخاتمة! وأجهش بالبكاء. ومن أواخر أخباره يقول تلميذه الشيخ شيرزاد -آخر من ختم عليه لحفص- وهو ينعيه: ((ولا أنسى بكاءك المرير يوم وصلنا سورة الممتحنة وأنت تقول لي: أفنيتُ أكثر من سبعين سنة من سني عمري التسعين في تدريس القران، وأخشى أن لا أجتاز القنطرة الأخيرة، فأسألك بالله يا أخي أن تدعو لي وتوصي من تظن به خيرًا أن يدعو لي بحسن الختام)). وقال تلميذه الشيخ شقرون: كان يطلب من كل واحد من طلابه أن يدعو له أن ينجح في هذا الامتحان! وكان دائمًا يصرح أن أمنيته حسن الخاتمة، ويُكثر الدعاء بذلك، نسأل الله أن يكون حقق أمنيته، وأن يرزقنا حسن المحيا والختام والعاقبة.
    خشية الله وسرعة الدمعة والعبادة:
    كان شيخنا معروفًا برقة قلبه وحضور دمعته، يتأثر عند قراءة القرآن عليه، وعند ذكر بعض المواقف، ورأيتُه يبكي ويتأثر مرات، منها لما حكى قصة وفاة الشيخ عبد الحكيم الأفغاني، ورؤيا الشيخ المارديني فيه، ومنها لما طلب الدعاء له بحسن الخاتمة، ومنها: زرناه مرة مع الشيخ ابن قاسم في المنزل الأخير لابنه حمزة في الرياض، وطلب أن نبقى عنده لنشهد ختمة أحد الفضلاء عليه من مصر، فلما ختم القارئ قرأ شيخنا قصيدته التي نظم فيها سنده، ولما وصل آخرها وفيه الدعاء بالمغفرة بكى شيخنا، وواصل قراءته وصوته يتحشرج بالبكاء. وقال لي الشيخ علي سيف: كنا مع شيخنا في زيارة الشيخ المعمر أحمد القلاش رحمهما الله في المدينة، وفي آخر المجلس دعا الشيخُ بكري، وصار يبكي بكاء الطفل الصغير وهو يدعو: اللهم احشرنا في زمرة لا إله إلا الله، اللهم احشرنا تحت لوائها. ونحو ذلك. وأخبرني أن الشيخ كان يبكي كثيرًا عند ذكره قصة خروجه مع المشايخ إلى الزبداني، وما حصل لهم من مرح وسرور زائد، ثم لما طلب الشيخ حسن حبنكة من الشيخ كريم راجح أن يقرأ، فقرأ الآيات: ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين﴾، أنه تأثر تأثرًا بالغًا، وقال: شعرت كأنها نزلت الساعة! وأننا فعلًا كنا في اغترار وعلو، وشبه فُتِنّا، وبقيت الحادثة يتأثر بها الشيخ دائمًا. ومنها قصته التي يخبر بها: أن نصرانيًّا شمّاسًا كان يضاحك الناس، وأنه كان يأتيهم المحل، فيقسو عليه في التعامل ويعبس بوجهه، فرآه مرة والده الشيخ عبد المجيد، فلما خرج قال له: لماذا تعامله هكذا؟ فقال: هو شمّاس على غير ديننا! فقال له: وهل ضمنتَ آخرتك أنت؟! فكان شيخنا كثيرًا ما يذكر القصة ويتأثر، ويقول: من يومها أنا خائف، وهذه الكلمة تخوفني إلى أن أموت، ويدعو أن يحفظ الله عليه نعمة الإسلام، وكان درسًا مؤثرًا. ومسألة بكائه عند الإقراء معروفة عند طلابه، فقد كان ينصت في خشوع وتدبر ويقظة، فيتأثر وتنهمر دموعه في صمت، وليس استماعه لمجرد الرد والتصحيح للطلاب أو تمرير السَّنَد. وخشية الله كانت جلية فيه، وكان حريصًا على صلاة الجماعة في المسجد إلى آخر حياته لجميع الفروض، صيفًا وشتاء، مع وجود مسافة إلى بيته، وكونه في مرتفع يشق على من في سنّه الصعود والنزول، وكونه يعاني من أمراض المفاصل[27]، رحمه الله تعالى. وأما قراءة القرآن فقال لي الشيخ علي بن سيف إنه سأل شيخنا مرات عن ورده اليومي، فقال: أقرأ يوميًّا خمسة أجزاء أو ستة، وأحيانًا عشرة. وهذا سوى الساعات التي يُقرأ عليه فيها يوميًّا! فكان مع القرآن طوال يومه قراءة وإقراء، بل ذكر لي الشيخ فواز الدوماني أن الشيخ صار يختم كل يومين بعد الكسر الذي أصابه أواخر حياته، وذكر الشيخ كريم راجح أنه كان في رمضان يأخذه بسيارته إلى المتنزهات ويقرأ يوميًّا عشرة أجزاء، في المتنزهات وفي السيارة! وقال لي الشيخ علي سيف: كان يقوم ما لا يقل عن ساعتين كل ليلة، وأولاده يتصلون عليه قبل الفجر ويجدونه مستيقظًا، ومرة رآه الشيخ مصعب الزغيبي متعبًا وهو يقرئ بعد الفجر، فسأله عن السبب، فأجاب عن حسن نية إنه استيقظ الواحدة ليلًا وما قدر أن ينام، فصلى حتى الفجر!
    تتبع الحق إلى الختام: كان شيخنا رحمه الله مع تفقهه على المذهب الحنفي آخذًا بالدليل فيما يخالف مذهبه، وصرَّح لنا بذلك مرارًا، ورأيت له مواقف يرجع فيها لقول تلاميذه إذا رأى عندهم علمًا فيها ليس عنده، وهذا من كمال تواضعه وتجرده للحق. ومن ذلك: دعاه الشيخ عبد العزيز بن قاسم للإفطار في رمضان، وكان من أصناف المائدة لحم الإبل، وبعد الإفطار بوقت قال الشيخ ابن قاسم: إن أحببتم الوضوء لنتجهز لصلاة العشاء؟ فقال شيخنا إنه متوضئ ولا يحتاج للتجديد، فأخبره أن مما أكله لحم إبل، فقال شيخنا: نحن عندنا في المذهب ليس ناقضًا للوضوء. فقال له الشيخ ابن قاسم: لكن ثبت ذلك في حديث صحيح صريح. وتكلم في ذلك، فمباشرة قال شيخنا بكري: ما انتبهت لهذا الحديث! وقام من فوره لتجديد الوضوء، وقال ما معناه: جزاكم الله خيرًا، علمتمونا ما لم نكن نعلمه، وأنتم علماء منكم نستفيد، وتصححون لنا.. الخ! ومرة حصل نقاش بيني وبين الشيخ في مسألة تقبيل اليد، وكان شيخنا يشدد في ذلك، فلما أخبرته أنها ثبتت عن جماعة من السلف مباشرة قبّل يد أحد الطلاب عنده. وفي نفس المجلس في دبي قال لي: حديث الجارية لا أرى أن يُشدَّد على الناس به، ويُسأل السؤال الذي فيه، فهو لم يرد عن الصحابة إلا عن تلك الجارية. ثم سألني: هل ورد مثل ذلك عن غيرها؟ فقلت له: أما السؤال به فهو ثابتٌ في حديثها من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيح مسلم، وذكر الذهبي في كتاب العلو أنه بهذا الحديث ثبتت مشروعية السؤال به، وأورد آثارًا كثيرة ثابتة عن الصحابة بمؤدّاه، وصح عن بعضهم كابن مسعود. فأقر الشيخ، ولعله قال بتواضعه المعهود: أنتم أعلم بالحديث! ثم قال: الحاصل نجتمع فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه. شاهد الأمر من هذه الحكايات هو سؤاله حتى لصغار تلاميذه، وتتطلبه للمعرفة، وعدم استنكافه عن تغيير ما يعرفه لما يجده أقوى. ويذكر بعض طلابه أنه كان يطلب منه بحث بعض المسائل الدقيقة في القراءات وإفادته بها.
    ومن تجرده للحق وتتبعه له تركه للتصوف الذي دخله وقتًا قصيرًا في شبابه، وله ذكريات وأخبار في ذلك، أسجل بعضها فيما يلي:
    بين الصوفية والسلفية، مواقف وحكايات: كان شيخنا يدعو الله أن يهديه للحق والصواب واتباع السنة، ومنه في أول إجازةٍ نعلمه كَتَبها، وهي إجازته للشيخ عبد الهادي الطباع، حيث كتب أوائلها: ((ونسأله أن يوفقنا لاتباع سنته والاهتداء بهديه عليه صلوات الله وسلامه)). وسمعتُ شيخنا يقول لشيخنا العقيل رحمهما الله سنة 1426: ((الآن في دمشق تغير الوضع بالنسبة لنظرتهم للسلفية تغيرًا تامًّا، كان عندنا يقولون -حتى في تصانيفهم- الشيخ فلان الحنفي مذهبًا، الماتريدي عقيدةً، النقشبندي طريقةً، كانت هكذا الشام مطلقًا! وأنا لا أنتسب لأي طريقة صوفية، في نشأتي التحقتُ أيامًا قليلة بالطريقة الشاذلية؛ استهواني لها أحد المشايخ[28]، ثم حضرت مع النقشبندية وقتًا قليلًا، ثم لم أستطع أن أستوعب أن يوصل بين الذكر (يعني الرابطة)، وعند الحنفية الذكر بالاسم المفرد (الله، الله) ليس ذِكرًا، ولا يدخل في الصلاة إلا بجملة كاملة: الله أكبر، ونحوها. جلست عند النقشبندية سنة أو سنتين، كنت عند كفتارو -عفا الله عنا وعنه- سنتي 38 و39 ، فما عاد حضرت، ثم نهجت نهج السلفية في دمي: بالنسبة للعقيدة، وبالنسبة لسلوكي، فمسألة (الحَضْرة)، وفي مجالسنا لما تصير حضرة أترك، هذه كافية سُبّة! فوالدي رحمه الله رغم أنه حنفي متمسك لكن كونه نُسب للشيخ عبد القادر بدران اتُّهم بالسلفية، والشيخ عبد الغني الدقر كما أخبرتكم اجتمع مع الشيخ البيطار في عرض الطريق قالوا: انحرف! كادت تكون قطيعة بين الأب وابنه، والآن الفُرقة هذه خفّت كثيرًا)). وسمعتُ شيخنا مرات وكرات؛ في لقاءات عامة وخاصة؛ في سنوات مختلفة؛ يصرّح قائلًا: أنا سلفي العقيدة. وهذا مستفيض عن شيخنا[29]، سمعه منه كثيرون من الأعيان، وقاله مرة بحضرة الشيخين عبد الرحمن الباني ومحمد الصباغ، وقال لنا مرات: من أراد أن ينظر إلى حال العالم الإسلامي فلينظر إلى أسرة الباني: ثلاثة إخوة مشاربهم مختلفة، وأحسب أن أستاذنا الشيخ عبد الرحمن على الصواب. وقال لنا: أنا تأثرت بالشيخ عبد الرحمن الباني في السلفية. وقال لي: أحب السلفية المعتدلة، وهكذا كان والدي، وتعجبني سلفية بهجت البيطار وعبد الرحمن الباني وعبد القادر الأرناؤوط، ولا أرضى الشدة في التكفير، وأنا أحب مشايخ السعودية، خصوصًا الشيخ عبد العزيز بن باز، وكنت أصلي خلفه وأستحسن قراءته، لكن لا أرضى الشدة عند بعضهم. قلت: منهج الشيخ رحمه الله كان حب التأليف بين المسلمين، وعدم المصادمة، وتقريب الحق بصورة لطيفة، وحول هذا الموضوع سمعته مرات يذكر في مسألة التوسل إنه لا يرى وسيلة مشروعة إلا العبادة، ولكن يجب أن نتلطف مع المخالف ونرشده بدل القول: أتوسل بالنبي، أو بجاه النبي، أن يقول: بحبي للنبي صلى الله عليه وسلم.. وهكذا نخرج من الخلاف الذي أضر بالمسلمين. وهكذا سمعتُه يذكر في مسألة حديث الجارية نحوه، فرأيُه أن لا يكون لأجله صدام، وأن يركَّز على الأمور الأكثر توافقًا، وحصل بيني وبينه نقاش في هذا، ذكرته في موضع آخر. وفي إحدى المجالس كان يحدّثنا عن عدم موافقته على بعض ما يراه من الصوفية، ثم قال: لكن أنا عندي جبنٌ في الإنكار! فقال له شيخنا الصباغ: هذا هو الفرق بينك وبين الشيخ الألباني! وضحك الشيخان. وقال لنا الشيخ الصباغ حول هذا الموضوع: من طبيعته أنه من كبار المهذَّبين، ونادرًا ما يواجه أحدًا بما يسوؤه ولو خالفه. وقال لي الشيخ وئام بدر ما معناه: قد يحصل أمامه شيء مخالف لا يرضاه، وطبيعته السكوت وعدم المجابهة، وقصارى الأمر أن يقوم وينصرف، مثل (الحَضْرات)، ومرة قال لي في ربيع الأول أيام احتفالات المولد: هل ستأتي غدًا؟ فقلت: إذا كان هناك تسميع آتي. فقال: تعال واحضر واستغفر الله! ثم قال لي: هل تدري لماذا تستغفر الله؟ قلت: لا! قال: لأنك تتعبد الله بغير ما شرع! وقال لي الشيخ علي سيف: إنه سمع الشيخ مرارًا يقول عن المولد إنه ليس من الشرع. قلت: وفي دُبَيّ لما أهديتُ شيخنا كتابي في الرد على الجزء المفقود المزعوم من مصنف عبد الرزاق قال لي: الصوفية أنا أخالفهم ولكني لم أصطدم معهم، ولا آمن جانبهم، ولكن أمامي يُظهرون الاحترام، وإذا كنت في مجلس لهم وبدأت حَضْرة أو نحوها أقوم وأتركهم، وهم يرونها كبيرة. وقال لي: أنصحك أن لا تصطدم معهم، فقد يؤذونك! ولا تأمن شرهم. وقال عن الذي رددتُ عليه: هذا رأيته، وواضح أنه (صوفي عميق)، وهو عندما يأتي الشام كان دائمًا يزور كفتارو. وقال استطرادًا: لكني أدركت من مشايخ الصوفية بعض الأفاضل، مثل أبي الخير الميداني، وإبراهيم الغلاييني، كان يمثل أخلاق السلف الصالح[30]. وكان كثيرًا إذا ما تكلم عن اتهامه واتهام أبيه بالوهابية: يذكر القصة حول اتهام الهندوسي المرابي بالهندوسية، وقصة اتهام النصراني فارس الخوري بالوهابية، وموقف الناس من الشيخين بهجت البيطار وعبد الغني الدقر بسبب تهمة الوهابية[31]. وكان يصرح باستنكار قراءة كتاب الفتوحات المكية لابن عربي، وقال لي الشيخ علي سيف: إن شيخنا أخبره، أنه سمع الشيخ سعيد الأفغاني -وكان درّسه في الابتدائية- يقول: إسلام زائد ابن عربي يساوي لا إسلام! وقال لي أيضًا: قال شيخنا: كان الوالد يقول لي: هؤلاء الدراويش لا تحتك بهم وابتعد عنهم، وأحمد الحارون كان يُعتقد فيه الصلاح، ولكن عنده شطحات. وذكر قصته مع السيارة التي نفد وقودها، ففتح غطاء الخزان، و.. (بال فيها) فمَشَت! وضحك شيخنا! وفي مجلس عند الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم في الرياض بتاريخ 23 رمضان 1423 أفاض في الكلام عن التصوف والبدع، وقال حرفيًّا: ((أنا سلفي من حيث العقيدة، ومن حيث المذهب حنفي)). ومما قال: قد أخالف المذهب في مسائل حسب الدليل، كالقراءة خلف الإمام في الصلاة الجهرية. وقال: الحضرات الصوفية ليس لها أي صلة بشيء من قرون الخيرية، وكنت أذهب لحَلَب فقط حتى أرى كيف يقفز أهل الحضرة كالراقصين! وقال: مقام سيدي خمار في الشريبيشات بشارع خالد بن الوليد بدمشق، قصته أن اثنين من الأتراك مات حمارهما، ودفنوه، وبنوا عليه، ولا يلفظان الحاء إلا خاء، فسُئلا عن المدفون؟ فقالا: دفن خمار. ثم صار مع الوقت: سيدي خمار! وقال: أنا أنكر القضيب والجوق قبل صلاة الجماعة، بناء على المذهب الحنفي، وكذا الجهر بالذكر بعد الصلاة، وإقامة مجلس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من البدع في المساجد، ومرة مُنعت [الحضرة] في مسجدنا[32] فأُشيع عني في اليوم التالي أنني وهابي، وأنني منعت الناس من حضور مجلس الذكر في مسجدي، ولم يضرني ذلك، وإن كانت آثاره امتدت سنوات كثيرة. وكذلك اتُّهم أبي من قبل، ولكنهم لم يؤذوه، لأنه كان بارًّا محسنًا مستغنيًا عن الوظائف والناس، ويحترمه جملة العلماء. وقال: مرض الشيخ الخزنوي وجاء إلى مستشفى العطار القريب، فصار مريدوه يملؤون مسجدنا، وكنت آنذاك أصلي قاعدًا لأجل المفاصل، وأسجد على وسادة، فأشاع الخزنوية أن صلاتي باطلة، فأقاموا الصلاة في المسجد دون سؤالي! وقال: شاركت في بناء مساجد كثيرة ولله الحمد، ثم إن الأوقاف منعتني من جمع التبرعات لأي مسجد، واتهمنا بعضهم أنني آخذ المال من الوهابية. وقال لنا في مجلس آخر بتاريخ 18 صفر 1425 في معرض كلامه عن الشيخ بهجت البيطار: نحن تعرضنا للأذية أيضًا للسلفية، لكن لم أُعرف بالسلفية واتُّهمت بها، وأنا سلفي ليس بالاصطلاح المتشدد. وتكلم الشيخ بكري عن مجاملة علماء دمشق للمتصوفة، ثم قال: مرة كنت بالميدان، وسمعت واحداً من أولئك قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم له ذات وله صفات، فنحن نحبه لذاته ولصفاته، وحب الذات مقدم على حب الصفات! فأنا ماذا سأقول وأحكي! كنا في عزيمة بها مشايخ كبار ساكتون! فقلت: الذي في القرآن: محمدٌ رسول الله، فوردت صفته مع اسمه صلى الله عليه وسلم، وما أحد من العلماء قال إن له ذاتًا وصفات على تفصيلك من 1400 سنة! وما أحد من المشايخ تكلم! وقال لنا في مجلس آخر بتاريخ 19 ربيع الأول 1426: زرتُ مرة أحمد كفتارو، فكان ينقل عن بشير الباني أنه حج وتأخر، فنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم دق على كتفه وقال: ارجع لشيخك! قال: ووضع جماعة كفتارو لا يرتضيه إنسان عامي، مثل قضية الرابطة! وقال في مجلسٍ قبله: كان من أثر الإخوان في الصوفية أن عدّلوا في أفكارهم وصححوا فيهم نحو الصواب من حيث لا يشعرون. قلت: ومن نافلة القول هنا أن الله جمع الموافق وأكثر المخالف على محبة شيخنا، لأخلاقه العالية، وصلاحه الظاهر، وتلطفه مع المخالف، واعتداله، فكان العامة يحبونه ويقدرونه، ومنهم أهل التصوف الخفيف، بل ومن غيرهم! وتجلى هذا في وفاته وبعدها، حتى إن الصوفي علي الجفري -على حاله المعروفة- كان ممن شارك في جنازة الشيخ وإلقاء كلمة في مدحه، وصدق الله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدًّا﴾.
    فوائد متنوعة:
    سألتُ الشيخ عن الرأي بأن الضاد تقرأ ظاء، فقال: كل من تلقيتُ عنهم يقرؤونها ضاد. وقال لنا: كلامهم مردود عليهم، وسبق أن أثارها الشيخ الكافي في دمشق، واشتد عليه شيخنا الحلواني، وحصلت بذلك قضية وانتهت، وهؤلاء أخذوها وفهموها من الصحف، وأما بالتلقي فلا أعرف أحدًا من مشايخنا قرأ بقولهم. وسمعته يشدد في إنكار قلقلة النون الساكنة أواخر الآيات. وكان رحمه الله مهتمًّا بمسألة الوقف والابتداء، ومتميِّزًا في ذلك، ومثله في إعراب وتوجيه القراءات، ولا يتلكأ في ذلك.
    سمعت الشيخ يقول: مسألة: ﴿إنما يريد الله لُيذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا﴾ فالله جنّب رجس الملك ووراثته عن أهل البيت، فخرج بنو أمية -ولا أقول إلا: رضي الله عنهم- وحوّلوا الملك عن آل البيت، فهذا تكريمٌ من الله لأهل البيت، ولا أعلم من الناس أكثر ضررًا على الإسلام من الشيعة. قلت: وكان شيخنا أحد الموقعين على بيان رابطة علماء سوريا حول إضعاف المعاهد الشرعية والتحذير من التغلغل الإيراني الرافضي في بلاد الشام. (نشرته مجلة الراصد)
    كان شيخنا يردد: الحمد لله جعل رزقي تحت ظل تجارتي، وأغناني الله عن الناس، وبحمد الله لا يستطيع أحد أن يقول إن له عليّ مِنّة ومساعدة مالية.
    أخبرني الشيخ علي سيف أن الشيخ كان يكرر: كنت أسمع الوالد يردد قول الشاعر:
    وعند الشيخ كتبٌ من أبيه
    مجلدة ولكن ما قراها
    كان الشيخ رحمه الله معروفًا بدقته في سائر شؤونه، ومنها مواعيده، وسمعته يخاطب شيخنا ابن قاسم قائلًا: بإمكانك أن تضبط ساعتك على وقت دخولي المسجد للإقامة! وكان معروفًا بالعصامية والهمة العالية التي لم تفارقه إلى وفاته، ويقول الشيخ شيرزاد: كان يبث فينا روح الشباب وهو في سنّه العالية! وكان يستغل كل ما لديه في الخير، ولا تعيقه العوائق، بل يحاول الإفادة منها، وكتب لي الشيخ فواز الدوماني: أتذكر أن الشيخ رحمه الله قال لي بعد العلاج والعملية الجراحية في حوضه بعد الكسر: إن وقت قراءة القرآن قد زاد، حتى صار يختم كل يومين، وليس هذا من عادته. ثم عقب: كان التجار يقولون: (الدكان بِدُّو رِجْل مكسورة) وأنا أقول: القرآن بدو رجل مكسورة! وكان يحمد الله على هذه النعم. قلت: ومر معنا أن الشيخ بعد أن نُكب في أرض دمّر رجع إلى الصفر، واجتهد إلى أن تجاوز النكبة والديون الكبيرة بعد عشر سنوات من الاجتهاد دون الاستعانة بمخلوق، ثم لم يترك أرضه التي خطط أن تكون حيًّا نموذجيا، فعاد وأنفق وشارك في بناء سبعة مساجد فيها! ومن همة الشيخ العالية أنه ما فتئ يسعى في إنجاح مشروعه في تطوير الجمرات، دون كلل أو ملل، على مدى أربعين سنة! وكان جل من يقابله -ممن يعرف له صلات في السعودية- يطرح عليه المشروع من جديد لعله يوصله لمن يقوم به، وكنت أراه في لقاءاته مع شيخنا ابن قاسم مهتمّا بالموضوع كأنه يطرحه للمرة الأولى، وأعطاه كتابًا مفصَّلا لإيصاله لبعض المسؤولين، وكان يتابعه ويسأل عن المستجدات فيه! وما عرف اليأس طريقًا إلى قلبه رغم أنه رُدَّ في وقت من الأوقات، رحمه الله.
    كان شيخنا رحمه الله يؤكد على وظيفة القراء في العالم الإسلامي، وأن عليهم مسؤولية كبيرة، وتحملوا أمانة عظيمة، وأن الله اختارهم وسخّرهم لنقل الدين وحمل رسالة القراءة والإقراء لمن بعدهم، وأن الله حفظهم بالقرآن وحفظوا القرآن، فهم على منزلة عالية أكرمهم الله بها واختارهم لهذه المهمة، فنقلوا القرآن بدقة، ويذكر قول الشاطبي:
    جزا الله بالخيرات عنا أئمةً
    لنا نقلوا القرآن عذباً وسَلْسَلا
    سئل شيخنا في لقاء مجلة الحرس الوطني (العدد 248): ما أفضل طريقة لحفظ القرآن العظيم؟ فقال: هناك عموميات أساسيات في حفظ القرآن وغيره من العلوم،
    أولًا: لا بد من الجهاد والجد والدخول في باب قوله تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾.
    ثانيًا: ترك المعاصي، وقد شكا أحد الأئمة ذلك لشيخه فقال:
    شكوتُ إلى وكيع سوء حفظي
    فأرشدني إلى ترك المعاصي

    وأعلمني بأن العلم نورٌ
    ونور الله لا يُهدى لعاصي
    والطريقة لحفظ القرآن الكريم قد تختلف حسب إمكانيات شخص وآخر، فقد سمعنا بعض الناس حفظ القرآن بشهر والله أعلم، وآخر بسنة، وآخر بسنوات، وكلٌّ في ذلك مأجور. والشيء الذي تعودنا عليه أننا كنا نحفظ الربع ونسمعه لشيخنا، فيتلقاه منا ويصححه، ثم بعده الربع الثاني، ونجمع هذه الأرباع ونكررها مرتين في الأسبوع إن لم يكن أكثر، إلى أن يكرمنا الله بالحفظ الصحيح.
    أجد عبرةً في اصطفاء الله لشيخنا لحمل رسالة القرآن، وكيف أن الله سخّره لهذا الأمر دون سعيه، وجعله يصل إلى شيخ القراء الحلواني بسهولة دون أن تكون له فكرة عن القراءات، ثم شرح له صدر الشيخ خلافًا للمعروف عنه، وهيّأ له من المقدمات قبله ما أعانه: من شدة التأسيس عند الشيخ دبس وزيت، وتسمح العرقسوسي حتى أتم الحفظ، والإتقان عند الشيخ عبد القادر الصباغ، ثم إعطائه الإجازة الخاصة والعامة من الحلواني دون طلبه، وكونه آخر من جمع على الشيخ، مع كونه انصرف للتجارة والعمل الإسلامي انشغالاً كليًّا، ثم عاد وتفرغ للإقراء بعد خمسين سنة ونيف من تلقيه، وبعد سنوات من وفاة آخر أقرانه في السبعة على الحلواني، ثم أمد الله في عمره مدة طويلة، وقدّر له التنقل في البلدان عند أبنائه، وقدّر مساعدتهم وفتح بيوتهم وقلوبهم للطلاب، وتسهّله في الإجازة آخر حياته، كل هذه أرى فيها عناية ربانية بالشيخ، وتسخيرًا له لصالح الأمة، ليبقى اهتمام الناس وتنشيط العلم وعلو الرواية وحفظها، ففي نَعْش العلم ثباتُ الدنيا والدين كما نقل الإمام الزُّهري، وهذا الاصطفاء مثال يتكرر عند المتأمل في التاريخ الإسلامي العلمي، ولله الحكمة البالغة، وهو يصطفي من يشاء من عباده، ولعل مثل هذا كله من آثار دعوة صالحة من أبيه الذي حُرم الأمر، وحُرم من ابنه الآخر في حياته، فعوّضه الله بابنه الشيخ بكري، وأعلى شأنَه في العالمين، نسأل الله الكريم من فضله العظيم لنا ولذرياتنا ولأحبابنا.


    وآفة العقلِ الهوى ، فمن علا *** على هواه عقله ، فقد نجا
    ابن دريد

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: سيد القراء وزينتهم - بَكْري بن عبد المجيد الطَّرابيشي / بقلم الشيخ محمد زياد التك

    روايته وإجازاته: روى شيخنا المترجم عن شيخه محمد سليم الحلواني، وهو خاتمة الجامعين للسبعة عليه والمجازين منه فيما أعلم[33]. قال الحلواني في إجازته له بعد المقدمة[34]: ((هذا؛ وقد قرأ علينا ولدنا الشاب النجيب، والفاضل الأديب، الشيخ بكري أفندي، ابن الفاضل العلامة، التقي الفهامة، الأستاذ الشيخ عبد المجيد الطرابيشي؛ ختمةً كاملة للسبعة من طريق الشاطبية مع الإتقان، وطلب مني أن أجيزه كما أجازني سيدي الوالد المرحوم شيخ قراء زمانه، ووحيد عصره وأوانه، الشيخ أحمد ابن المرحوم الشيخ محمد علي الحُلْواني، أسكنه الله تعالى الفردوس، فطلب مني أن أجيزه، مع أني لستُ أهلًا لأن أُجاز؛ فضلًا أن أُجيز! وقد قيل:
    إنْ لم تكونوا مثلَهمْ فتشبّهوا
    إنَّ التشبّهَ بالكرام فَلَاحُ
    فقد أجزتُه أن يقرأ ويُقرئ في أي مكان حَلّ، وفي أي قُطر نزل، بشرطه المعتبر عند علماء القراءات والأثر، وبكل ما تجوز لي روايته ودرايته، نفعه الله تعالى، ونفع به، ووفقه لمرضاته، وأوصيه بتقوى الله في سره وعلانيته، وأن لا ينساني ووالدي وأولادي من صالح دعواته في خلواته وجلواته)). وشهد على الإجازة الشيخ محمود فايز الديرعطاني، وقال بعد المقدمة: ((فيقول راجي رحمة ربه الكريم محمود فائز الديرعطاني: بما أنني قد حضرتُ وسمعت تلقي معظم الختم للقراءات السبع جمعًا من طريق الشاطبية؛ من الشاب الصالح المفضال الشيخ بكري ابن الأستاذ العلامة الشيخ عبد المجيد الطرابيشي، بقراءته على شيخنا الأستاذ العلامة شيخ مشايخ القراءة والإقراء في الشام السيد محمد سليم الحلواني ابن المرحوم العلامة الكبير مجدد هذا الفن في هذه الربوع الشيخ أحمد الحلواني، رحمه الله. فإنني أشهد بأهليته لقراءة هذا الفن وإقرائه على الوجه الأكمل من الطرق الواردة في هذه الإجازة، والله يوفقنا وإياه لصالح الأعمال في الحال والمآل)). وكتب الديرعطاني إجازة لشيخنا المترجم، قال فيها بعد المقدمة: ((فإن الفاضل الأديب، والعالم اللبيب، صاحب الإجازة المسطرة في صدر هذه العجالة، الشيخ بكري ابن المرحوم الفاضل العلامة الشيخ عبد المجيد الطرابيشي، قد قرأ عليّ ختمة كاملة بالضبط والإتقان للقراء العشرة من طريق الشاطبية والدرة، على ما أخذته عن شيخنا المرحوم شيخ قراء دمشق الشيخ محمد سليم الحلواني رحمه الله تعالى، بالأسانيد الواردة في صدر هذه العجالة، وطلب مني أن أجيزه برواية هذه القراءات وإقرائها، فأجزته بذلك، موصيًا إياه بتقوى الله في سره وعلانيته، وأن لا ينساني من صالح الدعاء، وأمدنا الله وإياه بعنايته وعونه، إنه ولي التوفيق، وبالإجابة جدير وحقيق)). وتقدم أنه قرأ ختمة كاملة لحفص على الشيخ عز الدين العرقسوسي، وعدة ختمات على الشيخ عبد القادر الصباغ، وقرأ على الشيخ مصطفى حمدي الجويجاتي، وصحح قراءته وأتقنها عليهما، ولا سيما الصباغ. وأخذ الإجازة -دون قراءة- بعد وقت على الشيخ حسين خطّاب لحفص عن عاصم بقصر المنفصل من طريق الطيبة، وكذلك أجازه بها الشيخ محمد كريّم راجح[35]، وكان يحضر معهما في مجلس القرّاء المعروف، ويتداولون القراءة. والذي أجاز له إجازة عامة ممن تقدم: الشيخ محمد سليم الحلواني، وكانت له رواية عالية في الحديث أيضًا. وتدبج شيخنا الإجازة بأخرة مع الشيخين عبد الله بن عبد العزيز العقيل رحمه الله، ومحمد زهير بن مصطفى الشاويش، حفظه الله تعالى، وبارك في عمره. وقال لنا شيخنا: إنه يشك أن الشيخ محمود الرنكوسي أجاز له. وأخبرني الشيخ علي سيف أن شيخنا أخبره، أنه التقى بأحد العلماء الشناقطة وأجاز له في حجته الأولى سنة 1361، لكنه نسي اسمه! وقال: كان في ظاهره متصوفًا[36]. آثاره العلمية: لا أعرف لشيخنا مؤلفات مفردة، ولكنه قدّم لكتب عدة، منها كتاب تطوير أمكنة الحج، الذي اشترك في تأليفه ابناه المهندسان عبد المجيد وربيح، مع المهندس سعيد ابن الشيخ محمد كريّم راجح. وأفادني الشيخ فواز الدوماني عن شيخنا أنه أخبره أن له منظومات صغيرة نظمها قديمًا في الفقه. ولشيخنا قصيدة في أربعين بيتًا نظم فيها إسناده للقرآن، وعارض فيها الشاطبية[37]. أنشدنا شيخنا رحمه الله من لفظه ليلة السبت 21/3/1426، قال:
    1- باسمك ربّي كلُّ خيرٍ بدأتُه
    لك الحمدُ من (بكري الطرابيشيْ) مرسَلا

    2- وأزكى صلاةٍ معْ سلامٍ على النبيْ
    محمدٍ الهاديْ وآلٍ ومَنْ تلا

    3- ويشكرُ (بَكريْ) رَبَّه إذْ أعانه
    على نقله القرآنَ عذباً مسلسلا

    4- ويشكرُه إذ قد أعان بنقله
    حروفًا أتت في (الحِرْزِ) للسبعة المَلا

    5- على ما حوى (التيسيرُ) إذْ كان أصلَه
    عنه رواه الشاطبيُّ معلَّلا

    6- رواها بختم متقَنٍ عن محمدٍ
    سَليمٍ وهُوْ شيخُ الشيوخ إذا تلا

    7- وفائزُ ذاك الدَّيرْعطانيْ مبجَّلٌ
    فقد كان يأتي درسنا متفضِّلا

    8- وقد كان من قبلي تتلمذ عنده
    ففاز فما يحكيه شيخٌ مرتِّلا

    9- سليمٌ روى عن أحمدٍ خير والد
    غدا لشيوخ الشام شيخاً مفضَّلا

    10- وأحمدُ قد نال الفضائل جمّةً
    بمكة بالمرزوقِ لما له اجتلا

    11- فأضحى له القرآنُ طبعاً وضبطُه
    لتجويده يا ما أُحَيْلاهُ إذ حَلا

    12- على المقرئ الفذِّ العَبيديِّ قد قَرا
    وهذا له الأُجْهوري شيخٌ به اعتلا

    13- وقد أخذ الأجهوريْ ما شاء ربُّه
    على أحمد البقْريْ فكان أخا حُلا

    14- محمدٌ البقريُّ شيخٌ لأحمدٍ
    محمدُ عن ذاك اليمانيْ قد اجتلى

    15- وأَخْذُ اليمانيْ عن أبيه شحاذةٍ
    وأحمدُ عبدُ الحق شيخٌ له علا

    16- وناصرٌ الطَّبْلاويْ شيخٌ لأحمدٍ
    وناصرُ تلميذٌ لِلَانْصاريْ ذي العُلا

    17- غدا زكريا فضلُه عَمَّ رتبةً
    فقيهًا عظيمًا قارئًا ومُبَجَّلا

    18- والانْصاريْ تلميذٌ لرِضْوانَ مُتْقِنٌ
    ورضوانُ عن ابن الجَزيريْ تحمَّلا

    19- هو العَلَمُ الفذُّ الجليلُ فضائلًا
    إذا ذُكر القراءُ كان المفضَّلا

    20- وقد كان تلميذًا على ابن مباركٍ
    ولبّان شامٍ في دمشقَ تَبَجَّلا

    21- وقد كان عبد الله صائغَ حكمةٍ
    عليه تلا إبنُ المبارك ما تَلا

    22- وصهرُ الإمامِ الشاطبيْ شيخُ صائغٍ
    بخير شيوخ الذكر قد فاز واعتلا

    23- هو الشاطبيُّ الفذُّ ثامنُ عشرةٍ
    شيوخٍ لبكريْ علمُهم شاعَ وانجلا

    24- فهم قد تلقَّوا عن شيوخٍ أكارمٍ
    وفي (النَّشْرِ) ما يكفي لتعرف من تَلا

    25- وسوف تراه ذاكرًا لشيوخه
    رجالًا ثقاتٍ مع صحابٍ ذوي عُلا

    26- وهم نقلوا ما قد رروهُ بِدَوْرِهم
    عن المصطفى الهادي الذي جاء مرسَلا

    27- عن الله ذي الفضلِ العميم معلِّمًا
    وجبريلُ روح القدس كان منزّلا

    28- وإني بحمد الله بعد قراءتي
    على شيخِنا الحُلْوانِ قد فُقْتُ منزِلا

    29- فأقرأَنيه الديرعطانيُّ فائزٌ
    ففزتُ بختمٍ عنه لما تفضلا

    30- على ما أتى في (الحِرْز) و(الدُّرّة) التي
    بها الجزريْ للعَشْرِ كان مكمِّلا

    31- وقد كان فضلُ الله أجراه مُكْرِمًا
    لبكريْ فبكريْ حاز علمًا مفضَّلا

    32- جزى الله عنا شيخنا الشيخ فائز
    أجاز لبكري نقل ما كان حَصَّلا

    33- ومِنْ قَبْلِه أدَّى إليّ إجازةً
    محمدْ سليمٌ إبنُ أحمدَ ذي العلا

    34- قرأتُ عليه ختمةً فأجازني
    لقلةِ أشياخي بها سنديْ عَلا

    35- وبعدُ صلاةُ الله ثم سلامِه
    على المصطفى المختار بالخير مرسَلا

    36- فيا ربِّ وفِّقني لكلِّ فضيلةٍ
    وأَجْزِلْ عليَّ الخيرَ منك تفضُّلا

    37- وأرجوك يا ربِّي شفاعةَ أحمدٍ
    فتلكَ غَدَتْ ذُخري إذا الأمر أُثقلا

    38- ويا ربِّ وفقني بما فيه يُرتجى
    ثوابُك في تعليمِ ذْكْرِكَ ناقلا

    39- وثبِّت لقلبي مُلْحِقًا بيَ مُكرِّما
    بمن سبقتْ حُسنَى لهم منك ناحِلا

    40- وآخرُ دعوانا أن الحمدُ كلُّه
    لربي وللهادي الصلاةُ ومن تَلا
    وأصدر قسم التصحيح بالمكتب الإسلامي بإشراف الشيخ زهير الشاويش ثَبَتًا مختصرًا مشتركًا بينه وبين شيخنا المترجم، واسمه: السَّنَدان الأعليان في بلاد الشام، وهو مطبوع متداول. من تلامذته[38]: المشايخ: عبد الهادي الطباع، ووئام بن رشيد بدر، وعبد الرحمن المارديني، وأحمد الجباصيني، وحسام السبسبي، وبلال التوتونجي، وعدنان سعد الدين، ومحمد رجب الآغا، وعصام عبد المولى، ومحمد بوركاب الجزائري، وعمر الماروق، ومحمد فؤاد سراج الدين، ومحمد أحمد شقرون، وفواز الدوماني، وعبد الرحمن عبد النافع، وخالد الرز، وعبد الله الأبرش، ومحمود الزعتري، ويوسف فتيان، ومحيي الدين أبو حرب، فهؤلاء ممن جمع القراءات عليه، وآخرهم كانت له جهود مبرورة في خدمة الشيخ آخر حياته. وممن قرأ عليه بعض القراءات المشايخ: عباس بن مصطفى المصري رحمه الله، وحامد أكرم البخاري، وعادل السنيد، وعبد الله الجار الله، وعلي سيف. وممن قرأ عليه بعض القرآن وأجاز له المشايخ: علي الحذيفي، وأحمد خليل شاهين، ومحمد نبهان المصري الحموي، وعادل الكلباني، وعبد الله العبيد، وجماعات، منهم العبد الفقير. وممن أجاز لهم عامة دون قراءة: سماحة الشيخ عبد الله بن عقيل تدبجًا، والشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم، وغيرهما. وأخذ عن الشيخ الألوف كما يقول[39].
    • • • •
    وتمت كتابة الترجمة على يد أفقر العباد
    محمد زياد بن عمر التُّكلة
    ضحى السبت غرة جمادى الأولى سنة 1433 في مدينة الرياض.
    رحم الله شيخنا رحمة واسعة، وأكثر في المسلمين من أمثاله.
    والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
    وآفة العقلِ الهوى ، فمن علا *** على هواه عقله ، فقد نجا
    ابن دريد

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: سيد القراء وزينتهم - بَكْري بن عبد المجيد الطَّرابيشي / بقلم الشيخ محمد زياد التك

    أهم مصادر الترجمة:
    مشافهات ولقاءات شخصية متعددة مع شيخنا المترجم في دمشق والرياض ودُبَيّ. مشافهات وإفادات شخصية من المشايخ الأجلاء: محمد أديب صالح، وزهير الشاويش، ومحمد كريّم راجح، ومحمد بن لطفي الصباغ، وعصام العطار، والمهندسين عبد المجيد ورَبيح ابني شيخنا بكري الطرابيشي، وعدد من كبار أصحاب الشيخ وتلاميذه، وعلى رأسهم المشايخ: وئام بدر، وفواز الدوماني، وعلي بن سيف، ومحمد حُحُود التَّمْسماني الطَّنْجي. مصادر أخرى: السندان الأعليان (ثبت مختصر لشيخيّ: زهير الشاويش، وبكري الطرابيشي). لقاء مسجل مع الأستاذ فهد السنيدي ضمن برنامج صفحات من حياتي في قناة المجد الفضائية سنة 1426. لقاء مسجل مع الشيخ ضمن برنامج القراء على قناة المجد سنة 1430 لقاء في قناة الشارقة عن حياة شيخنا، بُثَّت الحلقة يوم السبت 17 ربيع الآخر 1433 برنامج في قناة أهل القرآن الفضائية سنة 1433 مقال للشيخ زهير الشاويش في وفاة شيخنا، تكرم بإرساله إليّ، ونُشر في موقع الألوكة. مجلة ضياء الصادرة عن جمعية تحفيظ القرآن في محافظة الزلفي السعودية، العدد السابع، جمادى الأولى سنة 1431 حوار في مجلة الفرقان الأردنية، العدد 35 رمضان 1425 لقاء على قناة نور دبي الفضائية سنة 1429 إمتاع الفضلاء بتراجم القراء للشيخ إلياس البرماوي (2/393 الطبعة الثانية) غرر الشآم لعبد العزيز الخطيب (2/938) موسوعة الأسر الدمشقية للصواف (2/569 الطبعة الثانية) مقال: الشيخ الطرابيشي في ذمة الله، للدكتور محمود حسين محمد، رسالة معهد القراءات القرآنية في الأردن، العدد (3) أوضح الدلالات إلى أسانيد القراءات للشيخ ياسر المزروعي (459) لقاء مجلة الحرس الوطني مع المترجم، العدد (248) ذو الحجة 1423. وثمة مصادر أخرى سميتها في الترجمة. وبعد كتابة الترجمة أرسلتها للمشايخ: وئام بدر، وفواز الدوماني، وعلي سيف -وجميعهم لهم صلة خاصة بالشيخ- وزوّدوني بملاحظات ومعلومات استفدتُ منها، وأثنوا على الترجمة، جزاهم الله خيرًا. ملحق الوثائق: 1- توقيعات مؤسسي جمعية دار الحديث الأشرفية سنة 1373 2- من إجازة الحلواني للطرابيشي 3- إجازة الديرعطاني للطرابيشي 4- إجازة عبد الهادي الطباع بخط الشيخ، وهي أقدم إجازة أعلمها للشيخ. 5- منظومة شيخنا في إسناده. 6- إجازته لي في ثبت السندان الأعليان. 7- استدعاء منه.

    [1] هكذا نص شيخنا على اسم أبي جدِّه في لقائه مع السنيدي في قناة المجد، وهكذا أخبرني ابنه المهندس عبد المجيد، ووقع بدله: ((أحمد)) في تاريخ علماء دمشق، وعنه غالب من ترجم له. وقال لي المهندس رَبيح: توجد شجرة للأسرة أظنها عند أبناء عمومتنا.
    [2] تنبيه: تفرُّد شيخنا بعلو السبعة هو في بلاد الشام والمشرق، وأما في عموم العالم الإسلامي فيساويه تلامذة شيخ قراء دُسوق: الفاضلي أبو ليلة، ومنهم شيخنا مصباح وِدْن حفظه الله، على ما تحرَّر لديّ بالبحث والاستفادة من جهود بعض الزملاء، ولا سيما الشيخ مصطفى شعبان، ولكن يبقى السند الشامي إلى المقرئ العَبيدي أجلُّ رجالًا -علمًا واحتسابًا- وأمتن قوة، وأصرح من جهة النصوص.
    [3] انظر للاستزادة موسوعة الأسر الدمشقية (الطبعة الثانية 2/567).
    [4] انظر ترجمته في تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر (2/600)، وأعلام دمشق (200)، وتكلم عنه شيخنا في مواضع.
    [5] وصفه شيخ القراء محمد سليم الحلواني: بالفاضل العلامة، التقي الفهامة، الأستاذ الشيخ. ووصفه المقرئ محمود فايز الديرعطاني: بالأستاذ العلامة.
    [6] هكذا حدثنا شيخنا عن تاريخ مولده باليوم لما سألتُه، وقال إنه وجده بخط أبيه. وهكذا حدده فيما أملاه على الشيخ إلياس البرماوي، ولكن وقع في كتاب السندان الأعليان، وفي مقال الشيخ زهير الشاويش: ربيع الآخر.
    [7] هكذا أخبرنا شيخنا مرارًا أن شيخه قرأ على أحمد الحلواني الكبير، ويستدرك بذلك على تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر (3/206)، وتوفي الشيخ الصباغ سنة 1368.
    [8] هكذا سمعت من الشيخ، وهو الصحيح إن شاء الله، فالختم كان سنة 1942م كما كرره شيخُنا، وتوفي الشيخ الحلواني سنة 1944م، وجاء في بعض كلام الشيخ سهوًا: شهرين، بدل: سنتين، وتناقله أناس. وللفائدة فقد كان شيخنا كثير الإطراء لشيخه، ويقول: أخذ القراءات عن والده في صغره، ومن صغره كان قارئًا متقنًا هائلًا، وأبوه هو الذي أدخل القراءات للشام، وكان أخذ عن المرزوقي عالم القراءات في وقته، وكان لشيخنا أولاد ثلاثة نقل لهم القراءات، أحدهم طبيب، خلف أباه في مشيخة القراءات.
    [9] أفادني بذلك الشيخ علي سيف، وأخبره بذلك شيخنا.
    [10] ومن قصصه التي حدثنا إياها شيخنا مرارًا: قصته في تحديد جهة الشام من الكعبة، وقصته مع العباءة التي فيها العث، والأخرى التي بين شقيها اختلاف، وقصة تنفله ومعرفته لاتجاه القبلة. وهذه القصص وغيرها سردتُها كاملة ضمن مقال مطول؛ فرّغتُ فيه نماذج لمجالس شيخنا رحمه الله مما حضرتُ، وسأنشره بإذن الله بعد الترجمة. وفي إحدى هذه المرات قال بحضور الشيخين الباني والصباغ: ((الشيخ الديرعطاني طالب علم قوي بكل شيء، واللهُ أعطاه ذكاءً لم أجد مثله، مثل الشاطبي ينسبونه للمعجزة، والشيخ فايز كان حجة في الفقه الشافعي، وكان يقرأ عند الشيخ صالح العقاد. ومن حيث الأداء ليس له مثيل، إلا آل الحلواني، وبالنسبة لعلمه بالقراءات ربما أقوى من آل الحلواني، فالله أعطاه ذكاء، وحَصَر تفكيره بهذه الأمور، وكان مستحضرًا لوجوه الخلافات أكثر من أي شخص آخر، وكان عفيفًا رحمه الله.. ولم يكن له مؤلفات، ومحفوظاته كبيرة جدًّا)). وكتب شيخنا بخطه في إجازته لتلميذه الأول الشيخ عبد الهادي الطباع: ((سيدي وشيخي الشيخ محمود فائز الديرعطاني الذي حباه الله ما شاء من السعة في العلم والإتقان في الأداء)).
    [11] انظر كتاب: دار الحديث الأشرفية (294 و301-307).
    [12] وأيضًا قام الطبيب عماد ابن شيخنا ببناء مسجدين في موريتانيا، أحدهما باسم والده: (جامع بكري الطرابيشي)، والآخر باسم والدته: (جامع عائشة عرفة)، أخبرني بذلك المهندس ربيح. فلله در هذه الأسرة التي تعمر مساجد الله عمارة مادية ومعنوية.
    [13] أخبرني شيخنا غير مرة أنه لا يقرئ النساء مطلقًا. وقال: إنه ما أقرأ إلا امرأتين من حفيداته. وتكرم بإجازة زوجي مرتين -في دمشق، ثم في دبي- لما علم أنها حافظة لكتاب الله.
    [14] أخرجه النسائي وابن ماجه وأحمد وابن حبان وغيرهم بسند أرجو أنه لا بأس به، وجوّده ابن تيمية في الفتاوى، وحسّنه الألباني، وشيخنا عبد القادر الأرناؤوط، رحمهم الله جميعًا.
    [15] قال الشيخ بعد هذا الذي أملاه: ((أرجو أن تنشر كلامي حرفيًّا، فهو مهم)). قلت: صدق والله، وقد فعلتُ ما أمر على العين والرأس، بارك الله في حياته وعافيته وذريته، ونفع المسلمين به.
    [16] هي أقدم منظومات التجويد، ويسّر الله لي قراءتها على شيخنا المترجم رحمه الله في دبي، مع القصيدتين: السخاوية، والجزرية، ومقدمة الشاطبية وخاتمتها، وأول حديث في صحيح البخاري.
    [17] حدّثنا شيخنا المترجم بقصة يقول: ينبغي أن تُذكر وتُعرف. -مرة في مجلس شيخنا العقيل رحمهما الله تعالى، ومرة أمام الشيخين الباني والصباغ- فقال: كنت جالسًا في مكتب أحد مدراء المخابرات اسمه بختيار، فجاء أحد المشايخ المعروفين زائرًا، ومعه باقة ورد أهداها للمسؤول، وخلع عمامته وجبّته، وعلّقهما، وجلس يكيل له المدح والثناء، ثم بدأ يكيل الشتائم المقذعة لشباب الإخوان ويتهمهم بأسوأ التهم، ويقول: إن أباه كان يحذّر منهم. وهو كاذب تمامًا في ذلك -على ما كنا نسمعه من الشيخ عبد الرزاق الحلبي عن والد القائل من إكرامهم-، فلم أصبر، وشددت عليه في الرد، وقلت له: اتق الله! فهؤلاء فيهم من الشباب الأخيار الصلحاء من ليس لهم نظير إلا في قرون الخيرية. وعلت أصواتنا، وتغلبتُ عليه بحمد الله، ثم خرجت! وشيعني المسؤول معتذرًا مني عما حصل من رفع صوت! (قلت: الذي سمعته غير ذلك ،ولكن صوَّب لي المهندس عبد المجيد ابن شيخنا أنه عبد اللطيف فرفور، وأكّد على ذلك، وهكذا أخبرني أحد كبار أصحاب الشيخ). وقال شيخنا: إنه في إحدى مرات الاستجواب كانوا يسألون عن ثروات بعض المشايخ، مثل الشيخ زهير الشاويش، فدافعت عنهم بما أعرفه من أعمالهم وتجاراتهم، وتحديت أن يجدوا مأخذًا واحدًا على تمويلنا، وقلت لهم أي قرش يُصرف اسألوني عنه، فأنا المسؤول المالي، وكل شيء يكون بعلمي وإشرافي. والحمد لله لم يجدوا علينا مأخذًا.
    [18] كان شيخنا يذكر لنا تفاصيل الحادثة، ويقول: هذا المشروع لو قدر الله أن يتم لكنتُ من أثرياء العالم، ولكن رب ضارة نافعة، فكان ذلك وما تلاه من أسباب اجتهاد أولادي وتفوقهم العالي في العلوم الكونية، مع تدينهم واهتمامهم بالقرآن. وقال لنا: إنني أذكر هذا فقط من باب التحدث بنعمة الله عليّ، وللحث على الثقة واليقين بالله دون العباد. وأخبرني الشيخ محمد كريم راجح، أن شيخنا أخبره: أن بعض من اشترى في أرض المشروع بعد مصادرتها جاء له يطلب استحلاله -لأجل الصلاة ونحوها، لأن الأرض يعرفون أنها مغصوبة-، فقال لهم: لما علمت أنها أُمّمت وسيبيعونها للناس: سامحت من يكون فيها. وقال في مجلس آخر أنه قال: تنازلتُ عنها لله عز وجل، وأسأل الله أن يتقبل منكم. قلت: وأعجبُ من هذا أنه سعى بعد ذلك ببناء عدة مساجد في منطقة دمّر! تقبل الله منه، وعوضه في الآخرة خيرًا.
    [19] لأن شيخنا أُخذ في دعوة سابقة لأحد الأئمة ممن صوته جميل لكن ليس من أهل الإتقان في الأداء، ولما عرف الإمام أن الشيخ معه زاد في تنغيم الصوت وفي المدود والغنن وغيرها! فلما خرجنا كنتُ ممسكًا بيد الشيخ، وجاء الإمام عند الشيخ، وقال له: كيف وجدت قراءتي؟ فأجابه: صوتك جميل ما شاء الله، بس كثرة البياض برص! -على تعبير أهل الشام-وانصرف أخونا يظن الشيخ قد مدح قراءته!
    [20] وللمناسبة والفائدة: حدّثتُ شيخنا محمد أديب صالح بهذا في حياة شيخنا بكري، فأثنى عليه، وقال بتواضعه المعروف: أما الباني والصباغ فنعم، وأما أنا فأستغفر الله أن أُذكَر مثلهما! ثم استذكر العبارة بعد وفاته، وقال نحوه، وأضاف: والشيخ محمود شاكر سدّ في مجاله ثغرة كبيرة، وخدم الإسلام كثيرًا بمؤلفاته. قلت: وسمعت شيخنا بكري في دُبَيّ يقول: الشيخ عبد الرحمن الباني شخصية على دين وعقيدة، وأعرفه منذ سبعين سنة أو تزيد، وهو كما هو في الاستقامة والخير.
    [21] أخبرني الشيخ علي سيف، أن الطبيب حمزة ابن شيخنا لما ختم على والده لحفص أراد أن يكمل الجمع عليه، فقال له الشيخ: لا، بل أكمل في مجالك وتزود منه، لعل الله ينفع بك فيه.
    [22] وصدق والله! وبعد وفاة الشيخ حاولت معه أن يكتب عنه فقال: لا أعرف كيف أكتب عنه! وليس عندي شيء! فلما صرت أسأله فإذا عنده كنوز من أخبار الشيخ الخاصة، لكن يحتاج لمن يستخرج ما عنده بحكمة وصبر! وفقه الله ورعاه، وسهّل الانتفاع به، وهو جمع العشرة الصغرى على الشيخ أبي الحسن الكردي أيضًا، وإلا يسيرًا منها على الشيخ محمد سكر، وجمع العشرة الكبرى على الشيخ محمد عبد الحميد في الاسكندرية أيضًا، وسمع جميع البخاري على الشيخ عبد القيوم الرحماني في مكة، وزيادة على الثلث من مسند أحمد على الشيخ عبد الله بن عقيل في الرياض، ولازم شيخنا عبد القادر الأناؤوط ملازمة طويلة، وكان مساعدًا له، رحمهم الله.
    [23] تاريخ زيارته الأولى 21 صفر 1425 وتدبَّجا الإجازة يومها، وكتب الشيخ بكري في إجازته: ((الأخ الأستاذ الكبير الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل، الذي هو شيخ الأشياخ في الرياض.. وذلك أني تشرفتُ وسعدت بزيارته في بيته العامر بطاعة الله)). والثانية سنة 1426، وبقي يذكر لقاءه مدة، وقال لي الشيخ فواز الدوماني: إنه كان يذكر ذلك، ويقول إنه يحب الشيخين ابن باز والعقيل في الرياض.
    [24] أخبرني أخي الأستاذ محمد ابن شيخنا عبد القادر الأرناؤوط: كان الشيخ بكري دائمًا يتصل بالوالد، وكان والدي يرسل له طلابًا ليقرؤوا عليه القرآن، ويقول لهم: هذا من الرعيل الأول، وهو أكبر القراء الآن، ويزكيه عند طلاب العلم، ويوصيهم به. وكان والدي يزوره في جامع الخير، وكلاهما يرسل لبعض السلامات عبر الطلاب، ومرة اجتمعا معًا في الطائرة، ولما رآه الشيخ بكري أراد أن يقوم له، وهو متعب، ولكن الوالد قال له: لا تقم! أنا وأنت كلانا يحتاج لمن يساعده! ويقول له: الله يخرجنا من هذه الدنيا على خير! وكان الشيخ بكري يحيل عليه في الحديث، ويقول: إنه المرجع الآن في دمشق في الحديث.
    [25] أخبرني المهندس عبد المجيد ابن شيخنا بكري: إن الشيخ زهير كان أقرب الناس لوالده مدة العمل الإسلامي بطولها، وأعرفهم به.
    [26] كلُّ ما قمت به أن دفعتُ عربة الشيخ أمتارًا معدودة، وساعدته في ملء استمارة الدخول له ولزوجه! فرأى ذلك خدمة كبيرة! بل أنا من استفاد منه وقتها! فقد كلمتُ موظف الجوازات في تجاوز الطابور الطويل للشيخ، وتكرم جزاه الله خيرًا بخدمة الشيخ بشهامة تُذكر وتُشكر، وهو لا يعرفني ولا يعرف الشيخ، فأنا استفدتُ من ذلك ومشّاني الموظف مع الشيخ دون أن أنتظر الزحام!
    [27] أذكر طرفة أخبرني بها الشيخ فواز الدوماني، قال: كنا مرة راجعين مع شيخنا من المسجد لبيته، وكان مرهقًا، ويمشي وظهره منحنٍ من تعبه، فقلنا له نمازحه: الآن تكون أم ماجد تنتظرك وتراقب وصولك من ثقب الباب، فهل يناسب أن تراك بهذا المنظر! فضحك الشيخ وشد ظهره واستوى، ومشى بعزيمة قائلًا: طيب هكذا مناسب؟ وأكمل المسير بنشاط إلى أن دخل البيت!
    [28] ذكر شيخنا في لقائه مع السنيدي أنه كان عندما يخرج من بينه ليؤم الناس في صغره كان يمر على عدة مساجد فيها أشياء منكرة لكنها تستهوي الناس، مثلًا: إنشاد، اجتماعات، شاي، شيوخ يستهوون الناس ويستلطفونهم، فجربتُهم كلهم تقريبًا، جربت النقشبندية، حضرت عندهم جلستين أو ثلاثة، وحضرت عند الشاذلية، وهكذا كانت دمشق كلها وقتها، كانت نموذجًا للعالم الإسلامي، وذكر أنه لم يستطع أن يجد لأعمالهم في الحضرة والذكر أصلًا في السنة والعصور المتقدمة، ولكن أعمالهم كانت تستهوي النفس من الإنشاد بالصوت الجميل والشاي وحركة الجسد المطربة! فلم أقبلها في نفسي، فإذا اجتمعت معهم وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم صليت معهم، وإذا ذكروا بذكر مقبول ذكرت معهم، وإذا حانت الحضرة أقوم، فصاروا يطلقون عني أني وهابي! وهذه عندنا تهمة كبيرة، وقال إن كلمة وهابي غير السلفي عندهم. وقال: إن عند الصوفية أدب ولطف واستدراج، والذي استهواه في شبابه كان يأتي يخدمهم ويأخذهم للسيارين ويطبخ لهم الأكل. وقال: لا ننكر أن لهم أخلاقًا اجتماعية عالية.
    [29] وأتعجب مما قرأته مؤخراً لأحدهم أن شيخنا ماتريدي العقيدة! لعله ظنه لمجرد كونه حنفيًّا! وإلا فهو غير صحيح، وسألت أخانا الشيخ وئام بدر فقال: هذا كذبٌ على الشيخ. بل صرَّح شيخنا في لقاء قناة المجد مع السنيدي عمّا كان يُشهر من النسبة: الماتريدي عقيدة (صرَّح بها) النقشبندي طريقة، ثم قال: هذه الأشياء لا أرتضيها. وقال نحو ذلك مستنكرًا ذلك لشيخنا العقيل في مجلسه، وسمعناه منه مرارًا. وكذلك صرَّح الشيخان الشاويش والصباغ أنه سلفي العقيدة، وهما من قدماء أصحاب الشيخ المقربين، وزادت صحبة كلٍّ منهما معه على الستين سنة، وأولهما يقول المهندس عبد المجيد إنه الأعرف بأبيه.
    [30] أخبرت شيخنا محمد أديب صالح -صهر الغلاييني- بكلام شيخنا هذا، فقال: كلامه صحيح مائة بالمائة، فقد كانا متابعين للسنة، وينكران الخزعبلات، وعندهما إنكار للمنكر، ومجابهة للظلمة، وزهد صادق.
    [31] وهذه القصص وغيرها سردتُها كاملة ضمن مقال مطول مضت الإشارة إليه؛ فرّغتُ فيه نماذج لمجالس شيخنا رحمه الله مما حضرتُ.
    [32] ذكر الشيخ أن خادم المسجد غاب يومها عن الصلاة التي اتفق الصوفية على إقامة الحضرة بعدها، وجاء الشيخ للإمامة، ووجد الباب مغلقا، وما كان معه المفتاح، فصلّى مع من حضر عند باب المسجد، ثم رجع إلى بيته، فاتهم أولئك شيخنا أنه تعمد ذلك لأجلهم، واستطالوا عليه، وحصل ما حصل.
    [33] وأما مطلق الأخذ فما يزال على قيد الحياة الشيخ المعمر فوق المائة سليم الحمّامي حفظه الله، قرأ عليه ختمة كاملة لحفص، وكان يمدح قراءته، أخبرني بذلك عنه ابنه فضيلة الشيخ أحمد الحمّامي. وكذلك شيخ القراء العلامة الجليل محمد كريّم راجح -حفظه الله، وأمدّ عمره على الخير والإفادة والعافية- قرأ عليه متن الشاطبية، وتوفي الحلواني قبل أن يشرع في القراءة عليه.
    [34] انظر رسالة: السندان الأعليان. ويذكر شيخنا أنه لم يطلب الإجازة من شيخه، وأنه هو من بادره وكتبها له. ويذكر أن آخر أقرانه وفاة هو الشيخ عبد العزيز عيون السود، وذكر لي الشيخ علي سيف أن شيخنا أخبره أن الشيخ عيون السود لما جاء من حمص ليقرأ على الحلواني نزل في بيت شيخنا وسكن عنده.
    [35] كما كتبه شيخنا بخط بيده في إجازته لتلميذه الأول الشيخ عبد الهادي الطباع رحمهما الله، واستفسرتُ الشيخَ كريّم -حفظه الله- عن هذا، فأجاب: لا أتذكر ذلك، ولكن إن كان الشيخ بكري قاله فهو مصدَّق، ولعله طلب مني وقلتُ له: أجزتُك. وعلى كل حال فكنّا كثيرًا ما نقرأ مع بعض لحفص بقصر المنفصل، في رمضان وغيره، وقَطْعًا ختَمْنا معًا أكثر من ختمة بذلك، فهذه مثل الإجازة.
    [36] قلت: من الشناقطة المشهورين بالإجازة في الحرمين الشيخ حبيب الله الشنقيطي، وهو عالم متصوف، لكنه استقرَّ في السنوات الأخيرة من عمره في مصر، إلى أن توفي بها سنة 1363، وكان ابن عمه شيخنا محمد بن عبد الله آدُّ الشنقيطي قد رحل إليه ولازمه هناك من سنة 1360 إلى وفاته، رحمهما الله. وبمراجعة سريعة لبعض الكتب، ومنها: ((أعلام الشناقطة في الحجاز والمشرق)) لم يترجح لي من قد يكون هذا الشيخ المجيز، والأقرب بينهم أن يكون الشيخ محمد المجتبى الشنقيطي (ت1379) وبعده الشيخ محمد المصطفى بن الإمام العلوي الشنقيطي (ت1388)، ولا يمكنني الجزم بشيء، وفوق كل ذي علمٍ عليم.
    [37] أخبرني الشيخ علي السيف، أن الشيخ قال لهم: بعد أن نظمت القصيدة أعطيتُها للشيخ كريّم راجح ليراجعها ويعدّلها.
    [38] انظر إمتاع الفضلاء للبرماوي (1/394-400)، حيث سمى قرابة المائة ممن قرأ على شيخنا، فاستفدت منه، ومن إفادات الشيخين وئام بدر، وفواز الدوماني. وكذلك في مقال رأيتُه مؤخرًا للشيخ مجد مكي أسماء أخرى، فأُحيل عليهما لمن أراد الاستزادة، مع معرفة أن حصر أسماء الآخذين عن الشيخ متعذر. ومما ينبغي التنويه له أن بعض الناس استغل علو سند الشيخ وشهرته ليتشبع بما لم يُعط، فهناك من دلّس وأطلق أنه قرأ عليه القراءات، والواقع أنه قرأ عليه يسيرًا من أول القرآن وأجيز منه، بل رأيتُ أحدهم يزعم أنه أخذ عليّ القراءات بأخذي لها عن الشيخ، وهذا غير صحيح من الوجهين! وآخر قرأ على الشيخ يسيراً كذلك وصار يدلس ويتأكل بهذه الإجازة ويخالف نهج الشيخ ومشايخه في الإقراء حسبة، فأصدر الشيخ أكثر من بيان في إنكار ذلك، وفي إحداها كُتب أنه لا يسمح أن يُذكر إسناده في القرآن إلا لمن ختم عليه ختمة كاملة، ومن يفعل غير ذلك فهو مفتر كذاب! وأقول للبيان: أكّد لي أحد المقربين من شيخنا الجامعين عليه أن الزيادة الأخيرة ((فهو مفتر كذاب)) من كتابة من صاغ البيان للشيخ، ولم تكن من شيخنا ابتداء، وفيها نظر، فإن من كان مجازًا عامة؛ وأسند مبيِّنًا طريقة تحمله ومقدارها: فهذا من الناحية العلمية الإسنادية سائغ، وليس فيه كذب ولا افتراء، وإنما يكون كذبًا لو زعم القراءة الكاملة وهو لم يُتِمّ، وهذا الذي نعلمه من إنكار الشيخ ابتداءً من تلقاء نفسه متكررًا دون تلقين؛ أنه يؤاخِذ من لا يبيِّن أو ليس بأهل أو يتأكل بالقرآن، وعلى كل حال فالمجاز عامة فلا يضره بعد أن أجاز له المجيز أن يرجع في السماح بالرواية عنه، كما هو مقرر في كتب الاصطلاح، والرواية العامة بالتفصيل السابق مع عدم الإتمام موجودة عند أئمة القراء، ومنهم شيخ الفن ابن الجزري، بل الرواية بالإجازة المحضة موجودة أيضًا، وإن جهل ذلك بعض الناس أو استنكره، وفعلها شيخنا في روايته عن الشيخ حسين خطاب، والكلام فيما سبق عن الصحة، لا الكمال. ولا أعلم أن شيخنا ابتدأ بيانًا من تلقاء ذاته، بل يكون بسعي من تحرك لأجله وصاغه، والشيخ سليم الصدر، فمن هنا ظهرت بعض ملاحظات، مثل بيان تبرئة أحد من ثبت تدليسه على الشيخ! وغير ذلك، والحقُّ حقٌّ، والباطلُ باطلٌ، وكما أنه ((ما كلُّ من في الناس يقرئهم مقري))، فليس كل من دخل باب الرواية يدري! والله يعلم المُفسد من المُصلح، وهو المستعان.
    [39] قلت: رأيتُ رؤيا في الشيخ عبد الرزاق الحلبي -وقد توفي قبل شيخنا ببضعة عشر يومًا- في حال حسنة يثني فيها على الشيخ بكري الطرابيشي رحمهما الله، ويقول لي: الشيخ بكري أخذ منه رواية القرآن عن طريق قراءة البعض وإجازة الباقي سبعون بالمائة من المتلقين في دمشق.


    وآفة العقلِ الهوى ، فمن علا *** على هواه عقله ، فقد نجا
    ابن دريد

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •