لم يذكر أغلب القدماء حدًّا واضحًا لأبنية المُبالَغة بل اكتفَوا بمثل قول المبرّد (285هـ) " اعلم أنَّ الاسم على (فعَل) (فاعِل) ، نحو قولك (ضرَب) فهو (ضارِب) ، فإن أردت أن تُكثر الفعل فللتكثير أبنيةٌ من ذلك (فَعَّال) تقول (رجل قَتَّال) إذا كان يُكثر القتل ، فأمّا (قاتِل) فيكون للكثير والقليل ؛ لأنَّه أصلٌ" ([i])، ويُفهَم من هذا القول أنَّ اسم الفاعِل يَحتمل القِلَّة والكثرة في الفعل ، فإذا أردنا الكثرة في الفعل والمُبالَغة فيه حوَّلنا صيغة (فاعِل) إلى أحد أبنية المُبالَغة.
أمّا المُحدَثون فمنهم من حدَّها بأنَّها " أسماء تُشتَقُّ من الأفعال للدلالة على معنى اسم الفاعِل مع تأكيد المعنى وتقويته والمُبالَغة فيه " ([ii]) .
وقد تكون المُبالَغةُ لاسم المفعول كقولنا : (قَتيل وحَلوبة ولُعْنة وغيرها) فحميد مُبالَغة في محمود ، وحَلوبة مُبالَغة في محلوبة ، ولُعْنة مُبالَغة في ملعون ، كما قد تكون المُبالَغة للصفة المُشبَّهة نحو قولنا (طُوال وعُظام وحُسَّان وغيرها) فطُوال مُبالَغة في طَويل ، وعُظام مُبالَغة في عَظيم وحُسَّان مُبالَغة في حَسَن ([iii]).
وليس من السهل حصرُ أبنية المُبالَغة ؛ إذ ذكر بعضُ الباحثين أنَّ أبنية المُبالَغة تربو على الثمانين بناءً ، وأنَّها مُتناثِرة لا تخضع لقياسٍ مُحكَم ([iv])، إلاّ أنَّ أغلب العلماء قديمًا وحديثًا اتَّفقوا على أنَّ أشهرها (فَعَّال وفَعُول ومِفْعال وفَعيل وفَعِل) ([v]) .
وأبنية المُبالَغة في الأصمعيّات قد تزيد على الأربعة عشر بناءً ، هذا إذا استثنينا أبنية مُبالَغة اسم المفعول ([vi])، وسأورد جميع هذه الأبنية مُكتفيًا بعددٍ من الأمثلة لكلِّ بناء :
1- فَعَّال – فَعَّالة : ويدلُّ هذا البناء على التَكرار والتكثير والتجدُّد والمُلازَمة في الحدث([vii])، ومن أمثلة الأوَّل (جَوَّاب) و(كَشَّاف) في قول سُعدَى بنت الشَمَرْدَل :
جَوَّابُ أوديةٍ بغيرِ صَحَابَةٍ



كَشَّافُ داوِيِّ الظلامِ مُشَيَّعُ ([viii])


ومثله (طَلاّع ووَضّاح ونَبّاح وعَثّار وأَبّاء وغيرها) ([ix]).
ومن أمثلة الآخر (زَيَّافة) في قول الحكم الخُضريّ :
إلى ابنِ بِلالٍ جَوبيَ البِيدَ والدُجَى







بزَيَّافةٍ إنْ تَسمعِ الزجرَ تَغضَبِ ([x])


2- فَعُول : ويكون هذا البناء لمن دام منه الفعلُ أو كان قويًّا عليه ([xi]) ومن أمثلته (جَمُوع) و(ذَهُوب) في قول غُرَيقة بن مُسافِع العَبسيّ :
جَمُوعُ خِلالِ الخيرِ من كلِّ جانِبٍ



إذا جاء جَيَّاءٌ بِهِنَّ ذَهُوبُ ([xii])


فاستعمل الشاعر مثالَي المُبالَغة (جَموع وذَهوب) ؛ ليدلَّ على مُداوَمة ممدوحه فعلَ الخير ، وليدلَّ على مداومة غيره على إذهاب خلال الخير، وهو هنا قد قابل بين اللفظتين ، وممّا جاء على هذا البناء أيضًا (سَبوح وجَزوع وفَجوع وعَجول وقَؤول وسَؤول وغيرها)([xiii]).
3- مِفْعال : ويرد هذا البناء لصفة من اعتاد الفعل أو دام منه ([xiv])، ومن أمثلته (مِبْدان) في قول حاجب بن حبيب :
فقلتُ : أَ لمْ تعلمي أنَّه



كريمُ المَكَبَّةِ مِبْدانُها ؟ ([xv])


ومن أمثلته أيضًا ( مِجْذام ومِطْعام ومِكْساب ومِثْكال وغيرها) ([xvi]) .
4- فَعيل : وهو من الأبنية الّتي تشترك فيها الصفة المُشبَّهة وصيغة المُبالَغة ، ويدلُّ على تَكرار الفعل حتَّى كأنَّه خلقة أو سجيَّةٌ ثابتة في صاحبه ([xvii]) ومن أمثلته (سَميع) في قول عمرو بن معد يكرب :
أ منْ رَيحانةَ الداعي السَميعُ



يُؤرِّقُني وأصحابي هُجُوعُ ([xviii])


و(السَميع) في قول الشاعر مُبالَغة في ( المُسْمِع) ، وهو من الأبنية الّتي أُخِذَتْ من الفعل الرباعيّ (أسمع) وهذا خلاف الغالب في صِيَغ المُبالَغة الّتي تُؤخَذ من الثلاثيّ ([xix]).
5- فَعِل : وهذا البناء يُستعمَل لمن صار له الفعل كالعادة ([xx]) ومن أمثلته (سَلِط) في قول عُقبة بن سابق :
يَخُدُّ الأرضَ خَدًّا بـ



ـصُمُلٍّ سَلِطٍ وَأْبِ ([xxi])


6- مِفْعَل : يرى الخليلُ أنَّ هذا البناء مقصورٌ عن (مِفْعَال) ([xxii])، والرجلُ إذا كان عدَّةً للشيء قِيل فيه : (مِفْعَل) ([xxiii]) ، ومن أمثلته ( مِفْصَل) في قول حَجل بن نَضلة :
ومُهَنَّدٌ في متنِهِ حَرَجِيَّةٌ



عَضْبٌ إذا مَسَّ الضَريبةَ مِفْصَلُ ([xxiv])


وممّا جاء عليه (مِسَحّ ومِرْجَم ومِذْوَد ومِشْغَب وغيرها) ([xxv]) .
7- فُعَال : ذكر بعض المُحدَثين أنَّ هذا البناء مُبالَغةٌ في (فَعيل) الصفة المُشبَّهة([xxvi])، والباحث يُرجِّح هذا الرأي ،مُستدلاًّ بما ورد في الأصمعيّات من هذا البناء ، فقد ورد (عُظَام) مُبالَغةً في (عَظيم) في قول خُفاف بن نُدبة :
طَويلٍ عُظَامٍ غيرُ خافٍ نَمَى بِهِ



سَليمُ الشَظا في مُكْرَباتِ المُطَبَّقِ ([xxvii])


وورد (طُوال) مُبالَغةً في (طَويل) في قول سُعدى بنت الشَمَرْدَل :
مُتَصَلِّبُ الكفَّينِ أميَثُ بارِعٌ



أَنِفٌ طُوَالُ الساعدَينِ سَمَيْدَعُ ([xxviii])


وقد تعدَّدت أبنية المُبالَغة في هذا البيت فذُكِر (أَنِف) ؛ لأنَّ عادة مرثيِّ الشاعرة أنَّه أبيٌّ يأنَف الضيم ، وذُكِرَتْ صيغةُ المُبالَغة ( طُوال الساعدَين) أي : إنَّه شديدُ طولِ الساعدَينِ ، وهو كنايةٌ عن القوة.
8- فُعَل : ومن أمثلته (الحُطَم) في قول علباء بن أرقم :
مَواريثُ آبائي وكانتْ تَريكةً



لآلٍ قُدارٍ صاحبِ الفِطْرِ في الحُطَمْ ([xxix])


9- فُعَّل : ومن أمثلته ( التُبَّع ) في قول سُعدى بنت الشَمَرْدَل :
يَرِدُ المِياهَ حضيرةً ونفيضةً



وِرْدَ القَطاةِ إذا اسْمَأَلَّ التُبَّعُ ([xxx])


و(التُبَّع) في بيت الشاعر (الظلّ) ؛ لأنَّه يتبع الشمس ، وتضعيف العين فيه يُنبئ بدلالته على كثرة التبعيَّة والمُبالَغة فيها.
10- فِعِّيل : وهو لمن دام منه الفعل ([xxxi])، ومثاله (الغِرِّيد) في قول رَبيعة بن مَقروم الضبّيّ :
ومَشجُوجةً بالماءِ يَنزو حَبابُها



إذا المُسْمِعُ الغِرِّيدُ منها تَحَبَّبَا ([xxxii])


11- فُعَّال : ويُؤتَى به للزيادة في مُبالَغة (فُعال) ([xxxiii]) ، ومن أمثلته (حُسَّان) في قول حاجب
ابن حبيب :
وقلتُ : أَ لمْ تعلمي أنَّهُ



جميلُ الطُلالَةِ حُسَّانُها ([xxxiv])


12- فاعِل : سُئِل الخليلُ عن قولهم : " موت مائِت ، وشغل شاغِل ، وشعر شاعِر، فقال : إنَّما يُريدون المُبالَغة والإجادة" ([xxxv]) ، ومن أمثلة ما جاء منه للمُبالَغة (شاغِل) في قول امرِئ القيس :
حَلَّتْ لِيَ الخَمْرُ وكنتُ امرَأً



عن شُربِها في شُغُلٍ شاغِلِ ([xxxvi])


13- فَعْلَة : ومن أمثلته (حَطْمَة) في قول ذي الخِرَق الطُهَوِيّ :
إنَّا إذا حَطْمَةٌ حتَّتْ لنا وَرَقًا



نُمارِسُ العُودَ حتَّى يَنْبُتَ الوَرَقُ ([xxxvii])


14- فَعَلان : وأغلبُ ما يُستعمَل هذا البناء في المصادر الّتي تدلُّ على حركةٍ أو اضطراب، نحو الهَيَجان والغَلَيان ([xxxviii]) ، وقد استُعمِل في الأصمعيّات للدلالة على المُبالَغة ، ومثاله (العَدَوَان) في قول صخر بن عمرو بن الشريد :
فلَو أنَّ حَيًّا فائِتُ المَوتِ فاتَهُ



أخو الحربِ فوقَ القارِحِ العَدَوَان ([xxxix])


و( العَدَوَان) الشديد العدو ، كالعَدَّاء ، وفعله (عدا- يعدو) ([xl]).


([i]) المقتضب : 2/113.

([ii]) التطبيق الصرفيّ : 75.

([iii]) يُنظَر: معاني الأبنية : 72 ، 73 ، 98 ، 99 ، وتُنظَر مصادرُه.

([iv]) يُنظَر: المصادر والمُشتقّات في مُعجَم لسان العرب (أطروحة دكتوراه) : 135-136.

([v]) يُنظَر : الكتاب : 1/110 ، والمقتضب : 2/113 ، والمُهذَّب في علم التصريف : 262 ، والتطبيق الصرفيّ : 75، 76.

([vi]) راجع ما ذُكِر عن الصيغ الّتي تأتي بمعنى مفعول.

([vii]) يُنظَر: معاني الأبنية : 107-110.

([viii]) الأصمعيّات : 27/22.

([ix]) يُنظَر: الأصمعيّات : 1/1 ، 1/10 ، 9/11 ، 12/21 ، 84/3.

([x]) الأصمعيّات : 6/1 ، والزيّافة : الناقة تزيف برحلها ، أي : تسرع في تمايل ، ومثلها في البناء: عذّالة : 19/9 ، وغيرها.

([xi]) يُنظَر: معاني الأبنية : 114 ، 115 ، وتُنظَر مصادرُه.

([xii]) الأصمعيّات : 26/8.

([xiii]) يُنظَر: الأصمعيّات : 4/6 ، 10/6 ، 10/10 ، 19/8 ، 19/20 ، 19/24.

([xiv]) يُنظَر: ديوان الأدب : 1/83 ، والفروق اللغويَّة : 12.

([xv]) الأصمعيّات : 81/4.

([xvi]) يُنظَر: الأصمعيّات : 3/7 ، 8/10 ، 24/16 ، 61/34.

([xvii]) يُنظَر: ارتشاف الضرب : 3/191 ، ومعاني الأبنية : 117.

([xviii]) الأصمعيّات : 61/1.

([xix]) يُنظَر : المُهذَّب في علم التصريف : 263.

([xx]) يُنظَر: معاني الأبنية : 117 ، وتُنظَر مصادرُه.

([xxi]) الأصمعيّات : 9/17 ، والسَلِط : الشديد ، ومثله : (رَبِذ ، وأَنِف ، وغيرهما) يُنظَر: الأصمعيّات : 3/15.

([xxii]) يُنظَر: المُخصَّص : 2/124 ، 14/199.

([xxiii]) يُنظَر: الفروق اللغويَّة : 12-13.

([xxiv]) الأصمعيّات : 43/5.

([xxv]) يُنظَر: الأصمعيّات : 9/9 ، 71/6 ، 78/9 ، 84/3.

([xxvi]) يُنظَر: معاني الأبنية : 98.

([xxvii]) الأصمعيّات : 2/17.

([xxviii]) الأصمعيّات : 27/26.

([xxix]) الأصمعيّات : 55/25 ، والحُطَم : الأمر العظيم ، ورجل حُطَم : إذا كان يركب الامور ولا يُبالي.

([xxx]) الأصمعيّات : 27/14 .

([xxxi]) يُنظَر : أدب الكاتب : 255 ، ومعاني الأبنية : 118 ، 119.

([xxxii]) الأصمعيّات : 84/12 ، والغرِّيد : الّذي يغرّد في صوته.

([xxxiii]) يُنظَر : معاني الأبنية : 118.

([xxxiv]) الأصمعيّات : 81/9.

([xxxv]) الكتاب : 3/ 385.

([xxxvi]) الأصمعيّات : 40/3.

([xxxvii]) الأصمعيّات : 36/4 ، والحَطْمة : السنة الشديدة ؛ لأنَّها تحطم كلَّ شيء.

([xxxviii]) يُنظَر : المُهذَّب في علم التصريف : 237.

([xxxix]) الأصمعيّات : 47/7.

([xl]) يُنظَر: الأصمعيّات : ص 147.