الحمدُ لله والصّلاةُ والسّلام على سيّد الخلق محمّد بن عبدِ الله ، وعلى آله والتّابعين ، ومن تبعهم ، واقتفى أثرهم ، واستنَّ بسنّتهم إلى يومِ الدِّينِ ثمَّ أمّا بعد :
فإنَّ الشّرعَ جعلَ قَبولَ عملِ المرءِ متوقّفٌ على أمرينِ اثنين :
أوّلهما : الإخلاصُ في هذا العمل .
وثانيهما : متابعةُ السُنّةِ فيه .
فلا يكونُ العملُ مقبولاً إلّا إن كانَ فيه هذينِ الأمرين ( الإخلاصُ ، ومتابعةُ السّنّة ) ..
وإنِّ العمل إاذا كانَ خالصاً ولم يكُن صواباً ؛ لم يُقبَل .
وإذا كانَ صواباً ولم يكُن خالصاً ؛ لم يُقبَل .
والخالِص: أن يكونَ لله ، والصّواب: أن يكونَ على السُنَّة .
فما من فعلٍ يقومُ به المرء إلّا توقّفَ على هذينَ الأمرين.
وقد أشارَ لهما أحدُ السّلف بأداتي الاستفهام :
- لمَ؟
- وكيفَ؟
لم: سؤالٌ عن علَّةِ الفعل ، وباعثه ، وداعيه ، والغرضِ منه .
وكيف: سؤال عن متابعته للسنّةِ المُطهّرة .
نقفُ الآن معَ كلُّ شرطٍ من هذينِ الشّرطين كلّ على حِدة :
الشّرطُ الأوّل لقَبولِ العمل هو: الإخلاص ، وهو :
تجريد القصد الى الله عن جميع الشوائب .
وقيل: إفراد الله عز و جل بالقصد في الطاعات .
وقيل: نسيان رؤية الخلق بدوام النظر الى الخالق .
وقد أمرَ اللهُ سبحانه بالإخلاص ، فقالَ عزَّ من قائل:
"وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ " .
وقال: " أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" .
وقال: "فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً" .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديثِ أبي أمامةَ الباهليِّ : "إنَّ الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهُه" .
ولا شكَّ أنَّ الشّيطان لا يريدُ لمؤمنٍ صلاحاً في قلبه ، ولا قَبولاً لعمله ؛ فأخذ يسلكُ بهِ طُرُقَ الغواية ليصدَّهُ عن سبيلِ الله ، ويصرفَ قلبَهُ لغيره!
ولكنَّ القلبَ لا يسلمْ من مزالقِ إبليس إلّا حينَ يجد الإخلاصُ مُستقرًّا فيه!
فقد رويَ عن أحدِ الصّالحينَ قولُه لنفسه: " أخلصي تتخلّصي " يقصد من الهوى والحظوظ .
والإخلاص هو أشدُّ شيءٍ على النّفس!
قيلَ للإمام سهل: أيُّ شيءٍ أشدُّ على النّفس؟ قال: " الإخلاص ؛ إذ ليسَ لها فيه نصيب"!
والنّفس تُحبُّ الظُّهورَ والمدحَ والرِّياسة ، فإن أرادت الإخلاصَ شقَّ ذلكَ عليها ، إلّا أن تصدُقَ في إرادتِها ، وتسعى لتحقيقه سعيَها ..
وليحذر المرءُ من أن يغترَّ بعمله!
فكم من الأعمال يتعبُ الإنسانُ فيها ، ويظنُّ أنّها خالصةً لوجهِ الله تعالى ، ويكون فيها من المغرورين!!
كلُّ عملٍ لا بدَّ لهُ من نيّة ، ومن كانَ الغالبُ على قلبه أمرُ الدِّين ؛ تيسّرَ عليهِ في أكثرِ الأحوال إحضار النيّة للخيرات .
ومن مالَ قلبُه للدُّنيا وغلبت عليه ؛ لم يتيسّر لهُ ذلك ، بل لا تتيسّر له في الفرائض إلّا بجهدٍ جهيد .
لفتة: النيّة الصّالحة لا تُغيِّر المعاصي عن مواضعها .
فلا ينبغي أن يفهمَ الجاهلُ ذلك من عموم قولِه صلّى اللهُ عليهِ وسلّم : "إنّما الأعمالُ بالنّيات" فيظنُّ أنَّ المعصية تصيرُ طاعةً بالنيّة!
وينبغي للمُسلم أن يتعلّمَ النيّة ؛ فإنّها كما جاءَ عن الإمام يحيى بن كثير -رحمه الله " أبلغ من العمل" ..
وينبغي له كذلك أن ينوي بأفعاله نيّات كثيرة ، إذ ما من طاعة من الطّاعات إلّا وتحتمل نيّات كثيرة .
ونصحَ بعضُهم ، فقال: " لا تعملنَّ عملاً إلّا بنيّة " .
- وعلى المُسلم أن يتنبّهَ لنيّتهِ في كُلِّ شيء ؛ فما من شيء من المُباحات إلّا ويحتملُ نيّة أو نيّات يصيرُ بها من محاسنِ القُرُبات!
فإنَّ المُباحَ بالنيّة الصّالحة ؛ يرتفعُ إلى قُربة ، وبالنيّة الفاسدة ؛ يُصبح معصية .
الشّرطُ الثّاني لقَبولِ العمل ، هوَ : متابعةُ السُّنّة ، وهي: الطّريقُ المسلوكة ، وتشمل التمسُّك بما كانَ عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وخلفاؤه الرّاشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السُّنّةُ الكاملة .
ولهذا كان السّلف لا يطلقونَ اسمَ السُّنَّة إلّا على ما يشملُ ذلكَ كلِّه ..
فكما أنَّ كل عمل لا يُرادُ به وجهَ الله ؛ فليسَ لعاملهِ ثواب ، فكذلك كل عمل لا يكونُ عليهِ أمرُ اللهِ ورسولُه ؛ فهوَ مردودٌ على عامله ؛
قال عزَّ من قائل: "وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا "
وقال تعالى: " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا " .
- وقد جعل الله -سبحانَه- اتباعَ سنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- علامة محبّته ، فقال:
" قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم " .
قالَ الحسن البصريّ: ادّعى ناسٌ محبّةَ الله -عزًّ وجل- ، فابتلاهم بهذه الآية :
" قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ " .
ومن كانَ عمله جارياً تحتَ أحكامِ الشّريعة ، موافقاً لها ؛ فهو مقبول.
ومن كانَ خارجاً عن ذلك ؛ فهو مردود .
عن عائشة -رضى الله عنها- قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ، وفي رواية لمُسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " ..
فضدُّ السُنّة البدعة ، وكل ما وقعَ من كلامِ السّلف من استحسانِ بعضِ البدع ، فإنّما ذلك في البدع اللُّغويّة لا الشّرعيّة ..
فقولُ عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه : " نعمت البدعة هذه " ، يُقصد بها البدعة لُغةً لا شرعاً لموافقتها السُنّة ..
عن سفيان -رحمه الله ، قال: " لا يقبل قول إلّا بعمل ، ولا يستقيمُ قولٌ وعمل إلّا بنيّة ، ولا يستقيمُ قولٌ وعملٌ ونيّة إلّا بموافقةِ السنَّة .
وقال أبو شامة عن مبارك عن الحسن البصريَّ : " السنة -و الذى لا إله إلا هو- بين الغالى والجافى؛ فاصبروا عليها رحمكم الله ، فإن أهل السنة كانوا أقلَّ الناس فيما مضى وهم أقلها فيما بقى : الذين لم يذهبوا مع أهل الاتراف فى اترافهم و مع أهل البدع فى بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا ".
فهؤلاء هم أهل السُّنّة والجماعة ، والطّائفةُ المنصورة إلى أن تقومَ السّاعة ، فنسألُ اللهَ -عزَّ وجل- أن يجعلَنا منهم ، وأن يحشُرَنا في زمرتهم بمنّهِ وكرمه .
من تلخيصي لباب الإخلاص من كتابِ البّحرِ الرّائق في الزّهدِ والرّقائق للشّيخ / أحمد فريد -حفظه الله ..