بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وبعد ...
فهذه نبذة شريفة عن الأشهر الحرم، تحدثت فيها أولا عن عدة الأشهر القمرية وسبب تسميتها، ثم عن عدة الأشهر الحرم وسبب تسميتها، ثم عن حكم القتال فيها وهل هو محكم أم منسوخ؟، وعن مسألة رائجة وهي هل السيئات والحسنات تضاعف فيها أم لا ؟، كتبت ذلك رجاء أن ينفع الله بها، هذا وأسأله سبحانه أن يغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين... آمين.
مقدمة: عدد الأشهر القمرية، وسبب تسميتها:
الأشهرُ القمريةُ من حيث العدد اثنا عشر شهرا، نص اللهُ سبحانه وتعالى على ذلك في الكتاب بقوله: «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم... » الآية.
وهي على الترتيب عند العرب تبدأ بأول هلال يظهر بعد انتهاء الحج، وهو هلال المحرم، ثم صفر، ثم ربيع الأول، ثم ربيع الثاني، ثم جمادى الأولى، ثم جمادى الثانية، ثم رجب، ثم شعبان، ثم رمضان، ثم شوال، ثم ذو القعدة، ثم ذو الحجة.
وشاهد ما سبق من الترتيب قول لبيد بن ربيعة العامري في معلقته :
حتى إذا سَلَخَا جمادَى سِتةً * جَزْءا فطَال صيامُه وصِيامها
أراد جمادى الثانية، فوصفه بستّة؛ لأنّه الشهرُ السادسُ من السنة العربية القمرية.
أما من حيث سبب تسمية هذه الأشهر فقد اجتهد علماء اللغة في الوقوف على حقيقة ذلك، فذهب كثير منهم إلى أن المحرم سمي بذلك لحرمة القتال فيه، وصفر سمي بذلك لأن بيوتهم تكون صفرا من الرجال والخير لقتالهم فيه، وربيع الأول والثاني سميا بذلك لموافقتهما الربيعَ عند التسمية، وجمادى الأولى والثانية سميا بذلك لموافقتهما الشتاءَ وجمادَ الماء وقت التسمية، ورجب سمي بذلك من الترجيب وهو التعظيم، وشعبان سمي بذلك لأنه شعب أي فرق بين رجب ورمضان، ورمضان سمي بذلك لموافقته الصيفَ والرمضاءَ وقت التسمية، وشوال سمي بذلك لأن الإبل تشيل أذنابها بسبب الحمل، وذو القعدة سمي بذلك لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وذو الحجة سمي بذلك لكونهم يحجون البيت فيه.
عدد الأشهر الحرم، وسبب تسميتها بذلك:
والأشهر الحرم من حيث العدد أربعة كما نصت عليه الآية السابقة، قال تعالى : «منها أربعة حرم»، وقد جاء بيان هذه الأشهر الأربعة وأنها المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان ». وقد أضاف النبي صلى الله عليه وسلم شهر رجب إلى مضر؛ قيل: لأنها كانت تبالغ في تعظيمه، وقيل: لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان، ويسمونه رجبا، وكانت مضر تحرم رجبا نفسه.
وقد سميت هذه الأشهر بالحرم؛ لأنه يحرم فيها القتال ابتداءًا ، قال تعالى: «يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله...». الآية. والمعنى: يسألك الكفار عن الشهر الحرام تعجبا من هتك حرمته بالقتال، فقل يا محمد ﷺ في جوابهم: القتال فيه كبير مستنكر [هذا مأخذ التحريم]، وقل أيضا: صدكم عن سبيلِ الله والمسجدِ الحرام وإخراجُكُم لأهلِه منه وكفرُكُم بالله أكبر عنده سبحانه من القتال في الشهر الحرام.
وقيل سميت بذلك لتحريم ظلم الإنسان لنفسه فيها بانتهاك المحارم. قال تعالى:«منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم». والمعنى: يحرم عليكم أن تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، ومن ذلك القتال فيها ابتداءا على ما سبق. والقول بأن الضمير في قوله:«فيهن» يرجع إلى الأشهر الحرم مذهب أكثر أهل التأويل، ومأخذهم في هذا أنه أقرب مذكور، والأصل عود الضمير إليه. وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنه يرجع إلى الأشهر الاثني عشر، وأيد بعضهم هذا المذهب من جهة أن ظلمَ المرءِ لنفسه محرمٌ في الزمان كله. وأجيب عن هذا: بأن عود الضمير إلى الأشهر الحرم لا ينافي ذلك، ولنعتبر هذا بقوله تعالى: «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج»، والفسوق ممنوع في الزمان كله. وعليه فهو من باب التأكيد على الحرمة، وله في الشريعة نظائر يسلم بها المخالف كما سبق. ومما يؤيد كون الضمير عائدا إلى الأشهر الحرم أيضا وروده بلفظ «فيهن» ، ولم يرد بلفظ فيها كما جاء في قوله:«منها أربعة حرم» ، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة، بحيث تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثة، فيقال : الجذوع انكسرت ، وأنّ الهاء والنون تكون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة، فيقال : الأجذاع انكسرن ، هذا هو الأكثر. وقد يعكس قليلاً فيقال : الجذوع انكسرن ، والأجذاع انكسرت. البحر المحيط (5/41).
حكم القتال فيها بين الإحكام والنسخ:
واتفق العلماء رحمهم الله تعالى على جواز القتال فيها إذا بدأ العدو قال تعالى:« الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم...» الآية، واختلفوا في تحريم القتال فيها ابتداءا هل هو منسوخ أم محكم، وذلك على قولين:
القول الأول: أنه منسوخ، وبهذا قال الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة. واستدلوا على ذلك بأدلة:منها: قوله تعالى: «وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة». قال الزهري وغيره: هي ناسخة للقتال في الأشهر الحرم. ومنها أيضا : قوله تعالى : «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم». على القول بأن الأشهر الحرم هي من يوم النحر سنة تسع لا الأشهر الحرم المعلومة: رجب الفرد والثلاثة السرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وأجيب عن الاستدلال بهاتين الآيتين ونحوهما بأنها عامة في الأزمنة، وهذا خاص، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق.
وأجيب عن الثانية على جهة الخصوص أن الأشهر الحرم في الآية هي المعلومة، لكونها المعهودة عند الإطلاق، وقد روي هذا القول عن ابن عباس وبه قال الضحاك وغيره.
ونوقش هذا: بأن السياق يدل على أن المراد أشهر الإمهال الأربعة المذكورة بقوله: «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر»، وإيذانهم بها كان في الحج.
- واستدلوا أيضا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر حيث سار إليهم في المحرَّم، كما روى الزُّهري عن عُروة، عن مروان والمِسور بن مخرمة.
وأجيب عن هذا: بأن خُروجَه كان في أواخر المحرَّم، وفتحُها إنما كان في صَفَر.
- واستدلوا أيضا: بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بايع أصحابَه عند الشجرة بَيْعةَ الرضوان على القتال، وألا يَفِرُّوا، وكانت في ذي القَعْدَة.
وأجيب عن هذا: أنه ﷺ إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان، وهم يُريدون قتاله، فحينئذ بايع الصحابة، ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام إذا بدأ العدو، إنما الخلاف أن يُقاتل فيه ابتداءً.
- واستدلوا أيضا: بحصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف، فإنه خرج إليها في أواخِر شوَّال، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، فبعضُها كان في ذي القَعَدة، فإنه فتح مكة لِعَشرٍ بقينَ مِن رمضان، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرةَ يقصُرُ الصلاة، فخرج إلى هَوازن وقد بقى من شوَّال عشرون يوماً، ففتح الله عليه هَوازِنَ، وقسم غنائمها، ثم ذهب منها إلى الطائف، فحاصرها بضعاً وعشرين ليلة، وهذا يقتضى أن بعضها في ذي القَعَدة بلا شك.
وأجيب عن هذا: بأنه قد اختُلفَ في تحديد مدة الحصار فقيل: أربعين ليلة، وقيل: بضع عشرة ليلة. صححه ابن حزم في جوامع السيرة، وقيل سبع عشرة ليلة قاله ابن هشام، وقيل: بضع وعشرون ليلة، أو ثلاثون ليلة قاله ابن إسحاق. ولا دليل على شيء منها.
ونوقش هذا: بأنه قد جاء عند مسلم في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال:«ثم انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة». ويلزم من هذا أنه قد وقع بعض الحصار في ذي القعدة قطعا.
وردت المناقشة: بأن هذه الرواية ضعيفة، أخرجها مسلم في المتبعات من رواية سميط بن عمير السدوسي وهو مجهول، وتخريج مسلم لحديثه هذا لا يعد توثيقا لأنه قد خرج له في المتابعات، وهو لم يلتزم فيها بالصحة على ما في المقدمة.
تنبيه: وهم ابن القيم رحمه الله في عزو الحديث للصحيحين، وهو من أفراد مسلم.
جواب آخر على فرض وقوع بعض الحصار في ذي القعدة: أن غزوَ الطائفِ كان مِن تمام غزوة هَوازن، وهم بدؤوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالقتال، ولما انهزموا، دخل ملكُهم، وهو مالكُ بنُ عوف النَّضري مع ثقيف في حِصن الطائف محاربينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان غزوُهُم مِن تمام الغزوة التي شرع فيها.
انظر: زاد المعاد للإمام ابن القيم (3/340).
القول الثاني في المسألة: أن التحريم محكمٌ لم ينسخ، وبهذا قال عطاءٌ وغيرُه، وكان رحمه الله يحلِفُ بالله: ما يَحِلُّ القِتَالُ في الشهر الحرام، ولا نسَخَ تحريمَه شيءٌ.
ودليلهم في هذا: البقاءُ على الأصل، فإن الأصل في النصوص الإحكام أي عدم النسخ، ولا يجوز الانتقال عنه إلا بدليل ولا دليل. والذي يظهر لي في هذه المسألة القول الثاني وذلك لقوة دليله.
مضاعفة السيئات والحسنات فيها:
الأصل في السيئات عدم المضاعفة، وأن من عمل السيئة كتبت له واحدةً قال تعالى:«من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون». وعليه فلا يصح القول بمضاعفة السيئات في الأشهر الحرم كما ذهب إليه بعضهم، نعم يقال بأن فعل أمرا محرما في هذه الأشهر فهو آثم من جهتين: الأولى: مخالفته للنص الشرعي الوارد بتحريم الفعل. والثانية: مخالفته للنص الوارد بتحريم ظلم المرء لنفسه في هذه الأشهر. وهذا الذي أذكره ليس من المضاعفة في الشيء، فالمضاعفة في اللغة الزيادة على أَصل الشيء وجعله مثليه أَو أَكثر، وما قررته هو من باب زيادة السيئات بزيادة المعصية لا غير.
وأعجب من القول بمضاعفة السيئات القول بمضاعفة الحسنات فيها، فهذا مما لا دليل عليه، ولو سلمنا جدلا بمضاعفة السيئات وأن قوله تعالى: «فلا تظلموا فيهن أنفسكم» يدل على ذلك، ما صح لنا أن نقول بهذا من باب قياس العكس، فإن أمور الثواب والعقاب مما لا يعقل معناه فلا يدخل القياس.
كتبه / جلال بن علي السلمي.