"......أحيانا... تقومين من شبيه الموت وشقيقه.. فزعة.. بل ..مكسورة الخاطر.. باكية الفؤاد... على حلم.. لم يتحقق... لأن يدا هزت كتفك.. وصوتا أذهب نومك.. حالا دون تحقيقه......
نزلت من الحافلة.. وسرت أحث الخطا..كي أصل سريعا..إلى هناك....
بدأت خطواتي تتسارع... الطريق طويلة... المباني عالية...
أين هو؟.... أين الهدف؟....
وإذا بصوت يقول: أسرعي... أركضي..لا تضيعي الوقت....
ركضت وركضت..... ها هو الهدف... هيا زهيرة... أركضي... لم يبق إلا القليل...
ها هو الباب... إنه مفتوح على مصراعيه.... قليلا من السرعة فقط.. وسألجه..... مع هؤلاء....
الحمد لله... كدت أصل.... بقي ثلاث خطوات... خطوتان.... خطوة....
وإذا بيد تهز كتفي... وصوت يرن في أذني.... "قومي يا زهيرة فقد أذن المؤذن"........
نظرت إلى أمي -وشبيه الموت يغادرني- ...والدمع يتسلل إلى عيني..." لماذا لم تتركيني أدخل؟.... لقد بقيت خطوة فقط... يا أماه...، قالت بنبرتها الحنون: تدخلين ماذا يا بنية؟..قلت: أدخل الحرم... يا أماه...."
وقمت أصلي الفجر... كانت الساعة السادسة فجرا...في ليلة من ليالي الشتاء الباردة...
كانت الروح هناك يا أمي... وكادت أن تدخل.......
هل تصدقين أني في ذلك اليوم... بكيت ثلاث ساعات متتالية؟.... من السادسة فجرا.. إلى التاسعة ضحى....
ثلاث ساعات والروح تبكي... وهي غير مستوعبة أنها... لم تدخل الحرم..وأنها إنما كانت تحلم...لا أكثر.....
الأحلام يا صديقتي.. رحمة وعظة... هكذا أراها...
فهي رحمة للروح.... فيها تنطلق.. وتتحرر من قيود الجسد... حين لم يسمح لها الجسد بالرحيل إلى أم القرى في اليقظة... رحلت إليها رغم أنفه... في المنام... رحلت رغم أنف الجسد... رغم أنف اليتم.... رغم أنف الفقر...
وهي عظة لابن آدم... فإنما لحظة منامه شبيهة بلحظة حياته... وإنما لحظة يقظته شبيهة بلحظة موته.... وأما لحظة اكتشافه أنه كان يحلم.... شبيهة بلحظة كشف الغطاء عنه... فبصره يومئذ حديد...
فالدنيا يا صديقتي... حلم
والموت... حقيقة
ويوم الحساب.... تفسير الأحلام..
وكما أن الحلم في الدنيا.. حسن وسيء.. كثير التفاصيل وقليلها..
فكذلك حال الإنسان...يوم الحساب..
منا من كانت حياته.. حلما قصيرا...قليل التفاصيل...أصبحت حقيقته حسابا يسيرا... انقلب بعده إلى أهله مسرورا..
ومنا من كانت حياته.. حلما طويلا.. كثير التفاصيل.. أصبحت حقيقته حسابا عسيرا... دعا بعده ثبورا....ثم يصلى سعيرا...
فأما أطفالنا... الذين عاشوا معنا حلما قصيرا... ثم رحلوا وهم أبناء الشهر والسنة والأربع...
فأولئك فسرت أحلامهم أحسن تفسير... ولتفوا بإبراهيم عليه السلام... في جبل.... في تلك الأعالي....
وأما نحن... فلا زالت أحلامنا مستمرة...لا نعلم لها يقظة... ولا نفقه لها تفسيرا...
فعسى أن يصيبنا من رحمة الله نفحة... تجعل أحلامنا رؤى صالحة...نستبشر بها...بمغفرة ورحمة... ولقاء هناك.... على سرر متقابلين...
وعسى أن تكون تفاصيل حياتنا... كتفاصيل تلك الرؤى الصالحة.. التي نرويها بفرح وبشرى...وندقق في وصف تفاصيلها... عسى أن تفسر تفسيرا يسر القلوب... وعسى أن تأتي من دونها أحداث تهدئ النفوس....
فعسى... أن تروي تفاصيل حياتنا... في يوم الحساب... ما يسر أنفسنا..... ويطمئنها بمصير مفرح.... ويبشرها بدار الخلد...وجنات النعيم...."مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وحسن أولئك رفيقا"
هذه الخاطرة هي جزء من رسالة طويلة أرسلتها لصديقة عزيزة
كي أعزيها في وفاة ابنتها الصغيرة...رحمة... بنت الأربع سنوات
اهديها لكن جميعا وأخص بها كل من فجعت في ثمرة فؤادها...
أختكم المحبة
زهيرة أم هاشم.