السلام عليكم
ورحمة الله وبركاته


الحمدلله



عَنِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ فَأَتَوْهُ فَقَالُوا مَا لَكَ قَالَ تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلَا بُدَّ لِي مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ . رواه البخاري (2686)

قَوْلُهُ : ( مَثَلُ
الْمُدْهِنِ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَهَا نُونٌ أَيِ الْمُحَابِي بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَة ِ وَالْمُدْهِنُ وَالْمُدَاهِنُ وَاحِدٌ ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُرَائِي وَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَلَا يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ .

قَوْلُهُ : ( وَالْوَاقِعِ فِيهَا )
كَذَا وَقَعَ هُنَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَامِرٍ وَهُوَ الشَّعْبِيُّ " مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا " وَهُوَ أَصْوَبُ لِأَنَّ الْمُدْهِنَ وَالْوَاقِعَ أَيْ مُرْتَكِبَهَا فِي الْحُكْمِ وَاحِدٌ ، وَالْقَائِمُ مُقَابِلُهُ . وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِ يِّ فِي الشَّرِكَةِ " مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا " وَهَذَا يَشْمَلُ الْفِرَقَ الثَّلَاثَ وَهُوَ النَّاهِي عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالْوَاقِعُ فِيهَا وَالْمُرَائِي فِي ذَلِكَ ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِ يِّ أَيْضًا هُنَا " مَثَلُ الْوَاقِعِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّاهِي عَنْهَا " وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِلَّا ذِكْرُ فِرْقَتَيْنِ فَقَطْ لَكِنْ إِذَا كَانَ الْمُدَاهِنُ مُشْتَرِكًا فِي الذَّمِّ مَعَ الْوَاقِعِ صَارَا بِمَنْزِلَةِ فِرْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَبَيَانُ وُجُودِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ فِي الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ أَنَّ الَّذِينَ أَرَادُوا خَرْقَ السَّفِينَةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ فِي حُدُودِ اللَّهِ ، ثُمَّ مَنْ عَدَاهُمْ إِمَّا مُنْكِرٌ وَهُوَ الْقَائِمُ ، وَإِمَّا سَاكِتٌ وَهُوَ الْمُدْهِنُ .

وَحَمَلَ
ابْنُ التِّينِ قَوْلَهُ هُنَا : " الْوَاقِعِ فِيهَا " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَائِمُ فِيهَا وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ أَيْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ ، وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَمَّا وَقَعَ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْوَاقِعِ بِالْقَائِمِ ، وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ " مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْمُدْهِنِ فِيهَا " وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : قَالَ فِي الشَّرِكَةِ : " مَثَلُ الْقَائِمِ " وَهُنَا " مَثَلُ الْمُدْهِنِ " وَهُمَا نَقِيضَانِ ، فَإِنَّ الْقَائِمَ هُوَ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُدْهِنَ هُوَ التَّارِكُ لَهُ ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ حَيْثُ قَالَ : الْقَائِمِ ؛ نَظَرَ إِلَى جِهَةِ النَّجَاةِ ، وَحَيْثُ قَالَ : الْمُدْهِنِ ؛ نَظَرَ إِلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّشْبِيهَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الْحَالَيْنِ .

قُلْتُ : كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هُنَا الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْمُدْهِنِ وَهُوَ التَّارِكُ لِل
ْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَعَلَى ذِكْرِ الْوَاقِعِ فِي الْحَدِّ وَهُوَ الْعَاصِي وَكِلَاهُمَا هَالِكٌ ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا تَقَدَّمَ .

وَالْ
حَاصِلُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ذَكَرَ الْمُدْهِنَ وَالْقَائِمَ ، وَبَعْضَهُمْ ذَكَرَ الْوَاقِعَ وَالْقَائِمَ ، وَبَعْضَهُمْ جَمَعَ الثَّلَاثَةَ ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُدْهِنِ وَالْوَاقِعِ دُونَ الْقَائِمِ فَلَا يَسْتَقِيمُ .

قَوْلُهُ : ( اسْتَهَمُوا سَفِينَةً ) أَيِ اقْتَرَعُوهَا ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمًا أَيْ نَصِيبًا مِنَ السَّفِينَةِ بِالْقُرْعَةِ بِأَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ إِمَّا بِالْإِجَارَةِ وَإِمَّا بِالْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْقُرْعَةُ بَعْدَ التَّعْدِيلِ ، ثُمَّ يَقَعُ التَّشَاحُّ فِي الْأَنْصِبَةِ فَتَقَعُ الْقُرْعَةُ لِفَصْلِ النِّزَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ .

قَالَ
ابْنُ التِّينِ : وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا فِيمَا إِذَا نَزَلُوهَا مَعًا ، أَمَّا لَوْ سَبَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَالسَّابِقُ أَحَقُّ بِمَوْضِعِهِ .

ق
ُلْتُ : وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَتْ مُسَبَّلَةً مَثَلًا ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ مَثَلًا فَالْقُرْعَةُ مَشْرُوعَةٌ إِذَا تَنَازَعُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( فَتَأَذَّوْا بِهِ )
أَيْ بِالْمَارِّ عَلَيْهِمْ بِالْمَاءِ حَالَةَ السَّقْيِ .

قَوْلُهُ : ( فَأَخَذَ فَأْسًا )
بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ مَعْرُوفٌ ، وَيُؤَنَّثُ .

قَوْلُهُ : ( يَنْقُرُ )
بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْقَافِ أَيْ يَحْفِرُ لِيَخْرِقَهَا .

قَوْلُهُ : ( فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ )
أَيْ مَنَعُوهُ مِنَ الْحَفْرِ ( أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ ) هُوَ تَفْسِيرٌ لِلرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي الشَّرِكَةِ حَيْثُ قَالَ : " نَجَوْا وَنَجَوْا " أَيْ كُلٌّ مِنَ الْآخِذِينَ وَالْمَأْخُوذِي نَ ، وَهَكَذَا إِقَامَةُ الْحُدُودِ يَحْصُلُ بِهَا النَّجَاةُ لِمَنْ أَقَامَهَا وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا هَلَكَ الْعَاصِي بِالْمَعْصِيَةِ وَالسَّاكِتُ بِالرِّضَا بِهَا .

قَالَ
الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَعْذِيبُ الْعَامَّةِ بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّعْذِيبَ الْمَذْكُورَ إِذَا وَقَعَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ مِنْ ذُنُوبِ مَنْ وَقَعَ بِهِ أَوْ يَرْفَعُ مِنْ دَرَجَتِهِ . وَفِيهِ اسْتِحْقَاقُ الْعُقُوبَةِ بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَبْيِينُ الْعَالِمِ الْحُكْمَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ ، وَوُجُوبُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْجَارِ إِذَا خَشِيَ وُقُوعَ مَا هُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ مَا يَضُرُّ بِهِ ، وَأَنَّهُ إِنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ ضَرَرًا لَزِمَهُ إِصْلَاحُهُ ، وَأَنَّ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ مَنْعَهُ مِنَ الضَّرَرِ . وَفِيهِ جَوَازُ قِسْمَةِ الْعَقَارِ الْمُتَفَاوِتِ بِالْقُرْعَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ عُلْوٌ وَسُفْلٌ .


الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى
فتح الباري
» كتاب الشهادات » باب القرعة في المشكلات


والله أعلم