(وُلَاةُ السُّوءِ آفَةُ الدِّينِ والدُّنْيَا)
ذُكر عن عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قوله: لِكُلِّ شَيْءٍ آفَةٌ تُفْسِدُهُ، وَإِنَّ آفَةَ هَذَا الدِّينِ وُلاَةُ السُّوءِ.
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ بَعْدِي أَئِمَّةً، إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ كَفَّرُوكُمْ، وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ، أئمةُ الكفر ورؤوسُ الضَّلَالَةِ" وهو حديث ضعيف سنداً، صحيح واقعاً.
لقد آلمنا وآلم كلَّ حُرٍّ ما يتعرض له إخواننا في بقاع الأرض من أذىً وتنكيل، وإن قلوبنا لتعتصر أسىً لما يلاقونه على أيدي ولاة سوء لا يرجون الله واليوم الآخر:
تجرى دموعُ عيونٍ وَدَّ صاحبُها...... لو أنَّهنَّ _على حَرِّ المصابِ_ دمُ
كأنَّنا اليومَ من همٍّ تقَسَّمَنا.......... .....نهبٌ بأيدي ولاةِ السّوءِ مُقْتَسَمُ
ونكتمُ النّاسَ وَجْداً في جوانحنا.......وكيف نكتُم شيئاً ليس ينكتمُ؟
مشكلة هؤلاء الجبابرة أنهم لا يقيمون كرامة لإنسان، ولا يرون غير أنفسهم في هذه الحياة، فكيف يرضى الناس بهذا الهَوَان؟ وما أجمل أبيات الحارث بن الأرقم الذي صور إباء الأحرار على الضيم فقال:
وَمَا ضَاق صَدْرِي يَا سُلَيْمَى بِسُخْطكُم ........وَلَكِنَّنِ ى فِي الْحَادِثَات صَلِيبُ
تَرُوكٌ لِدَار الْخَسْف وَالْضَّيْم مُنْكِرٌ.............. . بَصِيْرٌ بِفِعْل الْمَكْرُمَات أَريبُ
إِذَا سَامَني الْسُّلْطَانُ ذُلّاً أَبَيْتُهُ ...............وَلَم أُعْطِ خَسْفَا مَا أَقَام عَسِيبُ
وصَدَقَ التِّهاميُّ في قوله:
فَمَوْتُ الْفَتَى فِي الْعِزِّ مِثْلُ حَيَاتِهِ .......وعِيشَتُهُ فِي الذُّلِّ مِثْلُ حِمَامِهِ
فإلى متى يُسامُ الناسُ الخسفَ؟ ويتحكم في شؤونهم من لا يرقب فيهم إلّاً ولا ذمة؟
فتلك وُلاةُ السوءِ قد طال ملكُهم .....فحتّامَ حتّامَ العَنَاءُ المطَوَّلُ
ولا أدري والله من الذي جاء بهؤلاء؟ ومن أين أتى بهم؟
فإن الذي ولاّكَ أمْرَ جماعةٍ....لأنقَصُ مَن يمشي على قَدمٍ عقْلاً
أمتنا خير أمة أخرجت للناس، نشرت الخير في أصقاع الأرض، وما ضاع مجدها إلا عندما سادها سفهاء الأحلام:
ورِثنا المجدَ عن آباء صِدق ...... أسأنا في ديارهم الصَّنيعَا
إذا المجدُ الرفيعُ تعاورتْه.......... وُلاة السُّوء أوشك أن يضِيعا
ولو جلس هؤلاء في بيوتهم لكان أكرم لهم ولأمتهم ولشعوبهم، قال رجل لبشر الحافي: أوصني. قال: الزم بيتك، فترك طلب الرئاسة رئاسة.
حبُّ الرئاسة داء لا دواء له ... وقلما تجد الراضين بالقسم
والسلطان ذو غدوات وبدوات، أي أنه سريع الانصراف، ولا تنظروا إلى خفض عيش السلطان، ولين لباسه، ولكن انظروا إلى سرعة ظعنه، ومكنون حزنه، وسوء منقلبه.
وأحْسَنَ أعرابيٌ عندما وصف واليًا مغتراً فقال: ما أطولَ سُكْرَ كأسٍ شربها فلان، ولِمَا يُخاف من عاقبتها أشد سُكرًا، ولئن كانت الدنيا مشغولة به، ليوشك أن تكون فارغة منه، حيث لا يرجى له أوبة، ولا تقبل له توبة.
ألا يا دولة السَّفِلِ ......... أطلت المكث فانتقلي
ويا ريب الزمان أفق ... نقضت الشرط في الدول
قال بعضهم في ظالم زالت دولته: الحمد لله الذي أذلّ عزتك، وأذهب سطوتك، وأزال مقدرتك، فلئن أخطأت فيك النعمة، لقد أصابت فيك النقمة.
وقال البحتري:
ففرحة الناس بإدباره ... كغيظهم كان بإقباله
وقال القاسم بن طوق في ذات الشان:
رُزقتَ سلامةً فبطرت فيها ... وكنتَ تخالها أبداً تدوم
وقد ولّت بدولتك الليالي ... وأنت مُلَعَّنٌ فيها ذميم
وسئل رجل عن وال غاشم فقال: هو كما قال الشاعر:
وكان إذا أناخ بدار قوم ... أبو حسان أورثهم خَبَالاً
وقال عمر رضي الله عنه: لا جهلَ أبغضُ إلى الله من جهل إمام وخُرْقِهِ.
وقال المنصور يوماً: من بركتنا على المسلمين أن الطاعون رفع عنهم في أيامنا. فقال بعض الحاضرين: ما كان الله ليجمع ولايتكم والطاعون.
والشعوب المسكينة اليوم أشد ضعفاً من أهل بدر عدة وعتاداً، فالبدريون حملوا سيوفاً ورماحاً، وهؤلاء لا يمكلون إلا صدوراً عارية، وجيش أبي جهل لم يكن يملك ذخائر فتاكة تهلك الحرث والنسل، وتظهر في الأرض الفساد كما هو حال جيوش آباء الجهل المعاصرين.
فنصْرَكَ اللهم للمستضعفين في الأرض، امْنُن عليهم بحفظك ورعايتك، وانزلن سكينتك على قلوبهم، فلا أمل لهم في الوجود سواك، يا سند من لا سند له، ويا عون من لا عون له.