ولابن القيم في المسألة كلام ـ فيه كفاية وغُنْية ـ بخلاف ما سبق نقله ، ففي كتابه الفوائد ص 125 ـ 127 :
وسر المسألة أن وجود ما طلب ايجاده أحب اليه من عدم ما طلب اعدامه وعدم ما أحبه أكره اليه من وجود ما يبغضه فمحبته لفعل ما أمر به أعظم من كراهته لفعل ما نهى عنه يوضحه الوجه السابع عشر: أن فعل ما يحبه والاعانة عليه وجزاؤه وما يترتب عليه من المدح والثناء من رحمتهوفعل مايكره وجزاؤهما يترتب عليه من الذم والألم والعقاب من غضبه ، ورحمته سابقة على غضبه غالبة له وكل ما كان من صفة الرحمة فهو غالب لما كان من صفة الغضب ، فإنه سبحانه لا يكون إلا رحيما ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وإحسانه فيستحيل أن يكون على خلاف ذلك ، وليس كذلك غضبه فانه ليس من لوازم ذاته ولا يكون غضبانا دائما غضبا لا يتصور انفكاكه بل يقول رسله وأعلم الخلق به يوم القيامة : "إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ". ورحمته وسعت كل شيء وغضبه لم يسع كل شيء ، وهو سبحانه كتب علي نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الغضب ووسع كل شيء رحمة وعلما ولم يسع كل شيء غضبا وانتقاما فالرحمة وما كان بها ولوازمها وآثارها غالبة على الغضب وما كان منه وآثاره فوجود ما كان بالرحمة أحب اليه من وجود ما كان من لوازم الغضب ولهذا كانت الرحمة أحب اليه من العذاب والعفو أحب اليه من الانتقام فوجود محبوبه أحب اليه من فوات مكروهه ولا سيما اذا كان فى فوات مكروهه فوات ما يحبه من لوازمه فانه يكره فوات تلك اللوازم المحبوبة كما يكره وجود ذلك الملزوم المكروه .
الوجه الثامن عشر : أن أثار ما يكرهه وهو المنهيات أسرع زوالا بما يحبه من زوال آثار ما يحبه بما يكرهه فآثار كراهته سريعة الزوال وقد يزيلها سبحانه بالعفو والتجاوز وتزول لتوبة والاستغفار والأعمال الصالحة والمصائب الكفرة والشفاعة والحسنات يذهبن والسيئات ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ثم استغفره غفر له ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئا لأتاه بقرابها مغفرة وهو سبحانه يغفر الذنوب وان تعاظمت ولا يبالى فيبطلها ويبطل آثارها بأدنى سعى من العبد وتوبة نصوح وندم علي ما فعل وما ذاك الا لوجود ما يحبه من توبة العبد وطاعته وتوحيده فدل علي أن وجود ذلك أحب اليه وأرضي له يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أنه سبحانه قدر ما يبغضه ويكرهه من المنهيات لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأموراتفأنه سبحانه أفرح بتوبة عبده من الفاقد الواجد والعقيم الوالد والظمآن الوارد وقد ضرب رسول الله لفرحه بتوبة العبد مثلا ليس فى المفروح به أبلغ منه وهذا الفرح إنما كان بفعل المأمور به وهو التوبة فقدر الذنب لما يترتب عليه من هذا الفرح العظيم الذى وجوده أحب اليه من فواته ووجوده بدون لازمه ممتنع فدل على أن وجود ما يحب أحب اليه من فوات ما يكره ، وليس المرادبذلك أن كل فرد من أفراد ما يحب أحب اليه من فوات كل فرد مما يكره حتى تكون ركعتا الضحى أحب اليه من فوات قتل المسلم وانما المراد أن جنس فعل المأمورات أفضل من جنس ترك المحظورات كما إذا فضل الذكر علي الأنثى والانسى على الملك فالمراد الجنس لا عموم الأعيان ، والمقصود أن هذا الفرح الذى لا فرح يشبهه فعل مأمور التوبة يدل على أن هذاالمأمور أحب اليه من فوات المحظور الذى تفوت به التوبة وأثرها ومقتضاها ...