بسم الله الرحمن الرحيم
الشبكة ساقطة
«الحكومةالالكترونية» أحدثالصيحات التي تتشدق بها منطقتنا العربية، حيث أدخلت برامج الحاسوب وتقنية الإنترنتإلى دواوين الحكومة بهدف تيسير العمل وسرعة الأداء كما يقول المسئولون .. فهل تحققذلك؟
إليكم يا سادة تجربة شخصية واقعية من العديد من التجارب التي حدثت معي شخصيا ذقت فيها المر في أروقة الحكومة الالكترونية
إنها تجربة بطاقة التموين التي انبثقت فكرة تحديثها في دماغ أحد مسئولينا العباقرة، وضرورة مواكبة التقنية الرقمية في عملية لا يفهم أحد حتى الآن المغزى منها كما هو الحال في غياب الغرض وراء استخدام التوقيت الشتوي والصيفي، فما إن تسأل أحد مسئولينا عن الهدف من هذه الإجراءات العبقرية إلا خرج عليك بحديث فلسفي أقرب للطلاسم ولا تكاد تفهم منه شيء إلا أن الخير قادم والرخاء على الأبواب، والأزمات في طريقها للانحسار.
قالوا لنا بطاقة التموين الذكية تواكب لغة العصر في سرعة الأداء ولم نجد أي سرعة تذكر بل الأمر ازداد تعقيدا وويلا في استخراج هذه البطاقة الغبية لا الذكية، والبعض قال إن الغرض منها القضاء على جشع التجار الذين يسرقون حقوق الناس التموينية رغم أن الكل يعرف أن السلع التموينية رديئة جدا جدا إلى أقصى غاية، والكل يعرض عن مفرداتها اللهم إلا السكر والزيت لا أكثر ولا أقل، أما الفقراء فيأخذون الأرز على مضض فشهر يكون جيدا وشهر آخر يأكلونه بدوده أو رائحته العفنة حسب التساهيل ثم باقي مفردات البطاقة التموينية تذهب للتجار يتصرفون فيها كما يشاءون.
ولسائل يسأل: إذا كان الأمر كذلك فلماذا أجرى أنا شخصيا وراء هذه البطاقة وأصدع رأس القراء بالحديث عن معاناتي معها.
والجواب ببساطة أنها نصيحة أحد العقلاء من المقربين لي عندما رأى مني إعراضا عن استخراجها فقال لي: حافظ عليها لأنها حق لأولادك في المستقبل قبل أن تكون حقك الآن ولا ندري ماذا ستأتي به الأحداث، خاصة وأن أي اسم يسقط من هذه البطاقة الشريفة من رابع بل وخامس وسادس المستحيلات أن يدرج فيها مرة أخرى، وكأنه قد فقد نسبه وضاعت هويته وتبخرت جنسيته.
تفكرت في هذا الكلام فوجدته عين العقل، خاصة وأن اسم زوجتي سقط من بطاقة أسرتها التي فقدوها بالكلية، ووجدت أنه من المستحيل إدراجها معنا في بطاقتي التموينية المصونة.
عموما توكلت على الله، وقدمت -شأني كشأن سائر الغلابة- كل الأوراق الخاصة باستخراج البطاقة التموينية الذكية، ومرت الأشهر مرور الكرام ثم سمعنا بأن بركان الخير الحكومي قد انفجر وخرجت البطاقات الذكية للوجود، ولا أستطيع أن أصف لكم يا سادة حجم الزحام والتكدس البشري من أجل استلام البطاقة.
تريث كثيرا حتى خف الضغط على الموظفين وفي هدأة الأيام ذهبت لأستلم بطاقتي المصونة.. بحث عنها الموظف بين مئات البطاقات لكن للأسف.. البطاقة غير موجودة!!.
تعب الموظف كثيرا في تكرار البحث لكن دون جدوى، فأشار علي بالذهاب لإدارة التموين لتقصى الأمر .. كنت أظن أن حظي عاثر، لكني لما ذهبت لإدارة التموين فوجئت أني من بين ألوف مؤلفة عندها كوارث مع البطاقة الذكية، أسماء ساقطة وتسجيلات لبيانات خاطئة و و و
العجيب أن الموظفين كانوا في تخبط شديد ولا يعرفون كيف يتصرفون أمام هذه المشاكل من النوع الجديد التي لم يمارسوها من قبل، وكان أسلم حل أن أعيد تقديم الأوراق لاستخراج بطاقة جديدة وفعلا فعلت.
كان علي يا كرام أن أذهب لإدارة التموين كل شهر لأحصل على إذن صرف مؤقت لحين استخراج البطاقة، وكأني أحد المشبوهين الذين يتوجب عليهم إعطاء التمام أمام الضابط كي نظل تحت عينه ومراقبته.
مرت أشهر وأشهر وتعودت على موضوع إذن الصرف، وتمرست في استخراجه بسهولة، لكن عاودتني همومي مرة أخرى لما أخبرونا أن البطاقات الذكية الخاصة بنا نحن المنكوبين قد تم استخراجها.
وتوجهت لإدارة التموين لأستلم بطاقتي لكن الموظف للمرة الثانية وبعد طول بحث أخبرني أنها غير موجودة أيضا، لكن الأمر هذه المرة بسيط – حسب قوله - فما علي إلا أن أذهب لمكتب البريد وأحصل من هناك على رقم بطاقتي الذكية من على جهاز الكمبيوتر
توجهت للبريد فوجدت جحافل مدرارة أمام الموظف المسئول، فقررت أن أعود باكرا وأكون أول من يدخل المكتب من الجمهور.
جهزت نفسي، وصليت الفجر وظللت مستيقظا رغم برودة الشتاء القارص، وقبل موعد الهجوم على مكتب البريد حزمت ملابس وخرجت مسرعا
حقيقة كان عملا بطوليا، لكني وجدت أمام الشباك فردين قد سبقوني فتعللت بأن الأمر هين
هرولت كي لا يسبقني أحد وأختصر الوقت
والمفاجأة أن الموظفة أخبرتنا وبكل بساطة أن ….. الشبكة ساقطة
آآآآآآآآآآآآآآه
لا حيلة ولا مفر من العناء .. وعلي أن أجدد هذه المغامرة الصباحية أيام وأيام كي تنجح المهمة
«الشبكة ساقطة» هذا المصطلح التكنولوجي الرقمي الجديد في حياتنا الذي يصدمك به موظف البنك وفي مكتب حجز تذاكر السفر وعند استخراج أي بيانات مهمة في سائر دواوين الحكومة.
والمحصلة أن المعاناة كما هي إلا أنها تغيرت من الصورة النمطية الدفترية إلى الصورة الالكترونية الرقمية، لا أكثر ولا أقل.
لكن هذه الشبكة الساقطة هل تجدها في أي من الشركات الاستثمارية الخاصة؟ طبعا كلا وألف كلا، على الأقل هناك احتياطيات لمثل هذه الكوارث سواء بشبكة بديلة أو خطوط احتياطية أو غيرها من الإمكانات، هذا لأن الأمر يتعلق بالربحية، والاستثمار، والعالم لا ينتظر أحد.
ويحضرني الآن – نموذجا- مشهد الميكروباص الخاص الذي يسير في الشوارع، فلقد كرس سائقه غلام يقف على الباب دوما ينظم خروج ودخول الركاب كي لا يتوقف كثيرا في هذا الشأن، فضلا عن أن هذا الغلام المسكين لا يكف عن الصياح طيلة مسيرة الميكروباص ينادي على الزبائن في كلمات مكررة « محطة محطة محطة» ولا يهم أن يبح صوته أو حتى يفقد حنجرته بالكلية، المهم هو أنه لا يدع أي راكب يفلت منه، ورغم أن الباص مكتوب عليه وبالخط العريض وجهته، إلا أن أصول الاستثمار فرضت على الفتى المسكين هذا الصياح المتكرر كي لا يفلت منه الأمي أو النعسان أو صاحب النظر الضعيف أو غيرهم ممن لا ينتفعون بما كتب على الباص.
إلى هذه الدرجة!! فالربح لا يرحم لا صغير ولا كبير، وبالطبع الراكب من أكبر المستفيدين في هذه العملية النشيطة التي تنقله إلى وجهته بخفة وسرعة منقطعة النظير، على العكس تماما من الأتوبيسات الحكومية التي صممت أساسا للنائمين والكسولين ومن يرغبون في الوصول في اليوم التالي.
والأمثلة كثيرة وعديدة عن هذا الفارق الهائل بين تبلد القطاع الحكومي حتى ولو كان رقميا، وتوهج القطاع الخاص حتى ولو كان بدائيا.
وعموما رغم أننا لا ننكر أن العالم الرقمي الناجح اختصر كثير الجهود والمسافات، لكن تظل جوهر المشكلة ليست في الدفترية ولا في الرقمية، بل في من يقبع وراء هذه الوسائل، وفي «المسئول»الذي يخطط لا لكي يهتف على قنوات التلفزة أننا متقدمون، بل يخطط لغرض واحد وهو «راحة المواطن» وبالطبع هيهات أن تجد مثل هذا الرجل
فإلى الله المشتكى
د/ خالد سعد النجار
كاتب بجريدة القدس العربي اللندنية