تعود جذور فكرة النسبية إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وبالتحديد عند السفسطائيين، القائم جدلهم على المغالطة والتمويه والاستدلال على الشيء بغير حقيقته بناء على القياس المركب من الوهميات، ليصلوا من ذلك إلى إسكات الخصم، وإغفال البحث عن الحقيقة.
يقول بدوي: " أما من ناحية نظرية المعرفة عند السفسطائيين، فيلاحظ: ...أن بروتاجوراس كان يؤمن بقول هرقليطس بالتغير الدائم، وكان يشك في المعرفة بوصفها معرفة كلية ثابتة موضوعية غير متأثرة بالأفراد. ومن هنا كان من الممكن أن تختلف الأشياء باختلاف الناظرين إليها"([1]).
فهؤلاء يسفسطون في العقليات بشبهة التعارض بين الحس والعقل فيما استقر من العلم في القلوب.
والسفسطة أنواع:
- الجحد والتكذيب.
- الشك والريب.
- قول من يجعل الحقائق تبعاً للعقائد، كالذي يقول: من اعتقد العالم قديم فهو قديم، ومن اعتقد أنه محدث فهو محدث([2]).
وفي المعنى السابق يقول النشار: " ونسبية كل شيء... قال بها: بروتاغوراس السفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة:(الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس ما لا يوجد)" ([3]).
ويقول مصطفى النشار في السياق السابق:"لقد عبر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه عن الحقيقة الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله: "إنّ الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعاً"، وفي هذه العبارة القصيرة تكمن الثورة الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر. إنها تعني بالنسبة لنظرية المعرفة: أنّ الإنسان الفرد هو مقياس أو معيار الوجود، فإن قال عن شيء إنه موجود فهو موجود بالنسبة له، وإن قال عن شيء إنه غير موجود فه وغير موجود بالنسبة له أيضاً، فالمعرفة هنا نسبية، أي أنها: تختلف من شخص إلى آخر بحسب ما يقع في خبرة الإنسان الفرد الحسية، فما أراه بحواسي فقط يكون هو الموجود بالنسبة لي، وما تراه أنت بحواسك يكون هو الموجود بالنسبة لك، وهكذا..." ([4]).
والحاصل، أنهم ينكرون القضايا الضرورية بالأساليب العقلية.
فهي إذاً وليدة الفكر السفسطائي تحت شعار الإنسان معيار كل شيء، بمعنى: لكل إنسان نظرة خاصة للحقيقة، نتج من ذلك: أن أنكروا كل حقيقة موضوعية.
وقد كانت هذه النزعة من داخل التطور الروحي عند اليونان، بسبب النزعات السياسية، التي جعلت الفضائل تعود إلى الدم الأسري فكان هذا العامل في العصر القديم الأساس في إيجاد الفضائل، أما في القرن الخامس فخرجت هذه الحياة الأسرية إلي حياة بلا جذور، بمعنى: ليس للمواطن جذور أصلية ينتمي إليها تؤكد كيانه وتميّزه، فاستقل بذاته عن غيره([5]).
وفي المعنى السابق يقول بدوي: " ... وهذه الفردية تقتضي العقلية، أو النزعة العقلية، لإنّ هذه وحدها تتفق مع الحرية، والحرية هي الشخصية، والشخصية أساس الفردية"([6]).
وبذلك فلا مكان عند الفرديين للروح الموضوعية عند النظر إلى الوجود والحياة، بل النزعة الفردية هي المعيار الوحيد والميزان الفريد في النظر إلى الأشياء.
وإذا كانت النسبية تعود في أصلها إلى النزعة السفسطائية، فإن النزعة السفسطائية كانت استمراراً لتيار الشعر اليوناني السائد في عصره القديم على يد هوميروس، وهزيود([7]).
أما النظرة الإسلامية لنسبية الحقيقة فقد فرقت بين أمرين اثنين قد بينهما شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
الأول منهما: موقف المناقض لمذهب السفسطائيين القائلين بإن حقائق الأشياء تابعة لعقائد الناس، معللين ذلك بإن الأشياء ليس لها حقيقة واحدة في نفسها، حيث أوضح أنّ هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة([8]).
الثاني: القول بالنسبيّة في الوصف الإضافي لا الذاتي، وهذا يتضح من خلال النماذج التالية:
- في معرض نقده لتقديم المعقول على المنقول يوضح أنّ العلم بالشيء عن طريق العقل من الأمور النسبية، لإنّ العقل في نفسه نسبي، ولإنّ من الأشياء ما ليس له صفة لازمة حتى يعلم بالعقل، بل ذلك يعود إلى أمرين([9]):
- اختلاف الأشخاص.
- اختلاف الأحوال.
- في مسألة الاستدلال بشيء ظاهر على شيء خفي، كالحدود والتعريفات والأدلة، فالظهور والخفاء من الأمور النسبية، وهو يعود أيضاً إلى اختلاف الأشخاص والأحوال([10]).
- وفي حديثه عن الذي بنى الأمور على مقدمات، ظنّوا فيها: إنّها ضرورية أو نظرية، أو قطعية أو ظنية، يقول: إنّ كون العلم ضرورياً ونظرياً، والاعتقاد قطعياً وظنياً، فهذا من الأمور النسبية بحسب الأشخاص والأحوال. أما ما جاء عن الرسول r فهو حق لا يقبل النقيض([11]).
- وعند الحديث عن الوصية، ومعنى القليل والكثير، فالقليل والكثير من الأمور النسبية التي تتنوع بتنوع النّاس، فيحمل كلام كل إنسان من حيث القلة والكثرة على ما هو مناسب له في ذلك المقام([12]).
- وفي التشابه الخاص، بمعنى: مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، فإن القدر المشترك من التشابه بين شيئين من الأمور النسبية الإضافية، كنعيم الجنة، والصفات ونحو ذلك([13]).
- في الكمال والنقص = من الأمور النسبية، فقد تكون الصفة كمالاً لذات، ونقصاً لآخرى، كالأكل والشرب، يكون كمالاً للمخلوق، نقصاً للخالق، والتعاظم والتكبر، يكون كمالاً للخالق، ونقصاً للمخلوق، حيث أنّ الكمال الذي يستحقه الخالق هو الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، أما المخلوق فكماله نسبي يستلزم النقص، وهذه النسبية تقع بين المخلوقين أنفسهم بحسب الحال، فالأكل للجائع = كمال، وللشبعان نقص([14]).
- وفي التصورات ما يكون بديهياً، وهذا من الأمور النسبية([15]).
- وفي سد باب المعرفة، ما هو نسبي([16]).
- وفي التغريب والتشريق، ما هو نسبي، فكل مكان له غرب وله شرق([17]).
والحاصل، أنّ ابن تيمية يفرق بين الوصف الذاتي للأشياء والوصف الإضافي، فجميع المقدمات في أمثال القرآن صدق وحق لا لبس فيها لاتصافها بالذاتية في نفس الأمر، أما الوصف الإضافي لتلك المقدمات في كونها معلومة عند زيد، أو مظنونة، أو مسلّمة، فهذا أمر لا ينضبط، فقد تكون يقينيةً عند شخص قد علمها، وهي مجهولةً عند غيره فضلاً عن أن تكون مظنونةً، فهي بحسب شعور الإنسان([18]).
وقد نجد كثيراً من أوجه الشبه بين ما ينزع إليه السفسطائيون في حضارتهم اليونانية القديمة، وبين عصر النهضة في عصره الأوربي التنويري ذي النزعة الفردية الإنسانية، والذي فرخ بدوره هذه الفلسفة إلى الليبراليين المعاصرين في عالمنا الإسلامي، والذين لا يألون جهداً في تطبيق نسبية الحقيقة على نصوص الوحيين بدعوى تعدد قراءت النص الذي لا يفيد العلم واليقين زعموا- حتى وإن كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وما ذلك إلا لتسويغ الباطل وتمرير الانحراف من خلال العبارات التي يرددونها: (لا أحد يحتكر الحق والصواب)، (ليس ثمة إلا الحقيقة النسبية)، (الحقيقة المطلقة لا يطالها أحد)...
وللحديث بقية...
.............................. .............................. .............................. .............................. ..................

(1) موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي،1/586 ما بعدها.

(2) انظر: التعريفات، للجرجاني، تحقيق: المرعشلي، دار النفائس، ط الأولى، ص 191، وانظر:المعجم الفلسفي، مراد وهبة، دار قباء، ص 371، وانظر: موسوعة مصطلحات ابن تيمية، رفيق العجم، ص 247.

(3) مناهج البحث عند مفكري الإسلام، علي النشار، دار النهضة العربية، بيروت- لبنان، ط3 1404، ص 191.وانظر: اتعريفات، للجرجاني، تحقيق: المرعشلي، دار النفائس، ط الأولى، ص 191.

(4) مدخل لقراءة الفكر الفلسفي عند اليونان، ص70-71.

(5) انظر: موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي،1/586 ما بعدها.

(6) موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي،1/587.

(7) انظر: موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي،1/588.

([8]) انظر: مجموع الفتاوى، 19/144.

([9]) انظر: درء التعارض، 1/144.

([10]) انظر: درء التعارض، 3/303، 330، وانظر: مجموع الفتاوى، 5/ 108.

([11]) انظر: درء التعارض، 3/304.

([12]) انظر: منهاج السنة،4/84.

([13]) انظر: مجموع الفتاوى، 3/62.

([14]) انظر: مجموع الفتاوى، 6/70، 137.

([15]) انظر: مجموع الفتاوى، 9/87.

([16]) انظر: مجموع الفتاوى، 11/656.

([17]) انظر: مجموع الفتاوى ، 27/42.

([18]) انظر: مجموع الفتاوى، 2/47، وانظر: المصدر نفسه، 17/380.