تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: خبر الآحاد بين الظن واليقين

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    125

    افتراضي خبر الآحاد بين الظن واليقين

    قد كنت نشرت هذا الموضوع في ملتقى المذاهب وأحب أن أشارك به في هذا الملتقى المبارك إنشاء الله

    خبر الآحاد

    بين الظن واليقين


    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ وبعد :
    هذا الموضوع هو من جنس الخواطر التي كنت نشرت بعضها هنا ، ولكني أفردت حديث الآحاد لأنه موضوع مستقل بذاته ولوعدي بذلك .
    واعلم أني لا أستحسن ما يصنعه كثيرون من الإغراق أولاً في تعريف الألفاظ وبيان اختلاف المعرفين ثم ما يرد على كل تعريف من غير أن يكون لذلك تعلق بأصل الموضوع الذي هو في صدده ، ويزيد عامتهم نقل الاختلافات ثم تصحيح تلك النقول ، ثم يختم البحث بحواشي مطولة ، فإذا نظرت في بحثه الذي يتكون مثلاً من نحو عشر صفحات ، وجدت الثلاث الورقات الأول في التقديم للموضوع ، والثلاث الأخيرة للحواشي والمصادر ، وأصل الموضوع ضائع في باقي الورقات الأربع بين ثنايا كلام لا علاقة له بأصل الموضوع المبحوث.
    وهذا الإستعراض للعضلات أمر مستهجن في اعتقادي يدل على خواء صاحبه من العلم حقاً ، وأنه لا يحسن من العلم سوى النقل.
    وإنما ذكرت هذا هنا تنبيهاً لي ولغيري ممن عساه أن يقبل.
    ثم أدخل في الموضوع رأساً فأقول :
    تنقسم الأخبار إلى متواتر وآحاد ، نعرف كلا منهما مع أن مقصودي هو الآحاد لكون تعريف المتواتر يعين على فهمه وفهم موضع النزاع مع ابن حزم كما سيظهر لك.
    الخبر المتواتر : هو الخبر الذي رواه جماعة كثيرة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب أو توافقهم على الخطأ وكان مستندهم الحس.
    ويفيد نفي تواطؤهم على الكذب أنه صدق يقيناً ، ونفي توافقهم على الخطأ أنه صواب يقيناً ، ومجموع الصدق والصواب اليقينيين هو العلم ، لأنه معرفة الشيء على ما هو عليه في الواقع.
    لذا قيل في تفسير المتواتر : هو الذي روته جماعة بلغت كثرتهم بحيث تفيد العلم.
    أما خبر الآحاد : فهو الذي روته جماعة لم يبلغوا من الكثرة بحيث تحيل العادة تواطؤهم على الكذب أو توافقهم على الخطأ .
    ومعنى كونه العادة لم تحيل التواطؤ على الكذب ولا التوافق على الخطأ أنه محتمل للكذب أو الخطأ أو مجموع الأمرين ، وهو المراد بعدم إفادة الآحاد العلم.
    وقد يقال : في هذه التعاريف مصادرة ، لأن الذي يقول بإفادة الآحاد العلم لا يسلم احتمال الآحاد الكذب أو الخطأ.
    ويجاب بأن الكلام عما يفيده الخبر من جهة نفسه لا بالنظر إلى أمر خارج ، وهذا المقدار مسلم كما سيأتي.
    وقد سلم ابن حزم رحمه الله بهذا القدر حيث قال : "أما احتجاج من احتج بأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجوز عليه الكذب والوهم فهو كما قالوا" 1/87 فلم ينازع أن كل أخبار الآحاد يجوز عليها الخطأ والوهم والكذب ، وهذا يقيني وجداني ، بمعنى أن كل عاقل يجد في نفسه جوازه. لكنه استثنى رحمه الله قائلاً : "إلا أن يأتي برهان حسي ضروري أو برهان منقول نقلا يوجب العلم من نص ضروري على أن الله تعالى قد برأ بعض الأخبار من ذلك فيخرج بدليله عن أن يجوز فيه الكذب والوهم"
    فشرط رحمه الله في الدليل الذي يحصل به الاستثناء أن يكون يقينياً أو ضرورياً كما عبر ، وذلك أيضاً مسلم ، فكل دليل ظني أو محتمل فهو مردود باليقين الحاصل في النفس من كون خبر الآحاد يجوز فيه الكذب والوهم ، إذ المعارف اليقينية أدلتها أو مقدماتها يقينية ، إذ لو لم تكن ذلك وتطرق إليها الاحتمال ، جاز أن تكون باطلة ، وأن يبطل مدلولها ببطلانها ، وهذا يناقض اليقين المفروض. ولا خلاف معه ـ أرجو ـ في كون اليقين مقدماته يقينية.
    والله أعلم.

    قال ابن حزم رحمه الله : "وقال أبو بكر بن كيسان الأصم البصري لو أن مائة خبر مجموعة قد ثبت أنها كلها صحاح إلا واحدا منها لا يعرف بعينه أيها هو قال فإن الواجب التوقف عن جميعها فكيف وكل خبر منها لا يقطع على أنه حق متيقن ولا يؤمن فيه الكذب والنسخ والغلط"
    أقول : وهذا كلام متين قوي على أصول من يمنع التعبد بالظن ، وقد رام ابن حزم رحمه الله دفعه فقال : "أما قول ابن كيسان فباطل لأنه دعوى بلا دليل بل الواجب حينئذ البحث عن الخبر الواهي والمنسوخ حتى يعرف فيجتنب وإلا فالعمل واجب لأن الأصل وجوب العمل بالسنن حتى يصح فيها بطلان أو نسخ وإلا فهي على البراءة من النسخ ومن الكذب والوهم حتى يصح في الخبر شيء من ذلك فيترك لقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا} ولقوله تعالى {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم} ولقوله تعالى { لتبين للناس ما نزل}" 1/120

    [تنبيه : نسخة الشاملة في خطأ في نقل الآيات ، حيث اقتصر في المطبوع على موضع الشاهد من الآيات ، وأوردتها نسخة الشاملة بأتم .]

    أقول : كلام ابن كيسان هو في الأحاديث المائة حال عدم تَمَيُّزِ الخبر الواحد الذي لم تثبت صحته ، وليس في كلامه المنع من البحث عنه وعن مرتبته حتى يعترض به ، فحال عدم التمييز كل خبر من المائة يجوز أن يكون ذلك الخبر الواحد ، وأصل ا لبراءة لا يمنع ذلك الجواز ، فما دام جائزاً فكل خبر منها ليس بيقيني الثبوت ، فلا يصح العمل به لعدم اليقين عن من يرفض العمل بالظن كابن حزم ، واعتراضه بالآيات غير وارد على ابن كيسان ؛ لأنها عنده وعند ابن حزم وكل من رفض العمل بالظن لم تأمر بالتمسك والعمل بكل ما نُسِبَ إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل بما ثبت عنه سبحانه وعن نبيه صلى الله عليه وسلم بيقين ، فلا تدخل هذه الأخبار الماء التي يجوز في كل واحدٍ منها أن يكون ذلك الخبر الذي لم تثبت صحته ، فكل واحدٍ منها قبل تميز ذلك الخبر ليس بيقيني الثبوت ، فكل واحدٍ منها ليس مأمورٌ بالتمسك به والعمل به ، بل يزعم ابن حزم أن كل ظني فنحن مأمورون بعدم التمسك به وبترك العمل به ، فيدخل في ذلك هذه الأحاديث الذي كل منها يحتمل أنه الخبر غير ثابت الصحة.
    ثم اعترض ابن حزم رحمه الله على ابن كيسان بأن القرآن فيه الناسخ والمنسوخ ، وأنه وقع الاختلاف في تعيين المنسوخ من المحكم ثم قال : "فما قال مسلم قط لا ابن كيسان ولا غيره إن الواجب التوقف عن العمل بشيء من القرآن من أجل ذلك وخوفا أن يعمل بمنسوخ لا يحل العمل به بل الواجب العمل بكل آية منه حتى يصح النسخ فيها فيترك العمل بها" 1/120-121.
    أقول : لم يقل أحد قط لا ابن حزم ولا ابن كيسان ولا غيرهما أن كل آية من كتاب الله فهي ملتبسة لا يعلم أمحكمة هي أم منسوخة ، ولا قالوا أن كل آية محتملة لذلك حتى يلزم ترك الجميع لكونه ظني محتمل. هذا أولاً.
    وثانياً : الكلام في ثبوت النقل غير الكلام في النسخ ، فإن الآيات التي اعترض بها ابن حزم أولاً على ابن كيسان جميعها يدل بيقين على وجوب التمسك بما ثبت عن الله سبحانه ـ بشرط اليقين عند ابن حزم ـ فلا يجوز إخراج شيء منها عن هذا الحكم باحتمال النسخ ، بل متى ثبت النسخ بيقين حكمنا به ، وإلا وجب التمسك والعمل به للآيات السابقة.

    أما النقل ، فإن الآيات لم تدل عند ابن حزم على التمسك بكل خبر نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم تثبت صحته ، بل لا تدل إلا على التمسك بما تيقنا صحته ، وليس هذا هو حال الأخبار المائة المذكورة ، فظهر أن ما احتج به ابن حزم على ابن كيسان هي حجج ابن كيسان على ابن حزم.
    وأما قول ابن حزم : "وإلا فهي على البراءة من الكذب والوهم حتى يصح في الخبر شيئاً من ذلك فيترك"

    أقول : فيما تقدم الجواب عنه ، لكن نقول : ذلك الحديث الذي لم تثبت صحته وضاع بين باقي المائة ، أهو على البراءة من الوهم والكذب ويجب العمل به أم لا؟
    إن قال نعم ، لزمه العمل بكل خبر قرأناه من غير حاجة إلى الكشف عن حاله لأن أصل البراءة يشمله .
    فإن قال : إنما قلنا بوجوب العمل بتلك البراءة إذا لم يتبين حال الخبر بعد الكشف والبحث .

    قلنا : فكلامنا باقٍ على حاله لم يتغير منه شيء ، لأن حال ذلك الخبر بعد الكشف والبحث هو حاله قبل الكشف عنه والبحث ، فهو في الحالين غير ثابت الصحة.
    سلمناه ، فيلزم أن كل خبر بحثنا عن حاله ولم يظهر لنا بعد البحث صحته أنه يجب العمل به لأصل لبراءة المذكور.
    فإن قال : ذلك مختص بالحديث غير الثابت إذا اختلط بأحاديث صحيحة.
    قلنا : فكلامنا باقٍ على حاله كما تقدم لأن حال الحديث بعد اختلاطه كحاله قبل اختلاطه ، إذ هو في الحالين غير معلوم الثبوت والصحة.
    سلمناه ، فيلزم أنه لو اختلط حديث صحيح بألف ثبت ضعفها لكن لم نعلم أيها الصحيح أن نعمل بجميع تلك الأخبار لاحتمال أنها ذلك الخبر الصحيح ، والأصل البراءة المذكورة.
    فإن قال : اختلاف النسبة يمنع منه.
    قلنا : هذا جارٍ على من يعمل بالظن فإن فوائد النسب ظنية.
    سلمناه : فيلزم أن من فتح كتاب الترمذي أن يعمل بكل ما رآه فيه من غير كشف لأن نسبة الصحيح فيه تفوق الضعيف كثيراً.
    سلمنا أنه لا يصح ذلك إلا بعد الكشف ، فمن كشف ولم يتميز له شيء من لجهله بعلم الحديث مثلاً فيلزمه العمل بالجميع وتثبيته للأصل المذكور.
    سلمنا اختصاصه بمن يحسن البحث دون من يجهل علم الحديث ، فيلزم كل من لا يحسن علم الحديث ترك العمل بالحديث رأساً ، لأنه لا يستطيع تمييز الصحيح من الضعيف.
    ثم قال رحمه الله : "وقول ابن كيسان يوجب ترك الحق يقينا" 1/121
    أقول : هل يلزم منه ترك الحق يقيناً حال معرفته يقيناً أم حال عدم العمل اليقيني به ؟

    أما الأول فليس بقوله ، فإنه صرح بأن الترك هو حال احتمال أن يكون كل خبر من المائة هو ذلك الذي لم تثبت صحته ، فلا يقين حال الترك.
    أما الثاني ، فلا يضر لأنه المأمور به في الكتاب والسنة عند ابن حزم ، أي ما دام محتملاً فهو ظني منهي عن اتباعه ، ولو جاز في نفس الأمر أن يكون صحيحاً.
    فترك العمل بالحق كان من أجل قيام المانع الشرعي من العمل به ، ولم يكن عن هوى لابن كيسان في بطر الحق ورده.
    قال ابن حزم "ولا فرق بين ترك الحق يقينا وبين العمل بالباطل يقينا وكلاهما لا يحل"
    أقول : هذا يقع فيه كل مسلم ولا يضره ما دام غير متبع في شيء من ذلك لهواه.
    وقد يستعظم القارئ ابتداءً هذا القول ، لكن نبينه بأن نقول : ما من مجتهد إلا ويقع منه الخطأ والصواب حتى ابن حزم ، ثم ذلك الخطأ قد يكون نفياً لحق أو عملاً بباطل في نفس الأمر ، ولا شك أنه واقعٌ فيهما أو في أحدهما ، غير أنه معذور إذ فرضه العمل بما أداه إلى اجتهاده.
    فكذلك نقول في ابن كيسان.
    والله أعلم.
    يتبع ...

    [COLOR=#FF0000 ]الموضوع الاصلي:[/COLOR] خبر الآحاد بين الظن واليقين, [COLOR=#FF0000 ]الكاتب:[/COLOR] وضاح أحمد الحمادي, [COLOR=#FF0000 ]الموقع:[/COLOR] الملتقى الفقهي

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    125

    افتراضي رد: خبر الآحاد بين الظن واليقين

    ثم شرع رحمه الله في إيراد أدلته على إفادة خبر الآحاد اليقين ، ولا بُدَّ قبل مناقشتها من تذكر أن خبر الواحد صفته احتمال الوهم والكذب كما سلمه ابن حزم سابقاً ، وأنه لا يخرج عن ذلك إلا ما دل الدليل اليقيني ـ الضروري ـ على خروجه وعدم احتماله الوهم والكذب.
    قال رحمه الله : " قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وقال تعالى آمرا لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} وقال تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وقال تعالى {لتبين للناس ما نزل إليهم}
    1. فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل.
    2. فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين .
    3. وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه، إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا وضمانه خائسا، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل، فوجب أن الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا قال تعالى {لأنذركم به ومن بلغ}.
    فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس"
    أقول : المنازعة واردة عليه في كل ما استدل به ، فقوله سبحانه : {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} يحتمل أن يُرَادَ به القرآن خاصة كما قاله الطبري رحمه الله .
    فإن قال : اللفظ عام يشمل جميع ما ينطق به صلى الله عليه وسلم، قلنا هذا بناءً على إعادة الضمير إلى المنطوق به ، ويحتاج إلى دليل يقيني ضروري على تَعَيُّنِه وإلا كان محتملاً ، واليقين حاصل بأن ما نقل بطريق الآحاد يحتمل الوهم والكذب ، ولا يجوز الخروج عن هذا اليقين أو الإستثناء منه بدليل محتمل.
    سلمنا أن الضمير عائد على النطق بالدليل اليقيني ، فهو عموم يجوز فيه التخصيص.
    فإن قال : العام عندنا يقيني الدلالة على أفراده.
    قلنا : سلمناه ، ولكن ليس بيقيني الدلالة على أن كل فرد من أفراده مُراد ، كما لو قال صاحب قطيع غنم بعد صلاة العيد للجزار : (إذبح الغنم الآن) ، فإن دلالة الغنم على كل غنمة من غنم القطيع يقينية ، ومع ذلك يجوز أن لا يريد إلا غنم الأضحية خاصة.
    فإن قال : هذا عند وجود الدليل أو القرينة خاصة ، وهي هنا لام العهد.
    قلنا : وما الدليل على أن إرادة الخصوص يجب أن تكون مرتبطة بالقرينة ؟ بل الظاهر خلافه كما في قوله سبحانه ، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فحمل الصحابة لفظ ظلم على عمومه ، وهم أهل اللغة ، فبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المراد بالظلم الشرك خاصة لا كل ظلم.
    فإن قيل : قد جاءت فيه القرينة وهو قوله سبحانه {إن الشرك لظلم عظيم}.
    قلنا : ليس هذا من جنس القرائن أصلاً ، وإن كان فعرفونا من أي الأنواع هي.
    فإن قيل : فقد استدل به رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيان أن الظلم هو الشرك.
    قلنا : فالقرينة هنا هي قول رسول الله ، ولولا تبيينه لم يُفْهَم من قوله سبحانه {إن الشرك لظلم عظيم} تخصيص الآية السابقة به ، وعليه فقبل بيان النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة كان لفظ ظلم من العام المراد به الخصوص من غير قرينة.
    سلمنا أنه لا بُدَّ من قرينة ، فمن أين لكم أنه يجب أن تبلغ كل مسلم أو كل من طلبها ؟
    إن قال : لأن القرينة من الذكر في في الحفظ كالذكر .
    قلنا : إن أردتم أن القرينة تكون من القرآن وقد تعهد الله بحفظه ، بطل استدلالكم بالآية على حفظ الحديث ، وإن أردتم أن القرينة قد تكون نصاً من كتاب أو سنة .
    قلنا : فإن جاز أن تكون من السنة فقد جاز أن لا تكون محفوظة بناءً على القول بأن الذكر المحفوظ في الآية هو القرآن كما قدمناه عن الطبري ، وعليه يجوز أن يكون هناك قرينة على تخصيص الآية في نفس الأمر لكنها لم تحفظ فلم تبلغنا.
    إن قال : قد قدمنا عموم الآية لكل ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريعاً.
    قلنا : إنما قلتموه بناءً على عدم وجود القرينة المخصصة ، فأما إذا جوزتم وجودها من السنة ، فلا تصح دعوى العموم حتى تدلوا على عدم المخصص من أمر خارج غير السنة .
    فإن قالوا : فإنا نمنع أن تكون القرينة غير محفوظة ، لأن حفظ القرينة المخصصة للذكر من حفظ الذكر.
    قلنا : هذا عموم آخر ، فإن الحفظ في الآية قد يجوز أن يراد به حفظ لفظه من الضياع فقط ، ويجوز أن يكون حفظ للفظه من الضياع ومن الإبهام بحيث يلتبس ولا يفهم منه معنى. ويرد على هذا العموم ما أوردناه على عموم الذكر.
    فإن قال : العموم هنا شامل للأمرين ، بدليل ما ذكرناه سابقاً من قوله تعالى {لتبين للناس ما نزل إليهم} وقوله سبحانه {لأنذركم به ومن بلغ} والنذارة لا تحصل بما لم يتبين ثبوته أوالتبس معناه.
    قلنا : يأتي لاحقاً الكلام المفصل على الآيتين لكن فيما يتعلق بالاستدلال بهما هنا نقول : يرد عليه عامة ما تقدم ، فإنه قيل في {ما نزل إليهم} القرآن ، ولا يقال بالعموم حتى ينفي ما قدمناه من إمكان مخصص لم يحفظ أو حفظ ولم يبلغه وغيره مما تقدم وسيأتي، وقوله {لأنذركم به} فهو القرآن يقيناً إذ سياق الآية {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}.
    سلمنا أن القرينة قد تكون من الكتاب والسنة وأنهما محفوظان ، لكن نقول : يجوز أن تكون القرينة من غير الكتاب والسنة كاللغة والقياس والمفاهيم والأحوال ، وهذه لم يتعهد الله جل وعلا في الآية السابقة بحفظها.
    فإن قال : هي محفوظة لأن حفظ الذكر يلزم منه حفظه وحفظ ما لا يتم حفظه إلا به.
    قلنا : فيه نظر ، ولِنَخْتَصِرْ نقول : فالحفظ المذكور في الآية ، من أين لكن أن المراد به الحفظ بيقين ؟
    فإن قال : لأن خبر الله جل وعلا لا يجوز عليه الكذب ، فإن أخبر بالحفظ فهو واقع بيقين.
    قلنا : في هذا مغالطة ، فإنا نسلم أن الحفظ واقع في نفس الأمر بيقين ، لكنا خلافنا معكم في الطرق التي حصل بها الحفظ ، لِمَ لا يجوز أن تكون الوسائل التي تم بها ذلك الحفظ الذي نعلم وقوعه يقيناً هي وسائل ظنية ؟
    فإن الظن واقع في علمنا بالنص المحفوظ لا في حفظ النص.
    فإن قال : إن لم نتيقن الحفظ لم نتيقن صدق الوعد به.
    قلنا : لا نسلمه ، فإن صدق الوعد لثبوت صدق الواعد سبحانه بالأدلة اليقينية لا بثبوت جميع النصوص كل نص بدليله اليقيني.
    وبيانه أن نقول معترضين : هل يجب على الله جل وعلا إذا حفظ النصوص أن يُعْلِمَ كل مسلم هذه النصوص بطريق يقيني ؟
    إن قيل : نعم .
    قلنا : فهذا القدر لم يعد الله جل وعلا به ، فلا بُدَّ من دليل يقيني ـ ضروري ـ عليه ، وإلا استصحبنا اليقين الحاصل بجواز الوهم والكذب على الآحاد لرد كل دليل محتمل.
    ونقول : هل يجوز أن يخطئ العالم فيضعف الحديث الصحيح ؟
    فإن قال : لا، سقط معه الخطاب ، إذ لا فائدة من خطاب مكابر ينكر الحس.
    وإن قال : نعم .
    قلنا : فقد جاز أن يحفظ الله ذلك الحديث الصحيح حتى بلغ العالم ثم يجهل ذلك العالم أنه محفوظ بحفظ الله ويظنه ضعيفاً ليس بذكر.
    فإذا جاز ذلك في العالم الواحد فهل يجوز في الإثنين والثلاثة والعشرة والمائة ؟
    فإن قال : لا ، كابر. لأنا نرى كثير من أهل العلم يتفقون على تضعيف حديث ويخالفهم غيرهم فيصححه ، فالحس شاهد بأن النص قد يكون ذكراً موعوداً بحفظه ويجهل ذلك جمع من أهل العلم المختصين المتطلبين لمعرفة النصوص.
    وإذا جاز لله سبحانه أن لا يظهر طريق معرفة الذكر الصحيح عن واحد أو عشرة جاز أن لا يظهره لجمهور الأمة.
    وإذا استبان لك هذا فما من خبر آحادي غير محتف بقرينة إلا ويجوز فيه أن يصحح والأصل ضعفه أو يضعف والأصل صحته. فمع هذا الإحتمال كيف يكون يقينياً.
    والأمر يطول جداً فأختم الكلام في هذه الآية بالقول :
    إن الله جل وعلا إنما توعد بحفظ الذكر فقط ، وحديث الآحاد لا نتيقن أهو من الذكر حتى يدخل في هذا الوعد أو هو وهم وخطأ وكذب فلا يكون داخلاً في هذا الوعد بالحفظ.
    يتبع ...

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    125

    افتراضي رد: خبر الآحاد بين الظن واليقين

    والحديث الذي يفيد اليقين عنده رحمه الله هو الذي رواه الثقة عن الثقة إلى آخره.
    فيأتي الكلام هنا على الثقة ، فإنه يُعرف بتوثيق أئمة الجرح والتعديل ويرد عليه سؤال ، وهو :
    هل كلام أئمة الجرح والتعديل صواب بيقين؟
    إن قال : نعم.
    قلنا : فما بالهم اختلفوا؟
    وإن قال : لا.
    قلنا : فيجوز حينئذٍ أن يوثقوا من هو ضعيف في نفس الأمر .
    فإن قيل : إنهم إن أجمعوا على توثيق رجل فهو ثقة بيقين.
    قلنا : يرد عليه أمور ، منها أن أئمة لجرح والتعديل ليسوا جميع الأمة فكيف يكون إجماعهم حجة فضلاً عن أن يكون يقينياً؟ وهذا بناءً على بعض ما قاله في الإجماع وسيأتي قريباً إنشاء الله في (خواطرنا على النبذ).
    وأيضاً هب أن إجماعهم يقيني ، فكيف حال من اختلفوا فيه أمرهم ولم يجمعوا على ثقته وهم أكثر الرواة؟
    فأذا جاز الخطأ في توثيق راوٍ فيجوز في الحديث الذي نظن أنه من رواية الثقة عن الثقة أن يكون من رواية ضعيف عن ثقة أو بالعكس ، أو يكون من رواية الضعيف عن الضعيف، فلا يكون حديث الآحاد المروي بهذه الطريق يقينياً لهذا التجويز.
    ثم لو سلمنا أن ما رواه الثقة عن الثقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيد اليقين ، فنسأل: هل يفيد اليقين مطلقاً أو بشرط عدم الشذوذ والعلة القادحة؟
    إن قال : مطلقاً.
    قلنا : فهذا خلاف قول أهل الحديث ، وقد صنفوا كتباً في العلل وخطؤوا الكثير من روايات الثقات .
    فإن قال : فعلهم ليس بحجة.
    قلنا : فكيف كان توثيقهم لراوٍ حجة وتخطئتهم له في رواية ليس بحجة؟!! فتارة يكونون حجة وتارة لا يكونون؟
    فإن قال : بل لا يكون حديث الثقة عن الثقة حجة حتى ينتفي عنه الشذوذ والعلل القادحة.
    قلنا : فما من حديث يرويه الثقة عن الثقة إلا ويجوز أن يكون شاذاً أو أن تكون فيه علة قادحة . فعاد حديث الآحاد ظنياً مرة أخرى.
    فإن قيل : ولِمَ قلتم أن كل حديث فيجوز أن يكون معللاً علة خفية أو أن يكون شاذا.
    قلنا : لأن ما من ثقة إلا ويجوز عليه الخطأ والوهم وتعمد الكذب عقلاً ، والقرائن الكاشفة عن الخطأ غير محصورة.
    ودعوى إمام من الأئمة الإطلاع على جميع الأحاديث وجميع طرقها باطل ، وإنما يستقيم ذلك في القليل مما احتف بالقرائن أو أجمع أهل العلم على صحته كأحاديث الصحيحين سوى المنتقد منها. ونحوها.
    ونحن لا ننازع في أن ما كان ذلك حاله فهو يقيني ، لكن الشأن في خبر الثقة مطلقاً ، الخالي عن القرينة المفيدة ليقين ثبوته.
    فإما أن تقولوا ببطلان الإحتجاج بحديث الآحاد لأنه يفيد الظن ، أو تقبلوا العمل بالظن .
    والله سبحانه أعلم

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •