دردشتي مع والدي،
أتيت لتوي من حديث شيق مع الوالد ـ حفظه الله ـ فقد حدثني عن الأجواء العائلية في طفولته و هي في الأربعينيات من القرن الماضي.
أخبرني عن الفقر المقدع الذي عاشه الجزائريون، فحتى نهاية الأربعينيات كانوا يعيشون على البطاقة التموينية، فالخبز و السميد تحصل عليه من عند البلدية.
أخبرني أنه كان يعيش في منزل ـ و هو مازال قائم، لكنه مهجور ـ فكانوا ثلاث أسر في منزل تعداد غرفه ثلاث. كل أسرة في غرفة.
كانت جدتي ـ رحمها الله ـ تطبخ الطعام في تلك الغرفة، بمعنى هي غرفة المبيت و غرفة الطبخ.
فأخبرني أنه بالرغم من ذلك لم يكن أحدنا يشعر بالضيق.
في المساء كانت النسوة تجتمعن في غرفة عند زوجة أخو جدي الأكبر، جدي الطاهر ـ رحمه الله ـ و زوجته اسمها الزهرة ـ رحمها الله ـ و نحن كنا نناديها بـ ”يِمّا (أمي) الزهرة“ و كنا يتركن الغرفة الأخرى للأطفال، فكنا جميعا نجلس في الغرفة مع أبناء العم و نلعب.
و مع الفقر الشديد كانت هناك رحمة بين الناس، فأيام الحرب العالمية الثانية كانت فرنسا تسقط الطائرات الألمانية و تقبض على الطيارين، لكنها لم تكن تطعم أسراها.
قال أبي، أتذكر أني جلست مع اخوتي و أمي لتناول الكسكس و نحن نسميه ”آسكسو“ في مدينتي، فاسمع طرقا بالباب، فأخرج، فإذا بي برجل ألماني ضخم البنية يشير بيده تجاه فمه أنه يريد الأكل.
فأرجع لأمي مخبرا إياها بالأمر، فإذا بها تستقطع حصتها من الطعام و تعطيني إياه لأقدمه للجندي الألماني الأسير. و هي حينها لا بيقى لها شيء، فتأكل حينها الطماطم. انتهى كلامه.
فالرجل الألماني كان طيارا أسيرا، كانت فرنسا تدعهم يخرجون للتجول قليلا في المدينة، لأنه لا خوف من محاولة هروبهم، فلا هم يعرفون المكان و لا هم يعرفون اللغة.
و هناك قصة أخرى ذكرها لي في احدى المرات، و هي أيام الهجمات الجوية الأولى للألمان بطائراتها المقاتلة على الجزائر المُستَعمرة، قال: كنا نفر إلى الجبال، و أنا صغير يحملني جاري على ظهره. فأسأله من أين تأتي هذه الأصوات، فيجيبني قائلا: لا تقلق، هي أصوات للدراجات النارية.
فقال: فأنا لبراءتي أظن الطائرات المقاتلة دراجات نارية.
كما ترون، فليس هناك ذكر لجدي، فقد وافته المنية و أبي لم يتجاوز الخامسة من عمره.
جدتي عاشت مائة سنة، فهي معمرة، و كذلك أمها عاشت كثيرا. و كانت ذاكرة جدتي قوية إلى آخر لحظة، و كانت تقول لي دائما بلهجتنا ”أنا أندعي لربي بش ما يدينيش في الركنة“ أي أنا أدعو الله دائما ألا يتوفاني و أنا مقعدة.
ففي يوم وفاتها استقيظت لوحدها، و اغتسلت لوحدها و بعد العصر توفيت.
جدتي اسمها عائشة، و كانت تنادى بـ ”العكري“ و نحن لا نناديها إلا بـ ”حبيبة“ و كانت تصوم دائما الاثنين و الخميس و لا يفوتانها، كذلك الصلوات الخمس.
بتلك العقلية و ذاك التعاضد تمكن الجزائريون من ضحد المحتل، لكنها أخلاق مع الأسف أصبحت لا أراها.
لكن الله لن يعجزه شيء، إن أراد لها أن تعود فسوف تعود.
القصة كانت طريفة، و حصلت في مدينة اسمها جيجل من أجمل المدن الساحلية في الجزائر.
أسألكم الدعاء لوالدي بزيادة الهداية و أن يتغمد جدتي ”حبيبة“ و جدي ”الربيعي“ بالرحمة.
كتبه أبو هارون الجزائري