الحيدة
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرر أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
أما بعــــــد
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمدٍ r وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .
فدرسنا هذا المساء بعنوان ( الحيدة ) ، ومعنى الحيدة: هو الميل عن الطريق اللاحب الطويل يقال: حاد حيدة ومحيدًَا وحيدان وحيدودة إذا مال وانحرف ، ومنه قوله - تبارك وتعالى -:﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ(ق:19) ، تحيد: أي تميل ، قل من الناس من يعمر مجالسه بذكر الموت بل حتى في بيوت الفضلاء ففكرة الموت مرفوضة ، فهذا جنس من البشر كان لا يذكر الموت إطلاقًا فقال الله U له:﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ، كنت كلما جاء ذكر الموت حدت عنه إلى ذكر الدنيا والأمل ، هذا أصل الحيدة وكما قال الشاعر:

يحيد حذار الموت من كل روعةٍ
ولابد من موتٍ إذا كان أو قتلِ


إما أن تموت وإما أن تقتل ، ومنه حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه مسلم في صحيحه قال: لقيت النبي r وأنا جنب فحدت عنه فاغتسلت فجئت فقال:« أين كنت ؟ » ، فقلت: كنت جنبًا ، فقال:« إن المسلم لا ينجس » ، وفي صحيح مسلم أيضًا من حديث زيد بن ثابت t أن النبيr كان يركب ناقته فمر على ستةِ أو خمسةِ أو أربعة ِ أقبُرٍ وهو جمع قبر ، فنفرت الناقة أو الدابة حتى كادت أن تلقيه ، فقال:« من دفنتم هنا ؟ » ، أو قال:« من صاحب هذا القبر ؟ » ، فقالوا: هؤلاء قوم دفنوا في الجاهلية ، قال:« لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب أهل القبور » .
المقصود بالحيدة : الميل عن الطريق ، والحيدة مذهب معروف عند بني آدم يقصد بها أحيانًا الذم ، أو المغالطة ، أو إقامة الحق ، أو الهروب من الجواب إلى غير ذلك من المقاصد ، الحيدة معنى كما في الشافعي - رحمه الله - عن أحد الرواة ويكنى أبا عبد الله الجدلي ، ما حاله في الحديث ؟ فقال: كان يجيد الضرب بالسيف ، هذا ذم أم مدح ؟ هذا ذم لأنني ما سألتك أهو شجاع أم لا ؟ ، إنما عندما أقول لك: أهو ممن يؤخذ منه الحديث أم لا ؟ فتقول: كان يجيد الضرب بالسيف كأنك تقول: هو ليس له في الحديث ، إنما هذا يصلح في المعارك ولا يصلح في الحديث ، فلما حاد عن الجواب دل على أنه جرحه ، فالحيدة هنا جرح للراوي ، كذلك عندما سئُل بعض العلماء عن الدراوردي محمد بن عبد العزيز الدراوردي هذا أحد رجال مسلم ، وهو صدوق وفيه مقال خفيف قال له: ما تقول في الدراوردي ؟ قال: يصلح أن يكون أمير المؤمنين ، هذا جرح يصلح أن يكون إمام المؤمنين يعني لا يصلح أن يكون راويًا للحديث ، الحيدة هنا عن الجواب تعد ذمًا .
وتكون الحيدة أحيانًا من باب الهروب من الجواب : والهروب من الجواب له أسباب: ممكن يكون تقوى لا أريد أن أتورط فأفتي فيما ليس لي فيه علم فأحيد عن الجواب ، كما سألت امرأة يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل وأحد أقران الإمام أحمد قالت: ما تقول في بئر سقطت فيه دجاجة فماتت ، نحن نعلم أن كل كائن يتنجس بالموت إلا الإنسان الموت نجاسة لكل كائن حي يكون نجي على الفور إلا الإنسان ، هذه الدجاجة عندما تسقط في بئر صارت نجسة ، فهل تنجس ماء البئر أم لا ؟ لم يكن لدى يحيى جواب ، فقال لها: ويحك لما لم تغطي البئر ،لكن لم يكن لديه جواب ليقول: الماء نجس لا يجوز أن يتطهر به ، أو انه طاهر يجوز أن يتطهر به ، إنما حاد عن الجواب وقال: لما لم تغطي البئر .
أما الحيدة على سبيل المغالطة فهى موضوع درسنا اليوم : ومن أشهر من حاد على سبيل المغالطة فرعون كما ذكر الله - تبارك وتعالى - ذلك في سورة الشعراء عندما وقعت المناظرة بين موسى u وبين فرعون الملعون ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ﴾(الشعراء:23- 25) هذا بداية الحيد لأنه عندما قال:﴿ قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ ينبغي أن يكون هناك جواب ، لا ليس لديه جواب إنما بدأ يحيد يخرج عن الموضوع ﴿ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ﴾ هل يعجبكم الكلام ؟ لم يجاريه موسى في الحيدة إنما استمر في تأسيس الحق الذي بُعث به ﴿ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ(الشعراء:26) ، فبدأ فرعون يزداد في حيدته ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(الشعراء:27) هذا ليس جوابًا عن كلام موسى لم يحد موسى u ، بل استمر في تأسيس الحق الذي بُعث به ﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(الشعراء:28) هنا انتهى الكلام ، ولم يجد فرعون بدًا من أن يغير لغة الحوار﴿ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(الشعراء:29) انتهى الكلام ما بقيا إلا السجن ، فحينئذٍ حاد موسى عن إثبات الحق بالكلام ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ(الشعراء:30) لم نعد نتكلم سندخل في العمل ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ ﴾(الشعراء:30- 34) فرعون ﴿ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾(الشعراء:35،34) فرعون يقول لقومه:﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ هذا نموذج لابد من تحليله لأن هذا النموذج يتكرر كثيرًا ويتكرر الآن في زمننا على وجه الخصوص بصورة قبيحة للغاية ، أول كلمة بينت أن فرعون سيحيد لفظة( ما) ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ ونحن نعلم أن ما لغير العاقل بخلاف من ﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ إذا كان رب السماوات والأرض وما بينهما يكون ماذا بقى لفرعون ، لم يبق له شيء وهو الذي كان يقول:﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي(الزخرف:51) ، وقال:﴿ فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى ﴾(النازعات:24،23) إذا كانت السماوات والأرض وما بينهما ملك لله - تبارك وتعالى - ، فماذا بقى لفرعون ؟ ، ولذلك هذه كانت أول صدمة له لم يتحملها فبدأ يحيد ويخاطب الذين كانوا يظهرون عبادته ﴿ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ﴾ أي أيعجبكم هذا الكلام ؟ ﴿ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ* قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ النبي r أتهم بهذا الجنون ، قالوا: مجنون وساحر وشاعر وكاهن ، هل تذكرون أنا لا أذكر في حدود علمي ،أن النبي r توقف يومًا ليقول لقريشٍ: أنا لست بمجنون أنا رجل عاقل ، هل قالها ؟ ما قالها قط ولا قال: أنا عاقل لأن الناس جميعًا يعلمون أنه عاقل.
أهل الديانة يفضلون أن يبذلوا أعراضهم ولا يضيعون أوقاتهم في الدفاع عنها: فمن باب تضييع وقت الحق أنك إذا خيرت بين أن يُسلب عرضك أو أن تبين الحق للناس لا ، أهل الديانة يفضلون أن يبذلوا أعراضهم ولا يضيعون أوقاتهم في الدفاع عنها صيانة لوقت الحق لأن الوقت الذي ستنفقه في الدفاع عن نفسك الحق أحوج به ولذلك استمر موسى u في بيان الحق الذي بُعث به عندما قال:﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ لم يقل له: أنا عاقل وأنا لست بمجنون ، وكيف يكلف الله رجلًا مجنونًا أن يبلغ عنه أعرض عن هذا تمامًا واستمر يتكلم ﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ، عندما انتهى وقت الكلام .
ينبغي أن يكون لدى الداعية بدائل : وهذا لا يستفيد أي رجل يدعو إلى الحق بهذه البدائل إلا إذا راجع مناظرات العلماء مع أهل البدع أو مع خصومهم عمومًا ، أنا عندما أتقدم لدخول معركة لابد أن يكون لدي بدائل في الجيش عندما يجلس القادة لكي يفعلوا خطة المعركة يفعلوا خطتين: خطة انتصار ، وخطة هزيمة لو انتصرت هل أسير أم أقف ، هل أخذ يمين أم أخذ شمال ؟ هذه كلها خطط ولابد أن يكون الجنود والقادة الذين يقودون الجنود في ميدان المعركة على علم بها ، لو انهزمت ، كيف أرتد بجنودي ارتد ارتداد عشوائي مثل سنة سبعة وستين وكله يجري في الصحراء بلا غطاء خوي لكي تصطاد كل الصواريخ الناس الذين يسيرون في الصحراء ، أم انسحب انسحابًا منظمًا ؟ .
أنا بهذه المناسبة اضرب المثل بحرب سبعة وستين وحرب ثلاثة وسبعين: حرب رمضان ، وأقول لك: القائد العسكري كيف تصرف في هاتين الحربين ؟ ولأن الدعوة مثل المعركة بالضبط ، والذي يدخل باب الدعوة ليس لديه خطة حربٍ سيهزم وعندما أقول: خطة حرب أي ليس داخل أن يحدث مشاكل ، لا ، أنت لديك خصوم يريدون القضاء عليك ، فأنت لابد أن تكون واعيًا تعلم الواقع الملائم ، وتعلم الدليل الذي يناسب هذا الواقع لأن أحيانًا يستخدم المرء الدليل في غير مكانه فيفسد ، حرب سبعة وستين رغب وزير الدفاع القائد الأعلى للقوات المسلحة المشير عبد الحكيم عامر آنذاك أنه يفعل مثل ما فعل رومل أو غيره في الحرب العالمية الثانية يفعل شيء اسمه ستارة الدبابات ، حشدوا الدبابات في صحراء سيناء في مكان جبلي المكان الجبلي هذا عندما أفعل ستارة دبابات المفترض أي عدوان أتي أنا سأبيده تمامًا بالدبابات ، لكن عندما أتي بالدبابات وأضعها داخل الجبل ، من أين يأتي لي العدو؟ من الجبل أم من الطرق المرصوفة ؟ من الطرق المرصوفة المعبدة التي تستطيع الدبابات أن تسير عليها ، فعندما أترك الطرق المعبدة فارغة وأتي على الجبال وأرص الدبابات لكي أفعل ستارة دبابات ، هل هذا يصح أن يكون قائد ؟ لا يصح أن يكون قائد ، ولذلك دباباتنا كلها دمرت والتي لم تدمر استولى عليها العدو سليمة ، أنا لن أتكلم على هذا أنا.
http://tafregh.a146.com/play.php?catsmktba=58
رابط تحميل المحاضرة كاملة