البنية الدلالية في الحديث النبوي الشريف / محفوظ فرج إبراهيم





قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تزال أمتي بخير ما لم تر الغنى مغنما والصدقة مغرما)[1]


ـــــــــــــــ ــــــ


وهذا حديث شريف ورد بجملة فعلية وبالفعل المضارع الناقص الدال على استمرار بقاء المبتدأ موصوفا بالخبر في ظرف زمان لم تكن هذه الأمة ترى الغنى مغنما والصدقة مغرما ولكنها حين ترى ان المال وجمعه غنيمة وفي الصدقة غرامة فسوف يحل بها السوء.

ان ذلك الاستمرار في بقاء الأمة بخير ارتبط بجملة (مصدرية ظرفية) هي التي تسوغ استمرار المسند إليه موصوفا بالمسند ( ما لم تر الغنى مغنما والصدقة مغرما) و (ما) هنا قد أوجزت مضمونا هو (مدة دوام عدم رؤية الأمة ان الغنى مغنم ومدة دوام عدم رؤية الأمة ان الصدقة مغرم) والفعل ترى من أفعال القلوب أي تحولت هذه الرؤية الى الداخل وأصبحت كمعنى الفعل يقينا وقناعة ولذلك كان تعدي الفعل الى مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر و(ما) المصدرية الظرفية إنما تدخل على الفعل الماضي والفعل المضارع المجزوم ب(لم) .
وقد ورد المصدر مؤولا وليس صريحا لان ذلك يوضح الزمن المقصود في الخطاب النبوي.

والبنية التركيبية للحديث الشريف قد احتوت المعنى بأوجز لفظ وأدقه من حيث التطابق مع الفكرة وإيصالها.

أما المستوى البلاغي فانه يدور في فضاء البديع الذي جمع بين تحسين الكلام من حيث الشكل وانسجامه مع مدلول الحديث في كل مفردة (الغنى مغنما والصدقة مغرما ) إذ ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقد المعنى نحو الطباق ولا التجنيس بل ان المعنى هو الذي قاد إليهما وعبر الفرق عليهما حتى انه لو رام تركهما الى خلافهما مما لا تجنيس فيه ولا طباق ولا سجع لدخل من عقوق المعنى وإدخال الوحشه إليه في شبيهٍ بما ينسب إليه التكلف للتجنيس المستكره والسجع النافر ، ولن تجد أيمن طائراً، وأحسن أولا وآخراً، وأهدى الى الإحسان ، وأجلب للاستحسان من أن تُرسل المعاني على سجيتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ ، فإنها إذا تركت لم تكتس إلا ما يليق بها ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها
[2] وهذا ما حصل في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد التجنيس والطباق والسجع والتوازن الصرفي في مفردات الفواصل منسجما في الدلالة مع المدلول[3]

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــ


[1] لا تزال من الأفعال الناقصة ( مازال، مابرح، ما فتئ، ما انفك) وهذه الأفعال تدل على استمرار الفعل واتصاله بزمن الأخبار
وغرم فلان مُغرًم: مثقل بالدين / أساس البلاغة 536
الزكاة مَغرَما أي يرى رب المال أن إخراج زكاته غرامة يغرَمُها / لسان العرب 11/ 41 وقد تكرر في الحديث ذكر الغنيمة والمغنم والغنائم وهو ما أصيب من أموال أهل الحرب وأوجف عليه المسلمون الخيل والركاب / لسان العرب 11/ 93

[2] ينظر أسرار البلاغة 20ـ 21


[3] في اعلام النبوّة للماوردي قال ( من كلامه الذي لا يشاكل في فصاحته قوله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ إياكم و المشاورة فإنها تميت الغرة و تحيي الفرة ] و قوله : [ لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنما و الصدقة مغرما ] و قوله : [ رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم ] و قوله : [ اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع و نفس لا تشبع و قلب لا يخشع و عين لا تدمع ] وقوله : [ هل يطمع أحدكم إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو الدجال فهو شر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى و أمر ] وقوله : [ ثلاث منجيات و ثلاث مهلكات فأما المنجيات فخشية الله تعالى في السر و العلانية و الاقتصاد في الغنى والفقر و الحكم بالعدل في الرضا و الغضب و أما المهلكات فشح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه ] و قوله : [ و تقبلوا لي بست أتقبل لكم الجنة قالوا : و ما هي يا رسول الله ؟ قال إذا حدث أحدكم فلا يكذب و إذا وعد فلا يخلف و إذا ائتمن فلا يخن غضوا أبصاركم و احفظوا فروجكم و كفوا أيديكم ] و قوله [ في بعض خطبه : إلا أن الأيام تطوى و الأعمار تفنى و الأبدان في الثرى تبلى و إن الليل و النهار يتراكضان تراكض البريد يقربان كل بعيد و يخلقان كل جديد و في ذلك عباد الله ماألهى عن الشهوات ورغب في الباقيات الصالحات ] و قوله [ في بعض خطبه و قد خاف من أصحابه فطرة : أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب و كأن الحق فيها على غيرنا و جب و كأن الذي يشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم و نأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم قد نسينا كل واعظة و أمنا كل جائحة طوبى لمن شغلته آخرته عن دنياه طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ] و هذا يسير من كثير و لا يأتي عليه إحصاء و لا يبلغه استقصاء وغنما ذكرنا مثالا ليعلم أن كلامه جامع لشروط البلاغة و معرب عن نهج الفصاحة و لو مزج بغيره لتميز بأسلوبه و لظهر فيه آثار التنافر فلم يلتبس حقه من باطله و لبان صدقه من كذبه هذا و لم يكن متعاطيا للبلاغة و لا مخالطا لأهلها من خطباء أو شعراء أو فصحاء و إنما هو من غرائز فطرته و بداية جبلته و ماذاك إلا لغاية تراد و حادثة تشاد)أعلام النبوةلأبي الحسن علي بن محمد الماوردي المتوفى 450تعليق محمد المعتصم بالله البغدادي دار الكتاب العربي بيروت لبنان الطبعة الاولى 1987م / 1407ه ص 46



ـــــــــــــــ ـــــــــ



من كتابي (في أسلوب الحديث النبوي الشريف) محفوظ فرج إبراهيم
وهو درس تطبيقي في تحليل النص الأدبي