بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
فهذا بحث مختصر يسير ، لم أبذل فيه كبير جهد ، إنما هو جمع وإعادة صياغة مع إضافات يسيرة ، في إبطال دعوى سماع الموتى ، وهي الدعوى التي كثيرا ما يحتج بها الصوفية المشركون في دعوتهم إلى الشرك ومحاربة الإسلام ، هذا وإنه قد قال بهذه الدعوى بعض أئمة العلماء من المسلمين ، على تفاوت بينهم في القول ، إلا أنهم أبعد ما يكونون عن الدعوة إلى الشرك ، ولكنهم مع ذلك أخطأوا ، وهذا اجتهاد منهم ، فلا يعيبهم ، فهذه سنة الله في ولد آدم ، ألَّا يُعصَم منهم إلا الأنبياء .
البحث :
أبدأُ بأدلة المثبتين لأنهم هم أصحاب الدعوى ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (ولكن البينة على المدعي) واعاتبارهم أصحاب الدعوى جاء بناءاً على مخالفتهم للمشاهد المحسوس من حال الموتى المغيبين في القبور وحال النائمين ، وقد قال الله تعالى : (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه يقول : (بسمك أموت وأحيا) وإذا قام قال (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) وكما قال عليه الصلاة والسلام ، لما ناموا عن الصلاة : (إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء ، يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة )
أدلة المثبتين :
1- روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قليب بدر فقال: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ ثم قال: أنهم الآن يسمعون ما أقول . وفي رواية عند البخاري أن النبي صلى الله عليه واله وسلم جعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فأنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟) فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجسادلا أرواح لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (والذي نفس محمد بيده ماأنتم بأسمع لما أقول منهم )
2- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ) رواه البخاري
قال المثبتون إن السماع في هذين الحديثين دليل على سماع الموتى لأن من سمع في حال جاز أن يسمع في غير ذلك من الأحوال
الجواب : هذا في العالم المشاهد المحسوس ، أما في عالم الغيب ، فليس للمسلم إلا أن يتوقف ، إلا إذا جاء دليل ، وقد جاء بالنفي كما سيأتي إن شاء الله .
3- حديث : حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ومماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما رأيت من شر استغفرت الله لكم .
4- حديث : إن أعمالكم تعرض علي أقاربكم وعشائركم فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا .
5- ما رواه عبد الله بن جبير بن نفير ، أن أبا الدرداء ، كان يقول : إن أعمالكم تُعرض على موتاكم ، فيسرون ويساؤون . قال : يقول أبو الدرداء : اللهم إني أعوذ بك من أن أعمل عملاً يخزى به عبد الله بن رواحة. رواه عبد الله بن المبارك في الزهد ؟
الجواب : هذه الآثار لا يلزم منها السماع ، لأن الذي يُعرض هو الأعمال وليس الشخص نفسه ، ثم عرض العمل جاء باعتبار كونه خيرا وشرا ، لا تفاصيله ، ولا نعرف كيفية هذا العرض ، إلا أنه لا يلزم منه السماع ، ومع ذلك فهذه الآثار كلها ضعيفة .
6- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )
7- حديث : مامن أحد يمر على قبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام .
الجواب : الصلاة هي التي تبلغه بأمر الله ، وليس أنه يسمع الآفاق فيعرف من صلى ومن لم يصلِّ ، والأصل في بلوغ الصلاة أن يكون بلوغ الصوت ، فيكون الحديث الأول نص بسماعه صلى الله عليه وسلم من سلم عليه ، إلا أنه جاء في حديث آخر أن الصلاة تُعرض عليه وأنه إنما تبلغه الملائكة عليه السلام إياه كما سيأتي إن شاء الله ، وأما الحديث الثاني فهو ضعيف .
8- أن النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يقول إذا ذهب إلى المقابر : (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ،وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، أسال الله لناولكم العافية) اللفظ لمسلم
قال المثبتون : إن السلام مخاطبة ، وإنما تكون المخاطبة لمن يسمع ، فدل هذا على سماع الموتى .
الجواب : هذا القول يرُدُّه أمران :
الأول : أن الدعاء لأحد لا يلزم منه علم المدعو له بالدعاء ، حتى لو كان على صيغة الخطاب ، فهذا جائز كأن يقول الأب وهو يشاهد الطائرة تقلع للسفر وفيها ابنه : حفظك الله يا بُنيَّ ، والسلام دعاء ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) فحتى مع كونها ليست دعاءاً إلا أن فيها تعزية للنفس وتذكيرا لها بالموت ، وأما الميت فلا ينفعه لاحقنا به ولا يضره تأخرنا عنه .
الثاني : قال الله تعالى : (فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون مالكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين ) وقد قال سبحانه وتعالى في آية أخرى : (قال هل يسمعونكم إذ تدعون)
وروى البخاري ومسلم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خاطب الحجر الأسود فقال : (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) اللفظ للبخاري ، فالحجارة لا تسمع وقد خاطبها نبي الله إبراهيم عليه السلام و عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

9- حديث : إذا مات أحد من أخوانكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس القبر ثم ليقل يا فلان بن فلانة يسمعه ولا يجيب ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يستوي قاعداً ثم يقول يا فلان ابن فلانة فإنه يقول أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول انطلق بنا ما يقعد عند من لقن حجته فيكون الله حجيجهما دونه. قال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف أمه. قال ينسبه إلى حواء : يا فلان ابن حواء".
الجواب : حديث ضعيف .
10- قوله عليه الصلاة والسلام : (و إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)
الجواب : إن حملناه على السماع ، فيكون هذا خاصا بما ورد به النص .
11- قال صلى الله عليه وسلم : ( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون )
12- قوله تعالى : ( ولا تقولوا لمين يُقتَلُ في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)
الجواب : صدق الله ، ولكن لا يدل على سماع الميت ، لأنهم أحياء في الدار الآخرة ، وأما في الحياة الدنيا ، فيقول الله تعالى : (إنك ميت وإنهم ميتون) ، وبما أن الصوفية علموا أن الأنبياء يصلون ، فهلا تأدبوا معهم وسكتوا !! فإن المصلي يتأذى بخطاب الناس له وهو في الصلاة .
13- حديث : والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم إماما مقسطا و حكما عدلا ، فليكسرن الصليب و ليقتلن الخنزير و ليصلحن ذات البين و ليذهبن الشحناء و ليعرضن عليه المال فلا يقبله ، ثم لئن قام على قبري فقال : يا محمد لأجبته .
الجواب : هذا عيسى عليه السلام ، وهو نبي من أنبياء الله ، فلا يقاس غيره به ، وكذلك نزوله عليه السلام آخر الزمان ، فإنه من أشراط الساعة ، وأشراط الساعة عجائب ، والعجائب لا تقاس بغيرها ، كما أن بعض أهل العلم يرى أن قول : ثم لئن قام على قبري . زيادة شاذة .
14- عن ابن شماسة المهري قال : حضرنا عمرو بن العاص ، وهو في سياقة الموت ) إلى أن قال ( فقال – أي عمر بن العاص - : فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنّـاً ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي . رواه مسلم
الجواب : الاستئناس لا يلزم منه السماع ، فقد يشعر بهم من وجه دون وجه ، لاسيما وأنه لم يأمرهم بالكلام ، وهذا محمول على ما بعد الدفن مباشرة ، لأنها هي أول لحظة فراق الميت ، ولأنه قرن ذلك بمراجعة رسل الله ، وهذا لا يكون إلا مرة واحدة بعد الدفن ، عندما يأتي الملكان
15- عن عائشة قالت كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي فأضع ثوبي فأقول إنما هو زوجي وأبي فلما دفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر . رواه أحمد بسند صحيح . قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : تعني أنه يراها .
الجواب : هذا خطأ واضح ، لأنه إن كان يراها لامتنعت عن الدخول ، لأنه إن كان للميت بصر خارق ينفذ من التراب ، فمن باب أولى أن ينفذ من الثياب ، فلبس الثياب حينئذٍ لا ينفع ، ولكنها لما لم تمتنع رضي الله عنها ، دل ذلك على أن حياءها ليس من النظر ، كما أن عائشة رضي الله عنها ما حدثت عن خلقها إلا لما فيه من ميزة ، فلو قلنا بأنه ينظر إليها لما كان لذلك كُبرُ مزية ، إذ إن كل النساء يستحين من نظر الأجانب ، ولكنها رضي الله عنها كانت شديدة الحياء فاستحيت حتى من وجوده .
16- عن ابن عباس قال : ضرب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خباءه على قبر ، وهو لا يحسب أنه قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر ، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك " تبارك " حتى ختمها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هي المانعة ، هي المنجية ، تنجيه من عذاب القبر " قال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه .
الجواب : إن صح الحديث ، فهذا سماع الحي للميت وليس الميت للحي ، وقد حصلت كثير من الغرائب في عهده النبي صلى الله عليه وسلم تأييدا لهذا الدين وتعليما للمسلمين وإكراما لهم ، وأما الآن فلا .
17- روى أبو نعيم في الحلية عن أبي التياح بسند صحيح : كان مطرف ابن عبدالله يبدو فإذا كان ليلة الجمعة أدلج على فرسه فربما نور له سوطه قال فأدلج ليلة حتى إذا كان عند القبور هوم على فرسه قال فرأيت أهل القبور صاحب كل قبر جالسا على قبره فلما رأوني قالوا هذا مطرف يأتي الجمعة قال قلت أتعلمون عندكم يوم الجمعة قالوا نعم نعلم ما تقول الطير فيه قلت وما تقول الطير قالوا تقول سلام سلام من يوم صالح .
الجواب : هَوَّم : التهويم والتهوم : هز الرأس من النعاس ، ويطلق على النوم الخفيف ، فهذه رؤيا منام وليست حقيقة ، وفي رواية أخرى ليس فيها أنه هوم ، ولكن فيها أن أبا التياح ، قال : بلغنا أنه كان ينزل بغوطة ... ) فقوله : بلغنا ، صيغة تمريض ، أي أنه لا يجزم بقضية رؤيته للموتى ، ولكن الرواية الأولى أصح ، أنها رؤيا منام .
18- عن سعيد بن عبد العزيز : قال لما كان في أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ولم يقم ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم . رواه أبو نعيم والدارمي .
الجواب :سعيد بن عبد العزيز لم يدرك سعيد بن المسيب ، ولها سند آخر ضعيف ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على الله من أن يخرج صوته إلى الدنيا بعد أن اختاره الله في الرفيق الأعلى .
حديث : من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي من بعيد أعلمته .
الجواب : موضوع
وللمثبتين جمع مما يحتجون به غير ما ذكر ، ولكنه دون مستوى العرض فضلا عن الاحتجاج .
أدلة النفي :
1- قال تعالى : ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين) وقال تعالى : (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين) وقال تعالى : (وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور)
يفسر الصوفية هذه الآيات بما يوافق أهواءهم فإذا قرأوا في كتب أهل التفسير قولهم : لا يسمعون سماع هداية ، أو الكافر لا يفقه ما يسمع ولا يهتدي ، زعموا أنهم يقصدون بذلك ، الاحتراز من نفي السماع عن الموتى ، ولكن ادعاءهم هذا باطل لما يلي :
لو قيل : الموتى المقصود بهم هنا الكفار

الجواب : هذا لا يضر ، لأن الإشارة إلى هذا المقصود – أي أنهم الكفار – لا يمنع من الدلالة إلى الألفاظ الحقيقة ، فالأمثال تطلق ، ويراد بها معناها الحقيقي ، ومنه نعرف المقصود من الآية بالقرائن ، وإلا لما فهمنا وجه تسمية الكافر بالميت !! ولا تسميته بالأصم كما هو في الآية !! بل إن جعل الشيء مضربا للمثل أبلغ في دلالة المعنى إليه ، كما أننا لو قصرنا دلالة الآية على الكفار ، لزم من ذلك نفي السماع عنهم ، وهذا باطل إذ إنهم يسمعون ولكن لا يستجيبون ، كما قال تعالى : ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءاً ونداءا ) قال الطبري : قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الآيَةِ : وَمَثَلُ وَعْظِ الْكَافِرِ وَوَاعِظِهِ كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ وَنَعِيقِهِ ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ نَعْقَهُ وَلاَ يَعْقِلُ كَلاَمَهُ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ.
لو قيل : المقصود بالموتى : موتى القلوب .
الجواب : هذا الاعتراض كسابقه ، فإضافة الشيء إلى شيء على غير معناه الحقيقي ، لا يصلح أن يكون في اللغة إلا لمناسبة ، وهذه المناسبة هي التي نحدد بها المعنى المقصود ، فالقلب هو أهم مافي الجسم ، وموته موت للبدن ، فمن مات قلبه ، يصح أن يقال هو ميت فلا خلاف إن سُمِّيَ الكافر ميتا أو ميت قلب ، كما أنه جاء في الآية الأخرى ( وما أنت بمسمع من في القبور ) فلا تقف الدلالة على لفظ : الموتى .
لو قيل : المقصود بـ لا تسمع أو وما أنت بمسمع : أي لا تهدي
الجواب : هذا الاعتراض كسابقه ، فهذا المعنى لا يصح لغة إلا مع بقاء الدلالة الأصلية للكلمة ، وهي عدم السماع ، فلا يصح لغة أن يقال : فلان لا يسمع وهو في الحقيقة يسمع
لو قيل : المقصود بـعدم السماع : أي سماع هدى وانتفاع .
الجواب : هذا الاعتراض كسابقه ، لأن النفي في الآية نفي لفعل متعدٍ به صلى الله عليه وسلم (إنك لا تُسمِع الموتى) فعلى قولهم هذا ، سيكون معنى الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع الكفار ما ينفعهم ويهديهم . وهذا باطل أشد البطلان ، كما أن قولهم سماع هدى وانتفاع ، ليس هو نوع من أنواع السماع ، إذ الجميع يعلم أن الله لم يعطنا إلا سمعا واحدا ، وإنما معناه سماع ينتج عنه هدى وانتفاع ، وهو السماع الذي يكون بتدبر ونية صادقة ، أي أن العبرة بما اقترن به من المآل والنتيجة لا بأصله ، ، بينما نجد الآية نفت أصل السماع ، فلا يصح تأويل الآية باعتبارات لا دليل عليها ، وإنما قول المفسرين : لا يسمعون سماع هدى وانتفاع ، المقصود بهم الكفار ، وهذا احتراز من نفي أصل السماع عنهم ، وليس احترازا من نفي السماع عن الموتى . والله أعلم .
وقد نص أكابر المفسرين على دلالة الآية على نفي السماع عن الموتى :
1- عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين أنها اعترضت على قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إنهم ليسمعون ما أقول) ثم قالت : إنما قال : (إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ) ثم قرأت (إنك لا تسمع الموتى) ( وما أنت بمسمع من في القبور )
مع أن قول ابن عمر رضي الله عنهما في الرواية هو الصواب ، إلا أن فهم أم المؤمنين رضي الله عنها للآية لم يعارضه أحد من الصحابة ، فهي حجة على من دونها .
2- التابعي قتادة بن دعامة السدوسي : قال بعد قصة القليب – وهو أحد رجال السند - : أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقيمة وحسرة وندامة .
وقال السيوطي في الدر المنثور : أخرج عَبد بن حُمَيد ، وَابن المنذر ، وَابن أبي حاتم عن قتادة في قوله {إنك لا تسمع الموتى} قال : هذا مثل ضربه الله للكافر كما لا يسمع الميت كذلك لا يسمع الكافر ولا ينتفع به . وقال : وأخرج عَبد بن حُمَيد ، وَابن جَرِير ، وَابن أبي حاتم عن قتادة في قوله {وما أنت بمسمع من في القبور} فكذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما يسمع .
3- ابن جرير الطبري : {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} يَقُولُ : وَالْكُفَّارُ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مَعَ الْمَوْتَى ، فَجَعَلَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي عِدَادِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لاَ يَسْمَعُونَ صَوْتًا ، وَلاَ يَعْقِلُونَ دُعَاءً ، وَلاَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً . انتهى .
وقال رحمه الله : يقول تعالى ذكره:(فَإنَّكَ) يا محمد،(لا تُسْمِعُ المَوتَى) يقول: لا تجعل لهم أسماعا يفهمون بها عنك ما تقول لهم، وإنما هذا مثل معناه: فإنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين، الذين قد ختم الله على أسماعهم، فسلبهم فهم ما يُتلى عليهم من مواعظ تنزيله، كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين قد سلبهم الله أسماعهم، بأن تجعل لهم أسماعا. انتهى . ففرق رحمه الله بين الكافر : فوصفه بمختوم السمع مسلوب الفهم ، وبين الميت فوصفه بمسلوب السمع .
4- الزمخشري المعتزلي : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) يعنى أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسماعون ، وإنما يستجيب من يسمع ، كقوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) . ويقول رحمه الله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات اللّه - فكانوا أقماع القول لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع - : كانت حالهم - لانتفاء جدوى السماع - : كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع .
5- أبو حيان النحوي : ولما كان الميت لا يمكن أن يسمع ، لم يذكر له متعلق ، بل نفي الإسماع ، أي لا يقع منك إسماع لهم البتة لعدم القابلية.
وغير هؤلاء من المفسرين والفقهاء والعلماء


2- قال تعالى : (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ( وقال تعالى في آية أخرى : (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم)
اعتراض : المقصود في هذه الآيات هي آلهة المشركين وهي الأوثان
الجواب : لا ضير ، إن قُصد بها آلة المشركين أو قصد بها زيد و عمرو ، لأن الله بين العلة في كونهم لا يسمعون ولا يشعرون ، وهي الموت وعدم الحياة فمتى ما وُصِف الشيء بأنه ميت غير حي لم يكن يشعر ، كما هو حال النبي عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى : (إنك ميت وإنهم ميتون) وقال أبو بكر رضي الله عنه : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت .
3- قال تعالى : ( إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون )
في هذه الآية ، أبطل الله قول من قال : لا يسمعون : أي لا يهتدون . لأنه سبحانه وتعالى فرق بين الاستجابة والسماع ، والاستجابة هي نفسها الهداية ، ثم قال تعالى : ( والموتى يبعثهم الله ) أي أن الموتى ليسوا من الذين يسمعون .
4- قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام ) رواه الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم .فلو كان يسمع لما احتاج إلى من يُبلِّغه
5- قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (إن من أفضل أيامكم الجمعة فيه خلق آدم و فيه قبض و فيه نفخة الصور و فيه الصعقة فاكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا : و كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : (إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أحمد والحاكم .فمن سوى الأنبياء لا يُعرض عليه السلام لأن الأرض تأكله
6- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَىَّ إِلاَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَىَّ رُوحِى حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ) رواه أبو داود وأحمد
اختلف أهل العلم في شرح هذا الحديث ، والذي يظهر والله أعلم ، أنه على ظاهره ، أي أن الروح ليست عنده فإذا سلم عليه أحد رُدَّت إليه ، وهذا لا يتنافى مع حياته صلى الله عليه وسلم بجسده وروحه ، ولا يُسمى هذا تناقضا ، لأن هذا من عالم الغيب الذي لا نعرفه ، وهذا القول له شواهد عديدة ، فالأنبياء عليهم السلام يصلون في القبور بأجسادهم وأروحهم ، مع أننا لا نشعر بأجسادهم أنها تصلي ، ومع كون القبور لا فرجة فيها للصلاة ، ومع كون النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الوقت ، يرد السلام على من سلم عليه ، وأما المؤمنون فمنهم الأحياء عند الله كمن قُتِل في سبيل الله ، ولكن لو رأيت أجسادهم في القبور ، فلن ترى فيها الحياة ، وأما الميت فيأتيه الملكان فيُقعِدانه ويسألانه ، ولكن لو راقبت القبور بالأجهزة الحديثة فلن ترى شيئا من ذلك ، وأما العبد الصالح فيُفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ، ولو نظرت إلى القبور لما وجدت قبرا تفسح قدر أنملتين فضلا عن سبعين ذراعا ، والله أعلم .
7- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} فَيُقَالُ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ) رواه البخاري
فلو كانت تُعرض عليه الأعمال ويسمع الآفاق كما يدعي الصوفية لعلم بما أحدثوه بعده ، ويقول البعض : إن المنافقين والمرتدين مستثنون . ونحن نطالبهم أولا أن يثبتوا السماع والعرض ، ثم ليتطرقوا إلى الاستثناء ، بل إنه عليه الصلاة والسلام استشهد بقول عيسى عليه السلام ، فهل سيدعي هؤلاء الصوفية أن عيسى كان شهيدا على المنافقين والمرتدين فقط !! وفي قول الله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) فهل هو عليه الصلاة والسلام شهيد على المنافقين والمرتدين فقط !!
8- جاء عند الترمذي بسند حسن أن العبد الصالح يفسح له في قبره (ثم يقال له نم فيقول ارجع إلى أهلي فأخبرهم ؟ فيقولان نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك )
9- روى أحمد والحاكم بسند صحيح من حديث البراء بن عازب ، أن المؤمن في القبر إذا بُشِّرَ بعمله الصالح ، يقول : (رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي) وأن الكافر في القبر إذا بشر بعمله السيء ، يقول : (رب لا تقم الساعة) .
ففي هذين الحديثين دلالة على أن بين أهل الآخرة وأهل الدنيا برزخا كما قال تعالى : ( ومن وارئهم برزخ إلى يوم يبعثون ) فلا يسمع هذا هذا ولا يسمع هذا ذاك
10- قال تعالى : ( أو كالذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مئة عام) فلو كان يسمع ، لعلم كم لبث .
فبعد أن ذكرنا الأدلة بقي أن نذكر أن للصوفية ادعاءان :
الأول : أن حياة المؤمنين بعد الموت هي بالأرواح دون الأجساد . فنحن نقول لهم هاتوا الدليل ، فإن الأدلة لما نفت لم تخصص أو تفصل في الجسد دون الروح أو الروح دون الجسد كما يدعي الصوفية بل جاءت عامة ، بل حتى الأدلة التي ذكرت حياة بعض الموتى كالأنبياء فإنهم أحياء بأجسادهم حقيقة في قبورهم يصلون ، وكذلك الشهداء فليس هناك دليل أنهم أحياء بأرواحهم فقط ، بل نقول : بأجسادهم وأرواحهم ولكن لا نشعر . بل إن الحياة أصلا هي اتصال الروح بالجسد ، فلا يوجد شيء اسمه حي بروحه ، وإنما هذا من دجل الصوفية .
الثاني : أن الروح إذا تخلصت من الجسد فإنها تكون أقوى وأقدر على العمل والسماع من حال اتصالها بالجسد ، وهذه دعوى أخرى لا دليل عليها ، بل الأدلة جاءت بخلافها ، ومثل هذا القول ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح من تصرف الأرواح ، وعملها من هزيمة الجيوش ونحوه ، فلا دليل على ذلك البتة بل الأدلة جاءت بخلافه ، إلا أنه رحمه الله لم يزعم كما زعمت الصوفية أن روح الميت هي نفسه ، فهو حتى بعد الموت حي ، فيسمع بروحه ويفعل بروحه ، فهو لم يزعم هذه المزاعم ، و إنما تسخيرها يكون بأمر الله تعالى .

ونفي هذه الدعوى لها أدلة كثيرة ، ولكن فيما ذكرناه كفاية .
فالنتيجة أن الأموات لا يسمعون ، إلا ما جاء به النص . والله أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم