إننا في أمس الحاجة إلى إعادة قراءة تراثنا قراءة جيدة و متمعنة . فإذا قمنا بذلك لم تبهرنا العلوم القادمة إلينا من كل حدب و صوب ، ولم نذهل للمصطلحات اللسانية الحديثة وكأن مدلولها جديد علينا .
إننا مدعوون جميعا لأداء هذه المسؤولية حتى نعيد للتراث بريقه الذي زال عنه بفعل الغبار الذي علق به بسبب إهمالنا له .
ومن هذا المنطلق سأقدم نموذجا يبين أن هذا التراث زاخر بالنصوص ذات الصلة بعلم اللغة أو اللسانيات الذي يظن الكثيرون بأنه علم حديث لم يعرفه العرب من قبل . نعم إنه حديث بمصطلحاته ، وجديد بنظرياته اللسانية المختلفة ،ولكنه علم عربي بامتياز عرفه العرب منذ النشأة الأولى للعلوم العربية في منتصف القرن الأول الهجري . ولكن بطبيعة الحال لم يَرْقَ إلى مستوى التنظير كما هو الشأن في العصر الحديث عندما ظهرت اتجاهات مختلفة و مناهج متعددة في دراسة اللغة كالاتجاه الوصفي عند دوسوسير ، والمنهج التوليدي التحويلي عند شومسكي و النظرية السلوكية في اللغة عند بلومفيلد ، و الاتجاه الاجتماعي عند فيرث ...فالعوائق كانت كثيرة و العوامل متعددة ـ ليس المجال هنا لذكرها ـ لعدم اهتمام اللغويين العرب بالتنظير، و هذا لا ينفي أن المبادئ الأولى له كانت موجودة في تراثنا العربي الإسلامي .
لنقرأ على سبيل التمثيل لا الحصر نص ابن جني في كتابه "الخصائص" ،ج1 ،ص33 ، "باب القول على اللغة و ما هي" ، وفيه يورد تعريفا دقيقا جدا للغة لم يُضِف إليه اللسانيون المحدثون شيئا جديدا وهم يعرفون اللغة ، يقول بن جني :"أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم "
إننا عندما ننتهي من قراءة هذا النص نظن نفسنا أمام لساني من اللسانيين المحدثين ، كدوسوسير أو بلومفيلد او شومسكي أو فيرث أو غيرهم... كيف لا والنص احتوى كل مقومات النص اللساني العلمي الذي يقدم التعريف الدقيق ، و يضع اللفظ المناسب لكل معنى يريده دون إطالة أو استطراد غير مفيد أو تلاعب بالألفاظ .
ـ إن نص ابن جني يورد تعريفا جامعا مانعا لمفهوم اللغة والذي يطلق عليه اسم "الحد" ، وهذا مصطلح استعمله القدماء وهو مرادف لمصطلح "تعريف" عندنا . فمَن مِن اللسانيين ينكر بأن اللغة هي في المقام الأول عبارة عن" أصوات "كما سماها ابن جني ، أو حــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــروف أو ( phonemes) ؟ هذه الاصوات أو الحروف التي تعتبر أصغر وحدة صوتية لا معنى لها
و التي يختلف عددها من لغة إلى أخرى ، و يتميز كل حرف منها بمخارج صوتية خاصة وصفات ومميزات خاصة تميزه عن سائر الحروف الأخرى ، ومن منهم يستطيع أن يجادل في أن المستوى الأول من مستويات التحليل اللغوي هو المستوى الصوتي (phonetics = la phonetique ) الذي يدرس الصوت الإنساني الصادر عن أعضاء النطق ، فيحلله إلى عناصر جزئية ، ويصنف الأصوات حسب مخارجها و صفاتها ؟
ـ وتتجلى دقة التعبير عند ابن جني حين يقول "كل قوم " وليس "القوم " علما منه بأن التواصل لن يتحقق إذا كان كل من طرفي العملية الكلامية: المتكلم و المتلقي لا ينتميان إلى المجموعةاللغوية ( linguistic groupe) نفسها . وهذا شرط أساس نص عليه جميع اللغويين المحدثين لأن بدونه لن تؤدي اللغة وظيفتها ولن يتم التفاهم بين المتكلم و المتلقي .
ـ ينتقل النص بعد تعريف اللغة إلى الحديث عن وظيفتها الأساسية وهي التواصـــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــل (lacommunication ) الذي سماه "التعبير عن الأغراض" أفليس التعبير عن شعور ما أو إيصال معلومة أوخبر أوفكرة أو...أو..أغراضا نعبر عنها ونحن نتواصل باللغة ؟ ربما لم توجد اللغة إلا لتحقيق هذه الغرض الأساس وهو التواصل بين بني البشر .
إن هذه التأملات السريعة جدا في تراثنا القديم توضح بما لا يدع مجالا للشك بأن القدماء كانوا على إلمام كبير بعلوم اللغة ، وجهلنا بما تضمنه التراث من كنوز علمية في شتى المجالات هو الذي يدعونا إلى إنكار سبقهم إليها بقرون عديدة .