كان خطيب الجمعة (ككثير من خطباء المساجد) متحمسا في موضوع الزكاة ، وبين كيف تهاون أصحاب الثروات بشأنها رغم الوعيد لمن لم يخرج زكاة ماله طيبة بها نفسه، ثم تطرق إلى قصة الصحابي الجليل ، الصحابي المظلوم ثعلبة بن حاطب رضي الله عنه عندما أمِر بدفع الزكاة فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، وسرد القصة المشهورة التي تعرفونها والتي تزعم أن الآية الكريمة في سورة التوبة نزلت فيه: (و منهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين ، فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ، ألم يعلموا أن الله يعلم سرّهم و نجواهم وأن الله علام الغيوب) ، وأكمل الخطيب القصة باتهام الصحابي بالنفاق وأن زكاته لم تقبل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الثلاثة..
بعد فراغ الخطيب ، كان المصلون يستريحون بعد الصلاة في فناء الجامع ، فقال شاب صغير السن:
يا عم عبدالله ، لقد قرأت في كتاب صغير لشيخ إسمه مقبل الوادعي أن قصة ثعلبة غير صحيحة لأن الله يغفر كل شيء عدا الشرك والزكاة مأمور بدفعها المسلم والقصة سندها غير صحيح ، قال الخطيب ، الله يهديك يا ولدي: هل أنت أعلم أم الشيخ صالح الفوزان؟ ، فرد عليه رجل في سنه قائلا: وما ذا قال الشيخ الفوزان؟ قال: كتاب الخطبة هذا من تأليفه ..
القصة مشهورة في كتب التفسير ، وقد أبان العلماء المحققون ضعف سندها وبطلان متنها شرعا ، وقد فندها علماء أجلاء مثل ابن حجر والهيثمي وابن حزم والعراقي والألباني وذكرها الشيخ مقبل الوادعي في بحث قدمه للجامعة في كتاب الصحيح المسند وبين بطلانها...

-------------------------------------------------------------------------
وإليكم مقال للشيخ مشهور فواز لتفصيل الموضوع:

((إنّ للأحاديث والقصص الواهية بالغ الأثر السيئ على الأمة، ولعلّ أسوأها أثرا ما يتعلق بالعقائد والعبادات.وإنّ هذه القصص والحكايات الموضوعة التي ليس لها رصيد من الصحة قد شاعت وترددت على ألسنة الخطباء والوعاظ، بل وعلى ألسنة كثير من العلماء وذكرهم إياها، وكأنّها حقيقة مسلّم بها، وترى بعضهم يذهب في تحليلها مذهبا عجبا ويستنبط الآخر منها الأحكام التربوية والفلسفات الغريبة.وكان من جراء ذلك كله أن تلقفتها العامة واستقرت في نفوسهم وتشربتها عقولهم.
وثعلبة رضي الله عنه من الصحابة الذين دُسّت عليه رواية لا أصل لها من الصحة، ولا سند لها من الواقع.وهذه الرواية هي: «عن أبي عبد الملك علي بن يزيد الألهاني أنه أخبره عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أدعُ الله أن يرزقني مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، قال: ثمّ قال مرة أخرى، فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبيّ الله، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت ، قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا، لأعطي كل ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا، قال: فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحّى عنها، فنزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلّي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، يسألهم عن الأخبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل ثعلبة؟ فقالوا: يا رسول الله، اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة، فأخبروه بأمره، فقال: يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة، قال: وأنزل الله {خُذ من أموالهم صدقة} (سورة التوبة 201)، ونزلت عليه فرائض الصدقة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، رجلا من جهينة ورجلا من بني سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما: مُرّا بثعلبة، وبفلان رجل من بني سليم، فخذا صدقاتهما فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرئاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما هذه إلا جزية، وما هذه إلا أخت الجزية، وما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ، فانطلقا وسمع بهما السّلمي، فنظر الى خيار أسنان إبله فعزلهما للصدقة، ثم استقبلهم بها، فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك، قال: بل فخذوه! فإن نفسي بذلك طيبة، وإنما هي لي، فأخذوها منه، فلما فرغا من صدقاتها رجعا حتى مرّا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة، قبل أن يكلّماه ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي، فأنزل الله تبارك وتعالى:{ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقنّ ولنكوننّ من الصالحين} الى قوله :{ وبما كانوا يكذبون}، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل الله فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: إنّ الله منعني أن أقبل منك صدقتك، فجعل يحثي على رأسه التراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فلما أبى أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقته رجع الى منزله وقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا، ثم أتى أبا بكر حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي، ولم يقبضها، فلما ولي عمر، أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين، اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وأنا أقبلها منك؟ فقُبض ولم يقبلها، ثمّ وليّ عثمان رضي الله عنه، فأتاه فسأله أن يقبل صدقته، فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر رضوان الله عليهما، وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رحمة الله عليه» (انظر: تفسير الطبري، ج14/370-372 دلائل النبوة، للبيهقي، ج5/ص290-292، المعجم الكبير، للطبراني، ج8/ص260، تفسير البغوي، ج3/ص126، أسباب النزول، للواحدي، ص252).لذا نظرا لانتشار هذه القصة وذيوعها بين الناس كما ذكرت رأيت أنه من الواجب المحتم أن أبين سقوط إسنادها ذبا عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأكيدا على عدالتهم وتنويها بعظيم مقامهم وتذكيرا للمسلمين بحفظ ألسنتهم وضبط عباراتهم عن عرض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.

أقوال النقاد والمحدثين في هذه القصة:
1- قال الحافظ ابن حجر في الفتح (ج3/ص266): جزم ابن الأثير في التاريخ بأنّ أول فرض الزكاة كان في السنة التاسعة... وقوى بعضهم ما ذهب إليه إبن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة المطولة... لكنه حديث ضعيف لا يحتج به.
2- وقال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الأحياء (3/266) ما رواه الطبراني بإسناد ضعيف.
3- ونقل المناوي في فيض القدير (4/527) قول البيهقي وقول الحافظ في تضعيفه القصة وارتضاهما.
4- وقال ابن حزم في المحلّى (11/207-208): قال تعالى:{ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله} الى قوله :{ يكذبون} قال: وهذه أيضا صفة أوردها الله تعالى، يعرفها كل من فعل ذلك من نفسه، وليس فيها نصّ ولا دليل على أنّ صاحبها معروف بعينه.
على أنا قد روينا أثرا لا يصحّ، وفيه أنها نزلت في ثعلبة بن حاطب، وهذا باطل ... لأنّ ثعلبة بدري معروف ... وفي رواته معان بن رفاعة والقاسم بن عبد الرحمن الألهاني وكلهم ضعفاء.
وقد ضعفها من المعاصرين العلامة أحمد محمد شاكر والشيخ ناصر الدين الألباني وقال في ضعيف الجامع الصغير (4/125): ضعيف جدا.
وبناء على ذلك، أذكّر نفسي وإخواني من الوعاظ والدعاة والخطباء بحرمة رواية قصة ثعلبة رضوان الله عليه إلا للتحذير من روايتها، وذلك لأن الحديث الضعيف لا تجوز روايته إلا بشروط وهي:
1- أن لا يكون في الأحكام والعقائد.
2- أن يكون له أصل شاهد.
3- أن لا يُعتقد ثبوت ما فيه.
وهذه الشروط غير مستوفاة في قصة ثعلبة، فضلا عن أنها شديدة الضعف كما بيّن العلماء.
فثعلبة رضوان الله تعالى عليه بدري باتفاق أهل السير والتراجم ولا يخفى ما ورد من الأحاديث على أحد في فضل أهل بدر، فلا يجوز أن نجعله انموذجا من نماذج الشحّ البغيض والنفاق النهيض الذي لا يقبل معه توبة ولا ينفع من سخاء جديد أو شعارا للسعار المادي الممقوت.
والله تعالى أسأل أن يديم لي أجر الذود عن عرض أوليائه، إنه بي رؤوف ودود، والله من وراء القــصد)).