أذكر عندما كانت صحيفة النور تُصدر مقالات لغلام بيطري جاهل، فقد كان يكتبها تحت عنوان: "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" ونحن نعلم أن أكثر الناس مغرم بالعناوين، يحفظون العناونين وينسون المضامين، لذلك كان هذا الكاتب المخذول ناجحاً باختيار العنوان لما يريد هو، لمّا قال: "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" الناس نسوا ما قاله هذا الكاتب المغبون وحفظوا العنوان، والإنسان كلما عنون بعنوان يدل على المضمون كان موفقاً، وإلا فالعناوين المبهمة لا تؤدي الغرض.
فمثلاً
السيوطي رحمه الله له كتاب اسمه: " إسدال الكساء على النساء " فلو سألتك دون أن تطلع على الكتاب: ما هو موضوع الكتاب؟ ستقول لي: حجاب المرأة المسلمة والجلباب أليس كذلك؟ لكن السيوطي يتكلم عن قضية مختلفة تماماً وهي: هل النساء يرين الله عز وجل في الجنة كالرجال أم لا؟ مثلاً: من العلماء المعاصرين الشيخ الجزائري عندما كتب: " إلى التصوف يا عباد الله " كان هدفه أن يشتري المتصوفون هذا الكتاب، بحيث يظن الصوفي أن كتاب: إلى التصوف يا عباد الله دعوة إلى التصوف؛ فيأخذ الكتاب ويفاجأ بأنه يهدم التصوف.
فنحن نقول: هذه الطريقة في العنونة غير دقيقة وغير صحيحة لماذا؟ لأن المتصوف الغالي في التصوف إذا أخذ الكتاب وقرأ فيه خلاف ما يعتقد رماه، وبالمقابل سيرغب عن هذا الكتاب كثير من الذين ينبغي أن يتحصنوا ضد التصوف، فلا تزال العناوين أنساب الكتب.
فلما عنون هذا الكاتب لمقالاته التي نشرها فيما بعد بهذا العنوان: "
تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" رد عليه كثير من المشايخ، وأتوا على بنيانه من القواعد، فعندها تألم الرجل وانزعج؛ لأن الذين ردوا عليه أو هاجموه لم يقرءوا الكتاب، وقال: ينبغي أن تقرءوا الكتاب ثم تردوا علي.
نحن نقول: من وضع الحكم في العنوان، لا يقرأ كتابه؛ لأنه طالما وضع حكم المسألة في العنوان، حيث قال: بتحريم النقاب، انتهى، ومثال ذلك: لو أنك رأيت غلافاً عند قاعة الكتب مكتوباً عليه: "
غاية المنى في تحريم الزواج واستحباب الزنا" -مثلاً- بهذا العنوان، هل أنت محتاج لأن تقرأ صفحات هذا الكتاب؟ لا.
لأن من المعلوم استحباب الزواج وتحريم الزنا لا العكس، إذاً: فلا حاجة إلى قراءة مثل هذا الكتاب.
في إبان نشر هذه المقالات السابقة التي بعنوان: تحريم النقاب.
تكلم الكاتب عن
مفهوم المخالفة في مقالاته، وتبين لنا أن الرجل جاهل -فعلاً- بالأصول، مع كثرة استخدامه لكلمة الأصول، ففي كل سطرين يقول لك: كما هو مقرر في الأصول، وهذا القناع ليتقي به ضربات الناس، ويموه على الجهلة في أنه ينطلق من أصول ثابتة.
إن العلماء عندما تكلموا في مسألة النقاب احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (
لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين ) ومعروف أن الحكم إذا قيد كان الحكم للقيد، ومثل قوله: قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح ) فتقييد الولد بالصلاح يثبت الوصف للصلاح وينتفي عما عداه.
فهذا يعني أن الولد الفاسد لا ينفع والده، طالما قيد الحكم بوصف: (ولد صالح) ولو قال: (ولد) وسكت، ولم يقيده بوصف لدخل فيه كل ولد، سواء كان صالحاً أو فاسقاً أو فاسداً .
إلخ، لكنه طالما قيد الوصف بالصلاح فثبت الحكم لهذا القيد وانتفى عما عداه.
فإذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (
لا تنتقب المرأة المحرمة ) فالنهي إنما هو وصف للمحرمة، وينتفي عما عداه، مثل المرأة الحلال التي لم تحرم، فهذا يسميه العلماء أخذ الحكم من مفهوم المخالفة.
فأنت تعلم أن الكلام له ظاهر وباطن، فظاهر الكلام: هو الذي يوضع الكلام من أجله، ولك أن تسميه (منطوقاً)، وباطن الكلام: هو عكس الظاهر.
فمثلاً: قال الله عز وجل: {
إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات:6] فإن جاءك عدل بنبأ فليس عليك أن تتبين، إذاً: مفهوم الكلام أن الفاسق نتبين من خبره، وعكس الكلام -بطنه- إن العدل لا نتبين منه، بل نأخذ منه الكلام بدون تبين.
فالرجل قال: إنكم تحتجون بمفهوم المخالفة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (
لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين ) وقلتم: المرأة غير المحرمة تنتقب وتلبس الفقازين.
إذاً سأورد عليكم إشكالات، قال الله عز وجل: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } [آل عمران:130] فيمكن أكله ضعفاً واحداً في مفهوم المخالفة؟ أليس كذلك؟ وقال أيضاً: { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة:197] إذاً: يجوز أن يكون هناك رفث وفسوق وجدال في غير الحج.
أراد أن يبين أن مفهوم المخالفة لا يحتج به، ونحن لا ننسى أن مفهوم المخالفة ليس متفقاً على حجيته، لكن الراجح أنه يحتج به.
وجاء صاحبي إلي -وهو من أهل التحري- عندما قرأ المقالة التي كان فيها مفهوم المخالفة لذلك الكاتب، جاء وقال لي: الرجل اليوم كتب مقالة قوية جداً، وأتى بأدلة قوية على أن مفهوم المخالفة لا يعمل به.
والأدلة القوية هي كالتالي: قوله تعالى: {
لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } [آل عمران:130].
وأيضاً قوله تعالى: {
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة:197].
وأيضاً قوله تعالى: {
وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [النور:33] فقيل: إن لم يردن تحصناً فلهم أن يكرهوهن على البغاء؟! فهذا هو بطن الكلام.
المشكلة أن ينطلي هذا الكلام على شاب من شباب الصحوة، مع أن الكاتب فاسق بميزان العلماء.

معنى قاعدة: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له
إن العلماء يقولون: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له.
وهذه هي القاعدة التي جهلها هذا البيطري، وهذه القاعدة تعني: أن العرب كانوا يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة بالفعل، كان هذا واقعهم وغالب فعلهم، فنزل الكلام تنبيهاً على غالب الفعل.
إذاً: مفهوم المخالفة غير مطلوب وليس محصوراً، فمفهوم المخالفة في هذه الحالة غير مقصود ألبتة، إنما خرج الكلام على غالب فعل الناس، فإذا كان الكلام قد خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، مثل هذه الآية: {
لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } [آل عمران:130] فلا يقولن قائل: إذاً الربا القليل يجوز والكثير المضاعف لا يجوز.
نقول له: لا، العرب كانوا يأكلون الربا مضاعفاً، فقال لهم: لا تأكلوا الربا مضاعفاً، نزل الكلام على فعلهم، إذاً: مفهوم المخالفة هنا غير مقصود، وكذلك قوله تعالى: {
وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } [النور:33] كان هذا هو فعلهم وواقعهم بالفعل، فقال لهم: { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [النور:33].
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (
لا تصوم امرأة وزوجها شاهد بغير إذنه غير رمضان ) فكلمة "شاهد" خرجت مخرج الغالب لماذا؟ لأن الزوج إنما يحتاج الزوجة وهو شاهد حاضر، لكن إذا كان الرجل مسافراً فلماذا يمنعها من الصيام؟ فلما كان غالب حاجة الرجل للمرأة إذا كان شاهداً حاضراً، قيل لها: لا تصومي ما دام زوجك شاهداً، فخرج القيد مخرج الغالب وإلا إذا سافر الرجل وقال لامرأته: لا تصومي وأنا غائب؛ فإنه لا يحل لها الصيام لو نص على ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (
إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) وكلمة "باتت" تدل على الليل، وحتى تصبح يؤكد أن المسألة بالليل، لأن داعي هذا الفعل لا يكون إلا ليلاً عادةً، فجاء النص وجاء الكلام عليه، وإلا فإن المرأة إذا طلبها زوجها نهاراً فأبت وهجرت فراشه لعنتها الملائكة أيضاً، إنما نص عليه الصلاة والسلام على الليل؛ لأن الداعي لهذا الفعل لا يكون إلا ليلاً.
إذاً: هذا معنى أن الكلام يخرج مخرج الغالب، فإذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له.