الطريق الثالث أو الحل الثالث أو الخيار الثالث
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد :
"الطريق الثالث" أو الحل الثالث أو الخيار الثالث مصطلح أو وصف ظهر في هذا العصر على لسان أوساط الأحزاب اليسارية الأوروبية والغربية في السنوات الأخيرة من الألفية الماضية .
وهذه النظرية تحاول التوسط بين الطريقين الرئيسيين في إدارة الاقتصاد والسياسة في الدول الأوروبية .
فالطريق الثالث هو الطريق الوسط الذي يحاول أن يجمع عناصره من إيجابيات كل من الطريقين الآخرين , ويعتبر المنظر البريطاني أنتوني غيدنز المفكر الاجتماعي ورئيس كلية لندن للاقتصاد والعلوم الاجتماعية، مؤسس أطروحة الطريق الثالث والمعلم الأكبر لتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق , والذي تبنى هذه الأطروحة .
فهذه النظرية بعبارة أبسط قول وسط يجمع بين قولين يحتملان التعارض .
وهذه النظرية أو الأطروحة كفكرة في الحقيقة موجودة لدى علماء المسلمين في السابق واللاحق , ومن أكثر من وجد في كلامه هذه النظرية شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ففي كثير من المسائل التي يجيب فيها شيخ الإسلام أو تلميذه ابن القيم لا يرتضيان الجواب إلا بالخيار الثالث وهو خيار التفصيل ومن الأمثلة على ذلك :
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رحمه الله
أيما أفضل العلم أو العقل ؟
فأجاب: إن أريد بالعلم علم الله تعالى الذي أنزله الله تعالى وهو الكتاب كما قال تعالى:{ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} فهذا أفضل من عقل الإنسان لأن هذا صفة الخالق والعقل صفة المخلوق , وصفة الخالق أفضل من صفة المخلوق .
وإن أريد بالعقل أن يعقل العبد أمره ونهيه ؛ فيفعل ما أمر به ويترك ما نهى عنه فهذا العقل يدخل صاحبه به الجنة, وهو أفضل من العلم الذي لا يدخل به الجنة كمن يعلم ولا يعمل وإن أريد العقل الغريزة التي جعلها الله في العبد التي ينال بها العلم والعمل ؛ فالذي يحصل به أفضل لأن العلم هو المقصود وغريزة العقل وسيلة إليه والمقاصد أفضل من وسائلها.
وإن أريد بالعقل العلوم التي تحصل بالغريزة فهذه من العلم فلا يقال أيما أفضل العلم أوالعقل ولكن يقال أيما أفضل هذا العلم أو هذا العلم .
فالعلوم بعضها أفضل من بعض فالعلم بالله أفضل من العلم بخلقه , ولهذا كانت آية الكرسي أفضل آية في القرآن لأنها صفة الله تعالى وكانت{ قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن ثلاثة أثلاث ثلث توحيد وثلث قصص وثلث أمر ونهى , وثلث التوحيد أفضل من غيره .
والجواب في هذه المسألة مسألة العلم والعقل لا بد فيه من التفصيل لأن كل واحد من الاسمين يحتمل معان كثيرة فلا يجوز إطلاق الجواب بلا تفصيل ولهذا أكثر النزاع فيها لمن لم يفصل ومن فصل الجواب فقد أصاب والله اعلم .
مجموع الفتاوى (9|306)
وسئل شيخ الاسلام
عن صالحى بنى آدم والملائكة أيهما أفضل
فأجاب :
بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية والملائكة أفضل باعتبار البداية فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عما يلابسه بنوا آدم مستغرقون في عبادة الرب ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر .
وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير صالحوا البشر أكمل من حال الملائكة قال ابن القيم : وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم على حقه .
مجموع الفتاوى (4|343)
وسئل كذلك رحمه الله عن أيهما أفضل يوم الجمعة أم يوم النحر؟
فأجاب : يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ويوم النحر أفضل أيام العام .
وسئل عن خديجة وعائشة فأجاب :
خديجة إيثارها في أول الإسلام ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين , وإيثار عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها ..
وعن الفقير الصابر والغني الشاكر فأجاب :
الغني الشاكر والفقير الصابر أفضلهما أتقاهما لله تعالى .
انظر الفتاوى الكبرى ( 5|379) بتصرف
وعن عشر ذي الحجة أو العشر الأخير من رمضان فأجاب أن الصواب أن يقال : ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان , وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت باعتبار ليلة القدر وهي من الليالي وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه إذ فيه يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل قال : ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر وقال آخر : بل ليلة القدر أفضل فأيهما المصيب ؟
فأجاب : ليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة .
زاد المعاد (1|54) بتصرف
وسئل ابن القيم رحمه الله عن التفضيل بين الذاكر والمجاهد ؟ فأجاب :
الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد والمجاهد الغافل والذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى فأفضل الذاكرين المجاهدون وأفضل المجاهدين الذاكرون .
الوابل الصيب (56)
ويقول ابن القيم رحمه الله في تقعيد هذه القاعدة المهمة وأهمية التفصيل في كثير من المسائل المشتبهة , وأهمية الرجوع إلى الخيار الثالث .
قال رحمه الله :
لا يجوز للمفتي إطلاق الفتوى في مسألة فيها تفصيل
الفائدة الثامنة عشرة : ليس للمفتي أن يطلق الجواب في مسالة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع بل إذا كانت المسالة تحتاج إلى التفصيل استفصله كما استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا لما أقر بالزنا هل وجد منه مقدماته أوحقيقته فلما أجابه عن الحقيقة استفصله هل به جنون فيكون إقراره غير معتبر أم هو عاقل فلما علم عقله استفصله بأن أمر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح فلما علم أنه صاح استفصله هل أحصن أم لا فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحد .
ومن هذا قوله لمن سألته هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال : نعم إذا رأت الماء .
فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال ولا يجب عليها في حال ومن ذلك أن أبا النعمان بن بشير سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشهد على غلام نحله ابنه فاستفصله وقال: أكل ولدك نحلته كذلك فقال لا فأبى أن يشهد وتحت هذا الاستفصال إن ولدك إن كانوا اشتركوا في النحل صح ذلك وإلا لم يصح .
ومن ذلك أن ابن أم مكتوم استفتاه هل يجد له رخصة أن يصلي في بيته فقال هل تسمع النداء قال نعم قال فأوجب فاستفصله بين ان يسمع النداء أولا يسمعه ...
ثم ذكر ابن القيم أمثلة على ذلك ثم قال :
والمقصود التنبيه على وجوب التفصيل إذا كان يجد السؤال محتملا وبالله التوفيق فكثيرا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم فالمفتي ترد إليه المسائل في قوالب متنوعة جدا فإن لم يتفطن لحقيقة السؤال وإلا هلك وأهلك فتارة تورد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلف فصورة الصحيح والجائز صورة الباطل والمحرم ويختلفان بالحقيقة فيذهل بالصورة عن الحقيقة فيجمع بين ما فرق الله ورسوله بينه وتارة تورد عليه المسالتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما في الحقيقة فيفرق بين ما جمع الله بينة وتارة تورد عليه المسالة مجملة تحتها عدة أنواع فيذهل وهمه إلى واحد منها ويذهل عن المسئول عنه منها فيجيب بغير الصواب وتارة تورد عليه المسالة الباطلة في دين الله في قالب مزخرف ولفظ حسن فيتبادر إلى تسويغها وهي من أبطل الباطل وتارة بالعكس فلا إله إلا الله كم هاهنا من مزلة أقدام ومجال أوهام وما دعا محق إلى حق إلا أخرجه الشيطان على لسان أخيه ووليه من الإنس في قالب تنفر عنه خفافيش البصائر وضعفاء العقول وهم أكثر الناس و ما حذر أحد من باطل إلا أخرجه الشيطان على لسان و ليه من الإنس في قالب مزخرف يستخف به عقول ذلك الضرب من الناس فيستجيبون له و أكثر الناس نظرهم قاصر على الصور لا يتجاوزونها إلى الحقائق فهم محبوسون في سجن الألفاظ مقيدون بقيود لعبارات كما قال تعالى :{ وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس و الجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا و لو شاء ربك ما فعلوه فذرهم و ما يفترون و لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة و ليرضوه و ليقترفوا ما هم مقترفون }
وأذكر لك من هذا مثالا وقع في زماننا وهو أن السلطان أمر أن يلزم أهل الذمة بتغيير عمائمهم وأن تكون خلاف ألوان عمائم المسلمين فقامت لذلك قيامتهم وعظم عليهم وكان في ذلك من المصالح وإعزاز الإسلام و إذلال الكفرة ما قرت به عيون المسلمين فألقى الشيطان على ألسنة أوليائه وإخوانه أن صوروا فتيا يتوصلون بها إلى إزالة هذا الغبار وهي ما تقول السادة العلماء في قوم من أهل الذمة ألزموا بلباس غير لباسهم المعتاد وزى غير زيهم المألوف فحصل لهم بذلك ضرر عظم في الطرقات والفلوات وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاة وآذوهم غاية الأذى فطمع بذلك في إهانتهم والتعدي عليهم فهل يسوغ للإمام ردهم إلى زيهم الأول وإعادتهم إلى ما كانوا عليه مع حصول التميز بعلامة يعرفون بها وهل في ذلك مخالفة للشرع أم لا ؟
فأجابهم من مسع التوفيق وصد عن الطريق بجواز ذلك وأن للإمام إعادتهم إلى ما كانوا عليه قال شيخنا فجاءتني الفتوى فقلت: لا تجوز إعادتهم ويجب إبقاؤهم على الزى الذي يتميزون به عن المسلمين فذهبوا ثم غيروا الفتوى ثم جاءوا بها في قالب آخر فقلت لا تجوز إعادتهم فذهبوا ثم أتوا بها في قالب آخر فقلت هي المسألة المعينة وإن خرجت في عدة قوالب ثم ذهب إلى السلطان وتكلم عنده بكلام عجب منه الحاضرون فأطبق القوم على إبقائهم ولله الحمد .
ونظائر هذه الحادثة أكثر من أن تحصى فقد ألقى الشيطان على ألسنة أوليائه أن صوروا فتوى فيما يحدث ليلة النصف في الجامع وأخرجوها في قالب حسن حتى استخفوا عقل بعض المفتين فأفتاهم بجوازه , وسبحان الله كم توصل بهذه الطرق إلى إبطال حق وإثبات باطل وأكثر الناس إنما هم أهل ظواهر في الكلام واللباس والأفعال وأهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر إلى حقيقته وباطنه لا يبلغون عشر معشار غيرهم ولا قريبا من ذلك فالله المستعان .
إعلام الموقعين (4|194)
والشاهد من هذا المقال أن المسلمين سبقوا إلى فكرة هذه النظرية والأطروحة ألا وهي نظرية الخيار الثالث أو الحل الثالث التي بها حل لكثير من الإشكالات والأمور والمسائل التي تحتمل التعارض .
والله أعلم