مما لا ريب فيه صحة ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من اتباع النقل (الكتاب والسنة و إجماع الصحابة ).
بعد تحقق شرطين هما ثبوت النص-وهذا أمر لا يحتمل الشك عند تعلقه بالآيات القرآنية و يرجع فيه إلي علماء المتن عند تعلقه بالأحاديث النبوية-، وصحة دلالته -بيقين أو برجحان- على ما استُدل به عليه وهذا يرجع فيه إلى لغة العرب(١) و إلى ما يفسره من آيات و أحاديث أخرى.
وعند تحقق الشرطين المذكورين آنفاً يكون الحديث دليلاً بحد ذاته؛ لأنه من شريعة الله المطهرة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وإن كان محمد أركون طالب بإخضاع القرآن الكريم لأدوات النقد والتحليل فقد ضل ضلالاً مبينا.
أما إجماع الصحابة فهو -إذا ثبت- يقتضي ثبوت صحة التفسير؛ فالقرآن نزل بلغتهم، و ثبوت النص المنسوب إلى رسول الله -إن كان ثمة نص-.
أما اختلاف أهل العلم فله أسباب خمسة هن:

١- الإختلاف في مدى صحة النص
قال ابن حزم : "كفعل عمر في خبر فاطمة فاطمة بنت القيس، وكفعل عائشة في خبر الميت يعذب ببكاء أهله"
٢- الإختلاف في تأويله
كاختلاف الصحابة في فهم قوله -صلى الله عليه وسلم- "لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريضه"(٢)
٣- الجهل بالنص
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمر -رضي الله- قوله: "خفي علي هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالأسواق"
وللجهل بالنص أوجه أخرى كأن لا يصل الفقيه المجتهد إلا حديث ضعيف فيعمل باجتهاده رغم وجود ما هو أقوى منه.
٤- نسيانه عند الإفتاء
كما نسي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله تعالى لرسوله (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) عندما توعد بقتل من قال بوفاة محمد صلى الله عليه وسلم.
٥- تذكر الحديث المنسوخ و الجهل بنسخه : كما نهى ابنُ مسعود علقمة عن وضعه ليديه على ركبتيه جهلاً منه بنسخ الأمر بتطبيق اليدين ووضعهما بين الركبتين(٣).
و ابن حزم -رحمه الله- هو أول من كتب في أسباب الاختلاف -والله أعلم- وذكر عشرة أسباب رحمه الله(٤).
ولو بحثنا عن أسباب الإختلاف إجمالاً -في الفقه وغيره- لوجدنا أنها تعود إلى الإختلاف في الفهم و العلم والأخير بحر واسع متابينة ألوانه، ولا غرو في اختلاف الفهم؛ لإن العلم -وهو ما يستنتج منه العقل ويستنبط- مختلف لاختلاف المصادر التي يؤخذ منها.
فمن بلغه علمٌ لم يبلغ إمامه، أو وفقه الله إلى فهم ما لم يدركه شيخه فعليه أن يمحص علمه وفهمه ثم يفتي -إن كان أهلاً للإفتاء- غاضاً الطرف عن مخالفة فلاناً له.
فإن قُلتَ: لابد لي من اتباع ذوي الثقافة و الدراية لكونهم أعلم مني
قلتُ(٥): أما في الفقه والدين فلا بد للعوام من اتباع الأئمة الموثوق بعلمهم ودينهم إلا في حال مخالفتهم للأدلة الواضحة الجلية فإنهم يناصحون ويحاورون حينها؛ لكون علوم الدين متعلقة بعلاقة العبد بربه، وأما في غير ذلك من العلوم فلا بأس في أن يجتهد المرء بعرضه لما يقرأه من أفكار على ما يسميه ابن عقيل الظاهري: معايير نظرية المعرفة الثلاثة وهن: الحق و الخير والجمال.
وقد دخل شابٌ على أحد حاملي العلم فحدثه حديثاً فقال العالم: لم أسمع بهذا، فرد الشاب: أتعرف العلم كله؟ فقال: لا، فرد أشطره؟ فقال: لا، فرد: لعل هذا من الشطر الذي لا تعرفه.
والإختلاف سنة من سنن الله في خلقه، لذا فأتباع أراء فلان دون تفكير مخالفة لطبيعة العقل التي فطره الله عليها.
و قد قال مالك: كل يؤخذ من قوله و يرد إلا صاحب هذا القبر (يعني قبر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-)
المتمعلمون وحدهم هم من يجترون الرأي اجتراراً و يتبعون إمامهم اتبعاً كاتباع القطيع للراعي حتى و إن جانب الصواب.
وباب الإجتهاد في الفتوى مفتوح-وهذا لايعني أن يلج فيه العوام أو أن يلجلج فيه أهل العلم-(٦) بل يتبع الدليل و إن خالف قول أعظم الأئمة.
وقبول الفقهاء لأقوال أئمتهم دون تأمل و بحث يؤدي إلى ارتكاب ما سبق ارتكابه في سالف العصور من أخطاء في الفتوى.
فأقوال العالم فلان ليست دلائلاً لذاتها بل هي دلائل إن كان فيها براهين على صحة الرأي .
ويستدل بها أيضاً على صحة وقوة البرهان و الحجة أعني أن يقول الفقيه -بعد أن يسوق رأيه وبرهانه-: ووافقني في هذا فلان.
وتمحيص النصوص وغربلتها لا يقتصر على الفقه ولو كان أولى العلوم بالإعتناء؛ فمحمود شاكر -رحمه الله- سمى أسلوبه في القراءة :التذوق، فهو لا يدع كلمة إلا غربلها وحللها وأنهك عقله في تفسيرها وهذا لم يذهب هباءً بل جنى ثماره اليانعة، فهو الذي قال: "وشيئا فشيئا انفتح لي الباب على مصراعيه. فرأيت عجبا من العجب، وعثرت يومئذ على فيض غزير من مساجلات صامتة خفية كالهمس، ومساجلات ناطقة جهيرة الصوت، غير أن جميعها إبانة صادقة عن الأنفس والعقول"(٧)
و منهج هذا الأديب الأريب لم يقتصر على القراءة الأدبية وحسب بل شمل شتى أصناف العلوم والفنون، وقد وضح هذا بقوله:" إن الإحساس القديم المبهم المتصاعد بفساد الحياة الأدبية. قد أفضى بي إلى إعادة قراءة الشعر العربي كله أولا.ثم قراءة ما يقع تحت يدي من هذا الإرث العظيم الضخم المتنوع من تفسير وحديث وفقه، وأصول فقه، وأصول دين هو علم الكلام وملل ونحل إلى بحر زاخر من الأدب والنقد والبلاغة والنحو واللغة، حتى قرأت الفلسفة القديمة والحساب القديم والجغرافية القديمة، وكتب النجوم، وصور الكواكب، والطب القديم، ومفردات الأدوية، وحتى قرأت البيزرة والبيطرة والفراسة. بل كل ما استطعت أن أقف عليه بحمد الله سبحانه، قرأت ما تيسر لي منه، لا للتمكن من هذه العلوم المختلفة، بل لكي ألاحظ وأتبين وأزيح الثرى عن الخبء المدفون(٨)"
و لم يكن منهجه -رحمه الله- مجرد تنظير يستعصي تطبيقه؛ فقد طبقه على قصيدة ابن أخ الشاعر الجاهلي تأبط شراً في كتابه: نمط صعب ونمط مخيف، وسعى فيه إلى إنشاء منهج يقوم على تحليل القصيدة بدراسة صاحبها وبيئته والألفاظ الدارجة فيها، فناقش في بداية كتابه مدى صحة نسبة القصيدة إلى ابن أخ تأبط شرا؛ فقد كان مؤمناً بما بين النص وكاتبه من علاقة وطيدة، وتجلة موافقته للصواب في كتابه المشار إليه آنفاً.
وغض الطرف عن علاقة النص بكتابه خطأ قد نرجعه إلى السهو، أما الدعوة إلى ما يسمى بنظرية موت المؤلف فذاك الخبال بعينه.
ثم شرع -رحمه الله- في تحليل القصيدة وفق منهجه، ثم شرحها بألفاظه الرشيقة و أسلوبه الموضوعي تارة والساخر تارة أخرى، فكانت المحصلة خروجه لنا بمنهج رفع من شأن لغة الضاد في زمن حط فيه الناس من شأنها.
وكان غرضه رحمه الله تذوق الجمال الموارى تحت الكلمات بإطالة التأمل والدراسة وبما يملكه من حس جمالي.
وهذا المنهج عند الشيخ الفحل ابن عقيل الظاهري ويسميه "حك النصوص " متبعاً شيخه ابن غضون الذي سبقه لهذا، وغرضه بهذا "الحك" تجريد البديهة من السلطة ومنحها للعقل الناقد متبعاً أساليبه و طرائقه وهن -كما يقول-:"(ومنذ أعوام انسلخت من تقليد الظاهرية، وأخذت بأصل (الأخذ بالظاهر، والاكتفاء به) باجتهاد مضنٍ حسب وسائلي العلمية المضنية أيضاً، وهي (التفقُّه في لغة العرب)، و(التأصيل لنظرية المعرفة وآداب البحث والمناظرة)، و(الاستقصاء العلمي للأمهات العلمية الفكرية في المسألة)؛ فإذا حزبتني مسألة فقهية اخترتُ كتب الفقه المقارن ككتب الشافعي وابن جرير والطحاوي وابن حزم وابن عبد البر رحمهم الله تعالى، ولا أرمق كتب الفروع التقليدية التراكمية بمُؤْخِرة عيني إلا للعبرة أو توثيق السيرة التقليدية؛ فإن خطر في المسألة بحث لغوي لم ألجأ إلى الكتب الحشوية كالقاموس ولسان العرب، بل أرجع أولاً لأهل الأصول اللغوية والتحقيق كالأزهري وابن فارس وقبلهما ابن دريد بتحفُّظ والراغب والزمخشري والسمين رحمهم الله تعالى؛ فإن أردت الاستيعاب والتمحيص راجعت تاج العروس؛ فإن عرض لي بحث فكري لم أبالِ بأي مصدر أرجع له ولو كان مثل ابن ميمون اليهودي، أو القاضي عبد الجبار المعتزلي، أو أبو حامد الغزالي على تذبذبه رحم الله الأخيرين منهم ـ؛ لأنني بحمد الله أحكمتُ نظرية المعرفة٩)".
أما ما يخصنا نحن -بعيداً عن ابن عقيل وأبي فهر- فعسانا أن نقرأ وحسب!
------------
(١) لهذا نصح أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري بألحاق خبراء اللغة بهيئة كبار العلماء. انظر: مقابلته مع ملحق جريدة المدينة المسمى بالرسالة.
(٢) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(قال النبي -صلى الله عليه وسلم الأحزاب: لا يصلين أحدكم إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحداً منهم) [متفق عليه، واللفظ للبخاري].
(٣) أنظر: أسباب الإختلاف وموقفنا منه لابن عثيمين.
(٤) أنظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم المولود في القرن الثالث بعد الهجرة، و أوليات ابن حزم لم تقتصر على ذكر أسباب الإختلاف فقد كان من أوائل من امتحنوا في الأندلس فحرفت كتبه وغسلت كتبه لمجابهته لأهل الباطل بكل قوة وشجاعة، فهو من حارب عباس بن أصبغ ولم يبال.
(٥) إستققت أسلوب عرض أراء المخالف لما أقوله ثم الرد عليها من الزمخشري، وأنظر إن شئت: الكشاف، وقد فسر في كتابه هذا القرآن حسب آرائه المعتزلية.
(٦) قال ابن المنظور: " لجلجَ الرجل لجلجة وتلجلج تلجلجًا تردَّد في الكلام. وفي صدرهِ شيءٌ تردَّد. ومنهُ الحديث. الكلمة من الحكمة تكون في صدر المنافق" و المقصود من العبارة هو الإشارة لأهمية الفقه و الإفتاء لذا وجب على حاملي العلم الشرعي أن يمحصوا فتاويهم وأن لا يدفعهم خوفهم من الإجتهاد الخاطئ إلى نقل آراء أئمتهم دون غربلة وتمحيص، فلو قال حاملوا العلم: لا نعلم عند ما يدعوا الأمر لذلك لتقلصت الفتاوى بل ربما ذهب ثلاثة أرباعها. وللعلم أنا لم ألج باب الفقه فأنا لست مؤهلاً لذلك، وكل ما قلته في مقالي هذا يدخل في باب النصح وقد جعلت كلامي عن الفقه مدخلاً لغيره من العلوم، وقد جاء في صحيح مسلم ما نصه:( عن تميم الداري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال : الدين النصيحة قلنا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )
(٧) أنظر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، وقد أخذت النص من الشبكة فربما كان فيه بعض التصرف.
(٨) أنظر في كتابه: المتنبي.
(٩) أنظر: لقاءه مع ساري الزهراني في ملحق جريدة المدينة المسمى بالرسالة.

وكتبه: أبو أحمد ابن عبدالعالي.