وحدة الوجود وما ينبثق عنها في الفكر الصوفي
في "المعجم الصوفي" للدكتورة سعاد الحكيم[1] أستاذة التصوف في الجامعة اللبنانية، نقرأ في مادة "وحدة الوجود"[2] :
إن عبارة "وحدة الوجود" ابتدعها دارسو ابن عربي[3] ، أو بالأحرى صنفوه في زمرة القائلين بها[4] . إذ أن الباحث لا يلتقط معالم فكر مفكر إلا بتحليله إلى عناصره البسيطة، وإعادة تركيبه يتلاءم وينضبط مع التيارات الفكرية المعروفة. وبالتالي استدل الملتمس وجه ابن عربي من جمل أمثال: " الوجود كله واحد " ، " وما ثمة إلا الله " ، " وما في الوجود إلا الله " ، إلى القول بأنه من أنصار وحدة الوجود ، وحدة تفارق وحدة الماديين بتغليب الجانب الإلهي فيها. ولكن ما حقيقة ابن عربي من الوحدة الوجودية ؟ وما نسبة التفكير النظري إلى الشهود الصوفي فيها ؟
" وحدة وجود " أم " وحدة شهود " ؟
كثيراً ما يتوقف الباحث أمام نتائج ابن عربي متسائلاً : هل عنده وحدة وجود أم وحدة شهود ؟ ثم لا يلبث أن يقرر أنها وحدة وجود ، من حيث أنها لم تبرز في صيحة وَجْد ، بل كانت نتيجة باردة لتفكير نظري[5] .
ويعود تردد الباحث بين الوحدتين إلى أنهما يتطابقان في النتيجة ، فكلتاهما ترى أن الوجود الحقيقي واحد وهو الله . ولكن صاحب وحدة الشهود يقولها في غَمْرَةِ الحال ، على حين يدافع عنها ابن عربي في صَحْوِ العلماء وبرود النظريين. ولكن الحقيقة أن وحدة ابن عربي تختلف عن وحدة شهود غيره بسبب جوهري ، وهو أن الشيخ الأكبر لم يقطفها ثمرة فيض فناء في الحق ، فناء أفناه عن رؤية كل ما سوى الحق ، فقال بعدم كل ما سواه ، كلا إن ابن عربي يرى الكثرة ، وشهوده يعطيه الكثرة ، وبصره يَقَع على كثرة . إذن الكثرة عنده : موجودة . وهنا نستطيع أن نقول أن " وحدته " على النقيض من وحدة الشهود ، تعطي : كثرة شهودية . فالنظر يقع على كثرة عنده . وهذا ما لا يمكن أن ينطبق على وحدة الشهود . ولكن ابن عربي لا يقف مع الكثرة الشهودية أو – بتعبير أدق – المشهودة – المشهودة ، بل يجعلها " كثرة معقولة " لا وجود حقيقي لها . وهي – إذا أمكن التعبير بلغتنا – خداع بصر . وبلغة ابن عربي : خيال[6] .
هذا ، ويستحسن ألا نفهم موقف ابن عربي على أنه نظرية فلسفية ، قامت على دعائم منطقية ومقدمات فكرية ، فهو وإن كان قد جعل الكثرة : معقولة مشهودة وغير موجودة . فهذا الإرجاع ليس تعملاً فكرياً ، كما يظن البعض[7] . ونقول رداً على من جعل وحدة ابن عربي الوجودية نظرية فلسفية تقررت باستدلال نظري ، إن الواقع عكس ذلك ، لأن النظر الفكري كما يقول شيخنا الأكبر يعطي : وجود المخلوقات ، التي من شأنها إن لم تكثّر الوجود ، فعلى الأقل تحدده بثنائية كلاسيكية : حق خلق . وأن الذي يعطي الوحدة الوجودية هو : الشهود . وهنا نلاحظ أن ابن عربي من ناحية قد بَايَنَ " وحدة الشهود " بإثباته " الكثرة المشهودة " المرئية ، ومن ناحية ثانية وَصَلَ بالشهود ، إلى تقرير : الوحدة الوجودية . وكان الشهود الأول رؤية عادية ، على حين أن الشهود الثاني هو مرتبة من مراتب الكشف الصوفي .
يقول :
الحقيقة تتكثر في الشهود : " ... أنه ما في الوجود إلا الله ، العين وإن تكثّرت في الشهود ، فهي أحدية في الوجود " (ف 4/357)
الشهود ينفي وجود الممكن :
« دلالات الوجود على وجودي *** تعارضها دلالات الشهـود
فإن العين ما شهدت ســـــواه *** بعين شهودها عند الوجـــود
فإن الدليل يعطي وجودي، إذ ليس الدليل سوى: عيني، ولا عيني: سوى إمكاني، ومدلولي وجود الحق ... والشهود ينفي وجودي، لا ينفي حكمي فيمن ظهر فيه، ما ينسب إليه أنه عيني. وهو حكمي، والوجود: لله. فاستفدت من الحق: ظهور حكمي بالصور الظاهرة، لا حكم ظهور عيني، فيقال وما ثم قائل غيري، أن هذه الصور الظاهرة في الوجود الحق التي هي عين حكمي إنها عيني. هذا يعطيه الشهود، فالشهود يعارض الأدلة النظرية...» (ف 4 / 31).
ونستطيع أن نلخص موقفه قائلين أنه: شهود لوحدة الوجود. ويُستشف من هذه العبارة أن الشيخ الأكبر زاوَجَ بين الفكر والتصوف في ذاته، فاتحدا بحيث يشرف كل منهما على الآخر، وليس هذا غريباً على القائل بعلم اليقين وعين اليقين. فهو وإن كان قد توصل إلى الوحدة الوجودية بعلم اليقين، غير أن دعائمها لم تترسخ إلا في عين اليقين[8] .
ونوضح كلامنا بأن نقول: إن وحدة الوجود عند ابن عربي إن كانت ثمرة فكر نظري، أرجع الكثرة المشهودة إلى حقيقتها الواحدة، فهي في اللحظة الثانية "شهود لهذا النظر الفكري. ولكن تآلف الفكر مع الشهود قد عَم كل منهما الآخر، حتى صعب التفريق بين حدود كل منهما. وإن كنا نظن بأسبقية الفكر على الشهود، أسبقية يتطلبها منطقه في تقديم علم اليقين على عينه. ولكن "علم اليقين" هذا ليس ثمرة التفكر الفلسفي الحر، فالواقع أن ابن عربي مفكر مقيد بالكتاب والسنة، ولا يمكن أن يقال عنه "مفكر حر". فعلم اليقين عنده هو ثمرة التفكر في الكتاب والسنة ليس إلا، فتكون وحدة الوجود عنده ثمرة تفكره في الكتاب والسنة، ثم شهوده لهذا التفكر. يقول:
« ... الوجود كله هو واحد في الحقيقة لا شيء معه ... فما ثم إلا غيب ظهر، وظهور غاب، ثم ظهر ثم غاب، ثم ظهر ثم غاب، هكذا ما شئت. فلو تتبعت الكتاب والسنة ما وجدت سوى واحد أبداً، وهو: الهو ... ». (الجلالة ص9).
صورة وحدة الوجود: حاول كل من خاض غمار الشيخ الأكبر أن يظهر غموض وحدته الوجودية، فقال بعضهم[9] أن مفتاح هذا الغموض في تفسير "سورة الانشراح" للقاشاني، إذ تتكرر في هذه السورة الآية: "إن مع العسر يسرا" مرتين على التوالي، ويشرح المفسرون بلسان الظاهر هذا التكرار على أنه: توكيد وتأكيد. غير أن القاشاني يشير بوضوح إلى تعلق هاتين الآيتين ، بمرحلتين من مراحل التحقق الروحي للنبي: الصعود والنزول. وهما "للولي" إذ لا يصل إلى مقام "الوارث الكامل" للنبي إلا بتحققه بهما. وهذه حالة ابن عربي.
في مرحلة التحقق الصاعدة، يكون النبي "محجوباً" بمعرفة الكثرة، وهذا أول "احتجاب" وأول "عسر". وهنا معرفة الله تحجب عنه معرفة الكثرة، وهذا ثاني "احتجاب" وثاني "عسر" ، إذ هو هنا محجوب بالحق عن الخلق. ولا يستطيع أن يحتمل عبء النبوة. فيشرح الله صدره ويزيل الاحتجاب الثاني بالحق عن الخلق. أي "العسر" الثاني، ويحصل ثاني "يسر" ويستطيع كَوْنَه أن يجمع : الواحد والكثير، ويسع صدره: الحق والخلق، ببعد أنطلوجي جديد يسميه القاشاني: الوجود الموهوب الحقاني. ومعرفة النبي هنا كاملة: معرفة الكثير بمعزل عن الواحد، ومعرفة الواحد بمعزل عن الكثير، ومعرفة جامعة للواحد والكثير. وهذه المعرفة الجامعة هي معرفة الوارث الكامل أو الإنسان الكامل، وهنا يكمُن تفسير "وحدة وجود" ابن عربي، كما تتجلى في فصوص الحكم وغيره من كتبه.
أما النابلسي فيرى أن مفتاح "وحدة الوجود" يكمن في مفهوم: الوجود الحقيقي. فالممكن لا وجود له مستقل عن الحق. إذن يحاول النابلسي أن يحل معضلة وحدة الوجود على مستوى مفهوم "الوجود" ، بتحديده بالحق دون الخلق. ويتضح موقف النابلسي إذا أعطينا الاسم الإلهي "القيوم" مثلاً. فالحق هو : القيوم في صور الخلق. والممكنات: لا تقوم بذاتها، بل تقوم "بالقيوم" إذن الوجود واحد هو الحقيقي، الذي تقوم به الممكنات[10] .
والواقع أن وحدة الوجود، هذا إذا كان التعبير ينطبق على وحدة ابن عربي[11] ، هي ثمرة من ثمار التوحيد عند شيخنا الأكبر. فالتوحيد أعمُّ مفهوم في الفكر الإسلامي من حيث أنه ركيزة العقيدة، بل هو العقيدة ذاتها، ولذلك باشَرَه كل فرد من أفراد المسلمين على قدر طاقته واستعداده[12] . وابن عربي بالذات لا بد أنه مرّ بأكثر من توحيد، أو بالأحرى بأكثر من صيغة ومفهوم للتوحيد[13] ، في تاريخ حياته السلوكية الفكرية. ولذلك لا نستطيع أن نقول عن توحيد شيخنا الأكبر أنه فكري فلسفي، وبالتالي نبحثه على صعيد الفكر والنظريات. كما أنه لم يغرق في غيبة الشهود ويتكلم تحت وطأة الوجد، فنقول إن توحيده، توحيد الفانين. كلا: لقد كان توحيده توحيد المشاهد الصاحي. ومن هنا نشأ الخلاف بين دارسيه. فجعل البعض نتائجه نظرية فلسفية، والبعض الآخر جعلها ثمرة سلوك. والأجدى أن نعترف بتكامل الشيخ الأكبر تكاملاً يضم في حناياه الفناء والبقاء فلا نغلّب حالاً على حال. فالتوحيد، ونظرة ابن عربي إليه، وفهمه له، هما مفتاح وحدة الوجود عنده. إذ لو استقل الممكن بالوجود، ولو للحظة، لاستغنى في هذه اللحظة عن الخالق، أي الحق. وشاركه من حيث الغنى، بالألوهية. إذن توحيد الألوهية، يقتضي عند ابن عربي توحيد الوجود[14]. وتتلخص وحدة وجود الشيخ الأكبر في عدة نقاط نشير إلى أهمها ثم ندعمها بالنصوص.
الممكن:
تصرح سعاد الحكيم: أن الممكن قد يطلق عليه ابن عربي اسم "الموجود" ولكن لا ينعته أبداً بالوجود، بل يجعله ثابتاً في العدم. وكما يقول: الممكن لم يشم رائحة الوجود. وتستنتج الكاتبة: إذن وحدته الوجودية ليست قائمة على رؤية الوحدة في كثرة المظاهر، بل على نفي وجود الكثرة، فالكثرة: مشهودة معقولة، غير موجودة.
الحق:
وتضيف الكاتبة: أن الحق هو الظاهر في كل صورة والمتجلي في كل وجه. وهو "الوجود الواحد" والأشياء موجودة به، معدومة بنفسها. ولكن لا ينحصر وجود الحق ويتحدد بظهوره في المظاهر، بل له وجود متعال خاص به. وبهذا الوجود المتعال للحق بفارق ابن عربي وحدة الوجود الملحدة[15]. فالحق عند ابن عربي مطلق ليس بالإطلاق الإضافي المقابل للتقييد، ولكن بالإطلاق الحقيقي[16].
الخلق:
وعلى نفس المنوال تشرح الكاتبة: أن فعل الخلق لم يحدث في زمن معين ويوجد المخلوقات. بل هو فعل مستمر دائم مع الأنفاس، وهو تجلي الحق الدائم في صور المخلوقات. فالمخلوقات في افتقار دائم للحق، إذ أن لها العدم من ذاتها، ففي كل نَفَس ترجع إلى عدمها الأصيل، وفي كل نفس يوجدها الحق بظهوره فيها... وهكذا... (راجع في المعجم الصوفي "خلق جديد").
الحق والخلق:
وتتابع أستاذة التصوف بقولها: ويظهر غنى شيخنا الأكبر في الصور التمثيلية المتعددة، التي حاول بها أن يقرب إلى الأذهان علاقة الحق بالخلق، في مذهب يُلْغي وجود أحدهما على شهوده، ونفرد لها المعنى الثالث. بالنظر لتعددها. فليراجع.
حقيقة وحدة الوجود:
وتسترسل الكاتبة: أن ابن عربي نفسه وإن كان قد لامس وحدة الوجود، إلا أنه في حيرة[17] أمام حقيقتها، فنراه يتساءل: هل الموجودات انتقلت من حال العدم إلى حال الوجود ؟ أم أدركت أعيان الممكنات بعضها بعضاً في عين مرآة وجود الحق وهي على ما هي عليه من العدم ؟ أم أدركت بعضها البعض عند ظهور الحق فيها فظنت أنها استفادت الوجود وليس إلا ظهور الحق ؟. وهكذا نرى ابن عربي في حيرة أمام طبيعة إدراك الأعيان الثابتة لذاتها، وإدراك بعضها لبعض. إلا أنه لم يشك لحظة في أنها : معدومة العين ثابتة في العدم، مهما كانت صيغة إدراكها لوجودها. وتضيف الكاتبة مستشهدة بالنصوص، ونورد فيما يلي النصوص التي تثبت ما ذهبنا إليه:
الممكن:
«... وهو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدثات هي العليّة لذاتها، وليست إلا هو، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه، ما سمّت رائحة من الموجودات». (فصوص 1/76).
« ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة، ما كان للعالم وجود...» (فصوص 1/55).
« أشهدني الحق نور الوجود وطلوع نجم العيان، وقال لي: من أنت، قلت : العدم الظاهر. قال لي: والعدم كيف يصير وجوداً، لو لم تكن موجوداً ما صح وجودك. قلت: ولذلك قلت العدم الظاهر، وأما العدم الباطن فلا يصح وجوده...» (مشاهد الأسرار ق 34).
الحق:
« ما ثمَّ إلا الله والممكنات، فالله: موجود، والممكنات: ثابتة» (4/410).
«ظهور الحق في كل صورة...» (ف 4/395).
«فهو (تعالى) المتجلي في كل وجه، والمطلوب في كل آية، والمنظور إليه بكل عين والمعبود في كل معبود. والمقصود في الغيب والشهود. لا يفقده أحد من خلقه بفطرته وجبلته، فجميع العالم له مصلّ، وإليه ساجد... » (ف 3/449).
«وما ثم إلا وجود واحد والأشياء موجودة به، معدومة بنفسها...» (مرآة العارفين ق 122 أ).
«فأمر (الحق) ببيعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في الذين يبايعونه : "إنما يبايعون الله"» (48/10).
« إن المبايع من تعنو الوجوه له الواحد الأحد القيّوم بالصور » (ف 4/122)
« فما ثمّ إلا الله ليس سواه وكل بصير بالوجود يراه » (ف 3/329)
الخلق: بخصوص نصوص تتعلق بالخلق فليراجع "خلق جديد"
حقيقة وحدة الوجود:
« إني رأيت وجوداً لست أدريه وهو الوجود الذي أعياننا فيه » (ف 4/33)
«... ولذلك الوجود الخيالي يقول الحق له: "كن" (16/40) في الوجود العيني، "فيكون" السامع هذا الأمر الإلهي، وجوداً عينياً يدركه الحس... وهنا حارت الألباب : هل الموصوف بالوجود المدرك بهذه الإدراكات، العين الثابتة انتقلت من حال العدم إلى حال الوجود ؟ أو حكمها تعلّق تعلقاً ظهورياً بعين الوجود الحق، تعلق صورة المرئي في المرآة، وهي في حال عدمها كما هي ثابتة... فتدرك أعيان الممكنات بعضها بعضاً في عين مرآة الوجود الحق والأعيان الثابتة... هي ما هي عليه من العدم ؟ أو يكون الحق الوجودي ظاهراً في تلك الأعيان، وهي له مظاهر فيدرك بعضها بعضاً عند ظهور الحق فيها، فيقال قد استفادت الوجود، وليس إلا ظهور الحق ؟ وهو أقرب إلى ما هو الأمر عليه من وجه، والآخر أقرب من وجه آخر، وهو أن يكون الحق محل ظهور أحكام الممكنات غير أنها في الحكمين معدومة العين، ثابتة في حضرة الثبوت» (ف 4/211)
الصور التمثيلية: تشرح سعاد الحكيم أن ابن عربي: استعان بجملة صور تمثيلية ليعبر عن علاقة الحق بالخلق، في ظل وحدته الوجودية. ولكنه قد ينساق أحياناً مع صوره التمثيلية ، حتى في أدق التفاصيل، فيجسد المعاني التي لا تقبل التجسيد، وينقل القارئ من دلالة الصورة إلى تفاصيلها، حتى يظن أنها المقصودة. لذلك ننبه إلى أن هذه التمثيلات ليست إلا صوراً لتقرب للأذهان، مقصود الشيخ الأكبر مع الاحتفاظ دائماً بفارق المستوى الوجودي، بين العلاقة المراد بيانها، وبين تشبيهها. وتضيف الكاتبة أننا لن نستطيع هنا أن نحصي هذه الصور التمثيلية بكاملها، في مؤلفات الشيخ الأكبر، بل نكتفي بإيراد بعضها. فإنه يفي بالمقصود:
الغذاء والمتغذي: تقول الكاتبة: "لقد سبق لنا الكلام على هذه الصورة التمثيلية عند الكلام على "الرزق" انظر "رزق" المعنى "الثاني" (مشيرة إلى المادة في معجمها الصوفي)
النور والظل: ترى سعاد الحكيم أن ابن عربي استعمل صورة النور والظل ليشير من جهة إلى تبعية وجود الخلق لوجود الحق، ومن جهة إلى أن النور واحد، تتعدد ظلاله بتعدد الأشياء، التي انبسط عليها.
يقول: « فعين وجود الحق نور محقق وعين وجود الخلق ظل له تبع » (ف 4/279)
«... والممكن لعينه أعطى الترتيب الواقع[18] ، وأعطاه الحق الوجود لذاته، فما هو إلا وقوع عين الممكن على نور التجلي، فيرى نفسه. وما انبسط عليه ذلك النور فيسمى وجوداً، ولا حكم للنظر العقلي في هذا». (ف 4/425)
الشمس ونورها: ننقل نص ابن عربي لوضوحه، يقول: «فالموجودات كلها: نور من أنوار شمس القدرة، فليس لنور الشمس مع الشمس رتبة المعية، بل رتبة الشمعية. فاعرف حقيقة ذلك ترى أن كل شيء في الحال هالك، ومثال هلاك الأشياء في حال وجودها، كهلاك لهيب الشمعة في حال وقودها... وهذا المثال إنما هو تقريب للمبتدئ، إذ يستبعد هلاك شيء في حال وجوده. وأما هلاك الأشياء في نظر المستغرق، فمعناه لطيف لا يقع عليه العيان، وإنما يتعارف أهله بالرمز والإيماء والذوق...» (الأجوبة اللايقة ق 6 ب).
الحقيقة والخيال: يقول ابن عربي: « فالوجود كله خيال في خيال[19] . والوجود الحق إنما هو الله خاصة، من حيث ذاته وعينه، لا من حيث أسماؤه» (فصوص 1/104).
قوس القزح: وترى سعاد الحكيم أن ابن عربي استعان بخداع النظر الواقع في رؤيتنا لقوس القزح فنرى تدرج الألوان وما هي إلا تكسر اللون الأبيض، يقول: «... ووجود الحق ما هو بالمرور فيتصف بالتناهي وعدم التناهي، فإنه عين الوجود، والموجود هو الذي يوصف بالمرور عليه... ولا يعلم المحدثات ما هي، إلا من يعلم ما هو قوس قزح، واختلاف ألوانه، كاختلاف صور المحدثات. وأنت تعلم أنه ما ثمَّ متلون ولا لون، مع شهودك ذلك. كذلك شهودك صور المحدثات في وجود الحق الذي هو الوجود.». (ف 4/167)
الصور والمرايا: لقد فسر ابن عربي وجود الكثرة بتعدد المرايا في مواجهة الوجود الواحد[20] ، فتعدد الصور بتعدد المرايا، والرائي واحد. وتحيل الكاتبة في هذا الصدد على مواد "الصورة" "المرآة" "الظاهر" للمراجعة في معجمها الصوفي. وتختتم الكاتبة كلامها بمقطع لابن عربي يظهر فيه نَفَس النفْري واضحاً يتكلم فيه، على تردد الوجود والفقد بين الحق والخلق، يقول: «... ثم قال لي: الوجود مني لا منك، وبك[21] لا بي[22] ، ثم قال لي: من وجدك وجدني، ومن فقدك فقدني[23] . ثم قال لي: من وجدك فقدني، ومن فقدك وجدني[24]. ثم قال لي : الوجود والفقد لك لا لي. ثم قال لي: الوجود والفقد لي لا لك. ثم قال : كل موجود لا يصح إلا بالتقييد فهو لك، وكل وجود مطلق فهو لي[25] . ثم قال لي: وجود التقييد لي لا لك[26]...» (مشاهد الأسرار ق 36).
[1] - الطبعة الأولى 1401هـ/1981م دار ندرة للطباعة والنشر – بيروت لبنان من ص 1145 إلى ص 1157
[2] - تعلق سعاد الحكيم بقولها: « إن عبارة "وحدة الوجود" لا تدخل ضمن مصطلحات ابن عربي، إذ أنها من ناحية لم ترد عنده مطلقاً، ومن ناحية ثانية هي تشكل تياراً فكرياً له جذوره البعيدة في تاريخ النظريات الفلسفية، ولكننا لم نستطع أن نتغافل عن بحثها بحجة أنها تدخل ضمن نظريات شيخنا الأكبر بالنظر لأهميتها عنده، إذ فيها تتبلور مصطلحاته وتتكشف. ويتجلى وجه ابن عربي الحقيقي فنلمس فيه الفكر والمنطق إلى جانب الشهود والتصوف. » على حد قولها.
[3] - تقول الكاتبة في تعليقها: « وربما كان ابن تيمية (728 هـ) من أول من استعملها (راجع رسائله طبع المنار ج1 ص176)، ويستعمل ابن خلدون (807 هـ) تعبيراً آخر لأداء المعنى نفسه وهو الوحدة المطلقة (انظر مقدمة ابن خلدون. بيروت 1879م. ص 410-411).
[4] - يقول الدكتور إبراهيم مذكور: « ليست فكرة وحدة الوجود وليدة التاريخ المتوسط والحديث، وإنما تصعد إلى الفكر القديم شرقياً أو غربياً، فعرفت لها صور في البراهمية والكنفوشية كما بدت لها مظاهر في الفلسفة الأيونية. وأوضح ما تكون لدى الرواقيين والأفلوطينيين الذين شاءوا أن يردوا الكون إلى أصل إلهي. وأساسها نزعات دينية واتجاهات صوفية، لا تسلم إلا بما هو إلهي وروحي ثم عمقتها نظرات فلسفية وبحوث عقلية تحاول أن توفق بين الواحد والمتعدد، وأن تربط اللانهائي بالنهائي. والمطلق بالنسبي فأضحت بابا من أبواب الفلسفة الإلهية، سبيلا لتصوير عقيدة التوحيد تصويرا عقليا لا يسلم إلا بوجود واحد» (الكتاب التذكاري. ابن عربي ص ص 268-269).
[5] - يقول أبو العلا عفيفي: « ... إن الأقوال المأثورة عن أبي يزيد البسطامي والحلاج، بل عن ابن الفارض المعاصر لابن عربي، ليست في نظري دليلاً على اعتقادهم في وحدة الوجود، بل على أنهم كانوا رجالاً فنوا في حبهم لله عن أنفسهم، وعن كل ما سوى الله فلم يشاهدوا في الوجود غيره. وهذه وحدة شهود لا وحدة وجود. وفرق بين فيض العاطفة وشطحات الجذب، وبين نظرية فلسفية في الإلهيات: أي فرق بين الحلاج الذي صاح في حالة من أحوال جذبه بقوله "أنا الحق" وابن الفارض الذي أفناه حبه لمحبوبه عن نفسه فلم يشعر إلا بالاتحاد التام به فقال: "متى حِلت عن قولي أنا هي أو أقل وحاشا لمثلي أنها فيّ حلّت" (التائية الكبرى 277). ويقول الكاتب: فرق بين هذين الرجلين وبين ابن عربي الذي يقول في صراحة لا مواربة فيها ولا لبس، معبراً لا عن وحدته هو بالذات الإلهية ولا عن فنائه في محبوبه، بل عن وحدة الحق والخلق...» (مقدمة فصوص الحكم ص ص 25-26)
[6] - راجع "خيال" في المعجم الصوفي.
[7] - يقول عفيفي في شرح جملة ابن عربي (فالعالم بين كثيف ولطيف وهو عين الحجاب على نفسه، فلا يدرك الحق إدراكه نفسه): "فالعالم الذي هو صورة الله هو عين الحجاب الذي يستر الله، ولا يدرك العالم من الله إلا بمقدار ما يتجلى فيه من أسرار الحق. ولهذا لا يدرك شيء من العالم الحق كما يدرك الحق نفسه. وهذا اعتراف صريح من ابن عربي بأن الوجود المطلق بعيد المنال حتى على ذوق الصوفي، ومنه يتبين أن دعواه في وحدة الوجود لا تقوم على الكشف والاستدلال، وإنما هي فرض افترضه وعجز عن تأييده". (فصوص ج2 ص ص 16-17) . وتعقب سعاد الحكيم على عفيفي قائلة: إن القول بوحدة الوجود لا يلزم بشكل قطعي القول بإدراك العالم الحق، ولكن يلزم القول بأن يدرك العالم أنه مظهر للحق ليس إلا.
[8] - راجع "علم اليقين" و"عين اليقين" في المعجم الصوفي.
[9] - Roger Deladrière dans son livre « la profession de foi d’Ibn Arabi » préface P. LXXII.
[10] - يراجع:
La profession de foi d’Ibn Arabi. Roger Deladrière préface P.P : LXXII-LXXV
تفسير القاشاني المنسوب خطأ لابن عربي. والذي يتتابع نشره بعنوان "تفسير ابن عربي". انظر طبعة بيروت 1968 ج7 ص ص 823-824
- إيضاح المقصود من وحدة الوجود النابلسي
[11] - ترى سعاد الحكيم : ان لفظ الوحدة يقابل الكثرة ويفترضها في الوقت نفسه. وبما أن الوجود عند ابن عربي واحد، فالأولى أن يشتق اللفظ منه فنقول:"وحدانية الوجود" أو "واحدية الوجود"...
[12] - راجع ما كتبه هنري كوربان عن التوحيد في كتابه:
En Islam iranien T3 P.P. 127-136 (Tawhid ésotérique)
[13] - تعلق سعاد الحكيم على الهامش بما يلي: يدل على ذلك تعدد صيغ العقيدة التي افتتح بها فتوحاته: عقيدة العوام، عقيدة الخواص، عقيدة...
[14] - راجع "توحيد" في المعجم الصوفي.
[15] - يرى البرزنجي أن الوجودية طائفتان، ملاحدة وموحدة. الملاحدة الأولى: "أن الباري تعالى وتقدس ليس موجوداً في الخارج بوجود مستقل ممتاز عن عالمي الأرواح والأجسام بل هو مجموع العالم... فالعالم هو الله والله هو العالم وليس ثمة شيء غير العالم يقال له الله. وهذا كفر صريح» (الجاذب الغيبي ف 296). كما يشير "دلادرير" إلى أن الدراسات الحديثة المتعلقة بابن عربي قد برهنت بما لا يدع مجالاً للشك على صحة إيمانه وعقيدته. وخاصة أبحاث: بركهارت Burckardt، فالسن، م. ملا، ع. بحبى، هـ. كوربان. والمستشرق الياباني ايزتسي Izutsu في شرحه الحديث لفصوص الحكم. انظر: - La profession de foi d’Ibn Arabi P. LX
[16] - يقول البرزنجي في شرح مفهوم المطلق عند ابن عربي: « ومطلق بالإطلاق الحقيقي الذي لا يقابل تقييد القابل لكل إطلاق وتقييد، فإطلاقه عدم تقيده بغيره في عين الظهور بالقيود، لا عدم ظهوره في القيود ولا عدم ظهوره إلا في القيود. فله التفرد عن الظهور في الأشياء بمقتضى "كان الله ولم يكن شيء غيره"، وله التجلي فيما شاء من المظاهر بمقتضى "وهو معكم أينما كنتم" (57/4) ولكن لا يتقيد بذلك فإنه من وراء ذلك بمقتضى "والله من ورائهم محيط" (85/20)» (الجاذب الغيبي ق 309).
[17] - راجع "حيرة" في المعجم الصوفي.
[18] - وتعلق سعاد الحكيم في الهامش بقولها: إن النور واحد واختلاف أعيان الممكنات يؤدي إلى اختلاف الظلال، وهي المراتب الوجودية التي أشار إليها بقوله "الترتيب الواقع".
[19] - راجع "وجود" "خيال" في المعجم الصوفي.
[20] - راجع بخصوص "وحدة الوجود" عند ابن عربي:
عفيفي The mystical ص ص 13-15 حيث يرى أن نظرية ابن عربي في وحدة الوجود مستمدة من ثلاثة عناصر واضحة: الأشعرية، الحلاج، الأفلاطونية المحدثة وأنها رغم اختلافها عنها تحتويها جميعاً.
La profession de foi. Deladrière ص ص LXXII-LXXX
الكتاب التذكاري. الفصل الرابع عشر ص ص 368-380 مقال بعنوان "وحدة الوجود بين ابن عربي واسبينوزا" للدكتور إبراهيم مدكور.
البرزنجي. الجاذب الغيبي ق ق 302-347 حيث يتعرض البرزنجي للباحثين في وحدة الوجود عند ابن عربي أمثال البقاعي والتفتازاني والعلاء البخاري.
[21] - تعلق الكاتبة على الهامش بما يلي: إن الوجود في الممكن ليس عينه بل هو قائم به، لذلك يقول ابن عربي أن الوجود مني أي من الحق، وبك ، أي بالخلق، قائم بالممكن لأنه غيره.
[22] - تشرح الكاتبة على الهامش: إن الوجود لا يكون بالحق لأنه عينه فالوجود في واجب الوجود هو عينه، لذلك يقول ابن عربي "لا بي" أي لا يقوم بي لأنه عيني، فلا ثنائية بين الوجود وواجب الوجود.
[23] - تشرح سعاد الحكيم: من حيث أن المخلوقات هي فعل الحق وبالتالي دليل يوصل إليه.
[24] - من وجدك فقدني: أي من أثبت لك وجوداً حقيقياً احتجب به وبالتالي فقدني.
من فقد وجدني: أي من أثبتك في عدمك رأى أنني القيوم في الصور عندها وجدني.
[25] - أي أن للحق الوجود المطلق في مقابل الوجود المقيد للخلق. (بحسب الكاتبة)
[26] - أي أن الوجود أينما ظهر فهو لي بالحقيقة. فالوجود الحق هو لله حتى الوجود المقيد. (الكاتبة)