الفرق بين السماع و الإجازة قديما و حديثا
قال الزركشي "رحمه الله" في نكته على مقدمة ابن الصلاح :
" وقد رأيت بخط الشيخ نجم الدين الطوفي في بعض تعاليقه : رأيت محدثي العصر يتهافتون ويتنافسون في ترجيح رواية الحديث سماعا على روايته إجازة , وإنما هذا شيء ألقوه وتلقوه عمن قبلهم , وغفلوا عن الأشياء تختلف باختلاف الأزمنة , والحق التفصيل , وهو الفرق بينهما في عصر السلف , فأما منذ دونت الدواوين وجمعت السنن واشتهرت فلا فرق بينهما .
والفرق بين الزمانين : أن السلف -رضي الله تعالى عنهم- كانوا يجمعون الحديث من صحف الناس وصدور الرجال , فدعت الحاجة إلى السماع خوفا من التدليس والتلبيس , ولهذا كان شعبة يقول : " إني لأنظر إلى فم قتادة فإن قال : " سمعت " كتبت , وإن قال : " عن فلان " لم أكتب " , وذلك لأنهم ربما كتبوا ودلسوا بالعنعنة , فإذا روى ذلك الكتاب إجازة توهم الراوي عنه أن العنعنة سماع , وهذا بخلاف ما بعد تدوين الكتب في علم المتن والسند , فإن فائدة الرواية إذا إنما هي اتصال سلسلة الإسناد بالنبي صلى الله عليه و سلم تبركا وتيمنا , وإلا فالحجة تقوم بما في السنن ونحوها , ويعرف القوي والضعيف والنقلة من كتب الجرح والتعديل .
ولما ذكرته من الفرق بين العصرين كان المتقدمون لا يروون حديثا إلا مسندا , ويسمون ما ليس بمسند تعليقا , وصار المتأخرون يصيغون كتب الأحكام ونحوها محذوفة الأسانيد إحالة على ما قرره الأولون واتفاقا , فإن هؤلاء المحدثين يصححون السماع على عامي لا يعرف معنى ما يسمع , خصوصا إذا عمر وبعد عهده بسماع ما سمع , فإنه قد ينسى ولا يعرف [ أنه ] قد سمعه إلا بوجود اسمه في الطبقة , فأي فرق بين السماع على مثل هذا وبين أن يقول : أجزت لك أن تروي عني الكتاب ؟ !
وإذ قد بان ما ذكرته أن فائدة الرواية بعد تدوين السنن إنما هو اتصال السند وسلسلة الرواية , وذلك حاصل بالإجازة , فوجب ألا يكون بين الإجازة و [ بين ] السماع فرق . نعم , لو أتفق شيخ حاذق بعلم الحديث وفوائده كانت الرواية سماعا أولى , لما يستفاد منه وقت السماع , لا لقوة رواية السماع على الإجازة , لأن تلك الفائدة تنفك عن الرواية بدليل ما لو قرئ عليه الحديث بحثا تفقها لا رواية , والله أعلم "