الحلقة ( 1 ) لطائف من ترجمة ابن عباس ( 3ق هـ ـ 40هـ )
ولد أبو العباس في الشِّعب ، قبل الهجرة بثلاث سنين ، وتوفي رسول الله ، وله ثلاث عشرة سنة تقريبًا .
كان مقرَّبًا من الرسول ، فقد روى البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن عابس قال : سمعت ابن عباس سأله رجل : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم العيد أضحى أو فطرا ؟
قال : ( نعم ، ولولا مكاني منه ما شهدته ؛ يعني : من صغره ) .
وبات ليلة عند خالته ميمونة بنت الحارث ، فقام النبي لصلاته فوضع للنبي غسلاً ، فقال النبي : ( من وضع هذا ؟ ) ، فقالوا : عبد الله ، فقال : ( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل ) .
قال ابن عباس : ( رأيت جبريل ـ صلوات الله عليه ـ مرتين، ودعا لي رسول الله ـ ـ مرتين ) .
عهد أبي بكر ( 11 ـ 13 )
ولما توفي رسول الله في شهر ربيع الأول من العام ( 11 للهجرة ) وكان عمر ابن عباس ( 13 سنة تقريبًا ) = تَطَلَّع إلى طلب العلم ، واشرأبت نفسه إليه ، قال : ( لما قبض رسول الله قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثير قال فقال: واعجبا لك أترى الناس يفتقرون إليك قال: فترك ذلك وأقبلت أسأل ، فإن كان ليبلغني الحديث عن رجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح علي من التراب ، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك .
فأقول: لا ، أنا أحق أن آتيك ، فأسأله عن الحديث .
فعاش الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي ليسألوني ، فقال: هذا الفتى كان أعقل مني ).
وفي هذا الخبر فوائد :
1 ـ بُعُدُ نظره ، واستشرافه للمستقبل ، وذلك في حرصه على تعلم العلم من كبار الصحابة قبل أن يقلَّ عددهم .
2 ـ حرصه على تعلم العلم .
3 ـ مكانته عند الصحابة .
4 ـ أدبه مع شيوخه .
عهد عمر ( 13 ـ 23 )
ولما مات أبو بكر الصديق عام ( 13 للهجرة ) كان عمره ( 15 سنة تقريبًا ) .
وتولى عمر بن الخطاب في تلك السنة إلى أن قُتِل عام ( 23 للهجرة ) ، وفي عهده ظهر نجم ابن عباس ، وكان تمام التكوين العلمي لهذا الحبر البحر وسنه من ( 15 ـ 25 ) سنة ، وفي هذه الأعوام العشرة تخرج في مدرسة عمر بن الخطاب الذي اعتنى به عناية فائقة ، ولقد كان يُحبُّه حبًّا جمًّا ؛ لِمَا توسَّم فيه من النجابة والذكاء ، فقرَّبه منه ، وجعله في مجلس (شوراه وعلمِه) الذي يحضره أكابر الصحابة ، ولم يُدخِل معه غيره من الفتيان ، وما كان عمر ليحابي في مجلسه من أجل قرابه ، وإلا لأحضر ولده عبد الله ، وهو من العبادة والعلم بمكان .
ولقد وَجَدَ بعض الصحابة على عمر ، وعاتبه في إدخالِ ابن عباس وتركِ أولادهم ، فأبانَ لهم سببَ إدخالِه له بما روى ابن عباس ، قال : ( كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِى مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا ، وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ . قَالَ فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ ، وَدَعَانِى مَعَهُمْ قَالَ وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِى يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ مِنِّى فَقَالَ مَا تَقُولُونَ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ ) حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَه ُ ، إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نَدْرِى . أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا . فَقَالَ لِى يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَمَا تَقُولُ قُلْتُ هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - - أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) فَتْحُ مَكَّةَ ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) قَالَ عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَمُ ) .
وفي هذا الأثر فوائد ، منها :
1 ـ تنبيه للأشياخ أن لا يحابوا طالبًا من أجل عرض من الدنيا ، بل يكون تقديمهم له من أجل فهمه وعلمه ، وكم من موقف حصل لبعضهم نظروا فيه إلى تقديم مصلحة دينية يظنونها ـ والحال فيها أنها مختلطة بمصلحة دنيوية ـ فيقدمون ذا المال والجاه من أجل مال ذاك أو جاهه ، لكنهم لا يحصلون على مرادهم ، فما كان لغير الله فهو منقطع .
2 ـ تعليل القضايا ، إذ لا يكفي أن يكون الأمر معتبرًا لأنه فِعْل فلان أو قوله ، مهما عظُم أمره ، وكان مقدمًا بين الناس ، وكم من فعل أُبهمت علته ، وأمر الطلاب ـ أو غيرهم ـ بالعمل به ، أو الاقتناع بع بقوة الآمر ، فما كان ذلك مجدٍ ولا مفيد ، إن لم ينقلب إلى ما لا تُحمدُ عقباه .
3 ـ دقة فهم ابن عباس ، وقوة استنباطه وغوصه على الدقائق ، وما سُمِّي حبر الأمة من فراغ ، بل لأجل ذلك الاستنباط وغيره .
4 ـ إن دخوله مع أشياخ بدر ليدلُّ على تلك المنْزلة العظيمة التي كانت له في قلب عمر ، وكان عمر يقول : ( لا يلومني أحد على حب ابن عباس ) .
ومرض ابن عباس بالحمَّى ، فعاده عمر ، وقال : ( أَخَلَّ بنا مرضك ، فالله المستعان ) .
وتأمل هذين القولين من عمر ، لتعلم مدى عناية عمر به ، فلقد بلغ ابن عباس مبلغًا يجعل عمر يفتقده بسبب مرضه ، ويعتذر لأصحابه في حبه لابن عباس ، ولعله لا يخفاك الفرق بين عُمُر ابن عباس الصغير ـ وعُمُرِ الخليفة عمر بن الخطاب الكبير وكذا من كان معه من أشياخ بدر رضي الله عن الجميع ، وهذا يدلك على عناية علماء الصحابة بالنابهين من الصغار وتعليمهم لأنهم هم أشياخ المستقبل ، ومما يدل على ذلك من سيرة عمر أنه كان يجلس لهم يعلمهم القرآن ، فقد روى الطبري بسنده عن ابن زيد في قوله تعالى :" وإذا قيلَ له اتق الله أخذته العزة بالإثم" إلى قوله:" والله رؤوف بالعباد"، قال: ( كان عمر بن الخطاب إذا صلى السُّبْحة وفرغ، دخل مربدًا له، فأرسل إلى فتيان قد قرأوا القرآن، منهم ابن عباس وابن أخي عيينة، قال: فيأتون فيقرأون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف. قال فمرُّوا بهذه الآية:" وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم"،" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاءَ مرضَات الله والله رؤوفٌ بالعباد"= قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله= فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان؟ فسمع عمر ما قال، فقال: وأيّ شيء قلت ؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين! قال: ماذا قلت ؟ اقتَتل الرجلان ؟ قال فلما رأى ذلك ابن عباس قال: أرى ههنا مَنْ إذا أُمِر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يَشري نفسه ابتغاءَ مرضاة الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي ! فقاتله، فاقتتل الرجلان! فقال عمر: لله بلادك يا بن عباس ) .
ومن تتبع عناية عمر بابن عباس وجد أمثلة كثيرة ، أكتفي بما ذكرته منها ، وأختم بخبر طريف رُوِي عن الحطيئة الشاعر الهجَّاء.
ففي كتاب الجليس الصالح للمعافى من طريق ابن عائشة عن أبيه ، قال: : نظر الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر وقد فرع بكلامه ، فقال: من هذا الذي نزل عن القوم بِسِنِّه ، وعلاهم في قوله ؟
قالوا: هذا ابن عباس . فأنشأ يقول:
إني وجدت بيان المرء نافلة ... يهدى له ، ووجدت العِيِّ كالصمم
المرء يَبْلَى ، وتبقى الكلم سائرة، ... وقد يلام الفتى يومًا ولم يُلِم
عهد عثمان ( 23 ـ 35 )
ولما قُتل عمر في سنة (23 ) تولى بعده عثمان ، واستمرَّ في الخلافة حتى سنة ( 35 ) ، وكان عمر ابن عباس في تلك الفترة من ( 26 ـ 38 ) تقريبًا .
لقد استمر ابن عباس في عهد عثمان يتخطى سنيَّ الشباب ، ويدخل في سنيِّ الكهولة ، ولا زال في هذا العهد المبارك في مجلس شورى أهل بدر ، كما لازال يُعلِّم الناس ويفتيهم ، فقد أخبر عطاء بن يسار: (أن عمر وعثمان كانا يدعوان ابن عباس فيشير مع أهل بدر، وكان يفتي في عهد عمر وعثمان إلى يوم مات).
ومما يحكي منْزلته عند عثمان ما ذكر شاعر الرسول في موقف حصل لهم مع عثمان إبان إمرته ، قال حسان : كانت لنا عند عثمان أو غيره من الأمراء حاجة فطلبناها إليه: جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وكانت حاجة صعبة شديدة فاعتل علينا فراجعوه إلى أن عذروه وقاموا إلا ابن عباس فلم يزل يراجعه بكلام جامع حتى سد عليه كل حاجة فلم يرى بُدًّا من أن يقضي حاجتنا فخرجنا من عنده وأنا آخذ بيد ابن عباس فمررنا على أولئك الذين كانوا عذروا وضعفوا فقلت: كان عبد الله أولاكم به قالوا: أجل .
فقلت أمدحه:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في الصدور ولم يدع ... لذي اربة في القول جدا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقة ... فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا
وقد جاءت هذه القصيدة بتمامها في ديوان حسان ، قال :
إِذا ما اِبنُ عَبّاسٍ بَدا لَكَ وَجهُهُ رَأَيتَ لَهُ في كُلِّ أَحوالِهِ فَضلا
إِذا قالَ لَم يَترُك مَقالاً لِقائِلٍ بِمُلتَقَطاتٍ لا تَرى بَينَها فَصلا
كَفى وَشَفى ما في النُفوسِ فَلَم يَدَع لِذي إِربَةٍ في القَولِ جَدّاً وَلا هَزلا
سَمَوتَ إِلى العَليا بِغَيرِ مَشَقَّةٍ فَنِلتَ ذُراها لا دَنِيّاً وَلا وَغلا
خُلِقتَ خَليقاً لِلمَوَدَّةِ وَالنَدى فَليجاً وَلَم تُخلَق كَهاماً وَلا جَهلا
وتأمل ما حظي به هذا الشاب الحبر البحر من منْزلة عند الأمير حيث قبل شفاعته في الأمر ، وما حظي به من مدح شاعر رسول الله ، وما نظرا فيه إلى صِغَر سنٍّ هو فيها دونهما بكثير ، بل نظرا فيه إلى عقله ، وكم هو حريٌّ بنا معشر طلاب العلم أن نُنمِّي هذا الجانب بيننا ، وأن نحترم من يحترم عقله ، ومن يكون له رأي حصيف ولو كان أصغر منا .
ابن عباس أمير الحجِّ
في السنة التي حُوصِر فيها عثمان ، وقُتِل ، أرسل ابنَ عباس أميرًا على الحج ، وفيها قال أبو وائل : ( خطب ابن عباس ـ وهو على الموسم ـ فجعل يقرأ ويفسر ، فجعلت أقول: لو سمعته فارس والروم لأسلمت ) .
وفي رواية أن السورة التي قرأها سورة النور ، قال أبو وائل : ( قرأ ابن عباس سورة النور ، فجعل يفسرها ، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت ) .
وفاة شيخ من أبرز شيوخه في عهد عثمان :
في سنة ( 30 هـ ) من عهد عثمان توفي أحد شيوخ ابن عباس ، وهو أبيُّ بن كعب الأنصاري ، وقد أورد الحبْر رواية يظهر فيها من أدبه مع شيخه أُبيٍّ ، قال ابن عباس : (ما حدثني أحد قط حديثا فاستفهمته، فلقد كنت آتي باب أُبيِّ بن كعب وهو نائم ، فأقِيلُ على بابه، ولو علم بمكاني لأحب أن يُوقَظَ لِي لمكاني من رسول الله ـ ـ ولكنٍّي أكره أن أُمِلَّه ) .
( وفي ذلك من الأدب مع الأشياخ ما يحسن بطالب العلم أن يقتدي به ، ومن ذلك :
1 ـ انظر كيف يصبر ابن عباس على حرِّ الهاجرة ، وذلك من باب الحرص على طلب العلم.
2 ـ وكيف كره أن يغشى شيخه في وقت راحته ، مع يقينه بمحبة شيخه له .
3 ـ وكيف كان احتماله للتعب في سبيل تعلمه وتعليمه .
ومن سؤالاته القرآنية لأُبي بن كعب ، ما ذكره ، فقال : ( كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله، ، من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله، ، وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدا منهم إلا سر بإتياني لقربي من رسول الله، ، فجعلت أسأل أبي بن كعب يومًا ـ وكان من الراسخين في العلم ـ عمَّا نزل من القرآن بالمدينة فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة ، وسائرها بمكة ) .
وفي هذا الأثر فوائد ، منها :
1 ـ الثناء على الشيخ بما فيه من العلم ،وذلك قوله : ( وكان من الراسخين في العلم ) .
2 ـ الحرص على الأكابر من العلماء .
3 ـ الحرص على العلم المنقول ( المغازي والنُّزول ) ممن هم أعلم به ممن شاهدوا التنْزيل .
4 ـ معرفة الصحابة لحق قرابة الرسول ، وحرصهم على وصل هذه القرابة ، وهذا يدلك على محبة الصحابة لقرابة رسول الله ، وأنهم قد حفظوا حقوق آل بيته بعد موته ، وليس كما يزعم من لا خلاق لهم أنهم ضيعوا حقوقهم وفرَّطوا فيهم .
وحريٌّ بنا ـ نحن أهل السنة ـ أن نعيد هذا الأمر لنصابة ، وننشر في دروسنا حقوق آل البيت ، ونعرف لهم فضلهم ، ونُشيع ذلك في منتدياتنا ، ولا نجعل ذلك حكرًا على الأفاكين الذين يزعمون المحبة ، وهم منها بعيدون .
ولقدكان أُبيٌّ يعرف علم ابن عباس ويقدِّره، ومن ذلك ما روى ابن سعد من طريق يسر بن سعيد عن محمد بن أبي بن كعب عن أبيه أنه سمعه يقول ـ وكان عنده ابن عباس فقام ـ قال : ( هذا يكون حبر هذه الأمة ، أوتِي عقلا وجسما ، ودعا له رسول الله أن يفقه في الدين ) .
وفي سنة ( 32 ) ـ مع اختلاف في سنة وفاته ـ توفي شيخ الكوفة ومعلمها عبد الله بن مسعود ، وقد كان من كبار علماء القرآن ؛ إقراءً وتفسيرًا .
وقد كان يرى في ابن عباس العالم المتقن ، فقد ورد عنه فيه أقوال :
1 ـ قال: ( لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد ). ، وفي رواية " ما عاشره ". أي : ما بلغ عشره ، أي عشر ماعنده من العلم .
2 ـ وقال : ( ولنعم ترجمان القرآن ابن عباس ).
وقال : ( لو أن هذا الغلام أدرك ما أدركنا، ما تعلقنا معه بشئ ) .
عهد علي ( 36 ـ 40 )
ولما قُتِل عثمان سنة ( 35 للهجرة ) تولى بعده علي بن أبي طالب إلى أن قُتِل سنة ( 40 للهجرة ) ، وكان عمر ابن عباس (39 ـ 42 ) ، وكان بين ابني العم ودٌّ ومحبة ، ولقد أظهر ابن عباس نصرة ابن عمِّه في قتاله ، وسار معه ، وولي له البصرة إلى أن قُتِل عليٌّ ، وكان إمامًا لوفد المحكمين من طرف علي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع .
وكان بين ابن العمين ودٌّ متبادل ، حتى لقد قال ابن عباس : ( ما عندي من علم في القرآن فمن عليٍّ ) ، ولقد أورد الطبري ما يفيد احترام ابن عباس لشيخه علي، ووقوفه عند علمه ، وذلك في تفسير المراد بالعاديات ، قال ابن عباس : ( بينما أنا في الحجر جالس، أتاني رجل يسأل عن( الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ) فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم. فانفتل عني، فذهب إلى علي بن أبي طالب رضى الله عنه وهو تحت سقاية زمزم، فسأله عن ( الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ) فقال: سألتَ عنها أحدًا قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عباس، فقال : الخيل حين تغير في سبيل الله ، قال: اذهب فادعه لي; فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله لكانت أول غزوة في الإسلام لبدر، وما كان معنا إلا فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد فكيف تكون العاديات ضبحا! إنما العاديات ضبحا من عرفة إلى مزدلفة إلى منى ; قال ابن عباس: فنزعت عن قولي، ورجعت إلى الذي قال علي ).
ولا يخفى على من عرف سير علي بن أبي طالب ما أوتي من علم في القرآن ، فهو أحد من أسندت إليه القراءات القرآنية ، وقد وقف على المنبر يومًا ، وقال : ( لا يسألني أحد عن آية من كتاب الله إلا أخبرته )
وفي ولايته للبصرة نشر علمه هناك ، وأخذ عنه بعض البصريين كأبي الشعثاء جابر ابن زيد ، وكان ابن عباس يُجِلُّه ، ويعرف له قدره حين قال : ( لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً من كتاب الله ) .
وقال تميم بن حدير عن الرباب : سألت ابن عباس عن شيء فقال: تسألوني وفيكم جابر بن زيد وهو أحد العلماء؟.
هذا ، ولعل الله ييسر تعليقات على منهج ابن عباس العلمي .