زبدة المحاضرة :
(طرائق الجمع بين دراسة الفقه وأصوله) :
ندخل قليلا في ما يتعلق بموضوع المحاضرة وهو الربط بين الأصول والفقه أو الفروع .
إذا نظر الإنسان للتعليم - تعليم الأصول وتعليم الفقه - وجد أن من الضروري ربط هذين العِلْمَيْنِ بِبَعْضِهِمَا .
ونتكلم عن أوجه الربط وطرائق الربط ، ثم نتكلم عن أنواع الناس في هذا الباب .
* الطريقة الأولى من طرائق الربط : ربط دراسة الأصول بالفروع بحيث إذا درسنا قاعدة أصولية درسنا الفروع الفقهية المترتبة عليها .
وهذه يختلف العلماء فيها على طريقتين :
1- الطريقة الأولى : ربط الخلاف الفقهي بالخلاف الأصولي .
2- والطريقة الثانية : ربط الدليل الجُزْئِيِّ بالقاعدة الأصولية .
شو الفرق بينهما ؟
أنا أضرب لذلك مثال :
أنا أُدرسكم قاعدة : الأمر للوجوب ، جئنا في مسألة صلاة الوتر لما أقول أَرْبِطُ الخلاف بالخلاف فأقول : اختلف الفقهاء في حكم صلاة الوتر ؛ الجمهور يقولون متسحبة والحنفية يقولون واجبة .
ما دليل الحنفية ؟ هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ أوتروا يا أهل القرآن ] )[6]( هنا أمر والأصل في الأوامر الوجوب .
جاءنا شخص وقال : قاعدة الأمر للوجوب يترتب عليها مسألة وجوب الوتر .
نقول : لا هذا الربط فيه ما فيه ، إذن هنا رَبَطْنَا الخلاف الفقهي بالخلاف الأصولي ، وهذا التَخْرِيجُ فيه ما فيه .
النوع الثاني ربط الدليل الجزئي هو قوله : [ أوتروا يا أهل القرآن ] بالقاعدة ، ما نربط الخلاف الفقهي وإنما نربط الدليل الجزئي هنا بدليل جزئي .
طيب الطريقة الأولى وهي ربط الخلاف الفقهي بالخلاف الأصولي هذه سار عليها أكثر العلماء وكتب فيها أُنَاسٌ كُثُر ، ولذلك لما تجد مثلا كتاب تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ، أو كتاب مفتاح الأصول للتِّلْمِسَانِي ، أو كتاب التمهيد للإِسْنَوِيأو غيرها من الكتب ، أو كتاب القواعد والفوائد الأصولية لابن اللَّحَّامِ تجدهم يَبْنُونَ على هذه الطريقة ؛ يأتون بالقاعدة الأصولية ويربطون بين الخلاف الفقهي مع الخلاف الأصولي .
هذه الطريقة عليها محاذير كثيرة ، وأنا أورد لكم بعض المحاذير لتَنْتَبِهُوا لها :
أ - المحذور الأول : أن المسألة الأصولية كُلِّيَةٌ بَيْنَمَا الفرع الفقهي قد يكون الخلاف فيه ليس ناشئا عن الاختلاف في الأمر الكلي ، يعني مثال ذلك : قبل قليل قلنا قاعدة الأمر للوجوب وجبنا [ أوتروا يا أهل القرآن ])[7](هنا أمر ، الذي يخالف ويقول : الوتر ليس للوجوب ، لا يقول لأن السبب أن الأمر لا يفيد الوجوب ، وإنما يقول لأن هنا مانعٌ يَصْرِفُ الأمر من الوجوب إلى الاستحباب .
إذن هو لم يُخَالِفْ في أصل القاعدة وإنما خالف في وجود المانع ، فعندما نربط بين الخلاف الفقهي والخلاف الأصولي نكون في الحقيقة مُخْطِئِينَ .
ب - الإشكال الثاني :أن الخلاف الفقهي ترتبط الأقوال فيه بأدلة متعددة ولا تَقْتَصِرُ على دليل واحد ، فإذا ربطنا الخلاف الفقهي بالخلاف الأصولي كأَنَّنَا حصرنا المسألة الفقهية في أحد الأدلة ، واضح ولا نجيب مثال ؟ مثال ؟ طيب .
يقول : من المسائل الخلافية مسألة بيع العِينَةِ ، وايش معنى بيع العِينَةِ ؟ بيع العِينَةِ أن أبيعك السلعة كم قيمتها ؟ أبيعك هذه السلعة بعشرة مليون تسددها لي [عبر] سنة ، ثم تُعَاوِد تبيع لي السلعة بثمانية ملايين حَالَّةً هَا الِحين .
هذه إيش تسمى ؟ إحنا دَخَّلْنَا هذا الكأس كله علشان بس حيلة ، وَلاَّ نهايةُ المعاملة ثمانية ملايين تُسَلَّمُ حَالَّةً مُقَابِل عشرة ملايين تُسَلَّمُ بعدَ سنةٍ هذا بيع عينة [ أو عكس بيع العينة ] .
بيع العِينَةِ اختلف الفقهاء في جوازها ؛ فالجمهور يقولون هي حرام ، والشافعية يقولون هي جائزة ، كان من أدلة الجمهور أن زيد بن ثابت )[8]( بَاعَ بِبَيْعِ عِينَةٍ ، فَأُخْبِرَتْ عائشة بذلك فقالت عائشة رضي الله عنها : أخبري زيداً أنه قد أَبْطَلَ جِهَادَهُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)[9](.
فجاءنا إذن وقع خلاف مَنْشَأُهُ اختلفوا في هذا الدليل .
جاءنا بعض الفقهاء وقال : هذا الخلاف الفقهي مرتبط بالخِلاف في مسألة حُجِّيَةِ الصحابي ؛ فمن قال بأن قول الصحابي حُجَّةٌ قال بَيْعُ العِينَةِ حرام . ومن قال قول الصحابي ليس بحجة قال : بيع العِينَةِ مباح .هذا الربط رَبْطٌ خاطئٌ ؛ لأن المسألة فيها أدلة أخرى .
بعضهم يستدل بقوله تعالى : -(وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)- [المدثر/6] ، وبعضهم يستدل بما ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا تبايعتم بالعِينَةِ واتَّبَعْتُمْ أذناب البقر وتَرَكْتُمُ الجهادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ - إيش ؟ - عدوا أو ذلا لا يرفعه عنكم حتى تُرَاجِعُوا - إيش ؟- دينكم ])[10](.
ولذلك أنا قد أقول : بأن قول الصحابي ليس بحجة ولا أستدل بأثر عائشة لكنني أمنع من العِينَةِ بناءً على هذا الحديث .
وفي المقابل قد يقول قائل : أنا أقول بأن قول الصحابي حجة ، لكن بَيْعُ العِينَةِ عندي مباح لأن هذا لم يثبت عن عائشة مثلا .
فإذن قد يكون الاختلاف الفقهي ليس مرتبطا بالخلاف الأصولي وإنما يكون لسببِ دليلٍ آخر في المسألة أو بسبب عدم صحة الدليل مثلا .
ج - الإشكالية الأخرى : التي سار عليها هؤلاء كثيرا أنهم طَبَّقُوا القواعد الأصولية على الألفاظِ من الإِقْرَارَاتِ والطلاقِ والعقودِ ونحو ذلك ، والمقصود من القواعد الأصولية أَصَالَةً هو الدليل الشرعي .
إذن هذه الطريقة عليها هذه المحاذير ولذلك من الأولى ألاَّ نَرْبِطَ الخلاف الفقهي بالخلاف الأصولي ، وإنما نَرْبِطُ الدليلَ الجُزْئِيَّ بالقاعدةِ الكُلِّيَةِ أو القاعدة الأصولية .
(فائدة) :
هل يناسب عند دراسة الأصول أن نَدْرُسَ الفقه وأَنْ نُبَيِّنَ التَّطْبِيقَاتِ الفقهية أو لا يناسب ؟
عندنا خلاف في هذه المسألة ، هل يناسب وضع تَطْبِيقَاتٍ فقهية عند الدراسة الأصولية أو لا ؟
أكثر العلماء المتقدمين يقولون هذا ما يصح هذا غير مناسب ، ليش ؟ قالوا : لأن هذا من خَلْطِ العلوم ، وبعدين المسائل الفقهية [...])[11](ولا ينبغي أن تبحث في الأصل ، ولذلك ينكرون يقولون هذا ما يفعله إلا البَلِيدُ .
وإن كان مرات بعضهم تَكَلَّمَ بمثل هذا يغمز به على طريقة الحَنَفِيَّةِ ، لأن الحَنَفِيَّةَ كانوا يَأْخُذُونَ القواعد الفقهية من الفروع الفقهية الواردة عن أئمتهم ، ولهم طرائقهم الخاصة في الاصطلاحات والاجتهاد ، ولذلك تجد الكتب الأصولية عند علماء الحَنَفِيَّةِ مَلِيئَةً بالفروع الفقهية .
بينما طريقة الجمهور أنهم يدرسون القواعد الأصولية مُجَرَّدَةً عن الفروع الفقهية ، وإنما قد يذكرون مسألة على جهة التمثيل لا على جهة التطبيق من أجل الفهم فقط .
* الطريقة الثانية من طرائق الحمع بين الدراسة الأصولية والدراسة الفقهية : دراسة القواعد الأصولية من خلال دراسة الفروع الفقهية من خلال أدلتها .
مثال ذلك : لما قال الله عزوجل -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)- [البقرة/278-279] عندما يبحث الإسنان في مسائل الربا في الفقه يقرر أن الفقه حرام ويقول : والأصل في تحريمه : -(وَحَرَّمَ الرِّبَا)- [البقرة/275] ولفظة التحريم صريحة في إثبات حُكم الحرام ، هذه القاعدة لفظة التحريم صريحة في التحريم أو في إثبات لفظ الحرام هذه قاعدة أصولية وبالتالي نتمكن من الربط بين الفقه والأصول من خلال ذلك .
ثم يستدل بقوله عزوجل -(اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)- [البقرة/278] فقوله : -(ذَرُوا)- هذا أمر بالترك والأمر بالترك يفيد التحريم ، وقوله : -(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)- [البقرة/278] فيه دلالة على ان أكل الربا حرام ، لماذا لأنه علق الإيمان - المعنى الكامل - على تركه .
فنأخذ من هذا أن ما عُلِّق الإيمان عليه فهو واجب ، وتركه يكون محرما .
يعني مثال ذلك الحديث [ أوتروا يا أهل القرآن ]لما يأتي مستدل يتكلم عن مسائل فقهية في باب الوتر ويقول : الوتر ليس بواجب على من ليس من أهل القرآن ، غير حفظة القرآن لا يجب عليهم الوتر استدلالاً بقوله النبي صلى الله عليه وسلم : [ أوتروا يا أهل القرآن ]فإنه لما خاطب أهل القرآن بالأمر بالوتر دل هذا على أن غير أهل القرآن لا يخاطبون بالأمر به ، فإذن الأمر هنا مختص .
القاعدة هنا أن الأمر المخصوص بطائفة لا يشمل من لا يماثلهم في المعنى ، أو اختصاص الحكم بالوصف المرافق له وهذا يسمونه دلالة القصر أو بعبارة أخرى دلالة مفهوم المخالفة ، فإنه لما أمر أهل القرآن بالوتر دل ذلك على أن غير أهل القرآن لا يأمرون بالوتر .
إذن هذه الطريقة هي طريقة دراسة الفقه ثم بعد ذلك ندرس القاعدة الأصولية ، لكن تلاحظون أن هذا لا يكون إلا عند دراسة الفقه بطريقة الإستدلال ، أما طريقة دراسة الفقه بتحليل الألفاظ بدون أن يكون هناك استدلال فإنه لا يمكن في الربط بين الأصول والفقه .
وتلاحظون أيضا أن كثيرا من المؤلفين في الفقه قد يغفل هذا ، تجده مثلا يقول : الأصل في البيع الإباحة لقوله : -(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)- [البقرة/275] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم باع واشترى . فأسقط وجه الاستدلال وبالتالي قد لا تتنبه إلى القاعدة الأصولية التي استعملت لاستخراج هذا الحكم بواسطتها من الدليل .
-(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)- هنا تصريح بالإحلال فيدل على جوازه ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم باع في مقدمة أخرى وهي أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة ، وأن الفعل المجرد من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الإباحة .
هذه القواعد لم تذكر لكن طالب العلم ينبغي به أن يكون متنبها لها ، وهذه في جميع العلوم وهو أن أهل العلم يحذفون بعض المقدمات لظنهم أنها معلومة ، فيقع اللبس وعدم الفهم عند كثير من القراء .
* الطريقة الثالثة من طرائق الربط بين الأصول والفروع : الربط بينهما عند دراسة النصوص الشرعية ؛ يعني عند تفسير القرآن أو شرح الأحاديث النبوية يقوم الفقيه باستنباط الحكم من الدليل ويوضح القاعدة ، فلان في درس تفسير فيقول : هذه الآية تدل على كذا فَيُوَضِّحُ القاعدة التي اسْتَنَدَ عليها في ذلك .
إذا نظر الإنسان في المدرسين الذين يُدَرِّسُونَ في الأصول وجد بأنهم على أنواع :
1- النوع الأول : مَن يدرس القواعد الأصولية مُجَرَّدَةً ما معها فروع ، هذا إذا كان فاهماً فهو جيد لأن الفاهم في علم الأصول نوادر صح ولا لا ؟
2- القسم الثاني من أنواع الأساتذة : من يُدَرِّسُ القواعد الأصولية ويُفَرِّعُ عليها الفُرُوعَ الفقهية المذكورة عند الأصوليين ، وهذا أحسن من الأول .
3- والثالث : من يدرس القواعد الأصولية ويُطَبِّقُهَا على الفروع الفقهية المذكورةِ في كتب الفقهاء ، وهذا أحسن من الذي قبله .
4- والنوع الرابع : من يُطَبِّقُ القواعد الأصوليةَ على المسائل النازلةِ - المسائلُ المعاصرة الجديدة - ، هذا هو الفقيه حَقَّ الفِقْهِ ، لكن هذا نادر أصحابه ما يعدون إلا بالأصابع .
إذن هناك من يُدَرِّسُ الأصول بدون ذكر الفروع ، وهناك من يُدَرِّسُ الأصول بِذِكْرِ الفروع التي يَذْكُرُهَا الأصوليون ، وهناك من يُدَرِّسُ الأصول بِذِكْرِ فروع فقهية مبنيةٍ على تلك القاعدة الأصولية من كتب الفقهاء ، وهناك من يُدَرِّسُ القواعد الأصولية ويُنَزِّلُـهَ على المسائلِ الجديدة والنَّازِلَةِ .
أُنَبِّهُ إلى قضيةٍ هنا وهي أن عِلْمَ الأصول لا يَقْتَصِرُ على الفقه ، بل القواعد الأصولية كما يأخذ منها أحكام فقهية يُأْخَذُ منها أحكام في كل المجالات في كل العلوم .
مثال ذلك : في مسائل العقيدة نأخذ فروعا فقهية من النصوص بواسطة قواعد أصولية ، ما حكم الإيمان ؟ ايش ؟ واجب ، وايش الدليل ؟ -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا )- [النساء/136] طيب كملوا إحنا قلنا قبل اشوي أن كثيرا من الفقهاء ما يَذْكُرُونَ وَجْهَ الاستدلال وبالتالي لا يربطون بين المسألة الفقهية أو العقدية وبين القاعدة الأصولية ، فتقول هنا : -(آَمِنُوا )- فعل أمر والأمر يدل على الوجوب ، هنا اسْتَنْبَطْنَا حُكْماً عَقَدِياً بواسطة القواعد الأصولية .
ولذلك قال المعتزلة بأن الله لا يُرَى)[12]( ، رَدَّ عَلَيْهِمْ أهل السنة باستدلالات كثيرة ، من تلك الإستدلالات قوله عزوجل : -(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)- [المطففين/15] في سورة المطففين ، فإنه قَسَّمَ النَّاسَ إلى قسمين : فُجَّارٌ وأَبْرارٌ ، فذكر أن الفجار مَحْجُوبُونَ عن ربهم جل وعلا فدل ذلك على أن المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ ربهم لا يُـحْجَبُونَ ، هذا ويش يسمى ؟ مَفْهُومُ المُخَالَفَةِ ولا مَفْهُومُ التَّقْسِيمِ ؟ اللي يقول مَفْهُومُ المُخَالَفَةِ يرفع يده ، بس واحد ، اثنين ثلاثة .... طيب اللي يقول مَفْهُومُ التَّقْسِيمِ يرفع يده .
هو الآن قَسَّمَ الناس مؤمن أبرار وفجار ، حَكَمَ على أحد القِسْمَيْنِ بحكمٍ دَلَّ ذلك على أن القسم الآخر لا يُحْكم عليه بهذا الحكم .
اه من يقول بأنه مفهوم تَقْسِيمٍ ؟ بس ، لا .
غَلَطْ مَفْهُومُ التقسيم أحد أنواع مفهومِ الـمُخَالفة ، فهذا مثال لمفهوم التقسيم وهو في نفس الوقت مفهوم مخالفةٍ لأن مفهوم التقسيم أحد أنواع مفهوم المخالفة .
المقصود أننا استدللنا بهذه القاعدة الأصولية في حكم عقدي وهو إثبات رؤية المؤمينن لربهم جل وعلا ، فَدَلَّنَا هذا على أن القواعد الأصولية لا يصح أن تُحْصَرَ في مسائل الفقه العملية ، وإنما طرائق فهم الكتاب والسنة هي قواعد الأصول .
(أوجه الترابط بين الفقه والأصول ، ومدى حاجة الفقيه إلى علم أصول الفقه)
إذا أردنا أن نَتَعَرَّفَ ما هي أوجهُ الترابطِ بين الفقهِ والأصول ؟ وما مدى حاجة الفقيهِ إلى معرفة الأصول ؟ اللي يبغى يصير فقيها هل يحتاج إلى أن يدرس الأصول ويعرف الأصول أو لا يحتاج ؟
يحتاج ؛ لماذا هو يحتاج ؟ لأمور :
- أولها : الاستنباط لأنه لا يَتَمَكَّنُ من استنباط الأحكام الفقهية من الأدلة إلا بواسطة القواعد الأصولية ، فإذا لم يعرف القواعد الأصولية لم يَتَمَكَّنْ من استنباطِ أحكام المسائل الفقهية .
- الأمر الثاني : الإِحَاطَةُ بمسائل الفقه ، مسائل الفقه كثيرة متعددة لَكِنَّكَ إذا عرفت قواعد الأصول تَتَمَكَّنُ من الإحاطة بكُلِّهَا أو بأغلبها ، أما إذا دَرَسْتَ الفروع الفقهية بِجُزْئِيَّاتِه َا لن تَتَمَكَّنَ من ضبط الفروع ولن تتمكن من الإحاطة بالفقه ، وهذه تَنْتَبِهُونَ لها كثيرا ، كثيرٌ من الناس يقول أنا دَرَسْتُ ودَرَسْتُ مسائل فقهيةً وأنسى ولا أضبطها ليش ؟
لأنه لم يَرْبِطِ تلك الفروع بقواعدها ، لو رَبَطَهَا لَبَقِيَّتْ في ذهنه ، حتى لو نسي فرعاً فقهياً إذا جائته مسألة هذا الفرع الفقهي عرف القاعدة فأرجعها إلى القاعدة .
- الأمر الثالث : تحصيل رتبة الاجتهاد ؛ لا يَتَمَكَّنُ الإنسان من الوُصُولِ إلى رتبة الاجتهاد إلا إذا كان عنده علم بالأصول فلن يجتهد ولا يتمكن من الاجتهاد في الفروع الفقهية إلا بمعرفة القواعد الأصولية ، بل إنه في الحقيقة لن يتمكن من فهم الفروع الفقهية إلا إذا عرف القواعد الأصولية ، لأن الفرع الفقهي يحتاج إلى تصور لتَحْكُمَ عليه ، من طرائق التَّصَوُّرِ فَهْمُ الألفاظ المنقولةُ المسألةُ بها ، إذا ما حَصَّلْتْ تعرفْ الألفاظ ودلالاتها حينئذ لن تَتَمَكَّنَ من فهم المسألة .
كذلك إذا عرفتَ الأصول تَمَكَّنْتَ من التمييز بين أنواع اجتهادات السابقين ؛ عندك أبو حنيفة يقول كذا ، والشافعي يقول كذا ، ومالك يقول كذا ، وأحمد يقول كذا ، كيف ترجح بينها ؟ وكيف تعرف الراجح من المرجوح ؟ بواسطة النظر في الأدلة الشرعية بالقواعد الأصولية .
ومن ثم دراسة الأصول تُعِينُ على الترجيح بين اجتهادات الفقهاء المتقدمين .
يمثلون بأمثلة يقولون : الفقيه مثل الصيدلي والأصولي مثل الطبيب ، الطبيب يعرف العلاج بس ما عنده علاج ، يقول : أنت مريض بالمرض الفلاني وعلاجك الدواء الفلاني .من اللي يقوله ؟ الطبيب وهذا مثل الأصولي .
طيب أعطني شيء يتعلق به ، قال : نعطيك بس قاعدة تُمَشِّيكَ في الدرب .
أما الفقيه فهو بمثابة الصيدلي عنده أنواع الأدوية ، لكن إذا جاءه مريض قال والله ما أدري وايش أعطيك أخاف أعطيك دواء وتموت ، هذا مَثَلُ الفقيه الذي ليس عنده معرفة بالأصول .
من مميزات ربط دراسة الفقه بالأصول : التأكد من صحة الاجتهاد والمنع من الخطأ فيه ؛ إذا كنت تعرف القواعد الأصولية فاجتهدت في مسألة ثم رجعت إلى ما لديك من قواعد ونظرت هل اجتهادك صحيح أو اجتهادك خاطئ .
مثال هذا : في تصحيح الحديث وتضعيفه : هناك قواعد للتصحيح والتضعيف ، عندما يأتيك حديث وتصححه أو تضعفه ، ثم تنظر في هذه القواعد تتعرف هل حكمك صحيح أو خطأ ، هكذا في الفروع الفقهية ، عندما تحكم على مسألة بحكمٍ ثم تنظر في القواعد الأصولية وتُطَبِّقُهَا على هذه المسألة تَعْرِفُ الحكم الذي توصلت إليه صحيح أو ليس كذلك .
كذلك من فوائد ربط الفقه بالأصول معرفة الحِكَمِ والأسرار والمعاني التي تشتمل عليها أحكام الشريعة ؛ في الأصول نحن نحتاج إلى إعمال القياس ، إعمال القياس ما يكون إلا باستخراج العلة ، العلة فيها معنى معقول لأنه يحصل من ترتيب الحكم على هذا الوصف مصلحة ، فحينئذ نعرف فضل الله جل وعلا علينا بهذه الشريعة وكيف كانت هذه الشريعة مُحَقِّقَةً لمصالحنا ومصالح الخلق .
(فائدة) :
وقع اختلاف بين علماء الشريعة هل الأفضل نُقَدِّمْ دراسة الأصول ؟ أو الأفضل نُقَدِّمْ دراسة الفقه ؟
وأحسن الأقوال في هذا أن يقال : أن الإنسان يحتاج في أول أمره إلى عمل ، هذا العمل لابد أن يتعلم هذا العمل هو الفقه ؛ تعرف كيف تصلي ، تعرف كيف تتوضأ هذا الفقه فتُقَدِّمُهُ ، ثم بعد ذلك تَدْرُسُ الأصول التي تُسْتَنْبَطُ بواسطتها الأحكام الشرعية من الأدلة .
هل هناك قواعد أصولية لا يَنْبَنِي عليها فقه ؟ أو لا يَنْبَنِي عليها فروع ؟
هذه من المسائل التي يبحثونها والناظر في القواعد الأصوليـــة يَــجِدُ أنها على أربعة
أنواع . كم نوع ؟ أربعة :
- [ النوع الأول ] قواعد يستنبط منها فروع فقهية ، هذه لا إشكال أنها من أصول الفقه .
- النوع الثاني : قواعد فهم واستنباط لم يُأْخَذْ منها إلا أحكام في علوم أخرى كالمعتقد والتفسير ونحوه ، فحينئذ يقال : هذه أيضا من قواعد علم الأصول بلا إشكالٍ .
- النوع الثالث : قواعد أصولية لا يَتَرَتَّبُ عليها تفريعٌ في علوم أخرى ، وإنما يترتب عليها تفريع في علم الأصول .
مثال ذلك مثلا قاعدة : عدم التكليف بما لا يُطَاقُ ، تترتب عليها ثمرات أصولية كثيرة منها : هل يشترط في الفعل المُكَلَّفِ به أن يكون مُمْكِناً ؟ هل يشترط في الفعل المكلف به أن يكون معلوما ؟ هل يشترط فيه أن يكون معدوما ؟ هل يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ؟ كل هذه مبنية على مسألة تكليف ما لا يُطَاقُ .
- النوع الرابع : مسائل ليس لها ثمرة وهذه نادرةٌ أو ليس لها وجودٌ بالكُلِّيَّةِ .
أضرب مثل علشان يتميز الحال :
هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو لا ؟ إذا نظرت فيها وجدت أن الفقهاء والأصوليين يذكرون مسائل مترتبة عليها ، وإذا نظرت تبين أنها لا تَنْبَنِي عليها أحكام ، إما لكون هذه المسائل المذكورة تختص بطائفة من الكفار دون جميعهم ؛ بعضها يختص بأهل الذمة ، بعضها يختص بالمُحَارِبِينَ ، بعضها يختص بالمُرْتَدِّينَ والقاعدة عامة في جميع أنواع الكفار ، وحينئذ لا ينبني عليها فروع فقهية .
طيب ، إذن لماذا أوردوها ؟ هذه المسألة ثمرة لخلاف عقدي وهو : هل الكفر رتبة واحدة أو هو رتب متعددة ؟
فالجمهور يقولون : الكفر يزيد وينقص لقوله تعالى : -(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا)- [النساء/137] قال : -(ازْدَادُوا كُفْرًا)- قال : -(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)- [التوبة/37] ولذلك يقولون الكفار مخاطبون بالفروع بمعنى أنهم يعاقبون زيادة عقوبة لتركهم عذه الفروض .
والقول الآخر- قول الأشاعرة - يقول : الكفر رتبة واحدة لا يزيد ولا ينقص ، ولذلك إذا عوقب على ترك أصل الإسلام فإنه لا يعاقب عقوبة زائدة على ترك بقية الأحكام الشرعية .
إذن هذه المسألة وإن لم يترتب عليها ثمرة عملية لكنها مبنية على تقعيد عقدي .
نأتي بمثال أوضح من هذا : من المسائل التي يبحثونها هل النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد ؟ .... الأحكام التي وصل إليها أو اجتهد فيها ووصلت إلينا أصبحت سنةً ووحياً ومن ثَمَّ ويش الحاجة اجتهد ولا ما اجتهد ؟
فنقول هذه أُتِيَ بها لأنها دليل يترتب عليها قاعدة أصولية ، وايش هي القاعدة الأصولية ؟ هل يجوز العمل بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين أو لا ؟ لأن الاجتهاد مُؤَدَّاهُ ظَنِّيٌ ، وانتظار الوحي يقين وقَطْعٌ ، فإذا قلنا النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد فمعناه أننا نقول يجوز الاقتصار على الظن مع القدرة على اليقين ، وهذه القاعدة ترتب عليها فروع فقهية كثيرة متعددة .