(1)
كيف تدلل ابنك تدليلا يفسده؟
أن تجعل رغبته هي الحياة وهي القانون، فينشأ وليس في ذهنه مبدأ ولا قانون ولا أصل، إنما يجد أن رغبته هي محور الصواب والخطأ في الحياة.
لماذا هذا البدء؟
لأنني أرى أن نقاد الأدب دللوا الأدباء فسار نقدهم بعيدا عن الخطأ والصواب، وصار تفسيرا وتحليلا فقط، وصار أصدق الأدب أكذبه. ولم يعتمد الموضوع أداة تقييم، بل الجمال التعبيري والبناء الفني فقط؛
فلو نطق الأديب كفرا فلا شيء عليه ما دام تعبيره جميلا شائقا، ولو جعل أدبه تغزلا في الشذوذ الأخلاقي فلا شيء عليه، ولو .. ولو ... إلخ.
لماذا؟
لأن نقاد الأدب لا يرون ذلك في اختصاصهم، بل تركوا ذلك لعلماء الدين ونقاد المجتمع.
ولم يكن نقاد اللغة كذلك، بل كانوا يستندون إلى مثالٍ يحدد الصواب والخطأ كما حدث ابن أبي إسحاق والفرزدق في أكثر من واقعة، وكانت اللغة هي المعيار الموضوعي في النقد الأدبي كما حدث بين النابغة وسيدنا حسان بن ثابت حين عرض عليه شعره ومنه:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحا ... وأسيافنا يقطرن من نجده دما
فقال كما في "شرح شواهد الإيضاح" لابن بري: إنك قللت الجفان، وقلت: "الغُرّ" ولم تقل: البيض، فاجتزيت بالوضح اليسير، وقلت: "يلمعن"، ولم تقل: يبرقن وقلت: بالضحى، وكان الدجى أغيا، وقلت: "أسيافنا"، ولم تقل: سيوفنا فقللتها حين الإقدام، كما قللت جفانك حين الإطعام.
وهذا يرتكز على الصرف ودلالات الصيغ الصرفية وعلى المعجم.
(2)
أدى ذلك إلى سيرورة السائر وشهرة المشهور من دون نقد ولا تمحيص، وكم جنت الشهرة على الحقيقة.
كيف؟
اشتهر من الشعراء من اشتهر فلم يطمع النقاد في دراسة غيرهم لعلهم يغيرون السمات الأدبية لعصورهم فينعكس ذلك على الأدب ومعاييره؛ مما جعل الدكتور مصطفى عراقي في كتابه "الرحلة إلى بلاد الأشواق .. شرح القصيدة الميمية للإمام ابن قيم الجوزية" ص 9 يقول: إن تاريخ الأدب العربي في حاجة ماسة إلى تصحيح وتنقيح، بل إنه في أمس الحاجة إلى إعادة كتابته من جديد على أسس سليمة وقواعد صحيحة".
ثم قال ص11 نقلا عن الدكتورة بنت الشاطئ من كتابها "قيم جديدة للأدب العربي: ".. ولن ينهض الأدب بهذا الدور الجليل في المعركة ما لم نتحرر من الرواسب التي شوهت تراثنا الأدبي، وما لم ننج في ذوقنا له من سيطرة الأذواق التي ورثناها من مخلفات عهود الضعف والانحطاط. بل لن تقوم للأدب العربي فينا قائمة ما لم نلغ الأسوار التي عزلت أبناءنا وأجيالا قبلهم عن أجمل ما لنا من تراث فني، ولم نمح الظلال التي حجبت عنهم بهاءه حين فرضت عليهم نماذج بعينها من الشعر".
ثم نقل عنها ص12 قولها: "... أريد أن نستخلص لأدبنا العربي قيما جديدة نابعة من تراثنا الأصيل دون التزام بالقيم وبالأحكام التي ذهب إليها نقاد سلفوا نظروا في هذا التراث بذوق عصرهم وحكموا عليه بعقلية زمانهم وقوموه بموازين بيئاتهم ومجتمعهم، ثم تركوا أحكامهم وقيمهم للعصور من بعدهم فتناقلها الدارسون منا جيلا بعد جيل وصار لها من حرمة القديم وطول العمر وسلطان الإلف ما أضفى عليها مهابة ترد عنها محاولات التجديد".
ثم نقل عنها ص 13 قولها: "حين أحاول أن أستحدث قيما جديدة للأدب العربي أجد من الضروري أن أعود إلى قديمٍ لنا بعيد لكي أستمد لأدبنا مفهوما نابعا من أصوله النقية، وقيما حرة لا ينكرها أدب العربية في جوهره الصافي الأصيل".
(3)
وقد كان كتاب الدكتور مصطفى محاولة لهذه التجربة الجديدة التي حاول فيها قراءة الإمام ابن القيم قراءة أدبية تقدمه أديبا بعد أن عرفه الجميع إماما في الدين واشتهر عنه ذلك فقط.
وعندما تكثر هذه الأعمال التي لا تعتمد الشهرة معيارا أدبيا، بل تعتمد النصوص وسماتها الأدبية سيكون التغيير المنشود إن شاء الله تعالى الذي سيطول قيم الأدب عندما يدخل نطاق النقد نصوص جديدة بموضوعات جديدة؛ لأنه كما قالت الدكتورة في كتابها سالف الذكر: "وكما لاذ أسلافنا باستنقاذ تراث العربية الأدبي والفكري في صراعهم مع الشعوبية، وكما حموا به العربية دينا ودولة في مهب الإعصار التتري- نلوذ به اليوم لحماية وجودنا في مهب تيارات الغزو الفكري".