د. عماد الدين خيتي

عند البحث في الأدلة الشرعية التي تتعلق بموضوعات (الأهلَّة والتقويم) لاستخلاص الأحكام الشرعية منها لا بد من التنبه إلى أنَّ هذه الأدلة يمكن تصنيفها إلى ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: إثبات دخول الشهور القمرية:
وقد ورد في هذا المستوى عدة نصوص:
1_ عن أَبَي هُرَيْرَةَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_ قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ: فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ) متفق عليه.
وفي رواية أخرى لمسلم: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ).
وفي روايةٍ أخرى: (فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ الشَّهْرُ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ).
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا_ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ذَكَرَ رَمَضَانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَة،ِ فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِه،ِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ) رواه مسلم.
ويدخل في ذلك الأدلة التي اعتنت بضبط بداية الشهر والنهي عن صيام يوم الشك للاحتياط، فعَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) متفق عليه.
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.
ومن المسائل التي بناها أهل العلم على النصوص السابقة:
1_ هل رؤية هلال الشهر القمري من باب الشهادة أم الإخبار؟
2_ عدد الشهود الذين يثبت بهم دخول الشهر القمري.
3_ حكم قبول شهادة النساء في إثبات الأشهر القمرية.
4_ حكم ترائي الهلال.
5_ حكم استعمال الأدوات الحديثة في رؤية الهلال.
6_ شروط ترائي الهلال.
وإثبات الشهور القمرية بهذه الطريقة واضح ومتيسر؛ إذ لا يحتاج لأكثر من النظر للسماء لرؤية الهلال أو عدم رؤيته.

المستوى الثاني: ما يجب أن تصل إليه الأمة الإسلامية في مجال إثبات الشهور القمرية والتقويم:
وهو الغاية من (علم الأهلة)، وقد سبق بيانه في مقال مستقل باسم (الغاية من علم الأهلة).
فالغاية من النصوص الشرعية في هذا الموضوع: ضبط مواقيت السنوات وعددها، ولا يكون ذلك إلا بإعدادِ تقويمٍ خاصٍ بالمسلمين، ينطلق من الضوابط الشرعية العديدة التي ورد ذكرها في نصوص القرآن والسنة، سواء كانت ضوابط بداية الشهر، أو اليوم، وغير ذلك.
ويدل على هذه الغاية:
1_ في بيان عدد شهور السنة:
قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [التوبة: 36].
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) متفق عليه.
2_ وفي بيان عدد أيام الشهر القمري وأنها تدور ما بين (29) أو (30) يومًا، عن ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ)، وفي رواية: (يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ) متفق عليه.
3_ وفي بيان تحريم العبث بالشهور القمرية بالزيادة أو النقص، أو التقديم أو التأخير قول الله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَه ُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين) [التوبة: 37].
4_ وفي الغاية الأسمى التي ينبغي على المسلمين السعي إليها، والعمل على ضبطها وإتقانها قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [يونس: 5].
وقوله: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [الإسراء: 12].
وقوله: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام: 96].
وقوله: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 38_ 40]،
4_ وفي ضبط حساب الفرق بين السنوات القمرية والشمسية قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) [الكهف:25]، ففي الآية بيان أنَّ مجموع مكثهم في الكهف ثلاث مئة سنة بحساب السنوات الشمسية، والتسع للفرق ما بين الحسابين، فيكون المجموع ثلاث مئة وتسع سنوات بحساب السنوات القمرية، وهذا يدل على قمة الدقة في حساب السنوات القمرية والشمسية والفرق بينهما.
ومن المسائل التي يمكن تناولها تحت هذا المستوى:
1_ ما المقصود بالحساب الفلكي؟
2_ ما أنواع الحساب الفلكي؟ واستخدام كل نوع؟
3_ حكم الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات الشهور القمرية.

المستوى الثالث: رفع الحرج والإثم في حال الاجتهاد والخطأ:
وسواء كان ذلك الخطأ بسبب الاجتهاد في إثبات دخول الشهر، أم في صنع تقويم للأمة الإسلامية:
فعن أبي هُريرةَ _رضي الله عنه_ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وعنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ) رواه البيهقي والدار قطني.
وعَنْ عَائِشَةَ _رضي الله عنها_ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ) رواه الترمذي.
وعنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عَرَفَةُ يَومَ يُعَرِّفُ الإِمامُ، وَالأضحى يَومَ يُضَحِّي الإِمامُ، وَالفِطْرُ يَومَ يُفْطِرُ الإِمَامُ) رواه البيهقي.
ورفع الحرج هنا يدخل في عموم الأدلة الشرعية في رفع الحرج والإثم عمن اجتهد في مسألةٍ ما فأخطأ.

الخلط بين هذه المستويات أساس الخطأ في موضوعات الأهلة:
يلحظ أنَّ لكل مستوى من هذه المستويات أدلة ينبغي إعمالها والتزامها دون الإخلال بالأدلة من المستويات الأخرى، أو الأدلة الأخرى في غير هذه الموضوعات والمقاصد العامة للشريعة، ومعظم الخطأ الذي يدخل في تناول موضوعات (الأهلة) عند من يتناولها من ناحية شرعية إنما يكون في عدم التفريق بين هذه المستويات ومعرفة المقصود بكل دليل، أو في الاكتفاء بأحدها وتضخيمه على حساب المستويات الأخرى.
وقد بيَّن أهل العلم أنَّ من أهم أسباب الضلال والبعد عن الحق: الأخذ بجزء من الأدلة الشرعية وترك البعض الآخر؛ فقد قال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُون بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85].

فعند تضخيم المستوى الأول على حساب بقية الأدلة في الموضوع:
يكون إثبات الشهور القمرية في كل بلد على حدة، وبطريقة لا تراعي المقاصد الشرعية والغايات الكبرى في موضوعات الأهلة.

وعند الاهتمام بالمستوى الثاني دون النظر لبقية الضوابط الشرعية للتقويم:
يكون وضع تقاويم هجرية قمرية مخالفة للضوابط الشرعية سواء في ضوابط اليوم الشرعي، أم عدم وفائه بمتطلبات القويم العالمي الموحد، وغير ذلك.

وعند تضخيم المستوى الثالث وعدم فهم أدلته:
يكون تحميل الأدلة فوق ما تحتمل، كالزعم أن إثبات الشهور القمرية تابع لثبوتها في مكة، وما يتبعه من اتخاذ مكة مكانًا لإثبات الشهور القمرية.

فالواجب:
معرفة المقصود بكل دليل من الأدلة الشرعية من المستويات السابقة، ومكانته وصلته ببقية الأدلة الواردة في موضوعات الأهلة، وببقية الأدلة والمقاصد في عموم الشريعة الإسلامية، مما يضمن الفهم الصحيح لها، ومن ثم التطبيق السليم.
وقد سبق بيان بعض الأخطاء في فهم عدد من النصوص الشرعية، وسيأتي مزيد من الوقفات مع بقية النصوص في مقالات قادمة بإذن الله تعالى.

http://www.aleqt.com/2012/03/27/article_640689.html