التيسير مطلب شرعي ومقصد من مقاصد الحنيفية السمحة، قال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6] وقال أيضا: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، فالتيسير منوط بنص الشارع فيما اعتبره سببًا للتخفيف والتيسير، عُمل به بقطع النظر عن وجود حقيقة المشقة، وما لم يعتبره الشرع سببًا للتخفيف فلا يصح الترخص به، وعليه فالمشقة لا تنافي التكليف ولا توجب التخفيف؛ لأن التكاليف بالمأمورات والمنهيات لم تشرع إلا لتحقيق ما يترتَّب على الأفعال من مصالح العباد، لذلك كان التخفيف في التكليف غير المنصوص على اعتباره شرعًا إهمالاً وتفريطًا ينافي مقصود الشارع. ولكن لَيُّ النصوص الشرعية وتمييعها إلى حدّ جعل الحرام حلالاً، لا يعدُّ من التيسير في شيء، وما استدل به من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم «مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا»(49- أخرجه البخاري (3367)، كتاب «المناقب»، باب صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومسلم (2327) كتاب «الفضائل»، من حديث عائشة رضي الله عنها) فإن التخيير المقصود به ما كان بين مباحين أحدهما يسير، والآخر أيسر، فيختار عليه الصلاة والسلام أيسر المباحين تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِين َ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، أمّا إن كان التخيير بين مباح وحرام فالأخذ بالمباح ولو كان شديدًا وترك الحرام ولو كان يسيرًا هو الواجب، وهذا هو معنى قول عائشة رضي الله عنها «مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا».
ويشهد لما سبق تقريره ما أخرجه البخاري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: «بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم جدَّه أبا موسى ومعاذا إلى اليمن فقال: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا» فقال أبو موسى: يا نبي الله إنّ أرضنا بها شراب من الشعير المزر وشراب من العسل البتع فقال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» فانطلقا، فقال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائما وقاعدا وعلى راحلتي وأتفوقه تفوقا(50- أي ألازم قراءته ليلا ونهارا شيئا بعد شيء وحينا بعد حين، مأخوذ من فواق الناقة وهو أن تحلب ثم تترك ساعة حتى تدر ثم تحلب هكذا دائما. [«الفتح» لابن حجر: (7/710)])، قال: أمّا أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. وضرب فسطاطا فجعلا يتزاوران، فزار معاذ أبا موسى فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا ؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثمّ ارتدَّ فقال معاذ: لأضربن عنقه»(51- أخرجه البخاري (4088) كتاب «المغازي»، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع).
فوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهما بالتيسير لم تحملهما على تحليل المسكر الحرام، وهو تيسير في نظر المستدلين بحديث عائشة رضي الله عنها على التيسير في الفتاوى ولو بالعدول عن العمل بالنصوص الشرعية.
كما أنه يحتمل أن يكون المقصودُ بالتخيير في الحديث التخييرَ في أمور الدنيا، قال ابن حجر شارحا قولها رضي الله عنها «بين أمرين»: «أي: من أمور الدنيا، يدل عليه قوله: «ما لم يكن إثما»، لأنّ أمور الدين لا إثم فيها»(52- «فتح الباري» لابن حجر: (6/712)).