بسم الله الرحمن الرحيم
الأربعون النووية
الدرس[16]
الحمد للهِ الَّذِي أتقَنَ بحكمتِهِ مَا فَطرَ وبنَى، وشرعَ الشرائعَ رحمةً، وحِكْمةً طريقاً وسنَناً، وأمرنَا بطاعتِه لا لحَاجتِهِ بلْ لَنَا، يغفرُ الذنوبَ لكلِّ مَنْ تابَ إلى ربَّه ودَنا، ويُجزلُ العطَايَا لمَنْ كان مُحسناً ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا﴾ أحْمده على فضائلهِ سِرّاً وعلَناً، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً أرْجو بها الفوزَ بدارِ النَّعيمِ والْهنَا، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولهُ الَّذِي رفَعَه فوقَ السموات فدَنَا، وعلى آله وأصحابه ومن تبعه من الكرام الأمَنَاء، وسلَّم تسليمًا.
وصلنا بفضل من الله ومنه إلى الحديث السادس عشر.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t «أَنْ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَوْصِنِي. قَالَ: لَا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: لَا تَغْضَبْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
راوي الحديث: فهو أبو هريرة t وقد مرت معنا ترجمته في الحديث التاسع، هذا الحديث على وجازته كما ترون وصية وجيزة الألفاظ إلا أنها كثيرة المعاني، هذه الوصية النبوية على وجازتها وقلة ألفاظها إلا أنها جامعة لفوائد جليلة ومعاني كثيرة، فإن الغضب الذي نهى النبي r عنه هو جماع الشر، والتحرز منه، جماع الخير.
قال الإمام أبو محمد عبد الله بن أبي زيد إمام المالكية بالمغرب في زمنه قال: جماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث فذكر منها هذا الحديث، العلماء يقولون أن الغضب هو عدو العقل، وهو كالذئب للشاة قلما يتمكن منه إلا اغتاله، هذا هو الغضب ولذلك أتت هذه الوصية الجامعة لكل خير الناهية عن كل شر في مسألة الغضب.
هذا الصحابي لم يذكر لنا اسمه أبو هريرة قال أن رجلا، من هو هذا الرجل؟ لم يذكره t، المهم أنه أتى إلى النبي r فقال: أوصني، أوصني: بمعنى أرشدني إلى ما ينفعني ويقربني إلى الله، ولذلك يقولون أن الوصية هي العهد بالشيء على جهة الاهتمام به، ولذلك يقولون فلان الفلاني أوصى بكذا، أي عهد إلى من بعده بكلام على جهة أن يهتموا به ويفعلوه.
فهذا الصحابي يقول للنبي r أوصني، دلني على الخير، أرشدني إلى ما ينفعني، فقال له: لا تغضب، قال: فردد مرارًا، ردد مرارًا يعني كرر السؤال، قال: أوصني، قال لا تغضب، كأنه قال: أوصني، قال لا تغضب، قال: أوصني، قال لا تغضب، فرددها مرارًا.
« قَالَ: لَا تَغْضَبْ، » في الحقيقة أن تعريف المشاعر إنما يصعب جدا، إنما يعرف العلماء المشاعر الإنسانية بما يترتب عليها، يعني يقولون أن الغضب هو ثورة أو ثوران دم القلب وغليانه عند توجه مكروها إلى الشخص، ويلازمه إرادة الانتقام، يعرفون الغضب يعني ثوران دم القلب هذا مترتب على الغضب، وغليانه كل هذه عبارة عن وصف لما يحدث للغاضب، إنما إذا قلنا ما الغضب؟قلما نأتي على هذه المعنويات والمشاعر ونقول،لو قلنا ما هو الحب؟ لا نستطيع أن نعطي تعريفا مانعا جامعا لهذه الأشياء.
يقول: «أَنْ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَوْصِنِي.» ، هنا فائدة ففيه الحرص على سؤال أهل العلم والتعلم مع حسن السؤال ووجازته، فكما يقول أهل العلم حسن السؤال نصف الإجابة، ويقولون حسن السؤال هو نصف العلم، لأن العلم هو سؤالا وجواب، فإذا أحسن السائل سؤاله أتى الجواب على أحسن ما يكون، فيقولون أن الحسن السؤال هو نصف العلم، وقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
فإذن نستفيد من هنا أن الإنسان يسأل عما يفيده خيرا، ويدفع عنه شرا، يسأل لا يتكبر ولا يتعاظم، ولا يدفعه يعني الحياء المذموم في الحقيقة الذي هو بمعنى العجز يدفعه ألا يسأل عما ينفعه.
قال: « قَالَ: لَا تَغْضَبْ» هنا نهى النبي r عن الغضب، ويرد علينا سؤال وهو كيف ينهى النبي r عن الغضب وهو أمر جبلي خُلق الإنسان عليه،إذا قلنا أن الغضب الطبيعي الذي هو قد جبل عليه الإنسان كيف النبي r يقول لا تغضب، والغضب هذا أمر جبلي وطبيعي.
نقول أن الإسلام هو دين الأخلاق الفاضلة النبي r صح عنه كما في حديث أبي هريرة أنه قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» والحديث صححه الألباني رحمه الله تعالى، فالإسلام جاء ليوجه هذه المشاعر الإنسانية الجبلية إلى التي هي أقوم، فالغضب وإن كان أمرا جبليًا فإن الإنسان يستطيع بفضل الله U ثم بالأخذ بالسبل الشرعية في ترويضه لصالحه، ولذلك لو قلنا أن الغضب سبع أنت بفضل الله U كما سأبين كيف تروض هذا الغضب بفضل الله U ثم باتخاذ الأسباب الشرعية يستطيع الإنسان أن يقوم ذلك،.
والنبي r حينما قال له لا تغضب، إنما عني بذلك أو أراد من ذلك أمرين:
الأمر الأول: البعد عن سوابق الغضب وأسبابه، عندما يقول لك لا تغضب معناها ابتعد عن أسباب الغضب، لا تأتيها، لأنك نهيت عن الغضب فما يؤدي إلى الغضب أنت أيضا منهي عنه، فما لا يتم ترك الحرام إلا به فهو واجب، وما لا يتم ترك المكروه إلا به فهو مستحب أي يستحب له فعل ذلك حتى يترك المكروه يجب عليه فعل ذلك حتى يترك المحرم، وهذه قاعدة معلومة عند أهل العلم.
إذن الاحتمال الأول هو أنه نهي عن أسباب الغضب وسوابقه، يقول له ابتعد عن هذه الأسباب والسوابق، ويلزم ذلك الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الكرم، والحلم، والسخاء، واحتمال الأذى وكفه، كل هذا أيضا من الأمور التي يؤمر بها المرء حتى يتجنب الغضب فلا يأتيه، يبقى هذا المراد الأول من قول النبي r لا تغضب معناه ابتعد عن سوابق الغضب وأسبابه.
الاحتمال الثاني: أن المراد لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حدث لك، أي تحكم في لواحقه وتبعاته.
إذن عندنا سوابق وأسباب للغضب، وعندنا ما يترتب على الغضب من قول أو فعل، فالنبي r يقول: لا تغضب أي ابتعد عن أسباب الغضب، وكذلك أيضا عليك إذا غضبت ألا تنساق مع هذا الغضب إلى قول أو فعل يجرك إلى حرام أو إلى مكروه والعياذ بالله، الأمر واضح.
لا تغضب معناه أنك تروض نفسك أنك لا تأتي أسباب الغضب، وكذلك أيضا تبتعد عن أن تتابع الغضب في أن تقول قولا أو أن تفعل فعلا محرما والعياذ بالله.
يشهد لهذا الكلام الحديث الذي رواه مسلم من حديث ابن مسعود t أن النبي r قال: «ما تعدون الصرعة فيكم» الصرعة بضم الصاد، الصرعة بمعنى الرجل الذي يصرع الناس، قلنا: «الذي لا يصرعه الرجال، قال: ليس بذلك ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب»إذن هو غضب، ولكن ما الذي غضب؟ تحكم في تبعات الغضب، كظم غيظه، ملك نفسه هذا هو القوي، ولذلك إذا شتمك أحد فلم ترد عليه ولم تجبه اعلم أنك قوي، لأن من السهل جدا ومن الأمور السهلة عند الناس أنه ويجهل فوق جهل الجاهلين، شتمه وسبه يسبه أيضا، إنما من هو القوي؟ القوي الذي يتحكم في مشاعره، مشاعر الغضب يتحاكم فيها، الغضب لا يسوقه، إنما هو يضع الغضب حيث ينتفع به وفقط، إنما لا يضع الغضب في موضع يجر عليه شر والعياذ بالله، فالشريعة المطهرة جاءت بهذا الهدي النبوي ليقوم ذلك الأمر الجبلي، والطبع الحيواني، نقول الغضب قد يكون فيه إفراط وفيه تفريط، الشريعة تأتي فتقول لا ضع الغضب في موضعه كما سأبين الآن، أنك لابد من وضع الغضب في موضعه، طالما أنه أمر جبلي فأصرفه إلى حيث مرضاة الله U، إنما لا يفرط فيه حتى يخرج عن سياسة العقل والدين، وكذلك لا يفرط أيضا في الغضب حتى يكون جبلة لا يغار وليس عنده يعني حياء شرعي من الله U.
ما هي فوائد ترك الغضب؟ يعني إذا كان النبي r نهى هذا الرجل بهذه الوصية الجامعة عن الغضب، فالغضب لتركه فوائد منها:
1-أن ترك الغضب دلالة على حسن خلق صاحبه، قيل لابن المبارك اجمع لنا حسن الخلق في كلمة واحدة قال: ترك الغضب، كذلك فإن الغضب يورث الأمراض النفسية والبدنية والروحانية، فالغضب من مداخل الشيطان الكبرى ومكائده العظمى، لأن الشيطان يلعب بالغضبان كما يلعب الأطفال بالكرة، والمشاهدة أكبر دليل على ذلك.
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: ( قال ومن آثار هذا الغضب في الظاهر، وهذا الأمر البدني أهو، قال: تغير اللون، وشدة ارتعاد الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق، وتحمر الأحداق، وتنقلب المناخر، وتستحيل الخلقة، ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته، واستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره، فإن الظاهر عنوان الباطن).
الغضب شر مستطير والعياذ بالله، ناهيك بقى عن الأمراض البدنية التي هي كل مرجعها إلى مسألة الغضب، أمراض ضغط الدم، أمراض السكر، وغيرها لهذا الغضب، فلابد من ضبط هذه المسألة، .
2-نقول أيضا الغضب مقدمة للتشرذم والتفرق، فالغضب هو سبيل ميسر وسهل للتدابر والتشاحن والبغضاء، ورب رجل هلك في لحظة غضب أو طلق امرأته، وهدم أسرته في وقت غضب، يعني هذا الأمر كثير انتشاره، يأتي يقول أنا حلفت عليها بالطلاق أو قلت لها أنت طالق، لماذا؟ يقول كنت غضبان، هل الغضب الذي دفعك إلى هذا؟ الغضب أنت الذي انسقت خلفه ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة: 57]. أنت الذي ظلمت نفسك، لأنك انسقت مع غضبك، والنبي r نهاك عن هذا فقال: «لا تغضب» نهاك عن لواحق هذا الغضب الذي وقعت فيه.
كذلك فإن المصالح المترتبة على ترك الغضب يتعذر إحصاؤها، لو قلنا أعدد المصالح المترتب على تركك للغضب ستجد مصالح كثيرة جدا، يعني يقول المناوي رحمه الله ومن تأمل المفاسد التي تترتب على الغضب عرف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة واستجلاب المصلحة مما يتعذر إحصاؤها، يعني يكفيك في يعني فوائد ومصالح كظم الغيظ وترك الغضب حديث النبي r الذي رواه أحمد والترمذي من حديث أنس أن النبي r قال: «من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء» والحديث حسنه الألباني رحمه الله تعالى، فهذه منزلة عظيمة جدا أن تخير من الحور العين، بعض الروايات أيضا الحسنة أن النبي r قال: «من كظم غيظاً وهو قادر على أن إنفاذه، ملأ الله قلبه يوم القيامة رجاء، »ولذلك هذه دلالة على قوة كما قدمت قوة الشخصية.
هل الغضب مذموم بكل حال؟ نقول أبدا إنما كما قلت خلقه الله U في الإنسان ليضعه في موضعه فيأتي له بخير، إنما لو أنه أفرط في هذا الغضب أو أنه قصر عن الغضب الطبيعي اللازم في بعض المواقف الشرعية فإنه بذلك يكون مذموما، فنقول أن هناك غضب محمود، كالغضب لله U، وذلك لدفع الاعتداء غيرة على الأعراض، يغار على عرضه، يدفع عنه، كذلك عند مشاهدة المنكرات غيرة لدين الله U، قال تعالى: ﴿ولَا تَأْخُذْكُم بهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: 2]هنا الغضب إذا وضع في هذا المحل لتنفيذ هذا الحكم الشرعي كان غضبًا محمودا لصيانة الدين، وحفظ بيضته،فهذا غضب محمود، في البخاري ومسلم وكان لا ينتقم لنفسه r، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان أحيانا يغضب على بعض أصحابه لتضرر الناس في دينهم بهم، لما شكي إليه أن إماما يطيل الصلاة حتى ترك بعض الناس الصلاة، قال: «يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة» وقال لمعاذ t «أفتان أنت يا معاذ» مع أن معاذ هذا هو إمام العلماء وقدوتهم الذي يتقدم العلماء يوم القيامة برتوة وكان أعلم الأمة بالحلال والحرام، ومع ذلك يغار النبي r على دين الله فيقول: «أفتان أنت يا معاذ» فهذه هي الغيرة المطلوبة لدين الله U، ولذلك أحيان يفقد الإنسان هذا الغضب المحمود، كأن يمر إنسان على معازف مثلا أو على بعض المنكرات التي يراها ولا يغضب لله U، لا يغضب من أجل دين الله U، نقول أن هناك خلل في الشخصية، الأمر الطبيعي أنه إذا رأى هذه المنكرات غضب، فار دمه، أخذته هذه الثورة والحمية لدين الله U، ولذلك إذا لم تكن موجودة فحاول أن تغيظ قلبك برؤية هذه المنكرات.
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما يقول لأبيه يا أبتي لوددت أن اقرض بالمقاريض ولا يعصى الله U، هذا هو المطلوب، هذه هي الغيرة، أنه يغار أن يرى حرمات الله U تنتهك، ولكن كما قدمت أن هذا الغضب لابد أن يكون بلا إفراط ولا تفريط، يعني مثلا الإنسان يغضب لحرمات الله U نعم، ولكن أيضا لا يخرجه هذا الغضب عن سياسة الدين والعقل،مثلا تخيل لو أنك غرت أن حكم شرع الله U يطبق الآن،فامتلأت غيظا من تأخر التحاكم بشرع الله U فقال سأخرج غاضبا لله U وأقيم شرعه هذا الغضب قد يؤدي إلى مفاسد دينية أعظم من المصالح التي قد تترتب على إقامة هذا الشرع الآن في هذا المحيط الذي نعيش فيه، فنقول المقصد هو التوسط أن تضع الغضب حيث وضعته الشريعة، ولذلك لو استعرنا كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية.يقول: (ومن عقائد أهل السنة والجماعة أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على وفق الشريعة)، فقد نستعير هذه الكلمة الآن ونقول نحن نغضب ولكن على وفق الشريعة، حتى تكون منضبطا بالشرع ليست مسألة عصبية وليست حمية، وليست وطنية ولا غيرها، إنما تكون مضبوطة بشرع الله U حتى تكون محمودة.
وهناك غضب مكروه: وهو الحاصل عند فوات الحظوظ المباحة كغضبه على خادمه حين يخالفه أو يكسر أنيته هذا يسموه الغضب المكروه، وكان النبي r لا يغضب هذا الغضب، فأنس t يحكى وكان خادما للنبي r يقول: لم يقل له حتى كلمة أف من فعلا فعله، قال: ولا قال لشيء فعلته لما فعلته، ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت، يعني ما كان يعني يعنفه على شيء تركه أو على شيء فعله، وكان إذا عاتب أنس بعض نسائه، نساء النبي r قال لهم: «دعوه فلو قضي أن يكون كان» هذا الغضب المحمود ترك هذا الغضب المكروه،فهذا غضب مكروه لحظوظ الدنيا.
ولذلك أنبه على مسألة تربوية وهي: أن بعض الأطفال مثلا في البيت قد يكسر بعض الأشياء، تثور ثائرة الأم والأب يقوم على الولد كأن هذا الولد عدو محارب، فيقوم عليه ضربا، فإذا قلت له لماذا تضرب هذا الولد؟ يقول أؤدبه حتى لا يفعل ذلك مرة أخرى، نقول هذا الضرب محرم، لماذا محرم؟ لأنه ضرب انتقام وليس ضرب تربية، لماذا تضربه الآن أنت لا تربيه أنت تعنفه على أنه كسر هذا الشيء، فنقول هذا لم يكن من هدي النبي r ولا من أسلوب التربية السليم، نعم قد يكون الولد بعد ذلك سيلتزم، هو يخشى أن يكسر شيئا، ولكنك صنعت ولدا باهت الشخصية، عاجز، سيكون سلبيا فيما بعد، ولذلك أنا عارف أن الجيل الذي أمامي الآن وتربيتنا أيضا كانت بهذا المنوال كل شيء عيب، لا تفعل هذا، لا يترك للولد شيء حتى يمارس حريته الانفعالية فيصاب بالإحباط والكبت، يكون سلبيا، نرى هذا الجيل الذي لا يتحرك لدين الله U، ينتظر من يحركه، ينتظر من يسوسه، إنما هو لا يتحرك بدافع شخصي، لماذا هذا؟ كان هذا بسبب العزوف عن هذا الهدي النبوي في التربية والتعليم، كذلك أيضا التربية والتنشئة الخاطئة لهذا الجيل، فنقول قتل الشخصية أشد جرما من قتل الشخص نفسه، يعني لو أنه قتله أماته كان أهون أن يقتل شخصيته فيظهر بهذه الصورة الباهتة والعياذ بالله.
كذلك أيضا هناك الغضب المحرم المذموم: وهو الصادر على وجه الفخر والتكبر والمباهاة، وهذا الغضب منشأه أيضا من الكبر والمباهاة والفخر، والتعلق بالحظوظ الدنيوية في ذلك، والغضب المذموم أيضا يعرف بأنه الغضب الذي يفضي إلى ما لا يرضاه الله U من قول أو فعل.
تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين «وما انتقم رسول الله r لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم» ولذلك كان مراد النبي r موافقا لمراد الله حبا، وبغضا، وانتقاما، ولذلك النبي r يقول: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» فهل يا ترى نحن نحب لله، ونكره لله، ونعطي لله، ونمنع لله، إذا كنا كذلك فقد استكملنا الإيمان، المسألة تحتاج فعلا إلى تدريب وتعويد، أنك إذا غضبت تسأل نفسك لماذا غضبت هل لله؟ أم لنفسي؟ إذا كان لنفسك فدع هذا فإنه أفضل لك، واكظم غيظك حتى تحصل فوائد كظم الغيظ، الله U يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ [آل عمران: 134]. ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 136]، فالكاظمين الغيظ هم المتقون لله U، المحسنون في أفعالهم.فإذن أكظم غيظك ولكن لله U.
ما هي الأسباب المعينة على ترك الغضب؟
1- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: أن تلجأ إلى الله U وتحتمي به سبحانه وتعالى من هذا الغضب، ففي البخاري ومسلم( أنه قد استب رجلان عند النبي r فجعل أحدهم يغضب ويحمر وجهه وتنتفع أوداجه فنظر إليه النبي r فقال: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقام إلى الرجل ممن سمع النبي r فقال: هل تدري ما قال رسول الله r أنفا، قال: لا، قال: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال الرجل أمجنون تراني، فلو أنه قالها لانصرف عنه هذا الشيطان الرجيم) الذي يؤجج هذه النار في قلبه والعياذ بالله.
2-كذلك من الأسباب المعينة تذكر عظم ثواب كظم الغيظ، تستشعر الأجر الذي سيترتب على ذلك ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ كما قلنا في الآية قال بعدها ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
3-كذلك من الأسباب المعينة أن يسكت، والدليل على ذلك مر معنا في الحديث الماضي في قوله r «فليقل خيرا أو ليصمت» أما حديث «إذا غضبت فاسكت» هذا الحديث رواه أحمد وهو ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم وهو معروف بأنه ضعيف.
4-منها أيضا أن يجلس أو يضجع فعند أحمد وأبي داود من حديث أبي ذر أن النبي r قال: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضجع» هذا الحديث ،الصحيح أنه ضعيف لعلل فيه، هناك علل خفية في هذا الحديث وإن كان ظاهر إسناد أحمد الصحة، ولكن فيه علة خفية هي الانقطاع والإرسال، والاختلاف على أحد رواته، هذا الحديث صححه الشيخ الألباني ورجع عنه، كي لا يقول أحد أن الشيخ صححه، نقول أنه صححه نعم ولكن رجع عنه الشيخ في السلسلة الضعيفة وقال إنني كنت قد صححته وأرى الآن الرجوع عنه، أحب ذلك من أحب، وكره من كره، المراد هو رضا الله U.
الإنسان القائم أقرب إلى الانفعال من الجالس، تغيير الحركة يغير الدورة الدموية كما يقول علماء التربية، فلو غير حركة الدورة الدموية هدأ منها هذا أيضا يساعده على كظم غيظه وعلى ترك الغضب، وإن كان الحديث ضعيف.
5-كذلك مما يساعده أن تتفكر في قبح منظره أو في قبح منظر الغاضب عند غضبه من انتفاخ الأوداج احمرار العين، ارتفاع الصوت، ارتعاد الأطراف، كل هذا يعني زوال العقل أحيانا، كل هذا يجعل الإنسان يسكن غضبه.
6-كذلك أيضا من الأمور التدريب ورياضة النفس، يعني أذكر أن الإمام الغزالي حكى عن بعض الناس في زمانه أنه كان غضوبا جدا وأراد أن يدع هذه الحساسية وهذا الغضب جانبا، ماذا فعل؟ أتى برجل استأجره ليسبه على رؤوس الناس كل يوم، ليس معني ذلك أن تفعل هذا ولكن الإمام الغزالي كان غرضه أنه أحيانا العلة والنجاسة قد تكون متكاثفة فيبدأ يزيلها بما أخف ضررا منها حتى ينتهي إلى الفاضل هذا غرضه وكلامه، يعني تخيل أنا أذكر فقط أن هذا حدث فعلا أنه كان يأتي يسبه يعطيه أجر ليسبه على رؤوس الناس، مرة في مرة الإمام الغزالي حتى ضرب به المثل في الحلم، فإذن المسألة بالتدريب إن شاء الله تأتي.
7-كذلك أيضا الدعاء لله U وقال ربكم ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]. نسأل الله لي ولكم وللمسلمين أن يرزقنا الحلم والأناة.
8-كذلك أيضا من الأمور المساعدة إعطاء البدن حقه من النوم والراحة وعدم الإرهاق، فمن الملاحظ أن كثيرا من الناس إذا بحثنا عن سبب غضبهم نجده الإرهاق والتعب، وقلة النوم والجوع، قال r: «وإن لجسدك عليك حقا» فأي شيء يجعله ينفعل فنقول له أن لبدنك ليك حقا.
النبي r قصر الجواب مع تكرير السائل له على قول لا تغضب، أهل العلم يقولون لعموم نفع هذه الوصية لعموم المسلمين، النبي r كان يأتيه أحد الناس يسأله أوصني يقول لا تغضب، يأتيه آخر أوصني لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله، أوصني يقول مثلا صل رحمك، أوصني افعل كذا وكذا، تنويع الوصية حتى إذا ذكرت هذه الوصايا كان فيها اجتماعا لوصايا الخير كلها، فيه زيادة لهذا الحديث عند أحمد قال الرجل: ففكرت حين قال النبي r ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.
وكذلك أيضا قد يكون النبي r علم أن السائل يحتاج إلى هذه الوصية فعلم أنه غضوب مثلا، فأتاه فسأله فقال له لا تغضب، يعني لو أتاني أحد يقول أوصني وأنا أعلم أنه قاطع للرحم، أقول صل رحمك، يقول أوصني وصية أخرى، أقول صل رحمك، وأكرر عليه الوصية حتى يهتم بها، إنسان مثلا مقصر في شيء من الأشياء نقول له نوصيه به هذا وضع الدواء في المكان المناسب، كل إنسان يحتاج إلى دواء معين إلى خصلة لو تركها لانتفع نقول له افعل هذه الخصلة فهي أنفع لك.
يقول سفيان الثوري والفضيل بن عياض وغيرهما: (أفضل الأعمال الحلم عند الغضب والصبر عند الطمع)، وقال جعفر ؟: ( الغضب مفتاح كل شر)، وكان ابن عون: لا يغضب، فإذا أغضبه إنسان قال: (بارك الله فيك،)
من أروع القصص عن الحلم: قصة معن بن زائدة مع الأعرابي، معن بن زائدة هذا ولاه الخليفة المنصور أحد الأنصار،فكان حليما جدًا، فقال بعض الناس للإعرابي سنعطيك مائة بعير في مقابل أن تغضب معن بن زائدة،فدخل الأعرابي عليه يقول الأعرابي لمعن:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة
وإذ نعلاك من جلد البعير؟
فقال له معن: أذكر ذلك ولن أنساه.
فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكا
وعلمك الجلوس على السرير
فقال معن: إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء.
فقال الأعرابي:
فلست مسلما إن عشت دهرا
على معن بتسليم الأمير
يعني لن أسلمك عليك بسلام الأمير، لا أعطيك هذا الأمر.
فقال معن: السلام خير وليس في تركه ضير.
فقال الأعرابي:
سأرحل عن بلاد أنت فيها
ولو جار الزمان على الفقير
فقال معن: إن جاورتنا فمرحبا بالإقامة، وإن جاوزتنا فمصحوبا بالسلامة.
فقال الأعرابي:
فجد لي يا بن ناقصة بمال
فإني قد عزمت على المسير
فقال معن: أعطوه ألف دينار تخفف عنه مشاق الأسفار، فأخذها وقال:
قليل ما أتيت به وإني
لأطمع منك بالمال الكثير
فثن قد أتاك الملك عفوا
بلا عقل ولا رأي منير
فقال معن: أعطوه ألفا ثانية كي يكون عنا راضيا.
فتقدم الأعرابي إليه وقبل الأرض بين يديه وقال:
سألت الله أن يبقيك دهرا
فمالك في البرية من نظير
فمنك الجود والإفضال حقا
وفضل يديك كالبحر الغزير
ولنا تعقيب على فمالك في البرية من نظير لا النبي r كان أجود الناس -صلى الله عليه وآله وسلم-
فقال معن: أعطيناه على هجونا ألفين فليعطى أربعة على مدحنا.
فقال الأعرابي: ما بعثني على ما فعلت إلا مائة بعير جعلت لي على إغضابك.
فقال له الأمير: لا تثريب عليك ووصله بمائتي بعيرا نصفها للرهان، والنصف الآخر له.
و مما يضرب به الحلم الكبير الأحنف بن قيس: والأحنف كان عجيبة من عجائب الزمان، الأحنف بن قيس هذا كان أعور العين، وكان أحول مع العور، وكان محدودب الظهر، وكان عنده حنف في ساقيه، اعوجاج في الساقين، وكان أسود شديد السواد، وكان قصيرًا، تخيل كل هذه الأوصاف ولكن ساد قومه بسبب الحلم.
يقولون الأحنف بن قيس أتاه رجل من السفهاء فضربه على وجهه بالقلم، قال: ما الذي حملك على ما فعلت؟
قال: حملني قومي على أن أضرب الأحنف بن قيس لأغضبه، قال: لست أنا الأحنف هذا هو الأحنف، وأشار إلى فارس مغوار غضوب، فذهب إليه هذا الرجل فضربه على وجهه فأمسك به ثم قطع له لسانه، يقولون أيضا الأحنف بن قيس هذا سبه رجل وجدع له في السب يا ابن كذا، ويا أمك كذا، سب شديد جدا، حتى وصل إلى قريته فوقف على باب القرية وقال يا هذا هل تبقى في نفسك شيئا من شتمي، فإن كان فاشتمني سرا حتى لا يسمع بك قومي فيضربوك، .
ولعلي حكيت لكم أن الأحنف سئل ممن تعلمت هذا الحلم الكبير؟ قال: من سيد بني تميم، من سيد قومي، قال: وكيف كان؟ قال: سأذكر لكم موقفًا كان جالسا في مجلس مع كبار القوم وكان محتبيا ،يقص على القوم قصة، فأتى أحد أولاده وقال: يا أبتي قد قتل ابن فلان ولدك، فما فك حبوته، وقال لابنه: غسله فإذا كفنته فادعوني لكي أصلي عليه، ثم قال: يا بني أعطي أمك مائة بعير دية القتل الخطأ، وقد عفوت عن ابن فلان، أنا والله لما تتعجب في القصة، الرجل هذا فعلا فعل قمة العقل، لماذا؟ لأن الذي قتل طفل صغير صح، والذي قتل هذا قتل خطأ، فغاية ما هناك أن نجلس في مجلس ونقول أن هذا الطفل الذي قتل يستحق الدية صح، وهذا الولد لن يقاد به لن يقتل به شرعا، فالمشكلة في الآخر ستكون قاصرة على الدية، والولد مات لا يستطيع أن يرده مرة أخرى، ولكن أقول هذا بالتعلم، الصبر، بالتعلم الحلم، وتشرب الحلم، وكظم الغيظ حتى نصل إلى هذا الخلق.
ولذلك شعارنا هذا الأسبوع وأنا معكم وأسأل الله U أن يعينني ويعينكم شعارنا هذا الأسبوع لا تغضب، نجرب أنا أريد معك أن يكون معك نوتة صغيرة كلما غضبت قيد أنك غضبت بسبب كذا، ثم نرى كما مرة غضبنا وكم مرة استطعنا فعلا أن نكظم الغضب والغيظ.
أسأل الله العلي العظيم أن يثبتنا على هذا الخلق، على الحلم، وأن نترك هذا الغضب الذي كدر علينا حياتنا وأصابنا بأمراض بدنية، وأمراض نفسية وغيرها من الأمراض.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
انتهى الدرس السادس عشر أختكم أم محمد الظن