قلُوبٌ شَاكيَةٌ, وعَبَراتٌ سَاجِمَةٌ
فلِمَنْ يَكتُبُ الأديبُ ؟!
_ أحياناً أُمسكُ يراعي , وأغمسه في عَبَرات جفوني , ونبضاتِ قلبي , لأكتبَ شيئاَ ما , مما يجول في خاطري , وينثالُ في مخيلتي ولأسطِّرَ ما كتبتُ في سِفْر الأحزان...
فتخاطبني نفسي جهاراً, وأحيانا تهمس في سرّي قائلةً: ومن يقرأُ في هذه الأيام؟ ثم إذا كان الحزنُ يسيطرُ عليك فلا تُعكّر بدموع أوراقِك وقوافيك مزاجَ الآخرين ! , ولا ترمِ عليهم وابلاً من المآسي والأحزان , فإن فيهم ما يكفيهم...
...فأهمُّ بأن ألقي بالقلم جانباً, وأمزق أوراقي , وأُلَملم شتاتَها المتناثرَ كروحي, وإذ بنفسي تحدثني أيضاً , فأصغي إليها وإذا بها تقول لي : ولِم لا تكتبُ ؟ أو ما علمتَ أن هناك آلافاً من القلوب الشاكية , والعيون الباكية , والعبراتِ الساجمةِ , والنفوسِ المتألمة التي بحاجة إلى من يُضمّد لها جراحها, ويسكب عليها بلسمَ الكلماتِ , فيكفكفُ عن وجناتها دموعَها , ويَمسح بلمسةٍ حانيةٍ غبارَ الزمنِ المتراكم , والرزايا العصيبةَ التي رانت على النفوس ؟ ! ..
أو ما علمتَ أن الخليَّ من الهموم والأحزان لا يحتاج إلى كتاباتك بقدر ما يحتاج إليها ذو القلبِ المتألم , والجفن الباكي؟....اكتب ـ يا صاحبي ـ فلعل الحزانى والثكالى وأولي الأسى يجدون فيما يقرؤون سُلوانا يُنسّيهم أحزانهم , وتجلُّداً يصبّرُهُم , أو على الأقل فإنهم يجدون في يراعك شريكاً يمشي معهم في دروب العذابِ, ويتجرع معهم كؤوساً مترعة من الحرمان والشقاء..
اكتب , ففي زماننا كثيرٌ من الناس تُرَجِّع حناجرُهم صدى المتنبي وهو يقول :
رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتّى تكسرتِ النّصالُ على النّصال
ـ لولا الأسفارُ لما نظمتُ كثيراً من الأشعار , ولمَا جالت في خاطري كثير من الأفكار , فشكري لكَ , وعظيم ثنائي أهديه إليك أيها السَّفرُ ...رغم أنك قطعة من العذاب...
ـ في كثيرٍ من الأحيان أرنو بعين البصيرة والمنطق , جاعلاً من الخيال مطايا للمستقبل , فأرى تلك المطايا تحملُ جبالاً من الآلام , وتغوص في بحارٍ من الأسى, كما أنها تحملُ دموعاً تذرفُ , ودماءً تنزف , وآهات تئن وتنوح...فأرجع بفكري من المستقبل الْمُتَخَيَّل, ومن أحلام اليقظة إلى الواقع الملموس .. وأقول : سحقاً للخيال , وبُعداً لأحلام اليقظةِ , فهيهات هيهاتَ أن يعلم الغيبَ أحدٌ إلا اللهُ , ويلوح في أفق شعوري, وفي سماء فكري قولُ الشاعر :
إن اللياليَ والأيامَ حـاملةٌ وليس يعــلمُ غيرُ الله ما تلدُ
ـ نعم ,عجيبةٌ هي الحياةُ في حملها للمتناقضات , وكم وقفتُ ذاهلاً واجماً أمام القدَرِ , وما أتى به من الدروس والعِبَر , فكم من ذليلٍ بالأمس أصبح اليوم عزيزاً ! , وكم من عزيزٍ بالأمس أضحى اليوم ذليلاً ... كم من فقيرٍ أخذ يخوض بحر الغنى راكباً فُلكَ السعادة , وكم من غنيٍ قلبَ له الزمنُ ظهر الْمِجَنّ..
فنهمس في باطن خواطرنا ونقول : لله في خلقه شؤونٌ , وكلُّ شيء مقدَّر لحكمةٍ ما,ومع مرور الزمن قد نعلمها , وقد تمضي الحياةُ ونحن في حَيْرة من أمرها!!...
ـ ألا ما أصعب الحياةَ , وما أشدَّ حيرتَنا فيها , وكم يطولُ بنا الذهول ! , وكم نرتَشفُ من كأس اليأس !وكم نتجرع مرارة الإحباط !وكم تساورُنا الشكوكُ تلوَ الشكوكِ ! , وكم ترتسم علاماتُ الاستفهام على وجوهنا,ويتملّكُ ا التعجُّبُ والإطراقُ لكثيرٍ من القضايا التي تحلُّ بنا دون سابق إنذار !
ولكنْ , كل ذلك يزول , وتطمئن قلوبُنا , وتتربعُ السكينةُ على عرش أرواحنا , عندما نؤمن بالقضاء والقدر , ونعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتب اللهُ لنا.....
ـ كثيراً ما أهرب من واقعي المؤلم المرير إلى ماضٍ عشتُه, لأتفيّأَ ظلالَ الذكريات برهةً من الزمن , ففي ذلك انتعاشٌ لقلبي , وسلوٌّ لأحزاني, وتلاشٍ لهمي , وتفريجٌ لبعض كروبي....
ـ تخيل معي أن الناسَ إذا ماتوا لا يُبعثون , وأنهم إذا بُعثوا لم يُحاسبوا ! إذن , لرأيت الظلم يطغى , والباطلَ يصول ويجول , ورنوت إلى الحياةِ فإذا قانونُ الغاب يسري فيها ...ولكنْ , ليت شعري ! ألا تلاحظُ معي أن الناس تعلم أنها إذا ماتت ستُبعثُ , وإذا بُعثت ستُحاسب , ومع ذلك نرى أن الظلمَ يطغى , والباطلَ يصولُ ويجول , والحياةَ يسري فيها قانونُ الغاب.. فكيف إذا كان الناسُ لا يعلمون ؟!
ـ عجباً للحقائق عندما تُقلب , وعجباً للعقول عندما تلتقِم الوهْم وتلفظ الحقيقة , وعجباً للصادي وهو يتبع السراب , وعن يمينه وشماله ينابيعُ من الماء العذب القراح ...!
ـ القلبُ لم يُخلق من الصّوان الصلْد , والحجارةِ الصَّماء, فعلامَ نرى قلوباً أشدَّ قسوةً منهما ؟ وأنّى للقلوب المتحجرةِ أن تشعر بذرةٍ من الرحمة والشفقة ؟!
ـ مما لاحظت في حياتي أن القلب الليِّن قد يقسو حيناً من الأحيان , ولكنّ القلبَ القاسي لا يلينُ مدى الأزمان !
ـ إذا رأيتَ النسر يهوي بسرعةٍ خاطفةٍ من ذُرى الجبال وأعاليها إلى الأرض , ومن الشّمَم والعلوّ إلى الحضيض والانحطاط , فلا تظننَّ أنه بنزوله وانخفاضه يتواضع ...إنما ينقضُّ على فريسته ليعود إلى علوه وسماء أنَفَتِه من جديدٍ...فالنسور ـ بحسب ظني ـ لا تعرف التواضعَ !
الكاتب : مصطفى قاسم عباس
منقول