الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومن والاه، أمَّا بعدُ:
انتشر في بعض المنتديات الإلكترونية مقالاتٌ تَذْكِيرِيَّةٌ تنبني على دفع القارئ إلى تصوُّرٍ معيَّن، ثم يبدأ البناء على هذا التصوُّر؛ وهو تصوُّر أنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - يَطرُق بابَك .. فهل ستُعانِقُه أم أن رائحة السجائِرِ ستمنَعُك؟!
هل ستُجْلِسه في حجرة المعيشة ليُشاهِدَ العُرْيَ الذي تسترق الأوقات لتَراه بمُفْردِكَ، أم أنَّك ستَسْتَحْيِي منهُ أن يَراكَ على هذه المعصيةِ؟!
هل ستدْعُو أُختَك وزوجتَك للسلام عليه أم أنَّ لباسَهُنَّ المبتذلَ الذي تسمح به سيَمْنَعُكَ؟!
إلى آخر تلك الأشياء
وغرض القائمين على تلك المشاركات، المقارنةُ بَيْنَ حالِهِ عِنْدَ التَّلَبُّس بالمعصية وحالَتِهِ لَوْ لَقِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولعلَّ هذا يحفز بعض النفوس على الاستحياء من الله تعالى؛ فَمَنْ أحسنَ العملَ لِعِلْمه بنظر النبيِّ إليه فإنه ينبغي أن يُحسنه لعلمه بنظر الله إليه، وهو قريب منه ومطَّلع على سره وعلانيته.
وَقَدْ يُستدل لهؤلاء بِقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: ((أقيموا صفوفَكم وتراصُّوا، فإنى أراكم من وراء ظَهْرِي)) وفي رواية ((هل ترون قِبْلَتِي ها هنا فوالله ما يخفَى عليَّ خشوعُكم ولا ركوعُكم، إنى لأراكم من وراء ظهري))؛ رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "وقد سُئل عن الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته إياهم دون تحذيرهم برؤية الله تعالى لهم، وهو مقام الإحسان المبيَّن في سؤال جبريلَ كما تقدَّمَ في كتاب الإيمان: ((اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراك)) فأُجيبَ بأنَّ في التَّعْلِيلِ بِرُؤيتِهِ - صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم - تنبيهًا على رؤية الله تعالى لهم، فإنهم إذا أحسنُوا الصلاةَ لكَوْنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يراهم أيْقَظَهُمْ ذلك إلى مُراقَبَةِ الله تعالى، مع ما تضمَّنه الحديثُ من المعجزة له - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولكونه يُبْعَثُ شهيدًا عليْهِم يومَ القِيامَةِ فإذا علِمُوا أنَّه يراهم تحفَّظوا في عبادتهم ليشهد لهم بحسن عبادتهم". اهـ.
وإن كنا نرى أن الاقتصار على هدي السلف الصالح في الموعظة بتقوية المراقبة عند العبد أولى وأحرى؛ قال ابنُ رجب الحنبلي في "فتح الباري": "وقد وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - طائفةً من أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه، منهم: ابن عمر، وأبو ذَرٍّ، ووصَّى معاذًا أن يستحْيِيَ منَ الله كما يستحْيِي من رجُلٍ ذي هَيْبَةٍ من أهله.
قال بعض السلف: مَن عمِل لله على المشاهدة فهو عارف، ومَن عمِل على مشاهدة الله إيَّاه فهو مخلص:
فهذانِ مقامان: أحدُهما: مقام المراقبة، وهو أن يستحضر العبدُ قُرْبَ الله منه، واطّلاعه عليه فيتخايَل أنَّه لا يزال بين يديِ الله؛ فيراقبه في حركاته وسكناته، وسِرِّه وعلانِيَتِه، فهذا مقام المُراقِبِينَ المُخْلِصين، وهو أدنى مقام الإحسان، والثاني : أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة فيصير كأنه يرى ا ويشاهده ، وهذا نهاية مقام الإحسان ، وهو مقام العارفين . ". اهـ.