الحمد لله الذي جعل الإسلام تمام الانقياد، وجعل الإيمان تمام التصديق، وأمرنا بالتصديق والانقياد، ولم يجعل إرضاء العقول وما تخلُصُ إليه من الباطل حجة في تركهما، بل جعل العقل السليم هو المؤمن المنقاد المستلسم له جل وعلا ولشريعته لا الناقد الشاك الباحث عن الإثباتات لا ليؤمن بل ليرضي شهوة عقله وغروره، فإنما يبحث عن الإثباتات والدلائل من لم يكن مؤمنا أصلا ويبحث عن الحقيقة، أما الذي يحدث من بعض المنتسبين للإسلام من إلحاد ثم عودة للدين بدعوى أن الإيمان بعد الشك أفضل من الإيمان الذي ينعته البعض بإيمان "البصمجية"، فهذا من الجهل والانحطاط الديني والفكري، وهؤلاء لا يحترمون عقولهم بل يمتهنونها إذ يخرجون بها عن الحقائق المُسَلَّمة عندهم ليثبتوها، أما لو كانت غير مسلمة عندهم أصلا فهم ليسوا على الإسلام، ولكن الذي نراه ونعلمه أن هؤلاء إنما يفعلونه إظهارا لعقولهم ومنطقهم، كما فعل من قبل الإمام الغزالي والدكتور مصطفى محمود ولولا لطف الله بهم لما وصلوا إلى الحق بعقولهم المحضة ولو لبثوا قرونا يبحثون، كما أنه لا يخفى على متبع للسنة أنهما حتى بعد أن تابا وعادا للإسلام ضلا في بعض منهجه ولم يكونوت على الحق لأنهم لم يستطيعا التخلص من لوثة المنطق والفلسفة.

ويجب على هؤلاء المتعاقلين النظر في قول الله تبارك وتعالى على لسان أنبيائه {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10]، وهو استفهام تعجبي تعجبا من ضعف تلك العقول ورداءة منطقها وفكرها الذي يجعلها تشك في وجود الله وقدرته، فالشك لا يعني أبدا أن العقل صحيح أو أنه جيد المنطق، بل المعلوم من أن زعماء وعلماء الفلاسفة والمنطقيين –وليس أفراخهم الموجودة الآن- وصلوا في مراحل من حياتهم إلى الشك في ذواتهم ووجودهم حتى قال بعضهم "أنا أشك إذن أنا موجود" فهل بعد هذا من جهل وزيغ وضلال ورداءة في المنطق والفكر.

وإذا أردنا أن نكون منطقيين معهم فإنه ينبغي علينا أن نُقِرَّ بأن المزاعم تكون لها مقتضيات وأن الفروض تكون له نتائج، وعليه فإن زعمهم أن الإيمان بعد الشك أقوى وأمتن وأيقن من الإيمان بدون شك يقتضي أن إيمانهم أقوى من إيمان الملائكة والأنبياء والصالحين الذين لم يشكوا في الله لحظة، وهذا مما لا يخفى على عاقل بطلانه، فإن قيل: أن الملائكة والأنبياء قد شاهدوا ما أودع في قلبهم اليقين والإيمان وأزال الشك جملة، فنقول: أن هذا إن صح في شأن الأنبياء والملائكة فإنه لا يصح في شأن تابعي الأنبياء ممن آمنوا بما جائوا به دون تردد أو طلب لمعجزة أو إثبات، كأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقد امتدح الله سبحانه وتعالى الصديقين وجعل مرتبتهم بعد الأنبياء وفوق الشهداء، يقول تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، كما لا يخفى على عالم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي امتدح أبا بكر الصديق بسرعته في التصديق والإيمان الجازم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بل وهذا ما جعل إيمانه يزن إيمان الأمة كلها متضمنة الصحابة الكرام عمر وعثمان وعلي وباقي العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي"[1] ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَفْضُلْكُمْ بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ"، فذاك أنه صدق تصديقا تاما وآمن إيمانا جازما لم يحتج معه إلا إثباتات أو أدله ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم معجزة تثبت نبوته.

ومما يبين ضلال هذا المنطق والفكر أن الله سبحانه وتعالى لم يقل بهذا ولم يقل به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولو كان هذا هو الأفضل لبينه الله ورسولهـ وكذا علماء الأمة المعتبرين العالمين بالكتاب والسنة ما قال أحد منهم ذلك ولا قاله أحد من الصالحين، لا في الإسلام ولا في أي دين آخر، وإننا إن أردنا أن نُفنِّد منطقهم ونضعه في موضعه الصحيح ونظهر حقيقته ونبين لهم كيف يكون الوصول إلى مبتغاهم مع الالتزام بهذا الفضل –فضل التصديق التام والانقياد- وتجنب خسارته والضياع في غياهب الشك والحيرة والإلحاد فإننا نقول لهم أن اليقين لا يكون واحدا عند جميع البشر بل هو درجات وهذا معلوم بالضرورة سواء كان هذا اليقين والإيمان متعلق بالله تبارك وتعالى أو بأي شيء آخر في هذه الدنيا، فاليقين متفاوت بين البشر ولا تعني زيادة اليقين عند أحدهم عن الآخر أن الآخر شاكٌّ أو غير متيقن، وبيان هذه المسألة أن اليقين له أصل وتمام أو كمال، يبينه قول الله تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، فإبراهيم عليه السلام انعقد لديه أصل الإيمان واليقين ولا تنافي بين انعقاد هذا الأصل وطلبه أن يريه الله كيف يحي الموتى، فإبراهيم عليه السلام لم يطلب هذا ليتثبت بل هو متيقن متثبت لكنه بطلبه زيادة في ذلك، لذلك كان جوابه لما سأله الله وهو أعلم بحاله "أَوَلَمْ تُؤْمِنْ"، فقال إبراهيم عليه السلام "بَلَى"، ثم علل طلبه ليجمع بينه وبين اعترافه بيقينه وإيمانه بالله بأن قال "وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي".

والفائدة أن الإيمان أصل وكمال، فكل المسلمين لديهم الأصل، وبعضهم لديه الكمال، فهذا الذي يحتاج لإثباتات ليكتمل يقينه لا يخرج عن أصل الإيمان بل هو مؤمن وإنما يتبقى له كمال الإيمان والذي يستشعر احتياجه لما يكمله من دلائل مادية، ويخشى على مثل هذا ألا يصل إلى مبتغاه فيقوده هذا إلى الشك والإلحاد أما من وصل إلى كمال اليقين دون مشاهدة معجزة أو دلالة عقلية قاطعة فهذا ولا شك أكمل يقينا وإيمانا ممن احتاج إلى دلالة ليكتمل إيمانه وتصديقه، وقد بين سبحانه وتعالى الفرق بين أصل اليقين وكماله بقوله {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20]، فإنه لم يقل ليتيقنوا بل قال للموقنين أي أنهم موقنون حقا لكن هذه الآيان ليزدادوا يقينا مع يقينهم حتى يصلوا إلى كمال اليقين، ويقول سبحانه {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125]، فهؤلاء المؤمنين كان لديهم إيمان ولما سمعوا آيات الله ازدادوا إيمانا ويقينا، وقد أمرنا جل وعلا بالتدبر في آياته والتفكر لنزداد إيمانا ويقينا ولم يأمرنا بالإلحاد والشك وترك أصل الإيمان واليقين ثم البحث عنه، يقول تعالى {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20]، ويقول سبحانه {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 184، 185]، ويقول جل وعلا {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]، فهذا هو المنهج الصحيح في استعمال العقل للوصول إلى اليقين التام، وهكذا ينمو اليقين من أصله الذي جعله الله في قلوب المؤمنين بفضله حتى يأخذ بقلب المؤمن إلى الكمال بمشاهدة تفضل الله ونعمهِ وحسن تدبيره ونعمة قَدَرِهِ خيره وشرِّه.

ومما يحسن نقله في هذا الأمر كلام أبي اسماعيل الهروي في كتابه منازل السائرين في باب اليقين، قال "الْيَقِين مركب الْآخِذ فِي هَذَا الطَّرِيق وَهُوَ غَايَة دَرَجَات الْعَامَّة وَقيل أول خطْوَة الْخَاصَّة وَهُوَ على ثَلَاث دَرَجَات، الدرجَة الأولى علم الْيَقِين وَهُوَ قبُول مَا ظهر من الْحق وَقبُول مَا غَابَ للحق وَالْوُقُوف على مَا قَامَ بِالْحَقِّ، والدرجة الثَّانِيَة عين الْيَقِين وَهُوَ الْغنى بالاستدراك عَن الِاسْتِدْلَال وَعَن الْخَبَر بالعيان وخرق الشُّهُود حجاب الْعلم، والدرجة الثَّالِثَة حق الْيَقِين وَهُوَ إسفار صبح الْكَشْف ثمَّ الْخَلَاص من كلفة الْيَقِين ثمَّ الفناء فِي حق الْيَقِين"، وينصح بقراءة باب حقيقة اليقين من كتاب مدارج السالكين لابن القيم رحمه الله تعالى، نسأل الله أن يرزقنا اليقين الحق الكامل التام، وأن يمن علينا بمشاهدة ذلك في أنفسنا وأحوالنا.