عاملية أدوات النفي الحجاجية سليمة محفوظي
مثّل النفي مبحثا مشتركا بين البلاغيين و النحاة و لئن اعتبره البلاغيون وتحديدا أهل المعاني شقّا للإثبات في الخبر فعالجوا علاقته بالإثبات، فإنّ النحاة قد عالجوه من منطلق في الدرس مغاير ذي أصول بنيوية فاعتنوا به و أحصوا حروفه و مقولاته وها نحن نستعين بكلا الدرسين دون عودة للتعريفات و القضايا الخلافية في سبيل بيان كيف أنّ النفي عامل حجاجي يحقّق به الباث وظيفة اللغة الحجاجية المتمثلّة في إذعان المتقبّل و تسليمه عبر توجهيه.
بالملفوظ إلى النتيجة"ن" . ولقد حصرت العربية في لغتها حروف متمحّضة للنفي من قبيل ( لا، لن، لم، ما) يصدق عليها قول أنسكومبر" يوجد في اللغة صرافم، عوامل حجاجية، تشدّ الملفوظ وتبدّل/ توجّه أقسام النتائج المرتبطة بالجملة في الملفوظ في بدايته"1
وإذا كان النفي في عرف المناطقة " هو العامل الذي يحوّل القضية الصحيحة إلى قضية خاطئة و الخاطئة إلى صحيحة وهو عامل أحادي opérateur unaire"2
فإنّه في الدرس اللغوي غير بعيد عن معناه ووظيفته في الدرس المنطقي فهذا ابن يعيش يعرّف النفي بأنّه إكذاب إذ يقول " اعلم أنّ النفي إنّما يكون على حسب الإيجاب لأنّه إكذاب له فينبغي أن يكون على وفق لفظه لا فرق بينهما إلاّ أنّ أحدهما نفي و الآخر إيجاب"1 و المركزي في تعريف ابن يعيش للنفي هو اعتباره إيّاه " إكذابا" و في الإكذاب توجيه للملفوظ و للمتقبلّ نحو النتيجة التي يجب أن يصدق بها المتقبّل قصرا.إذ محتوى القضية بلفظها لم يتغّير سوى النتيجة من جراء سلطة العامل عليها لذلك قال " فينبغي أن يكون على وفق لفظه لا فرق بينهما" و لكن بين الملفوظين المثبت منهما و المنفي يوجد على الأقّل فرقان أوّلهما شكليّ و يتمثّل، في حالة النفي، في صدارة العامل، عامل النفي، في مستوى الحيّز النطقي أو الكتابي الدّاخل على القضية مثال:
يفلح الظالمون
" لا يفلح الظالمون"3 و الثاني مضموني ويتمثّل في الحصول المفهوم من النفي. فلئن كانت جملة " يفلح الظالمون" ممّا يمكن أن يقال على الابتداء، و العمل اللغوي فيها هو الإثبات، إثبات" حقيقة" يؤمن بها طرف معيّن فإنّ قوله تعالى" لا يفلح الظّالمون" في الآية المذكورة العمل اللغويّ فيها هو النفي، نفي الخطاب الذي جاء يقيم " الحقيقة" المشار إليها وإثبات عكسها الذي هو المفهوم من النفي
وهذا النفي هو تحديدا- في الآية المذكورة- نفي سجاليnégation polémique
غايته هنا التكذيب الذي هو حسب الأستاذ شكري المبخوت " وظيفة النّفي الأساسية"4
لقد أبرز ابن عاشور المفهوم من النفّي في الآية محل النّظر بقوله مفسّرا إيّاها بمفهوم المخالفة فيها: " أي ستكون عقبي الدّار للمسلمين لا لكم"5
وغير بعيد عن هذا التناول أسّس ديكرو نظرية السلالم الحجاجية مخصّصا لعامل النفي نصيب الأسد في تحديد وجهة الخطاب الحجاجية معتبرا إيّاه أدقّ العوامل في تحديد منزلة الملفوظ من السلم الحجاجي وقد خصّص للنفي حيّزا من كتابه " السلالم الحجاجية"6منطلقا من مثالين طالما وقف عندهما وهما7:
1- لم يقرأ زيد جميع روايات بلزاك.
2- قرأ زيد بعض روايات بلزاك.
و يعلّق ديكرو على المثالين مصرّحا بأطروحته قائلا " إنّ أطروحتنا..... أنّ المثال الأوّل موجّه نحو نتيجة سالبة من صنف أنّ زيدا لا يعرف بلزاك جيّدا في حين أنّ المثال الثاني عكس ذلك، حسب رأيي، إذ موجّه نحو نتيجة إيجابية من صنف أنّ زيدا يعرف بلزاك"8 .
إن ّ عاملية النفي الحجاجية حينئذ لا يمكن إدراكها إلاّ بإدراك النتيجة التي يريد الباث توجيه5 جمهوره إليها لذلك كان ديكور في معرض حديثة عن النفي يركن دائما إلى رائز
المفهوم وهو" لماذا قال المتكلّم ما قال؟ " وذلك من أجل أن يحدّد للملفوظ درجته الحقيقية من السلم الحجاجي رغم أنّه يقول" إنّ كل تلفّظ له وظيفة حجاجية....... و يرنو إلى توجيه المتقبّل نحو نتيجة محدّدة"9 و النفي فيما نرى تلفظّ فهو توجيه على توجيه لذلك بمجرّد إدماج عامل النفي تتحدّد النتيجة "ن" بسرعة و لا يجد المتقبّل حرجا أو كدّ ذهن في إدراك المفهوم بل إنّ عامل النفي كمفهوم علاوة على وظيفته التوجيهية في الخطاب الحجاجي فإنّ له قيمة مضافة وهي على حدّ عبارة ديكرو " أنّه ضروري لوصف البنية الدلالة العميقة للملفوظ الذي يبدو غير منفي"10
على أنّ النفي قد يكون لغير التكذيب و الإكذاب فليس هو إذن ردّا على الرأي المعاكس الذي صاغه المتقبّل صياغة إثباتية. من ذلك ورود الشيء منفيا نفيا مقيّدا و المراد نفيه مطلقا فقد ذكر الزركشيّ- وهو أصوليّ- في كتاب البرهان في علوم القرآن من باب النغي أنّ " من النفي نفي الشيء مقيّدا و المراد نفيه مطلقا وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة في النفي و تأكيد كقولهمز فلان لا يرجى خيره، ليس المراد أنّ فيه خيرا لا يرجى، غرضهم أنّه لا خير فيه على وجه من الوجوه(...) و مثله قوله تعالى" ما للظّالمين من حميم و لا شفيع يطاع"11 ليس المراد نفي الشفيع بقيد الطاعة بل نفيه مطلقا [ إذ هم لا شفيع لهم مطاعا ولا غير مطاع]12.
غير أنّ النفي قد ينشأ عنه مفهوم مخالفة في غير سياق التكذيب و الإكذاب أو الرد على الخصم و تبكيته و إنّما يكون ذلك المفهوم الذي تؤدّي إليه بنية النفي من قبيل الأحكام المستفادة على وجه الاستلزام من الكلام المنفيّ المقيّد بصفة أو ما في معناها فقد قال الز ركشيّ في التعليق على الآية السابقة التي نفي فيها الشفيع مقيدّا " فكان نفي الشفيع المطاع تنبيها على حصوله لأضدادهم كقولك لمن يناظر شخصا ذا صديق نافع: لقد حدّثت صديقا نافعا و إنّما تريد التنويه بما حصل لغيره لأنّ له صديقا لم ينفع"13
.
1- عاملاية" إنّما " + " ضمير الفصل"+ " الــ الموصولة":
" إنّما" هي أم طرق القصر و هي بعبارة النحاة القدامى متمحّضة له و حكر عليه خصّها الجرجاني في الدلائل بالذكر أكثر من مرّة إذ يقول " إعلم أنّها تفيد في الكلام بعدها إيجاب الفعل لشيء و نفيه عن غيره فإذا قلت إنّما جاءني زيد عقل منه أنّك أردت أن تنفي أن يكون الجائي غيره فمعنى الكلام معها شبيه بالمعنى في قولك جاءني زيد لا عمر"14 ولو أخضعنا هذه الجملة لمقولة التوجيه في الحجاج مع ديكرو للاحظنا كيف أنّ" إنّما" بإدخالها على النواة وجّهت الملفوظ نحو نتيجة محدّدة ضيّقة فالجائي كما قال الجرجاني ليس إلاّ زيد و هذه هي النتيجة التي يروم الباث إيصالها للمتقبّل الذي يتوهّم أنّ الذي جاء قد يكون عمرا أو صالحا لذلك قال الجرجاني" فإذا قلت إنّما جاءني زيد لم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء مع زيد غيره و لكن أن تنفي أن يكون المجيء الذي كان منه كان من عمرو و كذلك تكون الشبهة مرتفعة في أن لي ههنا جائيين وإن ليس إلاّ جاء واحد"15.ويمكن القول أن في اللغة العربية أدوات تلعب دورا حجاجيا يجب أن يفرد لها بحوثا ودراسات معمقة
الهوامش
1-<< Il y a en langue des morphèmes, opérateurs argumentatifs, qui combinés avec un énoncé, modifient la classe des conclusions liée la phrase attachée à l'énoncé de départ . cette modification est souvent une réduction>>: (Anscombre, dynamique du sens et scalarité, colloque de cerisy, 1987,p 134)
2- Ben Nasar (A): Logique symbolique et élémentaire, p25,T2,(éd),C.P.U, Tunis 2000.
3-ابن يعيش ( موفق الدين): شرح المفصل ، ص 107، ج8، عالم الكتب، د.ت.
4-الأنعام الآية 135.
5- شكري المبخوت: عمل النّفي وخصائصه في العربية، أطروحة دكتوراه دولة، مرقونة بقاعة أطروحات كلية الآداب منبوبة، ص 172.
6-بن عاشور: تفسير التحّرير و التّنوير، ص 93، ج8، دار سحنون للنشر و التوزيع، 1997.
7- Ducrot: (o): les échelles argumentatives, p17,(éd) minuit, 1980.
8- Ducrot (o): les échelles argumentatives, p17;(éd) minuit,1980, les exemples sont:
-Il n'a pas lu tous les romans de Balzac.
- Il a lu quelque romans de Balzac.
9- المرجع نفسه، ص7: حيث يقول:
Ma thèse était que le premier est nécessairement Orienté vers une conclusion négative du type la personne en question connait mal Balzac, le second est au contraire, selon moi, orienté vers une conclusion positive du type la personne en question connait balzan"
10- يمكن فهم التوجيه على أنّه مقتضى الاستثناء الذي يشترطه النفي بناء على قول الأستاذ المبخوت في أطروحته" إنّ النفي عندنا يشترط إطار تخاطبيا يكون فيه استثنافا للكلام لا ابتداء" و إن كان التوجيه ملازما حتى للجملة الابتدائية المنفية.
11- Ducrot: (o): Les échelles argumentatives ,p15,(éd) minuit, 1980.
12- car la notion de négation est nécessaire pour décrire la structure sémantique profonde d'énoncées superficiellement non négatifs ( les échelles argumentatives : p46-47).
كلام ديكرو هذا قد يتعارض نسبيا مع يقوله ماير عند ما يعرف النفي قائلا:
<< la négation est donc un signe propositionnel et non signe de la réalité>> ( meyer michel: logique, langage, et argumentation, hachette,1983,p60).
13-سورة غافر، الآية 18.
14-الزر كشي (بدر الدين) : البرهان في علوم القرآن. دار المعرفة بيروت، دت،ج3، ص 396-397
15-الجرجاني ( عبد القاهر): دلائل الإعجاز، تصحيح محمد رشيد رضا، بيروت لبنان، د.ت،ص 258