سرد المتن الحكائي في أسلوب الرسول (صلى الله عليه وسلم)/ بقلم محفوظ فرج إبراهيم
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ

عَنْ أبي سعيدٍ الخُدْري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(احتَجّتْ[1] الجنّةُ، والنارُ فقالتِ النارُ :فيَّ الجَبّارونَ، والمُتكبّرونَ، وَقالتِ الجنّةُ: فيَّ ضعفاءُ النّاسِ، وَمَساكينهمْ ،فَقضى اللهُ بينهما:إنّكِ الجنّةُ رَحمتي أرْحمُ بِكِ مَنْ أشاءُ،وإنّكِ النارُ عَذابي أعذّبُ بِكِ مَنْ أشاءُ،ولكليكما عليَّ مَلؤها) أخرجه مسلم 2847ج17: 149،وأحمد في المسند 3/79 ،وأبو يعلى في مسنده 1172 ،ورياض الصالحين للإمام النووي رقم 254


ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــ

إن طريقة العرض في هذا الحديث النبوي الشريف وردت بأسلوب الخبر القائم على طريقة سرد المتن الحكائي؛[2]بواسطة الراوي العليم[3] وهي طريقة سلسة سهلة يتلقفها المتلقي لما فيها من تشويق فقد اختصر السرد[4] معتمدا على الحوار[5] بوضوح فهنالك حدث وهو الاحتجاج والصراع مشخصا بمتضادين( الجنة، والنار) استعار الرسول الكريم لهما لازمة من لوازم المشبه به وهو الكلام فشخصهما باستعارة مكنية. ولابد لنا أن نلاحظ كيف ابتدأ الحديث الشريف بتقديم الجنة على النار في ( احتجت الجنة والنار) فالجنة لها الأولوية في قوة الحجة وهي مبعث سكينة وانشراح صدر في بداية الحديث ولكن لما كانت النار هي التي بدأت الاحتجاج قدم قولها (فقالت النار)

فالمشخصات المتناقضة بحدة (جنة ، نار ) قد استوعب الداخل منها شخوصا عمقت ذلك التضاد فالجنة استوعبت ضعفاء الناس، ومساكينهم، والنار استوعبت الجبارين والمتكبرين، وذلك الاحتجاج الصادر من طرفي النار، والجنة وضع الله سبحانه وتعالى حدا له حين قضى بينهما بإخبار مؤكد يدفع كل شك عن ان المتحاورين الجنة والنار هما موصوفان بما أراد الله لهما سبحانه وتعالى، وكما هما متقابلتان بحدة، ومتوازنتان في البناء من حيث الإسناد فإنهما في صفتيهما أيضا متناقضتان
إنك الجّنةُ رحمتي أرحمُ بكِ من أشاء
إنك النّارُ عذابي أُعذّبُ بكِ من أشاء

وحين نعود الى بناء الجمل في الحديث النبوي الشريف حين جعل الجنة والنار يتحدثان كان أسلوب القصر[6] التوكيد (تقديم ماحقه التأخير) تعتمد عليه الجملة حيث قصرت النار فضاء مكانيا على الجبارين والمتكبرين، وقصرت الجنة فضاء مكانيا على ضعفاء الناس، ومساكينهم ؛ فقد تقدم الخبر (فيّ) على المبتدأ المعرفة (الجبارون والمتكبرون )، و (ضعفاء الناس ومساكينهم) ، وحين أراد رب العزة أن يقصر أمرهما عليه سبحانه وتعالى أيضا تقدم الخبر (عليّ ) على المبتدأ المعرفة ( ولكليكما عليّ ملؤها ) . ومهما حصل اختلاف في رواية الحديث الشريف فان البنية التركيبية له تظل واحدة على الرغم من التغيرات التي تحصل في بعض المفردات ؛فلنا ان نعود الى الدقة في التعبير من خلال المقابلة بين ( الجَبّارون ـ صيغة المبالغة ـ ،والمتكبرون ـ اسم الفاعل ) وهم في النار فجمع المذكر السالم في سلامة جمعه ينسجم مع القوة لهؤلاء مع ملاحظة التشديد في حرف الإطباق الانفجاري (الباء) في الجبّارين والمتكبِّرين الذي يشير الى طغيانهم وتعنتهم في الدنيا.

وفي المقابل المكان الجنة الذي يسكنه (ضعفاء الناس، ومساكينهم ـ الصفة المشبهة ) جمع تكسير وذلك ينسجم أيضا مع الضعفاء، والمساكين في تواضعهم لانكسار الحالة لديهم في الدنيا وثباتها متناغمة مع حرف المد المتناهي في ضعفاء ومساكين
وحين نتدبر الملامح الفنية التي ارتفعت بذلك الحديث من حيث الصورة وحددت خطوطها، وألوانها سنجد أن تشخيص المسند إليه ( النار ،الجنة) والتوازن المتكرر في الجمل، والذي أفضى الى التشابه من حيث بناء الجمل كما في ( قالت النارُ[7] فيَّ الجبارون والمتكبرون
قالت الجنة فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم)
وقول الله عز وجل
انك الجنة رحمتي ارحم بك من أشاء
انك النار عذابي أعذب بك من أشاء

كل ذلك كان له أثر كبير فضلا عن ذلك الطباق والمقابلة، والتكرار فالطباق والمقابلة؛ وضعا الحدود بين الصورتين ، أما التكرار فقد ساهم في إيصال إيقاع داخلي، وخارجي يحدد لغة كل من المتضادين فقد تكررت (قالتْ ) و ( فيَّ ) و (إنكِ و ( بكِ ) و (من أشاء ) ولعل ذلك كان له من حيث الموسيقى ما يرتفع بمستوى التعبير الذي يساهم في جمال الصورة الفنية، وتناسقها.

وفي كل ذلك لا يمكن للمتلقي أن ينظر الى الصورة الفنية من جانب واحد فمشهد الحوار بكليته يفضي به الى وحدة الصورة العضوية القائمة على وحدة الموضوع؛
فالحوار في النصوص الإبداعية النثرية والشعرية هو علامة للوحدة الموضوعية
وهذا الحديث في نصه الغائب هو ترغيب في الجنة وترهيب رمن النار التي هي مكان الطغاة والجبابرة الذين لم يمتثلوا لتعاليم الله ورسوله فخرجوا عن الطاعة، وترغيب في الجنة فهي مكان ضعفاء الناس ومساكينهم أمام الله سبحانه وتعالى في خشوعهم له وطاعته في الدنيا فالضعف لا يقتصر على ضعف البدن والبأس وقلة المال.

محفوظ فرج / سامراء 1432هـ
من دروسي التطبيقية في تحليل النص الأدبي



[1] الحجة : البرهان وقيل الحجة : ما دوفع به الخصم ، وقال الأزهري : الحجة الذي يكون به الظفر عند الخصومة لا، وهو رجل محجاج أي جَدِلٌ: والتحاج التخاصم ، لسان العرب 4: 38 واحتجت بتشديد الجيم أي تخاصمت الجنة والنار والمقصود حكاية ما يقع بينهما مما اختص به كلٌ منهما وفيه شائبة من معنى الشكاية ، رياض الصالحين : النووي عني بمقابلة أصوله والتعليق عليه رضوان محمد رضوان المكتبة التجارية الكبرى مصر القاهرة :130

[2]المقصود بالمتن الحكائي: الدراسة التي تأبه بزمنية ومنطق تنظيم الأحداث التي تتضمنها الرواية، تلك الأحداث المتصلة فيما بينها والتي يخبرنا بها النص الروائي. أما المبنى الحكائي فهو الدراسة التي تعني بنفسمجموعة أحداث المتن الحكائي، بيد أنها لا تهتم بالقرائن الزمنية والمنطقية للأحداثقدر اهتمامها بكيفية عرض هذه الأحداث وظهورها في النص الروائي تحليل الخطاب الروائي، سعيد يقطين . : "الزمن - السرد – التبئير"، ط 1، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1989م ص73 .
3 السرد: narrative هو ذكر توالي الأحداث والأفعال والأقوال ونسلسلها في الحكاية والقصة وغيرهما من النصوص المكتوبة / بنية النص السردي د. حميد لحمداني المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 1993 ص46
4الراوي العليم وهو الذي يصف ما يراه ويقدم الأحداث والشخصيات بحيادية وصفية ،ينظر المتخيل السردي ، عبد الله إبراهيم المركز الثقافي العربي، بيروت، دار البيضاء، ط1، 1990، ص 119
5الحوار في اللغة مصدر حاور وهو حديث يجري بين شخصين او أكثر كما يطلق على الجدال والمجاوبة قال تعالى ( قال له صاحبه وهو يحاوره ) الكهف 27 والحوار النبوي أسلوب راق من أساليب الدعوة والتعليم لان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتشف من خلاله ما عند الصحابة من أفكار وان يصحح ما علق في أذهانهم من أفكار خاطئة وان يحل الإشكالات التي تعترض طريق الفهم عند الصحابة وكان يحثهم من خلاله على إعمال الذهن وكد الفكر.
وللحوار في الحديث النبوي طرق متعددة منها أن يورد الرسول صلى الله عليه وسلم سؤلا مشوقا ويرغبهم ان يعرفوا الجواب مثال ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات ..... الحديث ) صحيح مسلم 251 وهناك أحاديث صيغت على شكل قصص قصيرة قصها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين للعضة والعبرة والدعوة وكان الحوار فيها دعامة القصة وأساس أصيل فيه كما في الحديث الذي نحن بصدده عن رسالة للدكتور محمد أبو العلا الحمزاوي نقلا عن محمد لطفي الصبّاغ، ط5، الحديث النبوي مصطلحه، بلاغته ،كتبه،محمد لطفي الصباغ ، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، 1407هـ ، 1986م ص84 ـ90
[6]القصر : القصر لغة هو الحبس كقوله تعالى ( حور مقصورات في الخيام) لسان العرب دار صادر 12 ص 117 والقصر اصطلاحا :هو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص للقصر عدّة طرق ،منها:
1 النفي والاستثناء،نحو: "لا يدوم إلاّ الله عزّوجلّ" ويكون المقصور عليه بعد حرف الاستثناء.
2
إنّما،نحو.: "إنّما الحياةجهاد". ويكون المقصور عليه مؤخّرا.
3
لا العاطفة، نحو: "شربت ماء لا خمرا". ويكون المقصور عليه مقابلا لما بعدها.
4
بل العاطفة، نحو: "ما شربت خمرا بلماء". ويكون المقصور عليه بعدها.
5
تقديم ما حقّه التأخير، نحو: "عن المجرميننبحث".ويكون المقصور عليه هو المقدّم،. ينظر في القصر الايضاح في علوم البلاغة،الخطيب القزويني ت739 هـ ج1 في علم المعاني، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة ص 118


[7] وردت نسبة القول للنار في القرآن الكريم قال تعالى ( يوم نقول لجهنم هل امتلأتِ وتقول هل من مزيد) ق30 ونسبت لها الرؤية أيضا قال تعالى ( إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيضا وزفيرا) الفرقان 12