الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه

أما بعد :

فهذه طائفة من نصوص علماء الحنفية في إنكار البدع نقلتها لتكون حجة على الحنفية المعاصرين _وسيتبعها سلسلة لبقية المذاهب إن شاء الله تعالى _

مع العلم أن الذين سأنقل عنهم قد يكونون من محسني البدع غير أني سأجعل بعض نصوصهم حجةً عليهم

ولكني قبل البدء سأذكر مقدمات توضيحية

المقدمة الأولى في تعريف البدعة وذكر أقسامها

البدعة هي طريقةٌ في الدين مخترعة تضاهي الشرع ويقصد بها زيادة التقرب إلى الله

ولها قسمان

الأول البدعة الأصلية هي ما تثبت في الشرع لا أصلاً ولا وصفاً

الثاني البدعة الإضافية وهي ما ثبت أصلها في الشرع دون وصفها

المقدمة الثانية في ذكر الأصل في إنكار البدع

قال رسول الله عليه وسلم "أما بعد. فإن خير الحديث كتاب الله. وخير الهدي هدي محمد. وشر الأمور محدثاتها. وكل بدعة ضلالة" رواه مسلم من حديث جابر (867)

قال العرباض بن سارية (( وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ))أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه وابن حبان والحاكم

قلت(كل) من ألفاظ العموم فيشمل هذا كل بدعة

ولا يحتج علينا مماحك بأن لفظة (كل ) وردت في نصوص مخصصة فتلك قد خصصتها نصوص أخرى وأخرجتها عن الأصل وإلا فالأصل في (كل ) أنها من ألفاظ العموم


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (1718)

قلت وهذا عموم يرفد العموم السابق

وقال أنس بن مالك (( جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله أتي لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني )) متفق عليه

وهذا الحديث أصل في إنكار البدع الأصلية والإضافية

فأما الأصلية ففي إنكاره على من ترك النساء والطعام

وأما الإضافية ففي إنكاره على من قام الليل كله

فإن قيل العلة في هذا النهي وجود المشقة

قلنا العلة المنصوص عليها هي الرغوب عن السنة لا المشقة وتأمل كيف جعل الزيادة في التعبد على ما كان عليه رغوباً عن سنته

وقال ابن عمر ((كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ))

رواه المروزي في السنة والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى وسنده صحيح


وفي هذا الأثر الرد البليغ على من زعم الإجماع على أن الدين فيه بدع حسنة

عن ابن عباس أنه قال:
((حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك. يعني: لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب )) رواه البخاري

فانظر رحمني وإياك إلى نهيه عن السجع في الدعاء وتعليله لذلك بعدم فعل النبي وصحابته لذلك

فدل على أن ترك ما تركوه قربة إلى الله والإقدام على فعل ما تركوه منهيٌ عنه

و عَن أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: قُلتُ لأَبِي:(( يَا أَبَتِ إِنَّكَ قَدْ صَلَّيتَ خَلْفَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَليِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ هَاهُنَا بِالكُوفَةِ، نَحْواً مِنْ خَمْسِ سِنينَ، أَكَانُوا يَقْنُتُونَ؟ قَالَ: أَيْ بُني محْدَثُ )) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وهو صحيح

وفيه إنكاره لما لم يفعله النبي وأصحابه

عن أبي وائل قال:
((جلست إلى شَيْبَة في هذا المسجد، قال: جلس إليَّ عمر في مجلسك هذا، فقال: هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك، قال: هما المرآن يُقتدى بهما )) رواه البخاري

قلت انظر كيف ترك عمر فعل أمرٍ فيه ظاهره مصلحة للمسلمين لترك النبي والصديق لهذا الأمر واعتبر ذلك من الإقتداء بهما فالإقتداء في الترك كالإقتداء في الفعل


المقدمة الثالثة في ذكر بعض شبهات محسني البدع والجواب عليها

يحتج المحسنون لبعض البدع بقول (( نعمة بدعة )) في صلاة التراويح

وهذا الإستدلال مشهورٌ عنهم

والجواب أن عمر بن الخطاب ررر كان من أشد الناس اتباعاً كما قدمنا غير أنه عنى بقوله البدعة اللغوية

وذلك لأن التراويح ليست بدعةً بالمعنى الشرعي فإن النبي فعلها وتركها بعد ذلك لعلة

ففي الصحيح (( أن رسول صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد ، فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى من القابلة ، فكثر الناس ، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة ، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبح قال : قد رأيت الذي صنعتم ، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أنني خشيت أن تفرض عليكم . وذلك في رمضان ))

قلت وهذه العلة _ وهي خشية أن تفرض_ انتفت بوفاة النبي فلا يفرض شيء بعد وفاته فرأى الصحابة ألا مانع من صلاتها والحال هذه

فلاتقاس هذه الصلاة على البدع التي اخترعها الناس ولم يفعلها النبي

ويحتجون أيضاً بحديث (( من سن في الإسلام سنة حسنة ، فعمل بها بعده ، كتب له مثل أجر من عمل بها . ولا ينقص من أجورهم شيء . ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، فعمل بها بعده ، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ، ولا ينقص من أوزارهم شيء )) رواه مسلم

وهذا الخبر له سبب فالرواية بتمامها هكذا (( جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . عليهم الصوف . فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة . فحث الناس على الصدقة . فأبطؤا عنه . حتى رؤي ذلك في وجهه . قال : ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق . ثم جاء آخر . ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سن في الإسلام سنة حسنة ، فعمل بها بعده ، كتب له مثل أجر من عمل بها . ولا ينقص من أجورهم شيء . ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، فعمل بها بعده ، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ، ولا ينقص من أوزارهم شيء ))

قلت فقول النبي إنما ورد في سنة وهي الصدقة فالمقصود بالحديث إحياء المندثرة أو السبق إليها

فإن قال متعنت (( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ))

قلنا مع أن العبرة بعموم اللفظ غير أن السبب يدخل في هذا العموم دخولاً أولياً

فيكون على قولكم المقصود بالسنة في الحديث أمرين

السنة الثابتة المأمور بها

البدعة الحسنة بزعمكم

دخول البدعة يعارضه عمومات الأخرى تحكم على جميع البدع بالضلال قد سبق سردها

فلا يبقى سوى ما ورد الحديث من أجله وهو السنة الثابتة المأمور بها

المقدمة الرابعة في قيود وضوابط في معرفة البدع

1_البدعة المنهي عنها هي البدعة الدينية لا الدنيوية لقوله (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))

وقوله (( في أمرنا )) يعني في ديننا

2_ ما أجمع عليه المسلمون لا يكون بدعةً فالإجماع حجة شرعية معتبرة وخصوصاً إذا دعت الضرورة لهذا الأمر المجمع عليه

نصوص علماء الحنفية في إنكار البدع

قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/415) وهو يتكلم عن محل سجود السهو (( هذا الذي ذكرنا بيان محله المسنون و أما محل جوازه فنقول جواز السجود لا يختص بما بعد السلام حتى لو سجد قبل السلام يجوز و لا يعيد لأنه أداء بعد الفراغ من أركان الصلاة إلا أنه ترك سنته و هو الأداء بعد السلام و ترك السنة لا يوجب سجود السهو و لأن الأداء بعد السلام سنة و لو أمرناه بالإعادة كان تكرارا و أنه بدعة و ترك السنة أولى من فعل البدعة و الله تعالى أعلم ))

قلت جعله لترك السنة أولى من فعل البدعة يدل على أنه يرى تحريم هذه البدعة مع ثبوت أصلها في الشرع دون وصفها ( وهو التكرار ) إذ أن ترك السنة مكروه والمحرم وحده فعل المكروه أولى منه

وقال أيضاً في(2/482) (( ومنها أن الفعل متى دار بين السنة والبدعة كان ترك البدعة واجبا وتحصيل الواجب أولى من تحصيل السنة ومتى دار بين البدعة والفريضة كان التحصيل أولى ؛ لأن ترك البدعة واجب والفرض أهم من الواجب ولأن ترك الفرض يفسد الصلاة وتحصيل البدعة لا يفسدها فكان تحصيل الفرض أولى ))

قلت هذه القواعد تشهد للسلفيين بأنهم أورع الناس ببعدهم عن البدع

وقال ابن الهمام في فتح القدير (( ومنها أن ما تردد بين الواجب والبدعة يأتي به احتياطا ، وما تردد بين البدعة والسنة تركه لأن ترك البدعة لازم وأداء السنة غير لازم ))

قلت هذا كسابقه غير أن تردد الفعل بين الواجب والبدعة يكاد يكون معدوماً فالواجب لا يكون إلا مأموراً به

والمأمور به لا يكون به

ويتحقق هذا في حال إذا ما كان هناك حول صحة بعض الأحاديث ومثل هذا الخلاف محتمل إذا لم يكن فيه مخالفة سافرة للقواعد الحديثية

وقال ابن نجيم في البحر الرائق (3/84)(( ويرجحه أن الحكم إذا تردد بين سنة وبدعة كان ترك البدعة راجحا على فعل السنة ))


وقال صاحب رد المحتار (( ما يفعله بعض الخطباء من تحويل الوجه جهة اليمين وجهة اليسار عند الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية لم أر من ذكره والظاهر أنه بدعة ينبغي تركه لئلا يتوهم أنه سنة ))

قلت بهذه العلة ينبغي أن تهجر جميع البدع فقد أصبح العامة لا يعتقدون سنية بعض البدع فحسب بل أصبحوا يرون وجوبها

وقال برهان الدين بن مازة في المحيط البرهاني (3/33)((وكما أن الجمع بين إحرامي الحج، أو بين إحرامي العمرة بدعة، فكذلك بناء أعمال العمرة على أعمال الحج على إحرام العمرة، فليس ببدعة حتى إن من أحرم بحجة))


وقال السرخسي في المبسوط في كتاب كيفية الدخول في الصلاة باب الصلاة بمكة في الكعبة (( وفي هذه الفصول لا يكبّر لأن التكبير مؤقتٌ بوقتٍ مخصوصٍ فلا يقضى بعد مضي ذلك الوقت كصلاة الجمعة ورمي الجمار وهذا لأن ما يكون سنةً في وقته يكون بدعة في غير وقته ))

وقال في كتاب كيفية الدخول في الصلاة باب الأذان (( أذان النساء من المحدثات لم يكن في السلف وكل محدثة بدعة، ولأن في صوتها فتنة وهي منهية عن الخروج إلى الجماعات والأذان لإقامة الصلاة بالجماعة ))

قال الشرنبلالي في مراقي الفلاح، شرح نور الإيضاح كتاب الطهارة فصل الإستنجاء (( وإنما قيدناه (من نجس) لأن الريح طاهر على الصحيح والاستنجاء منه بدعة ))

وقال أيضاً في أحكام الوضوء فصل سنن الوضوء (( لا يسن مسح (الحلقوم) بل هو بدعة ))

وقال أيضاً في باب شروط الصلاة وأركانها فصل في بيان سنن الصلاة (( فإن نقص فقال السلام عليكم أو سلام عليكم أساء بتركه السنة وصح فرضه ولا يزيد وبركاته لأنه بدعة وليس فيه شيء ثابت ))

قلت انظر كيف حكم بالبدعية على ما ورد فيه حديث لا يثبت عنده

وقال في باب أحكام الجنائز (( وقولهم كل حي سيموت ونحو ذلك خلف الجنازة بدعة ))

وقال علي ملا القاري في شرح مسند أبي حنيفة في شرحه لحديث الطواف (( يستلم الأركان) أي الركنين اليمانيين إذ يكره استلام الآخرين فإنه بدعة عند الأئمة الأربعة وسببه أنهما ليس بركنين على بناء إبراهيم عليه السلام ))

أكتفي بهذا القدر

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم