راكلو عربة الصحوة .. علي جابر الفيفي
إن من أسوأ أنواع الظلم والنكران أن تحاول طعن شخص ما في ظهره مستعينا به ، ومستخدما الأدوات التي بذلها لك ، والمهارات التي درّبك عليها !
مشاعر سوداء تلك التي تدعوك لأن تساهم في هدم جدار المدرسة التي علمتك أحرف الهجاء ، وأن تحرق الفصل الذي شهد أول محاولة كلام سليم منك ، وأن (تفكك) بنية تلك المناهج التي لم تكن قبلها شيئا مذكورا ! كل ذلك مستخدماً فيه الأحرف والكلام والمناهج التي علمتك إياها تلك المدرسة ..
وقد أحسن الشاعر حين وصف مثل هذا الفعل فقال :
أعلّمه الرماية كلّ يــــوم *** فلمـــــــــا استدّ ساعده رماني
وكم علّمته نظم القـوافي*** فلمّا قال قافية هـــــــــــجان ي ..
ومما يثني به مؤرّخو الأدب على البحتري أنه كفّ لسانه ، بل وأظهر مزايا أستاذه أبي تمام وأشاد به كثيرا ، مع أنه نده في الشعر ، وهو القطب المقابل له ، إذ كان أبو تمام شاعر المعنى والبحتري شاعر الموسيقا .. وما ذلك إلا للوفاء الذي طبع عليه البحتري ، فأبو تمام أستاذه ، ومرشده ، وهو من علّمه كيف يطرق أبواب القوافي ..
ويتضخّم هذا الظلم والجحود إن صرف الإنسان هذه الخيانة المضاعفة لإنسان يريد له الخير ! فتغتال من كان يحاول إنقاذك ، وتُبكي من أفنى حياته لإسعادك ، وتذبح إنسانا بسكين إنما اقتناها ليدافع بها عنك ! وقد
قال الأول في أبيات من الشعر شهيرة ، أسكنها لوعته وحرقته :
وإخوانٍ حسبتهمُ دروعاً *** فكانوها .. ولكن للأعادي
وخلتهمُ سهاماً صائباتٍ *** فكانوها .. ولكن في فؤادي !
وقالوا قد صفت منّا قلوبٌ *** فقلت : نعم .. ولكن عن ودادي
لم يكن قبل عشر سنوات وأكثر يخطر ببالنا أن بعض زملائنا في حلق التحفيظ في المساجد سيلتفون من خلف المسجد ليرمون علينا الحجارة ، هذا شيء يعد من المستحيلات ، ومضت السنون ، فأتونا من بين أيدينا ومن خلفنا ليرمونا بما هو أقسى من الحجارة ، كلمات حارقات جارحات ، يهدمون بها ما تعلمناه في تلك الحلق المزدانة بنور الإيمان ..
بعضهم كان بكيئا عييا ، لا يحسن أن يأتي بكلمتين في سياق منضبط ، فانفتق لسانه بكلام الله في تلك الحلق والدروس والمراكز والمناشط ، فانحلّت عقدة لسانه بفضل أولئك الأساتذة الذين كانوا يدفعونه للتميّز ، ويحثونه على الأخذ بأسباب العلم ، فإذا حاد قليلا عاتبوه ، وإن اجتهد وتميّز كافئوه ، كل هذا وهم يريدون بذلك وجه الله ، لا يريدون منه جزاء ولا شكورا ، وتمضي الأعوام ، فيأتي ذلك الشاب وقد لوّحت شمس السنين جبهته ، وعززت مواسم القيظ جرأته ، لينقضّ على أولئك الأساتذة ويتهمهم بكل نقيصة !
ثم انقضت تلك السنون وأهلها *** فكأنها وكأنهم أحلام
ُ
بات البعض منهم وهمّه إغاظة رفاقه ، فالشأن لديه لا علاقة له بالرأي والفكر بل هو أقرب إلى محاولة الإزعاج وعمل فوضى بأي شكل .. وليس لدي تسويغ منطقي لمثل هذه الفوضى إلا أنها استنساخ لتصرفات طفولية وتحوليها إلى مقالات أو كلمات .. فكما أن الطفل يخرج لسانه لصاحبه في المدرسة تعييراً وإغاظة فقد بات البعض يفعل ذلك ولكن بطريقة أخرى ..
ألا يستقيم في عرف هؤلاء أن يتغيّروا دون أن يُغيروا ؟ وأن ينفضّوا دون أن ينقضّوا ؟ وأن ينتكسوا دون أن يرتكسوا ؟ وماذا أبقوا من ذميم الخصال إن هم نالوا بألسنتهم من حملوهم بأذرعتهم ! ورموا بنصالهم ، من قدّموهم في النصيحة على عيالهم !
بعضهم قد يتسامح مع قاتل أبيه ، ولكن لا يمكن أن تأخذه رأفة ولا رحمة إن كان خصمه من رفاق الأمس ، بل إنه يتقرّب إلى الله بتقويض هذه السلفيّة التي كانت خير حاضنة له ، فتراه لا يقيل ولا يستقيل إن صدرت فتوى من شيخ سلفيّ شابت لحيته في العلم والدعوة يبيّن فيها بعض المحكمات التي تخالف فلسفته ..فلا تسأل ذلك الفراشة عن سهامه المُراشَة التي يتصيّد بها أفئدة الذين آمنوا وعملوا الصالحات ..
أريد حياته ويريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مرادِ
يرفعون لافتة الحريّة للأعلى ، ثم يأخذون في تقويض السلفيّة من الأسفل ! فيبهرون الناس بشعارهم البراق ، وكلامهم الرقراق ، حتى وضعوا الساق على الساق ، وبدؤوا في سلق الرفاق .. فليت شعري ماذا أبقوا لأهل النفاق من مساوئ الأخلاق ؟
وأنا لا يعنيني في هذه المقالة شأن حريّتهم ، فليتحرروا مما شاءوا إلا من خلق الوفاء ، وصفة التردد لله .. وأعني بهذه الصفة أن يقف المسلم قليلا قبل أن يجزم بقول ما ، أو قبل أن يرفع عصاه على أستاذه الذي علّمه كيف يصلي صلاة صحيحة .. لا بد لنا جميعا من هذا التردد .. فليس مصير الإنسان مما يتاجر به ، لأن كلمة من سخط الله قد تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفاً ، فلماذا صار البعض متهوّكا ، مقداما في الباطل ، كلما رأى أرضا خلاء عن الباطل شقّها ودعا الناس ليسيروا فيها خلفه .. أين الله في قلوب هؤلاء ؟ إن الخوف من الله دعا بعض الصالحين أن يسكتوا عن بعض أهل البدع ، خوفا من مغبة الكلام في عرض مسلم وإن كان مبتدعا ، فكيف بهؤلاء وقد جعلوا أول من يستهلون به مدونات نقدهم بل انتقادهم هم من شهد عوامّ الناس بورعهم وزهدهم بله علمهم وفضلهم .. وحسبك من الخير ما شهد به العوام .. الذين لم تثقلهم الأطماع ، ولم يشغلهم الأتباع ..
ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ؟ ألا يخشون على سالف أعمالهم الصالحة أن تتبدد ، وتذهب هباء منثورا بسبب كلمة يقولها أحدهم في ولي من أولياء الله لا يلقي لها بالا .. حتى بعض الموتى من علماء الأمة لم يسلموا منهم ، ولا يعلمون أنهم قد ينالون من أناس قد حطوا رحالهم في جنات عدن منذ آلاف السنين.. ألا وإن هناك مبطلات للعمل " يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " ، ولعل من هذه المبطلات افتراء يفتريه المسلم على أخيه المسلم ، أو أذيّة يلحقها به ، وقد توعّد الله الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات فقال سبحانه : " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا " بل قال تعالى في آية تزلزل القلوب التي مازال فيها وميض خشية : " إن الله يدافع عن الذين آمنوا " .. فهل يتصوّر ذلك العبد الضعيف أن الجبار سبحانه هو خصمه إن اعتدى على مؤمن بكذب .. أو لمزه بخبث .. أو نقل كلامه فحذف وأضاف ليشنّع على أخيه .. فيا ويل من يستهين بأذيّة المسلم ..
يزعمون أن " الخطاب " السلفيّ هو المقصود بنقدهم ! وأنا لا أشبّه هذا " الخطاب " إلا بالواو الدخيلة على الإسلامي والتي حوّلته بفعل المريضة قلوبهم ولغاتهم إلى الإسلاموي ! والتي يسمّونها واو التطرف والتشدد .. فالخطاب والواو مُدخلات لاغية .. وجودها كعدمها ، وإنما هي مظلات يستظلون بها في ساعة نقدهم ، ولم يعلوا أن قانون محكمة التاريخ لا يسمح باصطحاب المظلات .. ساعتها ستطيش تلك الواو ، وذلك الخطاب .. ويعلمون أن الله هو الحق المبين .
البعض أصبح مثل ضُلال علماء الكلام ، لم يعد يدري ما يعتقد على وجه التحديد ، فلم يعد يهتم في بناء نفسه من الداخل ، فانصرف إلى تفكيك الآخرين من الخارج ، وهو بشهادة زملائه راسب في درس العقيدة ، ومع ذلك يخوض في مسائل أكبر بكثير من حجم قامته ، ويرصف الآيات دون أن يعيها ، ويضرب متشابه القرآن بمحكمه ، ويبدع تفسيرات من عنده لكلام العزيز الحميد ، وكأنه لم يبق من كتب التفسير المعتمدة إلا نسخة واحدة محفوظة في كهف من كهوف البحر الميّت !
ولو أنّهم وزّعوا نقدهم بين إخوان الأمس وأصدقاء اليوم بالتساوي لهان الأمر ، واتسع المجال لإحسان الظن ، أما وقد قسموا لأصفياء الماضي كل ما يحتمله وما لا يحتمله القاموس من عبارات الهجاء الثقافي ، ثم إن انصرفوا إلى أوليائهم إذا هم يستبشرون ، يقدمون على العلماء والدعاة بوجه الحطيئة ، ويستقبلون الليبراليين والعلمانيين بوجه أبي نواس ! هكذا كما قال متمم بن نويرة :
فلما تفرّقنا كأني ومالكاً *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً !!
ألا يخشون أن يُضيع الله إيمانهم ؟ ويفوّت عليهم أجر أعمالهم التي أسلفوها ؟ لأجل ما أبدو من معاندة لها ، والعمل بغير مقتضى تلك الأعمال ..
ألم يكن من جملة محفوظاتهم قول الحق : " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " فما بالهم وقد بات الركون إلى أولئك أهم ما يميّزهم عن غيرهم ؟
ألم يحفظوا ذات يوم قول الحق : " " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما . الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " ؟ إذن لماذا الدفاع عن النصراني ، والاحتفاء بما يقول الكافر ، والتجمهر خلف شعارات المنافق ، وإيجاد المبررات لأصحاب البدع المكفرة ؟
إن من تمام عقل الرجل أن لا يهدم ما بناه لأجل نزوة ! فلعلّ الأيام والتجارب تثبت له أنّه كان على الحق ، وأن ما انصرف إليه هو الباطل .
فيا أخوان الماضي ، هلمّوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، ألا يتخذ بعضنا بعضاً لعباً نزجي بها أوقاتنا وقت فراغنا .. اكتبوا مذكراتكم ، دوّنوا شيئا من شعركم ، حاولوا كتابة روايات بوليسية أو حتى رومانسية ! ، صوّروا أنفسكم على قمم جبال الهملايا ، صفوا ما تعمله قططكم الوديعة ، اكتبوا مقالات عن مدح الحرية وذم الطغيان ! ..
لكن اتركوا تصرفات الصبيان للصبيان .. وأنتم ونحن وجميع العالم يعلم ما هي تصرفات الصبيان ..
انصرفوا مغفورا لكم