تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 21

الموضوع: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية النقد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية النقد

    بسم الله ....
    بارك الله فيكم أحبابي في الله
    ليس لي في هذا العمل إلا الجمع
    والمقصود منه بيان حقيقة هذه الدعوة وكنه هذه المسألة
    لأن البعض طلب ذلك بعد أن سمع كثرة الخلاف والكلام حول هذه المسألة
    ولأن البعض أيضا سمع بل نشأ على أن هذه الدعوة بدعة عصرية
    فذهب يردد ذلك تقليدا للبعض
    فعسى أن يطلع على هذا الجمع من كلام أصحاب هذه الدعوة وأدلتهم ليتحرر من رق التقليد وعاره
    فينظر في الأدلة ويرجح إن كان أهلا لذلك وإلا فليسعه تقليد من يثق بعلمه ودينه
    فالمقصود من الجمع إعطاء تصور إجمالي للمسألة وأما التفصيل فيحتاج إلى مصنفات وهذا ما وعد به بعضهم والله الموفق

    والمقالات مرتبة على هذ النحو :
    1_ مقال الشيخ الدكتور إبراهيم اللاحم
    2_ مقال الشيخ عبد الرحمن الزيد
    3_ مقال الشيخ عبد الله السعد
    4_ مقال الشيخ الشريف حاتم العوني
    5_ مقال الشيخ حمزة المليباري
    6_ مقال الشيخ تركي الغميز
    7_ مقال الشيخ بشار عواد معروف
    8_ مقال الشيخ ماهر الفحل
    9_ مقال الشيخ شعيب الأرناؤوط وبشار عواد
    10_ مقال الشيخ إبراهيم الصبيحي
    11_ مقال الشيخ علي الصياح
    12_ مقال الشيخ محمد بن عبدالله القناص
    13_ كلام الشيخ مقبل الوادعي
    14_كلام الشيخ عبد الكريم الخضير

    وغير ذلك مما يأتي تباعا
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ الدكتور : إبراهيم اللاحم

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،
    وبعد
    فإن المتأمل في مسيرة نقد السنة النبوية منذ عصر الرواية إلى وقتنا الحاضر- لابد أن يلاحظ وجود اختلاف في الأحكام النهائية على بعض الأحاديث بين نقاد السنة في عصور الرواية –أي في القرون الثلاثة الأولى- وبين نقاد السنة بعد هذه العصور إلى وقتنا الحاضر ،ويلاحظ أيضاً أنه كلما تأخر الزمن بعدت الشقة ،واشتد بروز الاختلاف .
    فيلاحظ كثرة ما صحح من أحاديث قد حكم عليها الأولون بالنكارة والضعف ،وربما صرحوا ببطلانها ،أو بكونها موضوعة ،وقد يقول المتقدم : هذا الباب –أي هذا الموضوع- لا يثبت ،أو لا يصح فيه حديث ،فيأتي المتأخر فيقول: بل صح فيه الحديث الفلاني،أو الأحاديث الفلانية .
    وهكذا يقال في التصحيح،ربما يصحح المتقدم حديثاً فيأبى ذلك المتأخر ،وربما-في الحالين-توارد الأولون وتتابعت كلماتهم على شيء ،ومع ذلك لا يلتفت المتأخر إلى هذا الإجماع ،أو شبه الإجماع.
    وليس ما تقدم بالشيء اليسير ،بل هو موجود بكثرة بالغة أوجبت أن يثور في نفوس كثير من العلماء والباحثين السؤال التالي : هل هذا الاختلاف سببه اختلاف الاجتهاد في تطبيق قواعد متفق عليها بين الجميع ؟ فإذا قال أحمد –مثلاً- هذا الحديث منكر ،أو لا يصح ،وقال ابن جرير ،أو ابن حزم ،أو ابن القطان ،أو النووي ،أو السيوطي، أو أحد المشايخ المعاصرين : بل هو حديث صحيح ،أو في غاية الصحة- فسبب ذلك راجع إلى اختلاف اجتهاد الإمامين ،في تطبيق قواعد لا يختلفون عليها ،وإنما يقع الاختلاف في الاجتهاد في تطبيقها ،أو أن سبب الاختلاف هذا في جل الأحاديث التي وقع فيها الاختلاف مبني على اختلافهم في تقرير القواعد والضوابط التي على أساسها تصحح الأحاديث وتضعف ،فالأول يسير على قواعد ،ما لبث أن أغفلت عند المتأخرين، أو هذبت حتى لم يبق فيها روح ، وحل محلها قواعد جديدة .
    من يجيب بالجواب الأول لا جديد عنده ، فالمسألة مسألة اجتهاد ، وليس هناك شيء يستحق المناقشة ، وباب الاجتهاد لا يصح إغلاقه ،وإن دعى إلى ذلك بعضهم ، بل قد يكون مع المتأخر-هكذا يقول- زيادة علم .
    غير أن نفراً ليس بالقليل عددهم لم يرضوا بالجواب الأول ،ويقولون :بل الأمر راجع في حقيقته إلى اختلاف في القواعد ،إما عن عمد ،كما صرح به بعضهم ،فيقول: ذهب المحدثون إلى كذا ،والصواب خلافه ،وإما عن غير عمد ، بحيث يسير على قاعدة يظن أن المتقدم يسير عليها أيضاً .
    ويضيف بعض هؤلاء فيقول: على أن جانباً من الموضوع لا يتعلق بالقواعد ،إذ هو يتعلق أساساً بشخص الناقد في الوقت الأول ،وشخص الناقد في الوقت المتأخر ، فالناقد في ذلك الوقت تهيأ له من العوامل النفسية ،والمادية ما يجعل أحكامه أقرب إلى الصواب .
    والمهم هنا هو ما يتعلق بقضية القواعد التي خالف المتأخر فيها المتقدم ،إذ يبرز هؤلاء مجموعة قواعد يقولون إنها هي القواعد الأساس ،ويتفرع عنها قواعد أخرى ، وهذه القواعد هي :
    أولاً : تجزئة حال الراوي .
    فالمتقدم قد يكون الراوي عند ثقة في جانب ،كبعض شيوخه ،أو روايته عن أهل بلد ،أو إذا حدث من كتابه ،ضعيف في جانب آخر ، فيضعف المتقدم ما يرويه في الجانب الذي هو ضعيف .
    على حين يميل المتأخر إلى طرد حال الراوي ، إما نصاً فيأبى تجزئة حال الراوي ،وإما تطبيقاً ، كأن يضعف الأولون ما يرويه معمر بن راشد عن ثابت البناني ،ويقولون إنها نسخة فيها مناكير ،أو ما يرويه عبد العزيز الداروردي عن عبيد الله بن عمر ، بينما لا يلتفت المتأخر إلى ذلك ،فهذه كتبهم وتحقيقاتهم يصححون أمثال هذين الطريقين ،وربما ذكروا أنهما على شرط الشيخين أو أحدهما .
    ثانياً : الأصل في الراوي أنه لم يسمع ممن روى عنه ، حتى يثبت ذلك بطريق راجح .
    هكذا يقرر المتقدم ، على حين أن الأصل عند المتأخر أنه متى روى عنه وأمكنه أن يسمع منه فهو متصل ،وهو على السماع حتى يثبت خلاف ذلك .
    رابعاً : إذا روى الحديث جماعة عن شيخ لهم ،وزاد بعضهم زيادة في إسناد الحديث ، كوصله أو
    رفعه ، أو في متن الحديث ، فإن المتقدم يسير على قاعدة : النظر في كل زيادة بحسبها .فقد تقوم
    القرائن والأدلة على حفظها ،وقد تقوم على ضعفها ، في حين يسير المتأخر على قاعدة : زيادة الثقة مقبولة . وطرد هذه القاعدة ،وتصحيح هذه الزيادات .
    خامساً : تعدد الطرق من راو واحد قد يكون سببه اضطرابه أو اضطراب من يروي عنه ، ولهذا تدرس بعناية ، فقد يكون بعضها صواباً ،وبعضها خطأ ، وقد يتبين أن كثرة الطرق ترجع إلى طريق واحد ، وما يظن أنه شاهد ليس كذلك ، لأنه خطأ من بعض الرواة في تسمية الصحابي مثلاً ، بل قد يكون ما يظن أنه شاهد هو كاشف لعلة في الحديث الذي يراد الاستشهاد له ،على هذا يسير المتقدم ،ويخالفه المتأخر ،فيجوِّز كثيراً أن الطريقين محفوظان بل قد يذهب إلى عدد من الطرق والأوجه .
    سادساً : كثرة الطرق قد لا تفيد الحديث شيئاً ، هذه قاعدة أساسية عند المتقدم ، فبعد دراسته لها يتبين له أنها أخطأ ،أو مناكير ،وهذه عنده لا يشد بعضها بعضاً ،في حين أن المتأخر أضرب عن هذا صفحاً ،فمتى توافر عنده إسنادان أو ثلاثة ،أو وجد شاهداً رأى أنها اعتضدت ورفعت الحديث إلى درجت القبول.
    سابعاً : المتن قد يكشف علة فنية في الإسناد ، أو يساعد على تأكيد علة ظاهرة .
    هذه قاعدة مهمة يسير عليها الناقد في العصر الأول ، فالمتون يعرض بعضها على بعض ،وتتخذ وسيلة عند تصادمها على كشف علة في الإسناد خفية،أو ضمها إلى علة قائمة أصلاً في الإسناد فيزداد
    الحديث ضعفاً.
    في حين يرفع المتأخر شعاراً ينادي فيه بدراسة الأسانيد بمعزل عن المتون،فالمتون يمكن التعامل معها
    بعد النظر في الإسناد،وليس قبل،ولهذا كثر عندهم التعرض للجمع بين الأحاديث،وربما التكلف في
    ذلك ،فتتردد عندهم عبارات:تعدد القصة،الحادثة مختلفة،هذا حديث وذاك حديث،هذا ناسخ للأول ......الخ .
    هذه أبرز المعالم للمنهج الذي يسير عليه المتقدم ، ويخالفه فيها المتأخر ،وهناك غيرها أيضاً .
    ولا بد من الإشارة إلى أن هذه المخالفات ليست مجموعة في كل شخص ممن تأخر ،فإن بين المتأخرين بعض الاختلاف في هذه القواعد أيضاً ، لكنها موجودة في مجموعهم ،وهي السبب الرئيس
    للاختلاف في تصحيح الأحاديث وتضعيفها .
    هكذا يقرره بعض طلبة العلم ،من المنتسيبين لهذا العلم الشريف .
    ولا شك أن لكل جواب من الجوابين على السؤال المطروح أنصاره وأعوانه ،ويسرناً جداً المشاركة في هذا الموضوع المهم رغبة في الوصول إلى الحقيقة ما أمكن ،مع رجائنا بالتزام الأدب العلمي في الحوار والمناقشة.
    والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ عبد الرحمن الزيد

    الملف الأصلي هنا وهو أفضل للمطالعة
    http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showth...880#post151880

    المقدمة :
    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى ، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه ونعمه التي تترى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحمن الرحيم عالم السر والنجوى ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخاتم رسله المبعوث بالحق والهدى ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
    أما بعد : فإن علم الحديث من أشرف العلوم بعد كتاب الله عز وجل ، ولقد هيأ الله تعالى لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أئمة أعلاماً وهداة كراماً ، نضر الله وجوههم بالبلاغ عن نبيه والذب عن سنته والحفظ لدينه ، فبذلوا أوقاتهم وأتعبوا أجسادهم وأسهروا ليلهم وواصلوا نهارهم ، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
    في هذا البحث نقف مع فوائد من مناهجهم وفرائد من طرائقهم ، لنقتفي أثرهم فالخير – والله – في سلوك طريق من سلف من أهل العلم والهدي المستقيم .
    سبب اختيار البحث :
    هذا البحث مشاركة في الندوة المقامة بكلية الدراسات الإسلامية بدبي حول ((علوم الحديث واقع وآفاق) فإنه لما عرضت علي المشاركة في أحد موضوعاتها آثرت موضوع ((مناهج القدماء في التعامل مع السنة تصحيحاً وتضعيفاً)) ، فهو موضوع قريب إلى نفسي موافق لتخصصي .
    ولقد كان لرسالتي في الماجستير ((تحقيق القسم الأول من كتاب الكامل في ضعفاء الرجال)) للحافظ ابن عدي ، كان لها الأثر في ارتباطي بكتب المتقدمين ا لأوائل في السنة وتراجم الرواة وعلوم الحديث مما زاد تعلقي وحبي لهذا الجانب خاصة ما يتعلق بعلوم الحديث والإسناد .
    ولا شك أن هذا الموضوع طويل ودقيق وشائك يحتاج إلى استقراء طويل وإدمان للقراءة في كتب القوم والبحث في زواياها واستخراج خباياها ، وهذا قد لا يُتمكن منه في مثل هذا البحث .
    ورغم ما كتبته فهذ الموضوع يحتاج إلى توسع أكثر وإلى تأمل أطول ، فلا أزعم أني استوفيت ولا أقول إني كفيت ، ففي الموضوع وقفات للمتأمل وثغرات للناقد المبصر ، ولذا فإني أرى أن يسمى البحث : ((فوائد في مناهج المتقدمين في التعامل مع السنة تصحيحاً وتضعيفاً)) .
    خطة البحث :
    قسمت البحث إلى تمهيد ومدخل ومباحث وفروع :
    1- تمهيد : المقصود بالمتقدمين وبيان فضلهم وعلوهم في هذا الشأن .
    2- مدخل : شروط الاحتجاج بالحديث .
    3- المبحث الأول : المسائل المتعلقة بالعدالة وتحته ثلاثة فروع :
    1- رواية المجهول .
    2- رواية العدل والعدول عن الراوي هل تعد تعديلاً له ؟
    3- رواية المبتدع .
    المبحث الثاني : المسائل المتعلقة بالضبط .
    المبحث الثالث : المسائل المتعلقة باتصال السند ، وتحته فروع :
    1- هل يكفي في الاتصال بين الراويين المعاصرة أم لا بد من ثبوت اللقاء في المعنعن .
    2- المدلس .
    المبحث الرابع : المسائل المتعلقة بشرط السلامة من الشذوذ ، وتحته فروع :
    1- بين الشاذ والمنكر .
    2- التفرد والشذوذ والنكارة .
    3- زيادة الثقة .
    المبحث الخامس : المسائل المتعلقة بالسلامة من العلة القادحة .
    المبحث السادس : المسائل المتعلقة بتقوية الحديث .
    - الخاتمة .
    - الفهارس .
    هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصاً لوجهه وأن يجعله لي ذخراً وأن يحسن لنا العاقبة ، ومن رأى فيما ذكرت خطأ فليدلني عليه فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه
    والله ولي التوفيق
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
    كتبه :
    د. عبدالرحمن عبد الكر يم الز يد
    10 /11/1423هـ
    13/1/2003م
    رأس الخيمة ، ص : 144 ، الإمارات العربية المتحدة
    تمــــهيــــــد
    المقصودبالمتقدم ين وبيان فضلهم وعلوهم في هذا الشأن .
    من أهل العلم من ذهب الى أن المتقدمين من كان قبل الثلاثمائة للهجرة ، و هذا القول للحافظ الذهبي رحمه الله تعالى ، (1)وكأن هذا القول اعتمد على أن ذلك عصر القرون المفضلة التي قال عنها النبي  : (( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ))(2) .
    أو لأن آخر الأئمة الستة أصحاب الكتب المشهورة في السنة كانت وفاته قريب الثلاثمائة وهو الإمام أحمد بن شعيب النسائي حيث توفي سنة 303هـ .
    وهذا الرأي وجيه وله حظ من القوة ، ففي تلك القرون عاش الجهابذة الذين كان لهم قصب السبق في حفظ السنة والذب عنها وبيان صحيحها من معلولها ، وكان لهم المؤلفات الضخمة في الحديث والرجال والعلل وغيرها إلا أنه وجد بعد الثلاثمائة من الأئمة من سار على منهج المتقدمين وحذا على قواعدهم وطرائقهم فهو ملحق بهم كالإمام الدار قطني والخطيب البغدادي وابن رجب وغيرهم . وهناك قول آخروسع دآئرة المتقدمين للحافظ ابن حجر رحمه الله حيث قال في النكت على علوم الحديث ـ عند تكلم على أحوال لفظ (عن):وأما المتأخرون وهم من بعد الخمسمائة وهلم جرا فاصطلحوا عليها للإجازة. (3)
    وقد عدّ الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ابن حبان من المتقدمين فقال في كتابه (تعريف أهل التقديس في كلامه عن مكحول قال : (( مكحول الشامي الفقيه المشهور تابعي يقال إنه لم
    يسمع من الصحابة إلا عن نفر قليل ووصفه بذلك ابن حبان ، وأطلق الذهبي أنه كان يدلس ولم أره للمتقدمين إلا في قول ابن حبان )) ( ) ا.هـ
    وفي نزهة النظر لما تكلم عن زيادة الثقة قال : والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين ... وذكر منهم الدار قطني ... )) وسيأتي قوله في مبحث زيادة الثقة .
    فهذا يدل على أن ابن حجر رحمه الله يوسع دائرة المتقدمين ، فابن حبان رحمه الله توفي سنة (354)هـ ، والدار قطني مات سنة (385)هـ .
    وعلى كلٍّ فالمسألة ليس لها ضابط متفق عليه وهي مسألة نسبية من حيث التعبير اللغوي ولذا فقد عد الذهبي الإسماعيلي (صاحب المستخرج) من المتقدمين مع أنه توفي عام(371هـ)(2) والعبرة في هذا الباب فيما يظهر لي بالمنهج فمن كان على طريقة الأئمة النقاد المتقدمين واستقى منهم فهو ملحق بهم والله أعلم .
    أما فضل المتقدمين من المحدثين فيشهد به كل من قرأ شيئاً من كتبهم أو نظر في مؤلفاتهم أو اطلع على سيرهم وجهودهم العظيمة في الحفاظ على السنة والذب عنها حتى إن المرء ليوقن أن الله سبحانه وتعالى هيأهم وسخرهم لحفظ دينه وإبلاغ سنة نبيه  ، والأخذُ عنهم والعناية بكتبهم وأقوالهم من المهمات التي لا يستغنى عنها طالب العلم خاصة في باب الحديث ومعرفة الرجال والعلل .
    يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله : فضبط ما روي عنهم – يعني علماء السلف – في ذلك أفضل العلوم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه ، وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه إلا أن يكون شرحاً لكلام يتعلق بكلامهم ، وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه ، وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة ، فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة ، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله ، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يُلمّ به ، فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم ويحتاج من جمع كلامهم إلى معرفة صحيحه من سقيمه وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل ( ) .
    كذا قال ابن رجب رحمه الله ، وهي وصية عظيمة نافعة في الاستفادة من علوم السلف وتقديمها على غيرها .
    أقول : ويتأكد ذلك في هذا الباب الذي نحن بصدده وهو منهجهم في التعامل مع السنة تصحيحاً وتضعيفاً ومعرفة قواعدهم في ذلك وضوابطهم ، فإنهم كانوا أقرب إسناداً وأخبر بالرواة وأحفظ للمتون .
    يقول ابن حبان رحمه الله في وصفهم : أمعنوا في الحفظ وأكثروا في الكتابة وأفرطوا في الرحلة وواظبوا على السنة والمذاكرة والتصنيف والدراسة حتى إن أحدهم لو سئل عن عدد الأحرف في السنة لكل سنة منها عدّها عدّا ، ولو زيد فيها ألِف أو واو لأخرجها طوعاً ولأظهرها ديانة ، ولولاهم لدرست الآثار واضمحلت الأخبار ، وعلا أهل الضلالة والهوى وارتفع أهل البدع والعمى )) ( ) .
    فهذا في الحقيقة موجب للرجوع إلى علمهم والعناية بكلامهم والاستفادة من قواعدهم والتسليم لهم في نقدهم لشدة تدقيقهم وغلبة توفيقهم .
    يقول الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه (الموقظة) بعد كلام له على بعض رواة الحديث : (( وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها ، وأما نحن فطالت علينا الأسانيد وفقدت العبارات المتيقنة )) ( ) .
    ويقول الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح بعد كلام له حول تعليل القدماء لبعض الأحاديث : وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه )) ( ) .
    وهذا كلام خبير عارف مارس كلام المتقدمين وعرف قدره ودقته ، ومن هذا كان لزاماً على محدثني عصرنا – من باب أولى – العناية بمنهج المتقدمين والتسليم لهم وترك التطاول عليهم كما نراه – مع الأسف – من بعض من سلك التصحيح والتضعيف للأحاديث .
    فهذا ابن حجر على حفظه وعلو كعبه وهو ممن أرسى علوم مصطلح الحديث وأبدع وأتقن الكلام فيها ، يقول : هذا الكلام النفيس فما بالك من أهل زماننا في وقت ضعف فيه الحفظ وانعدم الضبط أو كاد ؟ ولعلي هنا ألخص أهم الأسباب التي تدعو إلى الأخذ بمنهج المتقدمين وتقديمهم .
    1- سعة حفظهم وتمام ضبطهم :
    وهذا بابٌ يطول منه العجب ، فهذا الإمام البخاري رحمه الله تعالى يقول : أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح ( ) . وقال علي بن الحسين بن عاصم البيكندي : قدم علينا محمد بن إسماعيل فقال له رجل من أصحابنا : سمعت إسحاق بن راهويه يقول : كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي ، فقال له محمد بن إسماعيل : أو تعجب من هذا القول ؟ لعلّ في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف ألفٍ من كتابه ، وإنما عنى نفسه ( ) .
    وهذا أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى أقسم رجل بالطلاق أنه يحفظ مائة ألف حديث ، فقالواله : طلقت زوجتك ، ثم سألوا أبا زرعة فقال : قولوا له يمسك زوجته ( ) . وهذا يحيى بن معين يقول : كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث ( ) ، وهذا الإمام أحمد قال عنه أبو زرعة : كان يحفظ ألف ألف حديث فقيل له : ما يدريك ؟ قال : ذاكرْته فأخذت عليه الأبواب ( ) .
    وأخبارهم في هذا مشهورة ، ومن قرأ مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ومقدمة الكامل لابن عدي عرف ذلك .
    2- كثرت ممارستهم للحديث ومدارستهم له بحيث صارت عندهم ملكة يميزون بها ألفاظ
    النبي  من غيرها .
    فألفاظ النبوة لها نور فيدركها من طالت ممارسته وكثر حفظه . يقول الأوزاعي : (( كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة فما عرفوا أخذنا وما أنكروا تركنا )) ( ) .
    وقيل لعبدالرحمن بن مهدي : إنك تقول للشيء : هذا يصح وهذا يثبت ، فعمن تقول ذلك ؟ فقال : أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال : هذا جيد وهذا بهرج أكنت تسأله عن ذلك أو تسلم الأمر إليه ؟ قال : لا ، بل كنت أسلم الأمر إليه ، فقال : فهذا كذلك لطول المجادلة والمناظرة والخبرة )) ( ) .
    وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم فيهم ومعه دفتر فعرضه علي فقلت في بعضها : هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث ، وقلت في بعضه : هذا حديث باطل ، وقلت في بعضه : هذا حديث منكر ، وقلت في بعضه : هذا حديث كذب وسائر ذلك أحاديث صحاح ، فقال : من أين علمت أن هذا خطأ وأن هذا باطل وأن هذا كذب ؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا وكذا ؟ فقلت : لا ، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو غيرَ أني أعلم أن هذا خطأ ، وأن هذا باطل ، وأن هذا كذب ، فقال لي : تدعي الغيب ؟ قال : قلت : ما هذا ادعاء الغيب ، قال : فما الدليل على ما تقول ؟ قلت : سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن ، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم ، قال : من هو الذي يحسن مثل ما تحسن ؟ قلت : أبو زرعة . قال : ويقول أبو زرعة مثل ما قلت ؟ قلت : نعم . قال : هذا عجب ، فأخذ يكتب في كاغد ألفاظي في تلك الأحاديث ثم رجع إلي وقد كتب ألفاظاً ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث ، فما قلت إنه باطل قال أبو زرعة : هذا كذب ، قلت : الكذب والباطل واحد ، وما قلت : إنه كذب ، قال أبو زرعة : هو باطل ، وما قلت : إنه منكر قال : هو منكر كما قلت ، وما قلت : إنه صحاح قال أبو زرعة هو صحاح . فقال : ما أعجب هذا تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما ؟ فقلت : قلت لك : إنا لم نجازف وإنما قلناه بعلم ومعرفة أوتيناه والدليل على صحة ما نقوله أن ديناراً نبهرجاً - يعني زائفاً - يحمل إلى الناقد فيقول : هذا دينار نبهرج ويقول لدينار هو جيد : هذا جيد ... إلخ )) ( ) فهذه القصة تدل على قدر ما أوتي المحدثون الأوائل من المعرفة والفهم والتوفيق الرباني .
    3- قربهم من الرواة ومعاصرتهم لكثير منهم :
    فهذا مما يوجدب تقديم أقوالهم . ورحم الله الذهبي حين قال - فيما سبق نقله عنه - : ((وأما نحن فطالت علينا الأسانيد وفقدت العبارات المتيقنة)) . ولقد كان المحدثون الأوائل يعتنون بما سمعوه من شيوخهم ويحققون فلا يأخذون ما فيه تدليس كما روى عن شعبة أنه كان يرقب فم شيخه قتادة ، فإذا صرح بالتحديث والسماع كتب ( ) ، بل كان بعضهم يسأل شيخه هل سمع هذا الحديث ممن فوقه أو لا ؟ فمن ذلك ما رواه أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن عمرو عن جابر قال : ((كنا نعزل على عهد رسول الله  والقرآن ينزل)) فقلت - أي شعبة - : أنت سمعته من جابر ؟ قال - أي عمرو – : لا ( ) .
    ومن دقة المحدثين الجهابذة الأوائل أنهم كانوا يضعفون أحاديث بعض الثقات في بعض شيوخهم دون بقيتهم مثل حماد بن سلمة في روايتة عن قيس بن سعد قال أحمد : ضاع كتابه عنه فكان يحدث من حفظه فيخطئ ، وكذا ضعف يحيى القطان روايات حماد بن سلمة عن قيس بن سعد ورواياته عن زيد الأعلم ( ) ، وكذ تكلم أحمد في روايات جرير بن حازم عن قتادة ( ) ، والأمثلة على هذا كثيرة بل جعلوا من هذا القبيل أنواعاً فمنها : من ضُعِّف حديثه في وقت دون آخر ، ومنها : من ضُعِّف حديثه في مكان دون آخر ، ومنها : من حدث عن أهل مصرٍ فحفظ حديثهم وحدث عن غيرهم فلم يحفظ ، ومنها من حدّث عنه أهل مصرٍ فحفظوا حديثه وحدث عنه غيرهم فلم يقيموا حديثه ، وأقرأ هذه الأنواع وأمثلتها لترى عجباً في شرح العلل لابن رجب ( ) .
    4-جمعهم للطرق ومعرفتهم بالعلل .
    وبمعرفة طرق الحديث تتبين علله كما قال علي بن المديني رحمه الله – وكان إماماً في العلل - : الباب إذا لم تجمع طرقه يتبين خطؤه( ) ، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله : والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانتهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان والضبط ( ) .
    وقال عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى : إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضها ببعض ( ) . أقول : وهكذا كان الأئمة الجهابذة كالإمام أحمد وابن معين وعلي بن المديني والبخاري وأضرابهم كانوا على معرفة بطرق الحديث ، ولذلك تجدهم يعلون بعض الطرق بسبب معرفتهم بطرق أخرى ، من ذلك ما ذكره العلائي أن الأعمش روى عن أبي وائل عن عبدالله – يعني ابن مسعود - : (( كنا لا نتوضأ من موطئ )) ، قال الإمام أحمد : كان الأعمش يدلس هذا الحديث ، لم يسمعه من أبي وائل ، قال : فهنا قلت له : وعمن هو ؟ قال : كان الأعمش يرويه عن الحسن بن عمرو الفقمي عن أبي وائل فطرح الحسن بن عمرو وجعله عن أبي وائل ولم يسمعه منه ( ) . والأمثلة في هذا الباب كثيرة .
    مدخــــل: ((شروط الاحتجاج بالحديث )) .
    من المهم قبل الكلام في هذا الموضوع أن أتطرق للشروط التي اشترطها العلماء للحديث الصحيح والحسن والتي أسسوا عليها بنيان التصحيح أو التحسين وبانخرامها أو بعضها ضعفوا الأحاديث .
    وهذه الشروط التي ذكرها من ألف في مصطلح الحديث قديماً وحديثاً بناء على نص من المتقدمين من المحدثين أو استقراءاً من صنيعهم وتعاملهم مع السنة .
    فأقول : الشروط التي ذكروها للحديث الصحيح خمسة :
    1- عدالة الرواة .
    2- اتصال السند .
    3- السلامة من الشذوذ .
    4- السلامة من العلل القادحة ( ) .
    وهذه الشروط ينص عليها العلماء أو يذكرونها ضمن تعريف الحديث الصحيح ، يقول ابن جماعة : أعلم أن الحديث الصحيح : هو ما اتصل سنده برواية العدل الضابط عن مثله وسلم من شذوذ وعلة ( ) .
    أما الحسن فإنه وإن اختلفت تعريفاتهم له كما هو معلوم عند الترمذي والخطابي وغيرهم إلا أن العلماء وجهوا ذلك كما فعل ابن الصلاح ( ) وابن جماعة ( ) ومن بعدهم ، فجعلوا الحسن قسمين : الحسن لذاته هو ما توفرت فيه الشروط السابقة إلا أن ضبط راويه خف فليس هو بالمتقن ( ) .
    والقسم الآخر وهو ما عرف عند المتأخرين بالحسن لغيره وهو الضعيف إذا تعددت طرقه والمقصو بالضعيف هو الذي يقبل الانجبار ويعتبر به وهذا التعريف هو ما عبر عنه الترمذي بقوله : (( كل حديث يروى ليس في إسناده متهم بالكذب ، ولا يكون الحديث شاذاً ويروى عن من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن )) ( ) .
    إذاً فالحسن لغيره يشترط فيه أن يأتي من طريق آخر مثله أو أعلى منه ، وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله هذه الشروط للحديث الصحيح بكلام جامع فقال الربيع : قال الشافعي : ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً منها : أن يكون من حدث به ثقة في دينه معروفاً بالصدق في حديثه ، عاقلاً لما يحدث به ، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه ، ولا يحدث به على المعنى ؛ لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحل الحلال إلى الحرام ، وإذا أدى بحروفه لم يبق وجه يخاف فيه إحالة الحديث ، حافظاً إن حدث من حفظه ، حافظاً لكتابه إن حدث من كتابه ، وإذا أشرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم بريئاً أن يكون مدلساً يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه أو يحدث عن النبي  بما يحدث الثقات خلافه ، ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي  أو إلى من انتهى به إليه دونه ، لأن كل واحد مثبت لمن حدثه ومثبت على من حدث عنه ( ) ا.هـ كلام الشافعي . وقد شرح ابن رجب رحمه الله في شرح العلل ثم قال : وقد روى مثل هذا الكلام عن جماعة من السلف ( ) .
    وسأذكر هنا ما تيسر لي جمعه حول مناهجهم في هذه الشروط التي ينبني عليها التصحيح والتضعيف وإلا فكل فقرة مما يأتي كفيلة أن تكون بحثاً يكتب فيه المجلد أو أكثر .
    وقد أعرضت عن المسائل والأمور الواضحة المتفق عليها وهذا من باب الاختصار :
    المبحث الأولً : مناهج المتقدمين فيما يتعلق بالعدالة .
    هنا مسائل مهمة متعلقة بالعدالة ينبني عليها التصحيح والتضعيف ، سأذكر في كل منها نبذة مختصرة مع الاستدلال لذلك ببعض نصوص المتقدمين وهي كالتالي :
    1- رواية المجهول ، ويتفرع منها أو قريب منها مسألة .
    2- رواية العدل أو العدول عن راوٍ هل تعتبر تعديلاً له .
    3- رواية المبتدع .
    رواية المجهول :
    المجهول كما هو معروف عند العلماء ، هو الراوي الذي عرف اسمه ولم يرو عنه إلا راوٍ واحد ولا يعرف فيه جرح ولا تعديل ، وهذا التعريف يدخل فيه مجهول العين ومجهول الحال ، إلا أن الأخير يعم من روى عنه أكثر من واحد .
    وقد ذهب المتأخرون إلى أن الجهالة ترتفع بأن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً ، يقول الخطيب البغدادي رحمه الله : أقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم كذلك ( ) ، وكذا قال عامة كتب المصطلح .
    لكن طريقة المتقدمين تختلف ، ولنتأمل هذا النص : قال يعقوب بن أبي شيبة : قلت ليحيى بن معين : متى يكون الرجل معروفاً إذا روى عندكم ؟ قال : إذا روى عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي وهوؤلاء أهل العلم فهو غير مجهول . قلت : فإذا روى عن الرجل مثل سماك بن حرب وأبي إسحاق ؟ قال : هؤلاء يروون عن المجهولين ( ) .
    علّق ابن رجب رحمه الله في شرح العلل على هذا - وابن رجب رحمه الله من أمثل من يتتبع طريقة المتقدمين – قال : وهذا تفصيل حسن وهو يخالف إطلاق محمد بن يحيى الذهلي الذي تبعه عليه المتأخرون ، أنه لا يخرج الرجل من الجهالة إلا برواية رجلين فصاعداً عنه .
    وابن المديني اشترط أكثر من ذلك ، فإنه يقول فيمن يروي عنه يحيى بن أبي كثير وزيد بن أسلم فقال : إنه مجهول . ويقول فيمن يروي عن شعبة وحده إنه مجهول . وقال فيمن يروي عنه ابن المبارك ووكيع وعاصم : هو معروف ... إلخ ( ) .
    فمما تقدم مما نقله ابن رجب رحمه الله يتبين أنهم يخالفون المتأخرين فيرفعون الجهالة عن الرجل برواية واحد لكن يكون هذا الواحد من العلماء الثقات الكبار .
    لكن منهج ابن المديني في هذا الباب فيه تشدد ، وقد لخص ابن رجب مذهبه بقوله : والظاهر أنه ينظر إلى اشتهار الرجل بين العلماء وكثرة حديثه ونحو ذلك ، لا ينظر إلى مجرد رواية الجماعة عنه ( ) . وقريب من ابن المديني أيضاً أبوحاتم الرازي والإمام أحمد بن حنبل ، فقد نقل ابن رجب رحمه الله عنه أنه قال في إسحاق بن أسيد الخراساني : ليس بالمشهور ( ) . قال : مع أنه روى عنه جماعة من المصريين لكنه لم يشتهر حديثه بين العلماء ، وكذا قال أحمد في حصين بن عبدالرحمن الحارثي : ليس يعرف ما روى عنه غير حجاج بن أرطأة وإسماعيل بن أبي خالد وروى عنه حديثاً واحداً وقال في عبدالرحمن بن وعلة إنه مجهول مع أنه روى عنه جماعة ، ولكن مراده أنه لم يشتهر حديثه ولم ينتشر بين العلماء .
    وقد صحح حديث بعض من روى عنه واحد ولم يجعله مجهولاً ، وقال في خالد بن عمير : لا أحد روى عنه غير الأسود بن شيبان ولكنه حسن الحديث . وقال مرة أخرى : حديثه عندي صحيح .
    كذا قرر ابن رجب مذهب أبي حاتم وأحمد ثم علق على ذلك بقوله : وظاهر هذا أنه لا عبرة بتعدد الرواة وإنما العبرة بالشهرة ورواية الحفاظ الثقات ( ) .
    ويدل لهذا المعنى أيضاً سؤال ابن أبي حاتم لأبيه حيث قال : سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه ؟ قال : إذا كان معروفاً بالضعف لم تقوه روايته ، وإن كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه ( ) .
    وسأل أبا زرعة أيضاً فقال : ((سألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما تقوي حديثه فقال : أي لعمري . قلت : الكلبي روى عنه الثوري ، قال : إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء ، وكان الكلبي يتكلم فيه ... )) ( ) .
    فاعتراض ابن أبي حاتم بالثوري يدل على أن الثقة الذي ترفع روايته الجهالة هو الثقة المتميز ، وأضاف أبو زرعة حيث لا يكون المرء متكلماً فيه .
    فالخلاصة مما سبق مما نقلناه أن الراوي عند المتقدمين ترتفع عنه الجهالة إذا :
    - روى عنه واحد من الأئمة الثقات الحفاظ بشرط أن لا يكون الراوي عنه يروي عن المجهولين كما دل عليه كلام يحيى بن معين .
    - وأن لا يكون معروفاً بالضعف كما عبر عنه أبو حاتم .
    - أو لا يكون تكلم فيه العلماء كما عبر بذلك أبو زرعة .
    وبعضهم كابن المديني لا يرفع عنه الجهالة ولو روى عنه أكثر من ثقة ، بل يعتبر في ذلك اشتهار حديثه بين العلماء كما سبق . لكن هنا سؤال وهو : ما الذي يرتفع ؟ هل هو جهالة العين أو جهالة الحال ؟
    ظاهر كلام أبي حاتم عندما قال : وإن كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه أنها تقوي حاله ، والذي يظهر لي أن الذي تقوي حاله ويوثق من هذا النوع إذا كان الراوي عنه من أهل التحري والتدقيق كمن صرح أنه لا يروي إلا عن ثقة أو نُص أو اشتهر على أنه لا يروي إلا عن ثقة ، ولعل هذا هو مراد أبي حاتم . وقد سأل أبو داود الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقال : إذا روى يحيى – يعني ابن سعيد القطان – أو عبدالرحمن بن مهدي عن رجل مجهول يحتج بحديثه ؟ قال : يحتج بحديثه ( ) . وروى أيضاً في سؤالات أبي داود : سمعت أحمد قال : عثمان بن غياث ثقة أو قال : لا بأس به ولكنه مرجئ ، حدث عنه يحيى ، ولم يكن يحدث إلا عن ثقة ( ) . وفيه أيضاً سمعت أحمد قال : أبان بن خالد شيخ بصري لا بأس به ، كان عبدالرحمن – يعني ابن المهدي – يحدث عنه وكان لا يحدث إلا عن ثقة ( ) .
    قال ابن رجب : والمنصوص عن أحمد يدل على أنه من عرف منه أنه لا يروي إلا عن ثقة ، فروايته عن إنسان تعديل له ، ومن لم يعرف منه ذلك فليس بتعديل . ثم نقل ابن رجب الروايات عن أحمد فيمن لا يروي إلا عن ثقة ، فذكر يحيى بن سعيد وابن مهدي وذكر منهم الإمام مالك حيث قال الإمام أحمد : ما رووى مالك عن أحد إلا وهو ثقة ، وكل من روى عنه مالك فهو ثقة .
    وقول يحيى بن معين : لا تريد أن تسأل عن رجال مالك ، كل من حدث عنه ثقة إلا رجل أو رجلين ( ) .
    وممن كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر غير ما سبق : الإمام أحمد ، وبقي ابن مخلد وحريز بن عثمان ، وسليمان بن حرب وشعبة ( ) ، ومنهم ابن معين والبخاري ومسلم والنسائي وأبو زرعة وغيرهم .
    فتبين بهذا أنه قد أخطأ من أطلق من المتأخرين رد رواية مجهول العين مطلقاً بل هو على التفصيل السابق ، وقد عمل بهذا الحافظ ابن حجر فقال في التهذيب في ترجمة أحمد بن نفيل السكوني الكوفي : روى عن حفص بن غياث وعنه النسائي وقال : لا باس به . وقال الذهبي : مجهول . قلت (الحافظ) : بل هو معروف ، يكفيه رواية النسائي عنه ( ) . فاعتبر رواية النسائي وحده كافية في رفع جهالة عينه ، ثم قوله : لا بأس به ترفع جهالة حاله .
    وقال في ترجمة أحمد بن يحيى الحراني : وقال الذهبي في الطبقات : أحمد بن يحيى بن محمد لا يعرف ، قلت : بل يكفي في رفع جهالة عينه رواية النسائي عنه ، وفي التعريف بحاله توثيقه له ( ) . وهذا يدل على أن ابن حجر رحمه الله يرى زوال الجهالة برواية واحد من الأئمة مع تزكيته وأيد هذا ابن الوزير والصنعاني رحمه الله ( ) ، ويوجد في التهذيب والميزان أدلة غير التي ذكرت .
    وأنبه إلى أن الذهبي رحمه الله رغم ما سبق إلا أنه يتساهل في رواية المجهولين من كبار التابعين ، فقد قال في كتابه (ديوان الضعفاء) : وأما المجهولون من الرواة فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقي بحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ ، وإن كان الرجل من صغار التابعين فيتأنى في رواية خبره ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه وتحريه وعدم ذلك ، وإن كان المجهول من أتباع التابعين فمن بعدهم فهو أضعف لخبره لاسيما إذا انفرد به ( ) .
    وممن تساهل في المجهولين من القدماء : الإمام ابن حبان كما هو معروف من مذهبه ، فإنه نص على أن المسلم ممن لم يعرف بجرح فهو عدل إذا لم يتبين ضده إذ لم يكلف الناس معرفة ما غاب عنهم ( ) .
    وبهذا المذهب وثق ابن حبان كثيراً من المجهولين المستورين ( ) الذين يصرح هو أحياناً بأنه لا يعرفهم ، ولذلك نجد كثيراً ممن قال عنه الذهبي وابن حجر : مجهول أو لا يعرف أو مستور ، ونجد ابن حبان رحمه الله ذكره في الثقات لكن ليس كل من ذكره ابن حبان في الثقات مجهول كما هو معلوم ، بل أحياناً يصرح بالتوثيق أو يكون ذلك الراوي من شيوخه الذين عرفهم وخبرهم ، وقد فصل في هذه المسألة المعلمي رحمه الله في التنكيل .
    وقريب من ابن حبان الحاكم رحمه الله في كتابه المستدرك حيث ذكر قريباً مما ذكره ابن حبان ( ) ، كما أنه أورد في المستدرك أحاديث ، ومع ذلك قال : فيه فلان لا أعرفه بعدالة ولا جرح ( ) .
    مبحث :
    مسألة : رواية الثقة أو الثقات عن الراوي هل تعدّ تعديلاً له ؟
    أما إن كان الراوي الثقة ليس من أهل التحري ولا يشترط أن يروي عن ثقة فروايته لا تعتبر توثيقاً فنصوصهم تدل على أن رواية الثقة عن رجل لا تدل على توثيقه ، والسبب في ذلك أنهم كانوا يروون عن الضعفاء إما لقصد المعرفة والكشف عن روايتهم أو لغير ذلك من الأغراض . وقد سبق اعتراض ابن أبي حاتم بأن الثوري روى عن الكلبي وهو ضعيف ، وقول يحيى ابن معين إن سماك بن حرب وأبا إسحاق يروون عن المجاهيل . وقد ذكر العقيلي بإسناد له عن الثوري قال : إني لأروي الحديث على ثلاثة أوجه : أسمع الحديث من الرجل أتخذه ديناًوأسمع الحديث من الرجل أوقف حديثه ، وأسمع الحديث من الرجل لا أعبأ بحديثه وأحب معرفته ( ) .
    قال ابن رجب رحمه الله : رواية الثقة عن رجل لا تدل على توثيقه ، فإن كثيراً من الثقات رووا عن الضعفاء كسفيان الثوري وشعبة وغيرهما ، وكان شعبة يقول : لو لم أحدثكم إلا عن الثقات لم أحدثكم إلا عن نفر يسير ، قال يحيى القطان : إن لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت إلا عن خمسة أو نحو ذلك ( ) ، وقال في موضع آخر عندما تكلم عن مسألة جواز الرواية عن الضعفاء ، قال : وكذلك من بعدهم من أئمة المسلمين قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر إلى عصرنا هذا لم يخل حديث إمام من أئمة الفريقين عن مطعون فيه من المحدثين ، وللأئمة في ذلك غرض ظاهر ، وهو أن يعرفوا الحديث من أين مخرجه والمنفرد به عدل أو مجروح ( ) .
    كذالك مما يوثق ممن يدخل في اصطلاح المجهول ما احتج به البخاري ومسلم أو أحدهما فصححا له فإن هذا توثيق ضمني له إذ التصحيح فرع التوثيق ، أو نقول كما قال شيخنا الشيخ المحديث أحمد معبد عبد الكريم - محقق النفخ الشذي لابن سيد الناس – قال : إن هذا توثيق عملي ، فهذا النوع من الرواة محتج بهم .
    قال ابن الصلاح رحمه الله : ((قد خرّج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم غير راوٍ واحد ... وكذلك خرّج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد ، وذلك مصير منهما إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً مردوداً برواية واحد عنه)) ( ) .
    وقال الذهبي رحمه الله في الموقظة : (( الثقة من وثقه كثير ولم يضعف ، ودونه من لم يوثق ولا ضعف ، فإن خرّج حديث هذا في الصحيحين فهو موثق بذلك)) .
    وقال في موضع آخر : (( فمن احتجا به أو أحدهما ولم يوثق ولا غمز فهو ثقة حديثه قوي)) ( ) .وذكر السخاوي رحمه الله جماعة ممن روى لهم البخاري ومسلم ولم يرو عنهم إلا راوٍ واحد فمنهم حصين بن محمد الأنصاري أخرجا له ولم يرو عنه إلا الزهري وأخرج البخاري لجارية أو جويرية بن قدامة وانفرد عنه أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي ، وزيد بن رباح ولم يرو عنه إلا مالك ، وأخرج مسلم كذلك لجماعة منهم جابر بن إسماعيل الحضرمي ولم يرو عنه إلا ابن وهب ، وخباب المدني تفرد به عامر بن سعد ، ثم علق السخاوي فقال : فإنهم مع ذلك موثقون ولم يتعرض أحد من أئمة الجرح والتعديل لأحد منهم بتجهيل ، نعم جهل أبو حاتم محمد بن الحكم المروزي الأحول ، أحد شيوخ البخاري في صحيحه والمنفرد عنه بالرواية لكونه لم يعرفه ولكن نقول : معرفة البخاري به التي اقتضت له روايته عنه ولو انفرد بهما كافية في توثيقه ... إلى أن قال : وبالجملة فرواية إمام ناقل للشريعة لرجل ممن لم يرو عنه سوى واحد في مقام الاحتجاج كافية في تعريفه وتعديله ( ) .
    أما إن روى عنه جماعة من الثقات ولم يجرح ولم يوثق فقد قال طائفة إنه يوثق بمجرد ذلك ، قال السخاوي : وذهب بعضهم إلى أن مما تثبت به العدالة رواية جماعة من الجُلة عن الراوي وهذه طريقة البزار ( ) في مسنده ، وجنح إليها ابن القطان في الكلام على حديث قطع السدر من كتابه الوهم والإيهام ونحوه قول الذهبي في ترجمة مالك بن الخير الزيادي من ميزانه ( ) .
    وقد نقل عن ابن القطان أنه ممن لم تثبت عدالته ، يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة ، قال : وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم ، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح ، لكن تعقبه شيخنا – يعني ابن حجر – بقوله : ما نسبه للجمهور لم يصرح به أحد من أئمة النقد إلا ابن حبان ، نعم هو حق فيمن كان مشهوراً بطلب الحديث والانتساب إليه كما قررته في علوم الحديث ( ) .
    أقول : ما استدل به الذهبي من رجال الصحيحين يجاب عليه بما سبق أن الرواية لهم في مقام الاحتجاج توثيق لهم . وردّ عليه ابن حجر في اللسان بقوله : فإن هذا شيء نادر لأن غالبهم معروفون بالثقة إلا من خرجا له في الاستشهاد ( ) .
    وقال الذهبي في الموقظة : وقد اشتهر عند طوائف من المتأخرين إطلاق اسم الثقة على من لم يجرح مع ارتفاع الجهالة عنه ، وهذا يسمى مستوراً ويسمى محله الصدق ويقال فيه شيخ ( ) .
    وقد نصر الشيخ المحدث الألباني رحمه الله ما ذهب إليه ابن القطان والذهبي ونقل قول ابن القطان وذكر أنه جرى عليها الذهبي وابن حجر في توثيق بعض الرواة الذين لم يسبقوا إلى توثيقهم .
    قال ذلك الألباني في رده على من انتقد عليه توثيق الهيثم بن عمران العبسي وقد وثقه ابن حبان وروى عنه خمسة ( ) ، وكذلك فعل شعيب الأرناؤوط وغيره حيث أعملوا هذا القول في تحقيقهم للمسند ( ) .
    أقول : والذي يظهر لي أن منهج المتقدمين بخلاف ذلك ، فقد أسلفت فيما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال في عبدالرحمن بن وعلة أنه مجهول مع أنه روى عنه جماعة ، وقول علي بن المديني في داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص : ليس بالمشهور مع أنه روى عنه جماعة ( ) .
    ومن تأمل كتب المتقدمين في التراجم يجد أنهم لا يوثقون بمجرد رواية جماعة من الثقات في كثير ممن ترجموا لهم ، وانظر مثلاً ترجمة إسماعيل بن قيس العبسي أبو سعيد في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ، فقد ذكر أنه روى عنه معن بن عيسى ، وموسى بن إسماعيل والقواريري ، ومع ذلك قال عنه أبو حاتم : مجهول ليس بالمشهور ( ) ، وأيضاً في ترجمة صالح بن رستم الهاشمي أبو عبدالسلام الدمشقي ذكر أنه روى عنه عبدالرحمن بن يزيد بن جابر وسعيد بن أبي أيوب ، وقال عنه أبو حاتم : مجهول لا نعرفه ( ) .
    وقد تقدم ما ذكره ابن رجب رحمه الله عن ابن المديني أنه ينظر إلى اشتهار الرجل بين العلماء وكثرة حديثه ونحو ذلك لا ينظر إلى مجرد رواية الجماعة عنه ، وكذا قوله : لا عبرة بتعدد الرواة وإنما العبرة بالشهرة ورواية الحفاظ الثقات .
    فالخلاصة : أن من روى عنه ولو واحد من أئمة النقل أهل النقد والتحري ممن لا يروي إلا عن الثقات ولم يُتَكلم فيه فإنه ينفعه ذلك ، أما إن كان الراوي عنه ليس كذلك فإنه لا ينفعه ولو كثروا . والله
    مبحث : رواية المبتدع .
    والكلام فيها تفصيلاً طويل لكن لخص ابن رجب رحمه الله تعالى أقوال القدماء فيها على ثلاثة أقوال :
    1- المنع مطلقاً :
    ونسبه لابن سيرين ومالك وابن عيينة والحميدي ويونس بن إسحاق وعلي بن حرب .
    أما ابن سيرين فقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه قال : لم يكونوا ليسألوا عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ( ) . وقال يعقوب بن شيبة : قلت ليحيى بن معين : تعرف أحداً من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم ؟ فقال : لا ( ) .
    أما مالك رحمه الله فقد أسند ابن أبي حاتم في ترجمته له في مقدمة الجرج والتعديل ما يدل على شدة انتقائه ، كذلك أخرج ابن عدي عنه ذلك في مقدمة الكامل في ضعفاء الرجال .
    2- القول الثاني
    قال ابن رجب : ورخصت طائفة في الرواية عنهم إذا لم يتهموا بالكذب ، منهم أبو حنيفة والشافعي ويحيى بن سعيد وعلي بن المديني ، وقال ابن المديني : لو تركت أهل البصرة للقدر وتركت أهل الكوفة للتشيع لخربت الكتب ( ) . ونقل الخطيب عن الشافعي قال : وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة ؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم ( ) .
    3- القول الثالث :
    وفرقت طائفة أخرى بين الداعية فمنعوا الرواية عن الداعية إلى البدعة دون غيره ، منهم ابن المبارك وابن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وروي أيضاً عن مالك .
    وفي سؤالات أبي داود : قلت لأحمد يكتب عن القدري قال : إذا لم يكن داعياً ، وسمعت أحمد يقول : احتملوا المرجئة في الحديث ( ) .
    وقال يزيد بن هارون : لا يكتب عن الرافضة فإنهم يكذبون ( ) .
    وقال أبو داود : ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج ، ثم ذكر عمران بن حطان وأبا حسان الأعرج ، ومنهم من فرق بين من يغلو ومن لا يغلو ، كما ترك ابن خزيمة حديث عباد بن يعقوب ( ) .
    والذي يظهر مما سبق قبول رواية المبتدع إذا اشتهر بالصدق ولم يكن غالياً ولم يكن داعياً لبدعتة . وقد نقل ابن حبان الاتفاق على هذا القول في ثقاته قال : ليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز ، فإن دعى إليها سقط الاحتجاج بأخباره ( ) . وحكى هذا القول الخطيب عن الأكثرين ( ) .
    وقال ابن رجب بعد ذكر الأقوال : فيخرج من هذا أن البدع الغليظة كالتجهم يرد بها الرواية مطلقاً ، والمتوسطة كالقدر إنما يرد الداعي إليها ، والخفيفة كالإرجاء هل تقبل معها الرواية مطلقاً أو يرد عن الداعية على روايتين ( ) - يعنى عن الإمام أحمد - .
    أقول : وعلى ما سبق يحمل تخريج الشيخين لطائفة من المبتدعة ، فقد أجاب ابن حجر على تخريج البخاري لعمران بن حطان بقوله : إنما أخرج له على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صادق اللهجة متديناً ( ) .
    وقد ذكر السخاوي رحمه الله طائفة من المبتدعة من خرج لهم في الصحيحين وذكر الأعذار للشيخين في ذلك ( ) .
    المبحث الثاني : المسائل المتعلقة بالضبط .
    ومن المهم التنبيه عليه في هذا الباب ذكر منهج المتقدمين في الرواة الذين يكونون من أهل الصدق والحفظ ولكن يقع الوهم في حديثهم كثيراً لكن ليس هو الغالب عليهم ، فإن المتأمل في طريقة كثير من المتأخرين يجدهم على طرفين ، فمنهم من يقبل رواياتهم مطلقاً ومنهم من يردها مطلقاً ، بينما نجد أن طريقة المتقدمين التطبيقية هي الانتقاء من حديث هؤلاء ما ضبطوه ولم يظهر فيه الخطأ وإن كان منهم من شدد فترك حديث هذه الطبقة .
    يقول أبو عيسى الترمذي في العلل : (( وقد تكلم بعض أهل الحديث في قوم من جلة أهل العلم وضعفوهم من قبل حفظهم ، ووثقهم آخرون لجلالتهم وصدقهم وإن كانوا قد وهموا في بعض ما رووا .وقد تكلم يحيى بن سعيد القطان في محمد بن عمرو ثم روى عنه ، ثم روى الترمذي عن علي بن المديني أن يحيى بن سعيد لم يرو عن شريك ولا عن أبي بكر بن عياش ولا عن الربيع بن صبيح ولا عن المبارك بن فضالة ، ثم قال الترمذي : وهؤلاء الذين تركهم يحيى بن سعيد القطان حدث عنهم عبدالله بن المبارك ووكيع بن الجراح وعبدالرحمن بن مهدي وغيرهم من الأئمة ( ) .
    وذكر ابن رجب رحمه الله في شرحه أن هذا - يعني الرواية عنهم - رأي سفيان وأكثر أهل الحديث المعنيين منهم في السنن والصحاح كمسلم بن الحجاج وغيره ، فإنه ذكر في مقدمة كتابه ( ) أنه لا يخرج حديث من هو متهم عند أهل الحديث ولا من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط ، وذكر قبل ذلك أنه يخرج حديث أهل الحفظ والإتقان وأنهم على ضربين أحدهما : من لم يوجد في حديثه اختلاف شديد ولا تخليط فاحش ، والثاني : من هو دونهم في الحفظ والإتقان ويشملهم اسم الصدق والستر وتعاطي العلم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي مسلم ، قيل إنه أدركته المنية قبل تخريج حديث هؤلاء ، وقيل : إنه خرّج لهم في المتابعات وذلك مراده ، وعلى هذا المنوال الشيخ أبو داود والنسائي والترمذي مع أنه خرّج لبعض ممن هو دون هؤلاء وبين ذلك ولم يسكت عنه ، وإلى طريقة يحيى بن سعيد يميل علي بن المديني والامام البخاري ( ) .وروى العقيلي عن عبدالرحمن بن مهدي قال : الناس ثلاثة (رجل حافظ متقن فهذا لا يختلف فيه ، وآخر متهم والغالب على حديثه الصحة فهذا لا يترك حديثه ، وآخر متهم والغالب على حديث الوهم فهذا يترك حديثه ( ) .
    وروى الخطيب في الكفاية عن سفيان الثوري قال : ليس يفلت من الغلط أحد ، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط ، وإذا كان الغالب عليه الغلط ترك ( ) .
    أقول : وهؤلاء الممثل بهم إذا رأيت عمل الأئمة وجدتهم يخرجون لهم ، فمحمد بن عمرو الذي تكلم فيه يحيى خرّج له البخاري رحمه الله مقروناً بغيره ومسلم في المتابعات واحتج به أصحاب السنن ( ) ، وكذلك عبدالرحمن بن حرملة أخرج له مسلم وكان القطان يضعفه ولا يرضاه وكان يقول : كنت سيء الحفظ فسألت سعيد بن المسيب فرخص لي في الكتاب ( ) ، وشريك هو ابن عبدالله النخعي أخرج له مسلم مقروناً بغيره وكان كثير الوهم لاسيما بعد أن ولي القضاء ( ) ، وأبو بكر بن عياش المقرئ أخرج له البخاري رحمه الله وهو رجل صالح لكنه كثير الوهم ( ) .
    وأما الربيع بن صبيح ومبارك بن فضالة فلم يخرجا لهما في الصحيح ، وقد وثقا وتكلم فيهما ( ) ، ونحو هؤلاذكره الترمذي رحمه الله بعد ذلك حيث قال : (( وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي صالح ومحمد بن إسحاق وحماد بن سلمة ومحمد بن عجلان ، وأشباه هؤلاء من الأئمة إنما تكلموا فيهم من قبل حفظهم في بعض ما رووا وقد حدث عنهم الأئمة )) ( ) .
    فهؤلاء أيضاً خرّج لهم مسلم ولبعضهم البخاري رحمهم الله لكن كما أشرت أن الأئمة ينتقون من روايات هؤلاء أجودها ، قال ابن رجب رحمه الله : والترمذي يخرج حديث الثقة الضابط ومن يهم قليلاً ، ومن يهم كثيراً أو من يغلب عليه الوهم يخرّج حديثه نادراً يبين ذلك ولا يسكت عنه ، وأبو داود قريب من الترمذي في هذا بل هو أشد انتقاء للرجال منه ، وأما النسائي فشرطه أشد من ذلك ولا يكاد يخرج لمن يغلب عليه الوهم ولا عمن فحش خطؤه وكثر وأما مسلم فلا يخرّج إلا حديث الثقة الضابط ، ومن في حفظه شيء تكلم فيه لحفظه لكنه يتحرى في التخريج عنه ولا يخرج عنه إلا ما لا يقال إنه مما وهم فيه ، وأما البخاري فشرطه أشد في ذلك وهو أنه لا يخرج إلا الثقة الضابط ولمن ندر وهمه وإن كان قد اعترض عليه في بعض من خرّج عنه ( ) .
    وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد - في رده على ابن القطان عندما عاب على مسلم الاحتجاج بـ مطر الوراق - وقال : كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى فقال ابن القيم : ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه ؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه ، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة ، ومن ضعف جمع حديث سيء الحفظ فالأولى طريقة الحاكم وأمثاله ، والثانية طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله ، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن ، والله المستعان ( ) .
    أقول : وهذا كلام جيد محقق يتبين به طريقة المتقدمين في الرواية عمن تكلم فيه ، ونحو هذا الكلام قال ابن القيم في جزء له في فوائد في الكلام على حديث الغمامة قال : وقد روى الحاكم حديث عبدالرحمن بن غزوان هذا في المستدرك وقال : (( هو على شرط مسلم )) وليس كما قال فإن مسلماً إذا احتج بثقة لم يلزمه تصحيح جميع ما رواه ويكون كل ما رواه على شرطه ، فإن الثقة قد يغلط ويهم ويكون الحديث من حديثه معلولاً علة مؤثرة فيه مانعة من صحته ، فإذا احتج بحديث من حديثه غير معلول لم يكن الحديث المعلول على شرطه ، والله أعلم ( ) .
    أقول : وبناءً على هذا فلا يجزم بصحة ما قيل فيه رجاله رجال الصحيح أو على شرط الصحيح حتى ينظر فيه واتصاله وخلوه من الشذوذ والنكارة والعلة . والله أعلم .
    المبحث الثالث : المسائل المتعلقة باتصال السند :
    المسألة الأولى : هل يكفي في الاتصال بين الراويين المعاصرة أم لا بد من ثبوت اللقاء ؟
    هذه المسألة المشهورة بين الإمامين البخاري ومسلم ، فمن المعلوم أن الإمام مسلم شنّع في مقدمة صحيحه على من اشترط ثبوت اللقاء ورأى الاكتفاء بالمعاصرة وقصد بذلك الرد على علي بن المديني وقيل إنه أراد البخاري ( ) ، وقيل إنه أراد بذلك بعض أقرانه أو من دونه ( ) .
    وعلى كلٍّ فالمقصود القول لا القائل ، فالبخاري رحمه الله يشترط ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة والتزم ذلك في صحيحه ، ومسلم رحمه الله يقبل الحديث المعنعن بين متعاصرين أمكن لقاؤهما وسلم المعنعِن من التدليس ، والمسألة تكلم فيها العلماء قديماً وحديثاً بل ألفت فيها المؤلفات ككتاب السنن الأبين في المحاكمة بين الإمامين البخاري ومسلم في السند المعنعن ( ) لابن رشيد الفهري ، وهو كتاب قـيّم عرض فيه مؤلفه المسألة ورجح فيه قول البخاري وأجاب على أدلة مسلم التي استدل بها في مقدمة صحيحه بأجوبة مقنعة لمن قرأها . وذكر ابن رشيد في كتابه أن قول البخاري هو قول كثير من المحدثين ( ) وكذا رجح قول البخاري ابن الصلاح فقال : والذي صار إليه مسلم هو المستنكر وما أنكره قد قيل إنه القول الذي عليه أئمة هذا العلم علي ابن المديني والبخاري وغيرهما ( ) ، ونحو هذا قال النووي في شرحه لمسلم ( ) ونسبه العلائي لأكثر الأئمة ( ) ، وقال ابن رجب : (( وأما جمهور المتقدمين فعلىما قاله ابن المديني والبخاري وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله )) ( ) .
    ثم قرر ابن رجب هذا بأمثلة وأدلة كثيرة تدل على أنه قول المتقدمين ، وذكر رحمه الله أن كثيراً من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم رحمه الله ... قال : وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره ، وقد حكى بعض أصحابنا عن أحمد مثله ، لكن ابن رجب رحمه الله رجح قول البخاري وردّ على مسلم دعوى الإجماع على قوله وأجاب على بعض أدلته ( ) .
    وقد رجح قول مسلم جماعة من الأئمة كابن جماعة في المنهل الروي حيث رجحه ونسبه لجماهير العلماء ( ) وصححه ابن كثير وقال : عليه العمل ( ) .
    أقول : وهو الذي جرى عليه عمل كثير من المحدثين المعاصرين كأحمد شاكر والألباني ( ) رحمهما الله تعالى ، ولست بصدد التوسع في هذه المسألة فقد ألفت فيها مؤلفات كما أسلفت وقد جمعت فيها رسالة ماجستير للشيخ خالد بن منصور الدريس وفقه الله ، وقد علمت عنها أثناء البحث فوقفت عليها وقرأت بعضها وهي قيّمة وفيها فوائد جليلة ، والمقصود هنا التنبيه على بعض الأمور المهمة التي وقع التساهل بها في هذا الباب منها :
    1- أن الإمام مسلم رحمه الله تعالى رغم قوله ونصرته لهذا القول إلا أنه احتاط في صحيحه فأخرج من هذا النوع ما له متابعات ، قال النووي رحمه الله في شرحه : ((وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله في صحيحه بهذا المذهب لكونه يجمع طرقاً كثيرة يتعذر معها وجود مثل هذا الحكم الذي جوّزه )) ( ) ، ونحو هذا ذكر ابن الصلاح في كتابه صيانة صحيح مسلم ( ) .
    ومما يدل على ذلك أيضاً حديث أخرجه مسلم من رواية طاووس عن عائشة في النهي عن الصلاة حال طلوع الشمس وغروبها ، وطاووس كما في ترجمته في
    التهذيب ( ) ذكر أنه لم يسمع من عائشة ، وقد ساق مسلم رحمه الله للحديث طرقاً كثيرة عن عائشة وشواهد ( ) .
    فالذي أراه أن لا يتساهل الباحث والمحقق في تصحيح الحديث إذا لم يثبت اللقاء في العنعنة بين ثقتين إلا إن كان هناك قرائن تدل على اللقاء كما سيأتي .
    2- رغم أن قول البخاري رحمه الله تعالى ومن قال بقوله هو الأقوى والأحوط إلا أن من تتبع كلام الأئمة وجد أنهم يثبتون اللقاء بالقرائن ولولم يكن هناك ما يدل صريحاً عليه مثل طول المعاصرة وكونهما من بلد واحد أو كونهما قريبين كالولد مع أبيه وغير ذلك .
    قال الحافظ ابن رشيد الفهري في كتابه الفائق السنن الأبين : (( فقد يكون لكل حديث حكم يخصه فيطلع فيه على ما يفهم اللقاء أو السماع ، ويثير ظناً خاصاً في صحة ذلك الحديث فيصحح اعتماداً على ذلك لا من مجرد العنعنة ، ومثل هذا أيها الإمام - يعني الإمام مسلم - لا يُقدر على إنكاره ، وقد فعلت في كتابك مثله من رعي الاعتبار بالمتابعات والشواهد وذلك مشهور عند أهل الصنعة )) ( ) .
    وقد عمل العلائي رحمه الله بالقرائن فقال حينما ذكر قول أبي زرعة : حميد بن عبدالرحمن عن علي وأبي بكر مرسل ، قال : قد سمع من أبيه وعثمان رضي الله عنهما فكيف يكون عن علي مرسلاً وهو معه بالمدينة ؟ )) ( ) .
    وقبله أبو حاتم رحمه الله فقد قال : ((يشبه أن يكون زيد بن أبي أنيسة قد سمع من عبيد بن فيروز ؛ لأنه من أهل بلده )) ( ) .ومن هذا الباب أيضاً ما ذكره ابن رجب رحمه الله عن الإمام أحمد أنه سئل عن أبي ركانة سمع من سفينة قال : ينبغي هو قديم قد سمع من ابن عمر( ) .فهذه أمور بنبغي مراعاتها في هذا الباب . والله الموفق .
    المرسل :
    قد تكلم العلماء في المرسل قديماً وحديثاً وألفت فيه المؤلفات ومن أنفعها : جامع التحصيل للعلائي رحمه الله تعالى ، ولابن رجب رحمه الله في شرح العلل كلام نفيس فيها .
    والذي يهم أن أنبه عليه من منهج المتقدمين في هذا الباب عدة أمور :
    1- من المعلوم أن جمهور المحدثين القدماء على عدم الاحتجاج بالمرسل كما قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه : (( المرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة وقال : إذا كان مرسلاً فإنه لا يصح عند أكثر أهل الحديث)) ( ) وقال الترمذي : الحديث إذا كان مرسلاً فإنه لا يصح عند أكثر أهل الحديث ( ) . ومن قبِله منهم كالشافعي وغيره فقد شرطوا له شروطاً في المرسِل والمرسل ذكرها الشافعي رحمه الله في الرسالة ( ) ، وإنما أطلق قبول المرسل كثير من الفقهاء ، والمحدثين بخلافهم لكن من المراسيل عند طائفة من المتقدمين كأحمد وابن المديني وغيرهم ما هو صحيح كمراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي ، وقد نقل ذلك عنهم ابن رجب وقال : هي عندهم صحاح ( ) ، والسبب في ذلك أنهم يرسلون عن الثقات ، ومنهم من تتبعها فوجدها صحيحة الأسانيد كما ذكر ذلك الحاكم في مراسيل سعيد بن المسيب ( ) لكن يستثنى مراسيل سعيد عن أبي بكر رضي الله عنه فقد قال عنها يحيى بن سعيد : ذلك شبه الريح ( ) . والقول بقبول مرسل من لا يرسل إلا عن ثقة قول كثيرين من أئمة الجرج والتعديل كما ذكر العلائي ( ) وقال ابن رجب : وقد نقل ابن عبدالبر ما يقتضي أن ذلك إجماع ( ) ، وقال العلائي : فهذا القول أرجح الأقوال في هذه المسألة وأعدلها ، لكن هل مراسيل هؤلاء مقبولة بمفردها أو باعتضادها بموصول أو مرسل آخر أو قول صحابي وغيره مما ذكره الشافعي ؟
    ظاهر نقل من تكلم في هذه المسألة أن المراد الاحتجاج بها بمفردها ، وتأول الخطيب البغدادي رحمه الله ما ورد عن الشافعي أن إرسال سعيد بن المسيب حسن بأن ذلك إذا اعتضدت قال : لا أنها تقبل بانفرادها لأنه وجد لسعيد بن المسيب عدة مراسيل لم تعرف مسنده ( ) لكن العلائي رحمه الله رجح الأول ، وأن مقصود الشافعي في قبول مرسل ابن المسيب بمفرده ( ) .
    والذي يظهر لي أن هذا النوع من المراسيل أن الأئمة القدماء إنماحكموا عليها بالصحة والحسن بعد اعتبارها وتتبعها ووجود ما يشهد لها عندهم ، فنحن نقبلها اتباعاً لهم ، والله أعلم .
    2- المراسيل تتفاوت صحة وضعفاً ، وهذا أمر يكثر في كتب المراسيل يفاضلون بينها ، وأسباب التفاوت كما ذكر ابن رجب يدور على أربعة أسباب :
    أحدها : أن من عرفت روايته عن الضعفاء ضعف مرسله بخلاف غيره .
    ثانيها : أن من عرف له سند صحيح إلى من أرسل عنه فإرساله خير ممن لم يعرف له ذلك .
    ثالثها : أن من قوي حفظه يحفظ كل ما يسمعه ويثبت في قلبه ويكون منه ما لا يجوز الاعتماد عليه بخلاف من لم يكن له قوة في الحفظ .
    رابعها : أن الحافظ إذا روى عن ثقة لا يكاد يترك اسمه ، فإذا ترك اسمه دلّ إبهامه على أنه غير مرضي ( ) .
    3- المتقدمون من المحدثين يطلقون المرسل على كل ما لم يسمعه الراوي عمن فوقه ورواه عنه ، فيطلق عندهم على كل انقطاع بين راويين . قال عبدالله بن الإمام أحمد : قال أبي : ما سمع سفيان الثوري من أبي عون غير هذا الحديث - يعني حديث الوضوء مما مست النار - والباقي يرسلها عنه( ) . فقد سمى الإمام أحمد الرواية المنقطعة مرسلة ، ويكثر في استعمالهم أن يقولوا : أرسله فلان . وكتب المراسيل والعلل مليئة بهذا الاستعمال ، أما المتأخرون ممن ألّف في المصطلح فقد خصصوا المراسيل برواية التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ما سقط منه الصحابي والأول أدق .
    4- يجب على من يدرس الأسانيد العناية بهذا الباب ، فقد يجد في السند رجلاً ذكر في ترجمته أنه يرسل أو كثير المراسيل ، فعليه النظر في عنعنته فقد يكون لم يلق من فوقه فيكون الحديث منقطعاً لا يصح فيأتي من يصححه بناءً على الظاهر ، فالأسلم في هذا مراجعة كتب المراسيل كـ (جامع التحصيل) وغيره .
    المدلس :
    والتدليس أنواع كثيرة أشار إلى بعضها ابن حجر في النكت ( ) ، وفي كتابه تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس وليس المجال لذكرها ولكن أبرزها تدليس الإسناد وهو المراد عند الإطلاق وهو أخص من المرسل كما هو معلوم ، فهو رواية الراوي عمن لقيه وسمع منه ما لم يسمعه منه بلفظ موهم وهذا هو أشهر أنواع التدليس ، بينما المرسل رواية الراوي عمن لم يلقه وأخص منه ما ذكره بعض المحدثين كابن حجر وهو المرسل الخفي وهو رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه ( ) ، لكن كثيراً من المتقدمين يطلقون على هذا تدليساً بل جعله الحاكم من أجناس التدليس فقال : ((والجنس السادس من التدليس قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ولم يسمعوا منهم ... )) ( ) .
    وهذا الاختلاف ترتب عليه اختلاف بين المتقدمين والمتأخرين ، فبعض المتأخرين رتبوا على إطلاق بعض المتقدمين على هذا النوع تدليساً أن وصفوا بعض الرواة بالتدليس ومن ثم لم يقبلوا عنعنتهم مطلقاً ، وإذا علمت أن بعض المحدثين يستجيزون الإرسال لأغراض شتى أشار إليها ابن رجب والعلائي عرفت خطأ هذه النتيجة ، فالمرسل إنما يرد حديثه فيمن أرسل عنه بينما تقبل عنعنته فيمن ثبت سماعه له ، ومن هذا القبيل الحسن البصري ( ) والإمام الزهري فلينتبه لهذا فلا يكتفى بالرجوع لكتب المتأخرين فقط .
    ولعلي لا أطيل في هذا المبحث ، فقد كتب فيه أحد طلاب العلم كتاباً قرأته واستفدت منه وفيه فوائد جمّة أنصح بقراءته لمعرفة تعامل القدماء مع المدلسين ، لكني باختصار أنبه إضافة لما سبق على بعض الأمور :
    1- أن روايات المدلسين في الصحيحين محمولة على السماع كما قال طائفة من أهل العلم لأن الأمة تلقت أحاديثهما بالقبول كما ذكر ذلك ابن الصلاح وغيره ، يقول النووي : ((وما كان في الصحيحين وشبههما عن المدلسين
    (( بعن )) محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى )) ( ) ، وقال القطب الحلبي : أكثر العلماء على أن المعنعنات التي في الصحيحين منزلة منزلة السماع إما لمجيئها من وجه آخر بالتصريح أو لكون المعنعن لا يدلس إلى عن ثقة أو عن بعض شيوخه أو لوقوعها من جهة بعض النقاد المحققين سماع المعنعن لها ( ) . وذكر العلائي أيضاً نحو هذا عن بعض الأئمة ( ) . ثم إن البخاري ومسلم رحمهما الله اعتنيا بأحاديث كتابيهما بذكر الطرق والمتابعات والتي تفيد أحياناً إثبات السماع في الطريق المعنعن للمدلس ، وانظر كلام ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (13/376) كما أن من استخرج عليها من كتب المستخرجات يذكرون طرقاً تفيد تصريح المدلس بالسماع من طريق ذلك المستخرج كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله ( ) ، وقد تتبع أخونا الشيخ/خالد العيد في رسالته العلمية أحاديث أبي الزبير عن جابر المروية بـ(عن) في صحيح مسلم فوجدها (130) حديثاً كلها لها متابعات وشواهد إلا ثلاثة أحاديث .
    2- إن هناك بعض المحدثين الذين وصفوا بالتدليس وجعلهم المتأخرين في رتبة من لا يقبل حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع وهي المرتبة الثالثة ، وإذا تأملت كلام المتقدمين فيهم وتعاملهم مع مروياتهم رأيت أن الراجح في حكمهم أن لا يكونوا في هذه المرتبة كالإمام الزهري (محمد بن مسلم بن شهاب) أحد الأئمة الحفاظ ، فقد جعله ابن حجر في المرتبة الثالثة ( ) ، والصواب أنه من المرتبة الثانية وهم من احتمل الأئمة تدليسهم وأخرجوا له في الصحيح أو من الأولى وهم من لا يدلس إلا نادراً فإن الذهبي رحمه الله قال في الزهري : كان يدلس في النادر ( ) ، وقد نبه على هذه النقطة شيخنا الدكتور مسفر الدميني حفظه الله في كتابه في التدليس . وقد خالف ابن حجر العلائي وسبط العجمي في كتابه التبيين في أسماء المدلسين ، فقد ذكر أن الإمام الزهري قد قبل الأئمة عنعنته ، وهذا يظهر لقلة تدليسه ، ومن هذا القبيل أيضاً قتادة بن دعامة السدوسي فلم يرد عن المتقدمين وصفه بكثرة التدليس مع أن ابن حجر رحمه الله ذكره أيضاً في المرتبة الثالثة ( ) .
    3- أما أبو الزبير المكي محمد بن مسلم بن تدرس رحمه الله فهو وإن ذكره ابن حجر رحمه الله في المرتبة الثالثة أيضاً ( ) فلا يكفي أن نقول إنه ليس من المكثرين أو المشهورين بالتدليس بل إن القول بأنه مدلس فيه نظر ، وقد ناقش الأدلة التي دلت على تدليس أبي الزبير الشيخ الباحث خالد بن عبدالله العيد في رسالته الرائعة : ((ضوابط تصحيح الإمام مسلم في صحيحه لمرويات أبي الزبير المكي بالعنعنة عن جابر بن عبدالله )) ( ) وقد أجاد فيها وأفاد ، وأذكر طرفاً مختصراً مما ذكره ، قال : ويمكن أن يقال في نفي التدليس عن أبي الزبير ما يلي :
    1- الإمام ابن عبدالبر استوعب في كتابه الاستغناء ما طعن به في أبي الزبير وقد أجاب عنها ولم يتعرض لمسألة التدليس .
    2- أن الأئمة المتقدمين ممن كتب عنهم في الجرح والتعديل ... لم يذكروا أبا الزبير بالتدليس .
    3- أن من تشددوا في أمر التدليس وعظم أمره وهو شعبة قد روى عنه ولم يصفه بالتدليس .
    4- أن الإمام الشافعي رحمه الله قد نفى التدليس عن أهل الحجاز .
    5- أن الحاكم رحمه الله ذكر حديثاً من طريق أبي الزبير عن جابر بالعنعنة ثم قال : هذا حديث رواته بصريون ثم مدنيون وليس من مذهبهم التدليس ( ) .
    6- ثم على افتراض أن أبا الزبير مدلس فتدليسه عن جابر فقط دون غيره وتدليسه عن ثقة ، فالصحيفة التي عنده هي صحيفة اليشكري وقد مضى توثيق أبي زرعة له وكذا الذهبي وغيره ، وكذلك لما استفسر في حديث آخر - إن ثبت تدليسه فيه - ذكر صفوان بن عبدالله وهو ثقة ( ) .
    هذا وقد سمعت أن الشيخ/ خالد الدريس وفقه الله صاحب كتاب ((موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين)) والذي سبق أن أشرت إليه له كتاب مخطوط بعنوان (( الإيضاح والتبيين بأن أبا الزبير ليس من المدلسين)) ( ) .

    4- الإطلاق بأن مجرد (العنعنة) لاتعل حديث المدلس الثقة إلا في حالة وجود التدليس فعلاً أو في حالة وجود علة في المتن أو الإسناد ( ) هذا الإطلاق فيه نظر ، نعم هو حق فيمن كان مقلاً من التدليس أو من لا يدلس إلا عن ثقة ، أما من كان مشهوراً بالتدليس مكثراً منه فإنه لا يحتج بما عنعنه إلا إن ورد مصرحاً بالسماع ، وعلى ذلك يدل كلام المتقدمين .
    روى الخطيب البغدادي بسنده إلى يعقوب بن شيبة أنه قال : سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل حدثنا ؟ قال : إذا كان الغالب عليه التدليس فلا حتى يقول حدثنا ( ) .
    فهذا إمام العلل والجرح والتعديل علي بن المديني يرد عنعنة من غلب عليه التدليس ، وقال الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه : (( وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به ، فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته ويتفقدون ذلك منها )) ( ) .
    فقول الإمام مسلم يحكي عن المحدثين أنهم يتفقدون السماع فيمن اشتهر بالتدليس ، بل إن الشافعي رحمه الله شرط ذلك فيمن دلس ولو مرة .
    يقول ابن رجب : ولم يعتبر الشافعي أن يتكرر التدليس من الراوي ولا أن يغلب على حديثه بل اعتبر تدليسه ولو مرة واحدة ، واعتبر غيره من أهل الحديث أن يغلب التدليس على حديث الرجل فقالوا : إذا غلب التدليس لم يقبل حديثه حتى يقول : حدثنا ( ) ، لكن قول الشافعي رحمه الله مرجوح مخالف لقول المحدثين كما أشار إليه ابن رجب رحمه الله .
    فالخلاصة : أن من كان مكثراً من التدليس مشهوراً به فإنه لا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالسماع ( ) ، أما إذا كان مقلاً من التدليس أو لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة فإنهم قبلوا عنعنتهم ، واستثنى ابن رجب أيضاً من عرف بالتدليس وكان له شيوخ لا يدلس عنهم فحديثه عنهم متصل ( ) .
    وذكر هذا الذهبي في ترجمة الأعمش حيث قال عنه : فمتى قال : حدثنا فلا كلام ، ومتى قال (( عن )) تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال ( ) .
    كذا تقبل العنعنة إذا كان الراوي عن المدلس لا يروي عنه إلا ما ثبت له سماع كشعبة بن الحجاج عن قتادة وأبي إسحاق والأعمش ، فقد ورد عن شعبة أنه قال : كفيتكم تدليس ثلاثة : الأعمش وأبي إسحاق وقتادة . وكذلك من هذا رواية يحيى القطان عن زهير عن أبي إسحاق ، وكذلك رواية الليث بن سعد عن أبي الزبير ( ) على القول بتدليسه .
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    تابع مقال الشيخ عبد الرحمن الزيد

    المبحث الرابع :المسائل المتعلقة بشرط السلامة من الشذوذ :
    من المعلوم أن العلماء اختلفوا في ضابط الشاذ على أقوال ، فمنهم من عممه كالخليل حيث سوى بين الشاذ والفرد المطلق حيث قال : إن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ثقة كان أو غير ثقة ، وأخص منه تعريف الحاكم لأنه يقول : إنه تفرد الثقة فيخرج تفرد غير الثقة فيلزم من قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ ، وأخص منه كلام الشافعي حيث يقول : إنه تفرد الثقة بخالفة من هو أرجح منه .( ) وتعريف الشافعي رجحه الكثير منهم ابن حجر رحمه الله وغيره ، أما ابن الصلاح رحمه الله فمن كلامه أنه جعل الشاذ قسمين : أحدهما : الحديث الفرد المخالف ، والثاني : الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف ( ) . وتبعه ابن دقيق العيد حيث قال في الشاذ : هو ما خالف رواية الثقات أو ما انفرد به من لا يحمل حاله أن يقبل ما تفرد به ( ) .
    وقد أورد العراقي في التقييد والإيضاح وابن حجر في النكت الاعتراضات على تعريف الخليلي والحاكم وابن الصلاح وليس المجال عرض ذلك وإنما سأعرض لمسائل لها علاقة بمنهج المتقدمين :
    1- بين الشاذ والمنكر :
    فرق بينهما بأن الشاذ ما خالف فيه الثقة من هو أولى منه ، والمنكر : ما خالف فيه الضعيف من هو أولى منه ، وهذا الاصطلاح الذي عليه كثير من المتأخرين التفريق بينهما كما ذكره ابن حجر حيث قال : إن بين الشاذ والمنكر عموماً وخصوصاً من وجه لأن بينهما اجتماعاً في اشتراط المخالفة وافتراقاً في أن الشاذ رواية ثقة أو صدوق ، والمنكر رواية ضعيف ، وقد غفل من سوى بينهما ( ) يعني بذلك ابن الصلاح حيث يدخل المنكر في تعريفه الثاني ولأنه قال : وإن كان بعيداً عن ذلك - يعني الحفظ والضبط - لرددنا ما انفرد به وكان من قبل الشاذ والمنكر .
    أقول : ورد إطلاق المنكر على ((ما خالف فيه الثقات)) في كلام المتقدمين ، فأبو داود رحمه الله قال عن حديث همام بن يحيى عن ابن جريج عن الزهري عن أنس في وضع الخاتم عند دخول الخلاء ، قال أبو داود : حديث منكر وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه ، والوهم فيه من همام ( ) .
    فهنا عدّ أبو داود مخالفة همام من المنكر مع أن همام بن يحيى ثقة روى له الشيخان ( ) ، ولذلك لما مثل العراقي في التقييد والإيضاح بهذا المثال للمنكر تعقبه ابن حجر في النكت فقال : فإنه شاذ في الحقيقة إذ المنفرد به من شرط الصحيح ( ) .
    ومن هذا الباب أيضاً حديث أخرجه النسائي في الكبرى من طريق أبي الأحوص عن سماك عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن بردة بن نيار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشربوا في الظروف ولا تسكروا . قال أبو عبدالرحمن (النسائي) وهذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم ، ثم نقل عن أحمد قال : كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث ، خالفه شريك في إسناده ولفظه ( ) .
    وسلام بن سليم أبو الأحوص الكوفي ثقة متقن صاحب حديث كما في التقريب ( ) ، فانظر كيف حكم النسائي على مخالفة أبي الأحوص بالنكارة مع أن اصطلاح المتأخرين أنه شاذ ، والمقصود : أن بعض المتقدمين يطلقون النكارة على الشذوذ كما جرى عليه ابن الصلاح رحمه الله ، والأمثلة في هذا الباب كثيرة لمن تأمل .
    2- التفرد والشذوذ والنكارة (( هل كل ما تفرد به راوٍ يعد شاذا أو منكراً ؟ ولو لم
    يخالف )) .
    هذا المبحث مهم لا يستغني عنه الباحثون والمتخصصون وهو مبحث دقيق اضطرب فيه كثيرون ، وحقيق أنه يخص مستقلاً ببحوث ومؤلفات وله علاقة بالعلة ولكني ذكرته هنا لأن علاقته بالشاذ أقوى ، فالخليلي رحمه الله جعل مطلق التفرد شذوذاً والحاكم جعل تفرد الثقة شذوذاَ وقد تعقبوا عليهما كما أشرت سابقاً .
    لكن المتأمل لكلام المتقدمين يجد أنهم أطلقوا الشذوذ والنكارة على بعض ما انفرد به الثقات بدون مخالفة ولذلك قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى : وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث ( ) .
    أقول : واستعمالهم للنكارة في هذا الباب أكثر ، وهذا والله أعلم لأن لفظ (( الإنكار )) عام في كل ما استنكر وأنكره عليه غيره ولو كان المنكر عليه ثقة .
    ومن هذا الباب ما يقولون عنه : إسناده صحيح وهو شاذ ، يعني للتفرد كما في حديث أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ} ( ) ، قال : في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ... إلخ ، ورواه من طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى ، وصححه الحاكم وقال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً ( ) . كذلك أخرج الحاكم حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاثة يهلكون عند الحساب : جواد وشجاع وعالم )) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد وعلى شرطهما وهو غريب شاذ ( ) .
    وسأنقل هنا كلاماً عن ابن رجب في إطلاق النكارة على ما انفرد به الثقة ، فقد نقل ابن رجب رحمه الله عن الإمام أحمد قال : قال لي يحيى بن سعيد : لا أعلم عبيدالله بن عمر أخطأ إلا في حديث واحد لنافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام .... الحديث ، قال أبو عبدالله : فأنكره يحيى بن سعيد عليه ، قال أبو عبدالله : فقال لي يحيى بن سعيد : فوجدته قد حدّث به العمري الصغير عن نافع عن ابن عمر مثله ، قال أبو عبدالله : لم يسمعه إلا من عبدالله فلما بلغه عن العمري صححه ، وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر وكلام أحمد قريب من ذلك . وقال عبدالله : سألت أبي عن حسين بن علي الذي يروي حديث المواقيت ؟ فقال :هو أخو أبي جعفر محمد بن علي ، وحديثه الذي روى في المواقيت ليس بمنكر ؛ لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره ، وقال أحمد في بريد بن عبدالله بن أبي بردة يروي أحاديث مناكير ، وقال أحمد في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي : هو المتفرد برواية حديث الأعمال بالنيات في حديثه شيء ، يروي أحاديث مناكير أو قال : منكرة ، وقال في زيد بن أبي أنيسة : إن حديثه لحسن مقارب وإن فيها بعض النكارة ، وقال الأثرم : قلت لأحمد : إن له أحاديث إن لم تكن مناكير فهي غرائب ؟ قال : نعم . وهؤلاء الثلاثة متفق على الاحتجاج بحديثهم في الصحيح ، وقد استنكر أحمد ما انفردوا به ، وكذلك قال في عمرو بن الحارث : له مناكير ، وفي الحسين بن داود وخالد بن مخلد وجماعة خرج لهم في الصحيح بعض ما ينفردون به ، وأما تصرف الشيخين والأكثرين فيدل على خلاف هذا وإن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه وليس له علة فليس بمنكر ، وقد خرجا في الصحيحين حديث بريد بن عبدالله بن أبي بردة وحديث محمد بن إبراهيم التيمي وحديث زيد بن أبي أنيسة . انتهى كلام ابن رجب ( ) .
    وهذا يدل على إن إطلاق النكارة على التفرد من الثقة فيما سبق استعمله يحيى بن سعيد والإمام أحمد ( ) ، أما الإمام البخاري ومسلم والأكثرون من المحدثين بخلافهم يصححونه ولا يعدونه منكراً ، وقد ذكر ابن رجب رحمه الله في آخر شرحه للعلل أمثلة كثيرة لأحاديث أنكرت على بعض الثقات ( ) .
    وتفرد الثقات في الأصل ليس بعلة وإلا للزم القول بوجوب تعدد الرواة في شرط الصحة ولم يقل بهذا عامة أهل العلم ، لكن طائفة من المتقدمين قد يعلون الحديث بتفرد الثقة ويجعلونه شاذاً أو منكراً ، فمتى يكون تفرد الثقة علة ؟
    فيما يظهر لي من خلال التتبع أن ذلك يكون في حالات أذكر أبرزها :
    الأولى : أن يكون المتفرد الثقة تفرد عن راوٍ عالم حريص على نشر ما عنده من الحديث وتدوينه ولذلك العالم طلاب كثيرون مشهورون وقد يكون له كتب معروفة قيد حديثه فيها وكان تلامذته حفاظاً حريصين على ضبط حديثه حفظاً وكتابة ، فإن شذ هذا الراوي عن هؤلاء فروى ما لا يروونه فإن هذا ريبة قد توجب زوال الظن بحفظه حسب القرائن ( ) بينما لو انفرد راوٍ بحديث عمن ليس على هذه الشاكلة من مشايخه فليس هناك ريبة في الأمر وهذا ما أشار إليه الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه حيث قال : فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره أو كمثل هشام ابن عروة وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك ، وقد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على اتفاق منهم في الكثرة ، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث ممن لا يعرفه أحد من أصحابهما وليس من قد شاركهم في الصحيح الذي عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس ( ) .
    وفي هذا أيضاً يقول الذهبي في الموقظة : وقد يعد مفرد الصدوق منكراً ، وقال في موضع آخر وقد يسمى جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكراً ( ) فيحمل كلام الذهبي على ما سبق ، ويحمل عليه أيضاً تعريف الحاكم للشاذ ، وقد أحسن الدكتور حمزة المليباري حيث دافع عن الحاكم في هذا فقال : ولم يقصد الحاكم بذلك تفرد الثقة على إطلاقه ، بل قصد نوعاً خاصاً منه وينقدح في نفس الناقد أنه غلط ( ) . ومن أمثلته أيضاً ما تفرد به محمد بن عبدالله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه )) رواه أهل السنن .
    فمحمد بن عبدالله بن الحسن ثقة لكن أعل البخاري الحديث بتفرده فقال : لا يتابع عليه قال : ولا أدري أسمع محمد بن عبدالله بن حسن من أبي الزناد أو لا ( ) . وقد فصّل القول في هذا المثال وبينه ببيان واضح الشيخ الفاضل الدكتور حمزة بن عبدالله المليباري في كتابه الفائق ((الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها))( ) ، وقد تطرق الشيخ الدكتور حمزة في كتابه لمسألة التفرد وتوسع في بيانها بالأمثلة بكلام جيد موثق قد استفدت منه .ومن أمثلة هذا وأمثلته كثيرة ما ذكره الشيخ المحدث عبدالله السعد وفقه الله في بعض أشرطته المسجلة من تفرد خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها بحديث : (( إذا بلغت المرأة المحيض لم يصح أن يرى منها إلا وجهها وكفيها )) قال : فأين الرواة عن عائشة كابن أختها عروة ، والأسوة بن يزيد وعمرة عن هذا الحديث ؟ .
    ومن أمثلته أيضاً تفرد عبدالمجيد بن أبي رواد عن مالك عن يزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري بحديث : (( إنما الأعمال بالنيات )) فأين أصحاب مالك وتلاميذه عن هذا الحديث لم يرووه ؟
    الحالة الثانية : أن يكون المتفرد من الثقات الحفاظ الكبار لكنه تبين وهمه أو خطؤه بتفرده فينبه على ذلك النقاد من حفاظ المحدثين لقرائن ظهرت لهم .
    وإلى هذا يشير ابن رجب رحمه الله في قوله : وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد ، وإن لم يرو الثقات خلافه إنه لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علة فيه ، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه ( ) .
    أقول : إنما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار لقرائن ودلالات ظهرت لهم ، ولذلك فالإمام أحمد عندما سأله الأثرم كماسبق(ص:43)وقال عن زيد بن أنيسة :ان له أحاديث ان لم تكن غرائب فهي مناكير؟ قال:نعم. ممايدل علىأنه يفرق بين الغرابة والنكارة, وكلام ابن رجب رحمه الله كلام محقق مدقق مارس كلام المتقدمين وخبره .ولهذا أمثلة كثيرة ، ومن تأمل كتب العلل وكامل ابن عدي وجد من ذلك كثيراً ، فمن ذلك أحاديث أنكرها ابن عدي على إسماعيل بن أبي أويس رواها عن خاله مالك بن أنس وقال : لا يتابع عليها وإسماعيل ثقة مخرج له في الصحيحين وغيرهما ( ) . ومن ذلك تفرد عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس بحديث"من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" فقداستنكره عليه ابن معين والنسائي مع انه ثقة احتج به الشيخان والأربعة (2)
    ومن ذلك أيضاً تفرد قتيبة بن سعيد عن الليث بحديث معاذ في الجمع بين الصلاتين في السفر ، فقد أعله البخاري وأبو حاتم وأبو داود بذلك وتوسع في بيان ذلك الشيخ الدكتور حمزة المليباري في كتابه (3) فليراجع .
    الحالة الثالثة: اشار اليها الذهبي في الموقظة (ص 77) وهي اذاكان المتفرد من اصحاب الكتب المتأخرة بعد كتب السنة المشهورة فانه قلّ أن يتفرد بحديث صحيح بعد تلك الفترة كما ذكر
    زيادة الثقة :
    وهي مبحث مهم له علاقة بالشذوذ والتفرد والنكارة وقد كُتب وبُحث فيها كثيراً لكني سأنقل في هذا ملخصاً لطريقة المتقدمين حيال زيادات الثقات ، وذلك لأنك ترى عند المتأخرين خللاً في هذا الباب فيطلقون القول بقبول زيادة الثقة مطلقاً وقد ينسبون ذلك للمحدثين (4) ، وإنما هو قول الفقهاء ومن تبعهم الخطيب البغدادي في الكفاية وابن حبان والحاكم (5) .
    والصحيح من مذهب المتقدمين أنهم لا يطلقون قبول الزيادة بل الأمر عندهم حسب القرائن والمرجحات كأن يكون الزائد مبرزاً في الحفظ والضبط .
    قال ابن رجب : من تأمل كتاب تاريخ البخاري تبين له قطعاً أنه لم يكن يرى أن زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة ، وهكذا الدار قطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة ثم يرد في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات ويرجح الإرسال على الإسناد ، فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في تلك المواضع الخاصة وهي إذا كان الثقة مبرزاً في الحفظ ( ) .
    وقال الترمذي في العلل : وإنما تقبل الزيادة ممن يعتمد على حفظه ، وقال ابن خزيمة : لسنا ندفع أن تكون الزيادة مقبولة من الحفاظ ( ) .
    وقال ابن دقيق العيد : من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند ورافع وواقف أو ناقص وزائد أن الحكم للزائد فلم يصب في هذا الإطلاق فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول ( ) .
    وقال ابن حجر في النـزهة : المنقول عن الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري ويحيى بن معين وعلي بن المديني وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدار قطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ، ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة ( ) .
    وقال ابن حجر : والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه- يعني ما زاده الثقات - بحكم مستقل بل يرجحون بالقرائن ، وقال في موضع آخر - بعد أن نقل كلاماً عن بعض الأئمة كالدار قطني وابن عبدالبر قال : فحاصل كلام هؤلاء أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظاً متقناً إلى أن قال : وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث في قبولها من غير الحافظ حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه كمالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ وانفرد دونهم بعض رواته بزيادة فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها ، فتفرد واحد عنه بها دونهم مع توافر دواعيهم على الأخذ عنه وجمع حديثه يقتضي ريبة توجب التوقف عنها ( ) .
    وهذا كلام جيد محقق في هذا الباب وأكتفي بهذا ، والله أعلم .
    المبحث الخامس : في المسائل المتعلقة بالعلة .
    وهذا باب واسع يطول الكلام فيه إنما أذكر فيه نقاطاً مهمة مختصرة حول منهج المتقدمين في إعلال الحديث :
    1- طريقة المتقدمين في الكشف عن العلة هي جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف الرواة وهذا واضح من كلامهم :
    وقد تقدم قول علي بن المديني رحمه الله : الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه ( ) . وقال الخطيب البغدادي : السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم في الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط ( ) .
    وقال الحافظ العراقي : وتدرك العلة بتفرد الراوي بمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك يهتدي الجهبذ أي الناقد بذلك إلى اطلاعه على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث أو وهمه وغير ذلك ( ) .
    2- أن النقاد من المحدثين قد لا يصرحون بالعلة وقد تقصر عباراتهم عنها :
    يقول ابن رجب رحمه الله : قاعدة مهمة ، حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان ولايشبه حديث فلان فيعللون الأحاديث بذلك ، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارات تحضره وإنما يرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم ( ) .
    وذكر ابن رجب مثالاً لذلك ما قاله أحمد في سعيد بن سنان : يشبه حديثه حديث الحسن لا يشبه أحاديث أنس ، ومراده أن الأحاديث التي يرويها عن أنس مرفوعة إنما تشبه كلام الحسن البصري أو مراسيله ، وقال الجورجاني : أحاديثه واهية لا تشبه أحاديث الناس عن أنس ( ) .
    3-من طرائق العلة عند أئمة الجرح والتعديل نقد المتون وإعلال الأسانيد بها .
    وذلك لأنهم يعرفون الكلام الذي يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي لا يشبه كلامه ، قال ابن أبي حاتم عن أبيه : نعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون مثله كلام النبوة ، ونعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته ( ) .
    ولذلك تجدهم كثيراً ما يضعفون الحديث الذي في متنه نكارة وغرابة ولو كان إسناده ظاهره الصحة ، فمن ذلك حديث علي رضي الله عنه الطويل (( في الصلاة أربعاً والدعاء لحفظ القرآن)) فهذا الحديث أخرجه الترمذي من طريق الوليد بن مسلم حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس به قال الترمذي : حسن غريب ( ) .
    وأخرجه أبو عبدالله الحاكم في المستدرك بسنده من طريق الوليد أيضاً ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ( ) ، فهذا الحديث استغربه الترمذي كما أعله أبو أحمد والحاكم ( ) فقال : إنه يشبه أحاديث القصاص ( ) ، وأعله من المتأخرين الحافظ ابن كثير في كتاب فضائل القرآن قال - بعد نقل كلام الترمذي والحاكم - ولا شك أن سنده من الوليد على شرط الشيخين حيث صرح الوليد بالسماع من ابن جريج ، فالله أعلم ، فإنه من البين غرابته بل نكارته ( ) .
    ومن هذا الباب أيضاً حديث : (( في كل أرض آدم كآدمكم )) وقد سبق الكلام عليه في المبحث السابق ، ومن ذلك أيضاً أن يكون متن الحديث سمج المعنى أو مخالفاً للقرآن فيعلونه بذلك مثل ما ورد : (( عليكم بالعدس فإنه مبارك يرقق القلب ويكثر الدمعة قُدس فيه سبعون نبياً )) فهذا أعله الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله فقال لما سئل عنه : أرفع شيء في العدس أنه شهوة اليهود ولو قدّس فيه نبي واحد لكان شفاء من الأدواء فكيف بسبعين نبياً ؟ وقد سماه الله (( أدنى )) ونعى على من اختاره على المن والسلوى وجعله قرين الثوم البصل ( ) .
    فانظر كيف أعلّ ابن المبارك هذا القول لسوء معناه ومخالفته لكتاب الله .
    ونقد المتون عند المتقدمين بابه واسع وأمثلته كثيرة ، وقد اعتنى به وألف فيه شيخنا الدكتور مسفر غرم الله الدميني في كتابه الرائع : (( مقاييس نقد متون السنة )) فليراجع .
    وبعد هذا فإنك تعجب أن تجد من المتأخرين من يصحح الأحاديث أو يحسنها مغفلاً هذا الجانب كما تراه كثيراً عند السيوطي في كتابه اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ، فمن ذلك أنه قال في حديث : (( إذا بعثتم بريداً فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم )) قال : وهذا الحديث في معتقدي حسن صحيح وقد جمعت طرقه في جزء ( ) ، وأيضاً قد حسنه المناوي ( ) مع ما يظهر في متنه من نكارة بل إن الحافظ بن القيم أورده في المنار المنيف وقال : وفيه عمرو ابن راشد ، قال ابن حبان : يضع الحديث ، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات ( ) . وقال الهيثمي : رواه البزار والطبراني في الأوسط وفي إسناد الطبراني عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة وبقيةرجاله ثقات ، وطرق البزار ضعيفة .( ) فمثل هذا كيف يصحح .
    ووقع التساهل أيضاً من بعض من المعاصرين في هذا الباب ، ولعلي أذكر لذلك من تصحيحات الشيخ المحدث الألباني تغمده الله برحمته ، فرغم جهوده الضخمة في خدمة السنة وسمعت شيخنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز يثني عليه كثيراً ، إلا أنه رحمه الله يتساهل أحياناً في التصحيح فقد صحح حديث : (( ولد الزنى شر الثلاثة )) ( ) وحمل معنى الحديث على الرواية : (( إذا عمل بعمل أبويه )) مع ضعف هذه الرواية حيث ضعفها الألباني نفسه وكان الأولى أن يحمل الحديث كما حمله الطحاوي وابن القيم على شخص بعينه وذلك لرواية الطحاوي والحاكم وهي : (( بلغ عائشة رضي الله عنها أن أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولد الزنى شر الثلاثة ، فقالت : يرحم الله أبا هريرة أساء سمعاً فأساء إجابة ، لم يكن الحديث على هذا إنما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من يعذرني من فلان ؟ قيل يا رسول الله إنه مع ما به ولد زنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هو شر الثلاثة )) ، والله يقول : ولا تزر وازرة وزر أخرى . صححه الحاكم على شرط مسلم ( ) وتعقبه الذهبي بأن فيه سلمة بن الفضل الأبرش لم يحتج به مسلم ، وقد وثق وضعفه ابن راهويه ، وقد ذكر هذا كله الألباني وضعف هذه الرواية ولم يحمل الحديث عليها بل قال بعمومه .
    أقول : وحمل الحديث على هذه الرواية وهي ضعيفة أولى من حمله على رواية : (( إذا عمل بعمل أبويه )) لأنها أشد ضعفاً منها ، ففي أحد طرقها راوٍ متروك كما ذكر الألباني نفسه ، ومما يؤيد نكارة معناه أن ابن عباس رضي الله عنه لما بلغه هذا الحديث قال : (( لو كان شر الثلاثة لما استؤني بأمه حتى تضعه )) ( ) يعني الأحاديث الواردة بإمهال الحامل من الزنى حتى تضع وهي صحيحة .
    ففهم عائشة رضي الله عنها معارضة عموم الحديث للقرآن مع ما يؤيده من قول ابن عباس أولى من القول بعموم هذا الحديث والتعسف في تأويله كما فعل الألباني حيث قال : فإنه لم يحرم الجنة بفعل والديه بل إن النقطة الخبيثة لا يتخلق منها طيب في الغالب ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة ، فإن كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة ، وكان الحديث من العام المخصوص ( ) .
    ثم أراد الألباني رحمه الله أن يؤيد ما ذكره فقوى زيادة : ((ولا ولد زنية)) في حديث : (( لا يدخل الجنة عاق ... إلخ )) وليست بقوية لمن دقق وتأمل ، ثم حاول أن يؤولها فتعسف أيضاً ( ) مع أنه صحح ما رواه عبدالرزاق عن عائشة أنها قالت : (( ما عليه من وزر أبويه ، قال تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى )) قالته رداً على من روى هذا الحديث .
    ومن هذا الباب أيضاً فيما يظهر لي تصحيحه لحديث : أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقضائه وقدره بالأنفس (يعني بالعين) ( ) فهو مع ما في متنه ففي سنده طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل الأنصاري يهم ، ونقل ابن عدي عن البخاري قال : فيه نظر ، وقد تفرد به كما ذكر ابن عدي ( ) وإن كان قد وثق إلا أن التفرد مع الوهم يقضي التوقف فيما رواه .
    وأعجب من ذلك تصحيحه لحديث : (( إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه في الأرض ، وعنقه منثن تحت العرش وهو يقول : سبحانك ما أعظمك ربنا ، فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذباً )) ( ) .مع أن الحديث تفرد به معاوية بن اسحاق بن طلحة التيمي وهو وان كان ثقةروى له البخاري الا ان له اوهام ولذلك تكلم فيه ابو زرعةفقال:شيخ واه.(الجرح والتعديل8/381)ولهذا قال عنه ابن حجر:صدوق يهم(التقريب ص:537) وليس المجال تتبع ذلك فأكتفي بما سبق خوف الإطالة ، والأمثلة كثيرة .
    4- ومن طرق الإعلال عند المتقدمين إعلال الحديث إذا دل على معنى يخالف المعنى الذي
    دلت عليه الأحاديث الصحيحة :
    وأذكر مثالاً لذلك حديث : (( أمتي أمة مرحومة جعل عذابها بأيديها في الدنيا )) فهذا الحديث ذكر طرقه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه التاريخ الكبير ثم أعلّه بقوله : والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة وأن قوماً يعذبون ثم يخرجون أكثر وأبين وأشهر ( ) ا.هـ فهذا تعليل إمام الحديث والعلل البخاري رحمه الله نظر فيه إلى مخالفة معنى هذا الحديث لما ثبت في الأحاديث الصحيحة الكثيرة الأخرى التي تثبت دخول طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم النار ( ) .
    وعلى كل فللمتقدمين طرائق كثيرة في إعلال الحديث يطول استيعابها ، إنما أشرت لإبرزما غفل عنه المتأخرون .
    تنبيه حول الأحاديث المعلّة في الصحيحين :
    من المعلوم أن هناك أحاديث انتقدت على البخاري ومسلم رحمهما الله وذكر لها علل لكن ليس كل ما انتقد على البخاري ومسلم يكون فيه وجه الحق مع المنتقد بل يكون كثيراً معهما خاصة البخاري ، وما كان فيها من منتقد فهو ليس من قبل ثقة الرواة بل من قبل خطئهم .
    يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى : (( ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه بخلاف مسلم فإنه نوزع في أحاديث مما خرجها وكان الصواب فيها مع من نازعه ، كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات ، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين وكذلك روى مسلم : خلق الله التربة يوم السبت ونازعه فيه من هو أعلم منه يحيى بن معين والبخاري وغيرهما فبينوا أن هذا غلط ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والحجة مع هؤلاء ( ) ثم فصل في ذلك إلخ كلامه رحمه الله .
    أقول : ومن هذا الباب ما يقع للباحث في الصحيح من ألفاظ يجزم أنها خطأ ، فمن ذلك حديث في صحيح مسلم ذاكرني به بعض طلاب العلم من طلابنا وهو حديث القراءة في ركعتي الفجر : (( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا )) والتي في آل عمران : (( تعالوا إلى كلمة سواء بيينا وبينكم )) هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي خالد الأحمر عن عثمان بن حكيم عن سعيد بن يسار عن ابن عباس ، فهذا فيما يظهر خطأ والصواب الرواية الأخرى التي أخرجها مسلم من طريق مروان بن معاوية الفزاري عن عثمان بن حكيم به بلفظ : (( كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما : (( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا )) الآية التي في البقرة ، وفي الآخرة منها : (( آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون )) وتابع مروان بن معاوية على هذا اللفظ عيسى ابن يونس عن عثمان بن حكيم ، كما أخرج مسلم رحمه الله ( ) . وتابعهما ابن نمير عند أحمد في المسند (1934) .
    فهؤلاء ثلاثة خالفهم أبو خالد الأحمر (سليمان بن حيان) وقد ذكر في ترجمته أنه يخطئ فذكر الآية : (( تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم )) فأخطأ ، والصواب رواية الجماعة وأن الآية هي : (( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون )) .
    ولعل أبا خالد الأحمر اشتبه عليه الأمر لأن آية : (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء .. آخرها : (( فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )) فأخطأ فذكر آية بدل الأخرى . والله أعلم .
    فالمقصود أن هذا لا ينقص من قدر الصحيحين فهو قليل ونادر بالنسبة لأحاديثهما ، كما أنه لا ينافي القول إن الأمة تلقتهما بالقبول فإن ذلك مستثنى منه كما ذكر ابن الصلاح، والله أعلم .
    المبحث السادس :
    المسائل المتعلقة بتقوية الحديث بالطرق الأخرى والشواهد :
    وهذا مبحث مهم يضطرب فيه بعض المتأخرين والمعاصرين ، وقد تكلم عليه أهل العلم في كتب المصطلح وفي كتب التخاريج والعلل ، وقد كفانا في هذا الموضوع أحد الباحثين ، فقد جمع في هذا الباب الشيخ الدكتور المرتضى الزين أحمد كتابه (( مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة والضعيفة )) ط : مكتبة الرشد ، وهو في الأصل رسالة دكتوراه مقدمة للجامعة الإسلامية بالمدينة وهو كتاب جيد جمع فيه مؤلفه ما ورد عن المحدثين المتقدمين والمتأخرين في هذا الباب فأجاد وأفاد جزاه الله خيراً ، وقد أثنى على الكتاب الشيخ المحدث حماد الأنصاري رحمه الله إلا أني هنا سأنبه على نقطتين :
    1- أن بعض المتأخرين تساهلوا في تقوية الأحاديث ، فإذا اجتمعت عندهم طرق كثيرة للحديث ولو كانت غير معتبرة - يعني غير صالحة للانجبار - كأن يكون في أسانيدها من هو متروك أو متهم أو هي واهية شديدة الضعف فإنهم يقوون الحديث بذلك فيصححونه أو يحسنونه ، ومن هذا القبيل ما أشرت إليه سابقاً من تصحيح السيوطي لحديث : (( إذا بعثتم بريداً فابعثوا حسن الوجه حسن الاسم )) ، ويقع له من هذا النوع في كتابه اللآلي المصنوعة .
    وابن حجر رحمه الله شدد في هذا في النزهة فقال : (( ومتى توبع السيء الحفظ بمعتبر كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه .. )) ( ) فلاحظ أنه لم ير التقوية بالأدني ونقل الدكتور المرتضى عنه أن الحديث الذي ضعفه ناشيئ عن تهمة أو جهالة إذا كثرت طرق ارتقى عن مرتبة المردود والمنكر الذي لا يجوز العمل به بحال إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في فضائل الأعمال .
    ونقل عن ابن كثير ، قال : قال الشيخ أبو عمرو : لا يلزم من ورود الحديث من طرق متعددة أن لا يكون حسناً لأن الضعيف يتفاوت ، فمنه ما لا يزول بالمتابعات كرواية الكذابين والمتروكين ، ومنه ضعف يزول بالمتابعة كما إذا كان راويه سيء الحفظ أو روي الحديث مرسلاً فإن المتابعة تنفع حنيئذ ويرفع الحديث عن حضيض الضعف إلى أوج الحسن أو الصحة ( ) .
    أقول : وبهذا يتبين خطأ طريقة بعض المتأخرين من التقوية بكثرة الطرق ولو كانت واهية .
    2- الحديث إذا تلقته الأمة بالقبول وهو ضعيف هل يقوى عن ضعفه ؟
    تعرض الدكتور المرتضى لهذه المسألة ورجح أنه لا يرتفع عن ضعفه ( ) .
    أقول : والذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يفيد العلم - يعني القطع - وذكر أنه قول أهل الحديث قاطبة ، وقال به الشافعي وابن عبدالبر ، وابن حجر والسيوطي والزركشي ، ولعلي هنا أنقل كلام الشافعي وابن عبدالبر وابن تيمية رحمه الله (ملخصاً) :
    أما الشافعي فقال في الرسالة : (( ووجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : (( لا وصية لوارث ولا يقتل مؤمن بكافر )) ويأثرونه عمن حفظوا عنه العلم ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي ، فكان هذا النقل عامة عن عامة وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد ، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين .
    ثم ذكر الشافعي أنه ورد بإسناد لا يثبته أهل الحديث ثم قال : وإنما قبلناه بما وصفت من نقل أهل المغازي وإجماع العامة عليه ( ) .
    أما الإمام الحافظ ابن عبدالبر فقال بعدحديث عمرو بن حزم في الديات وهو كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم له ، وقد رواه مالك مرسلاً ( ) ، قال ابن عبدالبر رحمه الله : وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول ( ) .
    أما ابن تيمية فأطال في تقرير ذلك فألخص ما قاله قال : الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملأً بموجبه أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف ، وهو الذي ذكره جمهور المنصفين في أصول الفقه كالسرخسي ، وذكر طائفة من الأصوليين ، ثم قال : وهو قول أكثر أهل الكلام وهو مذهب أهل الحديث قاطبة وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح في مدخله إلى علوم الحديث ، فذكر ذلك استنباطاً وافق فيه هؤلاء الأئمة ، ثم ذكر من خالف في هذا كالباقلاني والغزالي وابن عقيل قال : وعمدتهم أن خبر الواحد لا يفيد العلم بمجرده ، وأجاب عليهم بقوله : إن إجماع الأئمة معصوم عن الخطأ في الباطن وإجماعهم على تصديق الخبر كإجماعهم على وجوب العمل به ... إلخ كلامه رحمه الله ( ) .
    ونقل الحافظ بن حجر رحمه الله كلام ابن تيمية وأيده بنقول نقلها عن طائفة من أهل العلم في كتابه النكت على كتاب ابن الصلاح ( ) .
    هذا ما تيسر لي جمعه في هذا الموضوع ، وأسأل الله التوفيق والسداد .

    ****************
    الحواشي :
    ( ) النكت على ابن الصلاح (2/652) وما بعدها .
    ( ) مقدمة ابن الصلاح على التنبيه والإيضاح ، ص 88 .
    ( ) الاقتراح ، ص 211 ، ت : عامر صبري .
    ( ) نزهة النظر ، ص 36 ، وقد فصل في هذا في النكت (2/674 ، 675) .
    ( ) سنن أبي داود وكتاب الطهارة ، باب : الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء ، ج : 19 .
    ( ) انظر ترجمته في التقريب ، ص 574 .
    ( ) النكت ، ص 677 .
    ( ) سنن النسائي الكبرى (3/231) ، ح : 5187 .
    ( ) التقريب ، ص 261 .
    ( ) مقدمة ابن الصلاح على التقييد والإيضاح ، ص 88 .
    ( ) (الطلاق : من الآية 12) .
    ( ) انظر : المستدرك (2/493) وتفسير ابن كثير (4/386) وذكره السيوطي في التدريب (1/233) .
    ( ) المستدرك (1/189) .
    ( ) شرح علل الترمذي ، ص 254 ، 255 .
    ( ) ذكر الحافظ بن حجر في هدي الساري في ترجمة يزيد بن عبدالله بن خصيفة بعد أن نقل توثيقه عن ابن معين وأبي حاتم
    والنسائي ، قال : وروى الآجري عن أبي داود عن أحمد أنه قال : منكر الحديث . قلت (الحافظ) : هذه لفظة يطلقها
    أحمد على من يغرب على أقرانه بالحديث عرف ذلك بالاستقراء من حاله وقد احتج بابن خصيفة مالك والأئمة
    كلهم . هدي الساري ، ص (453) . وذكر السخاري أنهم قد يطلقون ((منكر الحديث)) على الثقة إذا روى المناكير
    عن الضعفاء كما قال الحاكم للدار قطني : فسليمان ابن بنت شرحبيل قال : ثقة ، قلت : أليس عنده مناكير ؟ قال :
    يحدث بها عن قوم ضعفاء فأما هو فثقة . فتح المغيث (ا/375) .
    ( ) انظر : شرح علل الترمذي لابن رجب ، ص 308 ، تحت عنوان : في ذكر قوم من الثقات لا يذكر أكثرهم في كتب
    الجرح وقد ضعف حديثهم ، إما في بعض الأوقات أو في بعض الأماكن أو عن بعض الشيوخ .
    ( ) انظر : توضيح الأفكار للصنعاني (1/383-384) .
    ( ) مقدمة صحيح مسلم (1/7) .
    ( )الموقظة ، ص 4277 .
    ( ) الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، ص 22 .
    ( ) التاريخ الكبير (1/139) .
    ( ) انظر الكتاب المذكور ، ص 40 .
    ( ) شرح علل الترمذي ، ص 208 .
    ( ) الكامل لابن عدي (1/324) .
    (2) انظر تهذيب التهذيب (3/294)
    (3) الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها .
    (4) كما فعل ذلك النووي ورد عليه ابن حجر . النكت (2/688) .
    (5) النكت (2/687) .
    ( ) شرح علل الترمذي ، ص 244 .
    ( ) النكت (2/689) .
    ( ) نقله الصنعاني في توضيح الأفكار (1/343) .
    ( ) نزهة النظر ، ص 34 .
    ( ) النكت على ابن الصلاح (2/687 ، 690 ، 692) .
    ( ) علوم الحديث ، ص 82 .
    ( ) تدريب الراوي (1/283) .
    ( ) شرح ألفية الحديث (1/260) .
    ( ) شرح علل الترمذي ، ص 290 .
    ( ) الموضع السابق .
    ( ) الجرح والتعديل (1/351) .
    ( ) سنن الترمذي (5/564) .
    ( ) المستدرك (1/461) .
    ( ) هو الحافظ محمد بن أحمد النيسابوري الكرابيسي ، قال الذهبي : أبو أحمد الحاكم محدث خراسان الإمام الحافظ الجهبذ
    ... صاحب التصانيف ، وهذا هو الحاكم الكبير ، وهو شيخ أبو عبدالله الحاكم صاحب المستدرك ، قال عنه تلميذه
    أبوعبدالله : كان أبو أحمد من الصالحين الثابتين على سنن السلف ومن المنصفين . انظر : تذكرة الحفاظ
    (3/977 ، 978) .
    ( ) شرح العلل لابن رجب ، ص 395 .
    ( ) فضائل القرآن ، مطبوع مع تفسير ابن كثير ، ص 56 ، 57 .
    ( ) ذكره عنه ابن القيم في المنار المنيف ، ص 64 .
    ( ) اللآلئ المصنوعة للسيوطي (2/81) .
    ( ) فيض القدير (1/312) .
    ( ) المنار المنيف (63) .
    ( ) مجمع الزوائد (8/47) .
    ( ) انظر : سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/225) ، رقم 672 ، وعزاه لأبي داود وأحمد والطحاوي والحاكم .
    ( ) المستدرك (4/100) .
    ( ) انظر : الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة ، ص 119 .
    ( ) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/228) .
    ( ) انظر المرجع السابق (2/230) .
    ( ) السلسلة الصحيحة (2/309) ، رقم 747 .
    ( ) انظر ترجمته في : الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (4/119) .
    ( ) السلسلة الصحيحة (1/258) ، رقم 150 ، وعزاه للطبراني .
    ( ) التاريخ الكبير للإمام البخاري (1/39) .
    ( ) الحديث أخرجه أبو داود (4/105) ، ج : 4278 والحاكم في المستدرك (4/491) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
    ( ) فتاوى ابن تيمية (1/226) ، وانظر نحوه أيضاً في (17/236) .
    ( ) صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافر ، باب : استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليها ، ج : 1196 ترقيم العالمية .
    ( ) نزهة النظر ، ص 51 ، 52 .
    ( ) انظر : فصل التقوية بالأدنى من كتاب ((مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة والضعيفة)) ، ص 92 وما بعدها ،
    وانظر النص فيـ : اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث ، ص 33 .
    ( ) مناهج المحدثين ، ص 22 .
    ( ) الرسالة ، ص 139 ، 140 ، ت : أحمد شاكر .
    ( ) موطأ مالك (4/201) بشرح الزرقاني وأخرجه عبدالرزاق في المصنف (4/4) وابن خزيمة (4/19) مرسلاً ، ورواه
    موصولاً النسائي في السنن (8/57) وغيره من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن
    حزم عن أبيه عن جده . وسليمان بن داود المذكور هنا وهم أنها هو سليمان بن أرقم كما رجحه المحققون من
    أهل العلم ، وسليمان بن أرقم ضعيف فلا يصح الحديث موصولاً كما قال أبو داود وغيره . انظر : التلخيص الحبير
    (4/18) ، وميزان الاعتدال (3/287) ، ونيل الأوطار (7/163) .
    ( ) التمهيد (17/338) .
    ( ) انظر : فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (18/40) فما بعدها ، ونقله عنه تلميذه ابن القيم في الصواعق المرسلة ، ص
    481 .
    ( ) النكت على كتاب ابن الصلاح (1/374) .
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    س/ أحياناً نجد بعض الأحاديث التي حكم عليها علماء الحديث قديماً بالضعف كابن حبان، وأبي حاتم، وابن خزيمة وغيرهم . وهذه الأحاديث حكم عليها علماء حديث معاصرون بالتصحيح أو العكس . فلمن يكون الترجيح ؟
    فهناك من يقول نأخذ قول العلماء الأوائل؛ لأنهم أقرب عهداً برواة الحديث، وبالسلف الصالح . وهناك من يقول إن الترجيح للمعاصرين؛ لأنهم أوتوا من سبل البحث والتحقيق ما لم يؤتَ أولئك . نرجو التوضيح .
    أجاب على السؤال فضيلة الشيخ عمر المقبل المحاضر في جامعة الإمام فرع القصيم .
    الجواب :
    الحمد لله ، وبعد : فهذا السؤال يتصل بقضية كثر الكلام فيها في الآونة الأخيرة ، ولعلي أجمل الجواب في ست نقاط :
    الأولى : : لا ريب أن الأصل هو التعويل والرجوع إلى الأئمة المتقدمين ، وهذا ليس خاصاً بعلم الحديث بل في كل علم من علوم الشريعة .
    الثانية : من حيث العموم فأئمة الحديث المتقدمون أعلم من المتأخرين ، وأدقّ نظراً ، وأقرب عهداً بعصور الرواية والتدوين -كما ذكر السائل- فقد شاهدوا جمعاً غفيراً من حملة الآثار ورواة الأسانيد ، ووقفوا على كتبهم وأصولهم التي يروون منها ، فتحصّل عندهم ، وتهيأ لهم من ملكة النقد ، والقدرة على التمحيص ما لم يتهيأ لغيرهم ممن أتى بعدهم ، خاصة في أدق وأجل علوم الحديث ، وهو علم (العلل ) الذي برز فيه جمع من الأئمة الكبار كابن المديني ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، والدارقطني ، وغيرهم .
    الثالثة : إذا تقرر أن الأئمة المتقدمين لهم من المزايا والخصائص ما ليس لغيرهم ممن أتى بعدهم ، فإنه يجب التسليم لقولهم إذا اتفقوا ولم ينقل عنهم اختلاف ، ولو خالفهم بعض المتأخرين ، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله : (( فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله ، فالأولى اتباعه في ذلك ، كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه)) (انظر : النكت 2/711) وللعلائي ، وابن كثير ، والسخاوي رحمهم الله كلام يدور حول هذا المعنى ، فينظر : اختصار علوم الحديث: 79 ، وفتح المغيث 1/237 .
    الرابعة : هذا الذي سبق فيما إذا اتفق المتقدمون على الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف ، فأما إذا اختلفوا ، فإن كان الشخص قادراً على المقارنة والترجيح أخذ بما تطمئن إليه نفسه ، وإن كان لا يقدر فيقلد من يرى أنه أعلم بهذا الشأن ، كما بيّن ذلك غير واحد من الحفاظ المتأخرين كالعلائي رحمه الله . (ينظر : فتح المغيث 1/237) .
    الخامسة : : أن قول بعض الناس إن سبب ترجيح قول المعاصرين لكونهم أوتوا من سبل البحث والتحقيق ما لم يكن للأوائل ، فالحقيقة أن هذا الكلام لا يصدر ممن له أدنى اطلاع ومعرفة بأقدار الأئمة، وما آتاهم الله عز وجل من سعة الاطلاع العجيب ، والفهم الدقيق ، والنظر العميق في الأحاديث ، وطرقها وعللها ، ومعرفة أحوال رواتها على وجه الدقة . ويكفي أن يعلم السائل الكريم أن المتأخرين لم يظفروا بكثير من الطرق التي كانت معروفة عند الأئمة المتقدمين .
    ثم أين يقع علم المعاصرين الذين علم أكثرهم في كتبه، مع علم الأئمة المتقدمين الذين أكثر علمهم محفوظ في صدورهم ، يأتون به متى شاؤوا ؟! ولا ريب أن هذا كلّه لا يعني انتقاص أقدار العلماء المتأخرين - ومنهم المعاصرون - حاشا وكلا، بل لهم فضل وأثر كبير في نفع الأمة، وخدمة السنة، فكم نفع الله بكتبهم وتحريراتهم ! وإنما المقصود بيان منازل أولئك الأئمة ومعرفة أقدارهم على وجه الإيجاز الشديد -رحم الله الجميع – .
    السادسة : : أن السائل - بارك الله فيه - قرن في سؤاله بين ثلاثة من الأئمة وهم : أبو حاتم الرازي ، وابن خزيمة ، وابن حبان . ومع الاتفاق على جلالة هؤلاء الأئمة إلاّ أن أهل العلم بالحديث يقدمون أبا حاتم على ابن خزيمة ، كما يقدمون ابن خزيمة على تلميذه ابن حبان رحم الله الجميع.
    فأبو حاتم له طريقة متميزة في النقد على مشرب الأئمة الكبار : أحمد ، والبخاري ، وأبي داود ، والنسائي ، وغيرهم . وابن خزيمة مع موافقته في كثير من الأحيان لمشرب الأئمة، إلاّ أنه أحياناً - مع تلميذه ابن حبان - لهما طريقة في النقد لا يوافقهما عليها الأئمة الكبار، ومن سار على طريقتهم.
    ومقصودي من هذا التنبيه : أن تُعلم أقدار الأئمة ، وأن الله تعالى فضّل بعضهم على بعض في العلم والفهم ، فينبغي أن يلاحظ هذا ويعتبر عند النظر في كلامهم ، والله أعلم .

    *****************

    مقال الشيخ عبد الله السعد
    قال الشيخ المحدث ( عبد الله السعد ):
    ومعرفة هذا المنهج – أعني منهج المتقدمين – في هذه المسألة وغيرها من قضايا الصناعة الحديثية أمر لا بد منه كما في باقي العلوم الشرعية (1) ؛ لأن أهل العلم ليسوا على منهج واحد في الصناعة الحديثية ، بل على مناهج متعددة ، فعلى هذا لا بد من معرفة طريقتهم ثم السير عليها.
    * قال أبو الفرج ابن رجب رحمه الله تعالى:
    (وكذا الكلام في العلل والتواريخ قد دونه أئمة الحفاظ وقد هجر في هذا الزمان درس حفظه وفهمه ، فلو لا التصانيف المتقدمة فيه لما عرف هذا العلم اليوم بالكلية ، ففي التصانيف فيه ونقل كلام الأئمة المتقدمين مصلحة عظيمة جداً، وقد كان السلف الصالح مع سعة حفظهم وكثرة الحفظ في زمانهم يأمرون بالكتابة للحفظ ، فكيف بزماننا هذا الذي هجرت فيه علوم سلف الأمة وأئمتها ولم يبق منها إلا ما كان منها مدوناً في الكتب لتشاغل أهل الزمان بمدارسة الآراء المتأخرة وحفظها) اهـ. من (شرح العلل) ص 74 بتحقيق / السامرائي.
    *وقال أبو الفضل ابن حجر رحمه الله تعالى مبيناً جلالة المتقدمين في هذا الفن وعلو كعبهم في هذا العلم.
    (وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين ، وشدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم(2) في ذلك، والتسليم لهم فيه) اهـ من (النكت) 2/726.
    * وقال أبو الوفا بن عقيل مبيناً اختلاف الفقهاء والمحدثين في الحكم على الأحاديث بعد أن ذكر حديثاً ضفعه أحمد بعد أن سئل عنه وهو حديث معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة) قال أحمد : (ليس بصحيح ، والعمل عليه ، كان عبد الرزاق يقول: عن معمر عن الزهري مرسلاً).
    قال ابن عقيل: (ومعنى قول أحمد (ضعيف) على طريقة أصحاب الحديث ، وقوله (والعمل عليه) كلام فقيه يعول على ما يقوله الفقهاء من إلغاء التضعيف من المحدثين لأنهم يضعفون بما لا يوجب ضعفاً عند الفقهاء ، كالإرسال والتدليس والتفرد بالرواية ، وهذا موجود في كتبهم ، يقولون: وهذا الحديث تفرد به فلان وحده …) اهـ من (الواضح في أصول الفقه) 5/21-22.
    قول ابن عقيل في تفسير كلام أحمد في قوله (والعمل عليه): (كلام فقيه يعول على ما يقوله الفقهاء من إلغاء التضعيف من المحدثين …) ليس بصحيح فالإمام أحمد ضعف هذا الحديث لأن معمراً حدث به بالبصرة فأخطأ فيه ووصله وعندما حدث به في اليمن أرسله كما رواه عنه عبد الرزاق ، وحديث معمر باليمن أصح من حديثه بالبصرة ، وقد خالف الحفاظ من أصحاب الزهري معمراً في هذا الحديث ، ولذلك ذهب أكثر الحفاظ إلى تضعيف حديث معمر كما قال أحمد ، فقال البخاري عنه (هذا الحديث غير محفوظ) وحكم مسلم في كتابه (التمييز) على معمر بالوهم فيه ، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: (المرسل أصح). ينظر (تلخيص الحبير) 3/192.
    وأما قول أحمد (والعمل عليه) فلا شك في هذا لأن القرآن والإجماع يدلان على ذلك وليس كما قال ابن عقيل أن أحمد يأخذ بقول الفقهاء في تصحيح هذا الحديث. فميز ابن عقيل بين طريقة المحدثين والفقهاء.
    * وقال شيخه القاضي أبو يعلى في (إبطال التأويلات) 1/140 تعليقاً على كلام أحمد في حكمه على حديث عبد الرحمن بن عايش بالاضطراب ، قال: (فظاهر هذا الكلام من أحمد التوقف في طريقه لأجل الاختلاف فيه ، ولكن ليس هذا الكلام مما يوجب تضعيف الحديث على طريقة الفقهاء) اهـ.
    والشاهد من هذا اختلاف مناهج أهل العلم في الصناعة الحديثية ، وأنهم ليسوا على منهج واحد كما يقول بعض الإخوان وأن في هذا تفريقاً للأمة ، وأنه ليس هناك من له منهج خاص في الصناعة الحديثية إلا محيي الدين النووي ، فهذا القول لاشك في بطلانه وحكايته في الحقيقة تغني عن رده.
    *قال تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه (الاقتراح) ص 152 في بيان مذاهب أهل العلم واختلاف مناهجهم في حد الحديث الصحيح ، قال: (اللفظ الأول ومداره بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على عدالة الراوي العدالة المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر في الفقه ، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسنداً ، وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذاً ولا معللاً ، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء ، وبمقتضى ذلك حد الحديث الصحيح بأنه: الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذاً ولا معللاً ولو قيل في هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته هو كذا وكذا إلى آخره لكان حسناً لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف ومن شرط الحد: أن يكون جامعاً مانعاً) اهـ.
    قلت : وقول ابن دقيق هذا يدل على اختلاف أهل العلم في حد الحديث الصحيح وتباين طرائقهم في ذلك كما تقدم.
    وقوله: ما اشترطه أهل الحديث في حد الحديث الصحيح: أن لا يكون شاذاً ولا معللاً ، وأن في هذين الشرطين نظراً عند الفقهاء تقدم هذا فيما قال القاضي أبو يعلى وابن عقيل من تضعيف الإمام أحمد للحديثين السابقين: أن هذا لا يجري على طريقة الفقهاء.
    ولذلك قال أبو عبد الله بن القيم في (زاد المعاد) 5/96-97.
    (وليس رواية هذا الحديث مرسلة(3) بعلة فيه ، فإنه قد روي مسنداً ومرسلاً، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادة ومن وصله مقدم على من أرسله فظاهر ، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث فما بال هذا خرج عن حكم أمثاله ؟ وإن حكمنا بالإرسال كقول كثير من المحدثين فهذا مرسل قوي …) اهـ.
    * وقال ابن رجب ناقداً الخطيب البغدادي في بعض منهجه في كتابه (الكفاية) في مبحث (زيادة الثقة) وأنه لم يسلك منهج من تقدم من الحفاظ وإنما سلك منهج المتكلمين وغيرهم ، فقال ص 312 من (شرح العلل):
    (ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب (الكفاية) للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء وهذا يخالف تصرفه في كتاب (تمييز المزيد) … اهـ.
    * وقال برهان الدين البقاعي في (النكت الوفية على الألفية) ص 99 مبيناً طريقة كبار الحفاظ في تعارض الوصل والإرسال في الحديث والرفع والوقف وزيادة الثقات وناقداً لابن الصلاح الذي خلط في هذه المسألة طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين فقال:
    (إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين ، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظراً آخر لم يحكه وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه وذلك أنهم يحكمون بحكم مطرد وإنما يدورون في ذلك مع القرائن …)(4) اهـ.
    قلت : وقد سلك كثير من المشتغلين بعلم الحديث طريقة الفقهاء والمتكلمين من الأصوليين واختلط الأمر عليهم ، ولذلك كثرت مخالفتهم لكبار الحفاظ في أحكامهم على الأحاديث فصححوا ما أعله كبار الحفاظ وضعفوا ما صححه كبار الحفاظ.
    * قال عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى في مقدمته لكتاب (الفوائد المجموعة) للشوكاني مبيناً تساهل كثير من المتأخرين في حكمهم على الأحاديث:
    (إنني عندما أقرن نظري بنظر المتأخرين أجدني أرى كثيراً منهم متساهلين وقد يدل ذلك على أن عندي تشدداً لا أوافق عليه غير أني مع هذا كله رأيت أن أبدي ما ظهر لي ناصحاً لمن وقف عليه من أهل العلم أن يحقق النظر ولا سيما من ظفر بما لم أظفر به من الكتب التي مرت الإشارة إليها) اهـ من المقدمة لكتاب (الفوائد المجموعة) ص8.
    وقال أيضاً في (الأنوار الكاشفة) ص 29: (وتحسين المتأخرين فيه نظر) اهـ. ولذلك تجد أن بعض أهل العلم بالحديث ينبهون على طريقة من تقدم من الحفاظ في القضايا الحديثية التي يعالجونها.
    * قال أبو عبد الله بن القيم في (الفروسية) ص 62 مبيناً الطريقة السليمة والمنهج الصحيح الذي كان يسلكه أئمة الحديث في الحكم على الراوي وراداً على من خالف هذا المنهج فقال:
    (النوع الثاني من الغلط: أن يرى الرجل قد تكلم في بعض حديثه وضعف في شيخ أو في حديث فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجد ، كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظاهر وغيرهم) اهـ.
    * وقال أبو الفرج بن رجب في بيان منهج أئمة الحديث في قضية التفرد في الحديث والتفرد في بعض الألفاظ في الحديث:
    (وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه أنه(5) لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علة فيه اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه) اهـ من (شرح العلل).
    * وقال أيضاً ص 272 من (شرح العلل) في اشتراط اللقاء حتى يحكم للخبر بالاتصال: (وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله علي بن المديني والبخاري وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله …) اهـ.
    * وقال أيضاً ص 311 من (شرح العلل) في مسألة الاختلاف في وصل الأخبار أو إرسالها أو تعارض الوقف مع الرفع: (وقد تكرر في هذا الكتاب ذكر الاختلاف في الوصل والإرسال والوقف والرفع وكلام أحمد وغيره من الحفاظ يدور على قول الأوثق في ذلك والأحفظ أيضاً …) اهـ.
    والكلام في هذا يطول.
    وعلى هذا فيستحسن بيان (منهج المتقدمين) أو (أئمة الحديث) في قضايا علم الحديث التي وقع فيها خلاف مثل العلة والشذوذ والتفرد وزيادة الثقات وغيرها من القضايا ، وقد بين بحمد الله تعالى أهل العلم هذه القضايا ، فدونك مثلاً (شرح العلل) لابن رجب ، و(النكت على ابن الصلاح) لابن حجر وغيرها

    ********************
    * الحواشي :
    (1) مثل ما حصل في باب الاعتقاد من مخالفة الكثير لطريقة السلف في (علم التوحيد) وتكلموا في ذات الله وصفاته بأدلة العقول وتركوا الكتاب والسنة فأدى هذا بهم إلى إنكار أسماء الله وصفاته وعلوه على خلقه فضلوا وأضلوا.
    ومثل ما حصل أيضاً في أبواب الفقه من التعصب لأقوال العلماء والاقتصار عليها في التفقه دون التفقه في الكتاب والسنة والرجوع إليهما ، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى (عجبت لمن عرف الإسناد وصحته يذهب إلى قول سفيان).
    وقال أبو الفرج ابن رجب رحمه الله تعالى: (ومن ذلك – أعني محدثات العلوم - ما أحدثه فقهاء اهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها سواء خالفت السنن أو وافقتها طرداً لتلك القواعد المقررة وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة ، لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها. وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء الرأي في الحجاز والعراق وبالغوا في ذمه وإنكاره.
    فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم أو عند طائفة منهم ، فأما ما اتفق السلف على تركه فلا يجوز العمل به ...) اهـ (من فضل علم السلف على الخلف).
    ومن ذلك ما حصل في علم أصول الفقه من سلوك طريقة المتكلمين وإدخال علم الكلام المذموم في أصول الفقه.
    قال أبو المظفر السمعاني في (قواطع الأدلة) 1/5-6: (وما زلت طول أيامي أطالع تصانيف الأصحاب في هذا الباب ، وتصانيف غيرهم ، فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهر من الكلام ورائق من العبارة ، ولم يداخل حقيقة الأصول على ما يوافق معاني الفقه ، ورأيت بعضهم قد أوغل وحلل وداخل غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل وسلك طريقة المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه ، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير ولا نقير ولا قطمير (ومن تشبع بما لم يعط فقد لبس ثوبي زور) … )اهـ.
    وغير ذلك مما خالف فيه كثير من الناس طريقة السلف ، وما زال أهل العلم بحمد الله تعالى ينبهون على ذلك ويدعون إلى السير على منهج السلف الصالح.
    ولا يظن أنني عندما أدعو إلى السير على طريقة الأئمة المتقدمين في علم أصول الحديث أنني أدعو إلى عدم الأخذ بكلام من تأخر من أهل العلم والاستفادة منهم ، هذا لم أقل به ولا يقول به عاقل ، ومع الأسف ظن بعض الإخوان هذا ، ثم عندما ظن هذا الظن السيئ وتخيل بعقله هذا الرأي الفاسد أخذ يرد بسذاجة واضحة على هذا القول حتى إنه عندما أراد أن يؤيد رأيه ضرب مثلاً بأبي الفداء ابن كثير وأتى بمثال يبين فيه أن ابن كثير يستطيع أن ينقد الأخبار ويبين العلل التي تقدح في صحة الحديث!!
    فيا سبحان الله! هل هذا الإمام الجليل ، والحافظ الكبير يحتاج إلى أن نأتي بمثال حتى يشهد له بالعلم بالحديث؟ ومؤلفاته كلها تشهد بعلو كعبه في هذا العلم وتمكنه من صناعة الحديث حتى كأن السنة بين عينيه ، حتى أن طالب العلم ليعجب من هذا العالم الجليل عندما يسوق الأخبار من كتب الحديث بأسانيدها ثم يؤلف بينها ويتشبه في هذا بمسلم بن الحجاج وأبي عبد الرحمن النسائي هذا مع الكلام على أسانيدها ونقد متونها وهو رحمه الله تعالى من البارعين في نقد المتون ، حتى إنه عندما يتكلم في باب من أبواب العلم يغنيك عن الرجوع إلى كتب كثير كما فعل عندما ساق حجة الرسول r منذ خروجه من المدينة إلى مكة إلى رجوعه ، ويأخذك العجب من استحضاره وقوة علمه وجلالة فضله ، وهذا جزء يسير من كتابة النفيس (البداية والنهاية) الذي ذكر فيه بدء الخليقة إلى قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الرسول r إلى زمنه يسوق النصوص من كتاب الله ومن السنة النبوية ومما جاء عن الصحابة والتابعين وهلم جرا. وتفسيره النفيس الذي أتى فيه بالعجب وفسر فيه القرآن بالقرآن ، وبالسنة والآثار التي جاءت عن الصحابة والتابعين. فمن أنكر علم هذا الفاضل إما أن يكون إنساناً غاية في البلادة أو ممن أعمى الله بصره وبصيرته ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومما يستغرب من هؤلاء الإخوان أنهم قالوا: لا تقولوا (مذهب المتقدمين) وهذا عجيب لأنه:
    أولاً: لا مشاحة في الاصطلاح.
    ثانياً: أن أهل العلم استخدموا ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى النقل عنهم.
    ثالثاً: أن هذا الاسم مطابق للمسمى كما هو ظاهر.
    رابعاً: أي فرق بين أن يقال (مذهب المتقدمين) أو (أهل الحديث) أو (أئمة الحديث) أو نحو ذلك؟
    خامساً: إن هذه الكلمة لا تخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ، وإنما هو اصطلاح مثل باقي الاصطلاحات ، لا يدعو إلى مثل هذا الإنكار الذي جرى من هؤلاء الإخوان ، والعجيب أيضاً أن هؤلاء الإخوان أخذوا يدعون إلى مثل ما نقول به ، فقالوا: ينبغي دراسة مناهج المحدثين. وأي فرق بين الدعوة إلى دراسة (مناهج المحدثين) أو دراسة (منهج المتقدمين) ، فالأول هو الثاني ولا فرق ، وإن كان فرق عندهم فليبينوه ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
    (2)الذي يظهر أن الحافظ ابن حجر لا يقصد التقليد الأعمى وإنما يقصد المتابعة لهم والسير على مناهجهم.
    (3) كذا.
    (4) بعض الكلمات كانت غير واضحة – بالنسبة لي – في المخطوط فنقلتها من (توضيح الأفكار).
    (5) في المطبوع: أن.
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ الشريف حاتم العوني

    قال في أجوبته على أسئلة أعضاء ملتقى أهل الحديث:
    سؤاله الأول : عن التفريق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين في التصحيح والتضعيف ، وهل هذا التفريق سائغ ؟
    ويطلب البيان الشافي في ذلك
    أما البيان الشافي فهو حري بمصنف كامل ، وهو ما قمت به بفضل الله ومنته ، من نحو ثلاث سنوات وإنما أخرت طباعته ونشره استكمالا لبعض الجوانب غير الأساسية المتعلقة بالموضوع ، فعسى أن ييسر الله تعالى نشره قريبا (بإذنه عز وجل)
    لكني سوف أذكر بعض الأمور التي تجلى وجه الحق في هذه المسألة :
    أولاً : لايتردد أحد ممن له علاقة بعلم الحديث أن أئمة النقد في القرن الثالث والرابع ، من أمثال ابن معين وابن المديني وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وأبي حاتم وأبي زرعة وابن خزيمة والعقيلي وابن أبي حاتم وابن عدي وابن حبان والدارقطني وأمثالهم = أنهم أعلم( بمراتب كثيرة ) من المتأخرين من أمثال الذهبي وابن حجر والسخاوي والسيوطي فمن جاء بعدهم إلى المعاصرين
    ثانياً : لايشك أحد ممن له علاقة بعلم الحديث وبعلمائه وتراجمهم وأخبارهم أن أئمة الحديث ممن سبق ذكر أعيانهم أسلم الناس قلبا ( وفكرا) من العلوم الدخيلة على العلوم الإسلامية التي أثرت فيها تأثيرا سيئا ، كعلم المنطق ووليده علم الكلام ، وأنهم في هذا الأمر ليسوا كعامة المتأخرين ممن تأثروا بتلك العلوم : بطريق مباشر أو غير مباشر ( كما بينت ذلك في المنهج المقترح)
    ثالثاً : لايخفى على أحد أن علم الحديث كان خلال القرون الأولى حيا بين أهله ؛ لأنهم هم الذين سايروا مراحل نموه وتطوره ، وواجهوا الأخطار التي أحدقت به بما يدفعها ، وهم الذين وضعوا قواعده وأتموا بناءه ، حتى اكتمل وأنه بعد ذلك ابتدأ في التناقص ، حتى وصل الى درجة الغربة ( كما صرح بذلك ابن الصلاح ت 643ه) ولذلك غمضت على المتأخرين كثير من معالمه ، وخفيت عليهم معاني بعض مصطلحاته ، وصاروا يصرحون في مواطن كثيرة ( بلسان الحال والمقال) أنهم مفتقرون الى الإستقراء والدراسة لأقوال المتقدمين ومناهجهم لاستيضاح معالم علم الحديث ومعاني مصطلحاته التي كانت حية واضحة المعالم عند المتقدمين ( كما سبق)
    ولذلك كنت قد وصفت المتقدمين في كتابي ( المنهج المقترح) ب ( أهل الإصطلاح )، ووصفت المتأخرين بأنهم ( ليسوا من أهل الإصطلاح) ؛ لأنهم ( أعني المتأخرين) مترجمون لمعاني مصطلحات المتقدمين ،
    ومستنبطون لمعالم علمهم : أصولا وفروعا ، وليس لهم دور آخر سوى ذلك ، إلا أن يحفظوا لنا الأوعية التي تركها المتقدمون ( وهي الكتب)
    وبذلك يظهر لنا الفرق الكبير بين الفريقين ، إنه كالفرق بين : من كان من أهل الإحتجاج بلغته من العرب ( فهم أهل اللغة)، ومن جاء بعد انقراض هؤلاء ممن صنف كتب اللغة بل من جاء بعدهم بزمن ، بعد أن أفسد علم المنطق من علوم اللغة ما أفسده في العلوم الأخرى ، وبعد أن ضعف العلم باللغة كما ضعفت العلوم الأخرى!!!
    وإذا كان الأمر بالنسبة للمتقدمين والمتأخرين على ما سبق شرحه ، فهل يشك أحد أن هناك فرقا بين المتقدمين والمتأخرين ؟!!!
    وإني لأسأل : إذا تكلم في علم من العلوم رجلان ، أحدهما : أعلم به ، بل هو من مبدعيه وواضعيه وثانيهما : أقل علما به بمراتب ، بل قصارى شأنه أن يفهم كلام الأول ويستوضح منهجه = أيهما سيكون أولى بمعرفة الحق في مسائله ؟ ومن منهما سيكون قوله أصوب وأسد
    وبصراحة أكثر : إذا صحح أحد المتأخرين حديثا ، لن يؤثر على تسديد حكمه أنه :
    1 ــ أقل علما من المتقدمين .
    2 ــ وأنه قد تأثر فكره وعقله بمناهج غريبة عن علم الحديث .
    3 ــ وأنه ما زال مفتقرا لفهم واستيضاح بعض معالم علم الحديث ؟!!
    وإذا قرر أحد المتأخرين قاعدة من قواعد نقد الحديث في القبول والرد ، أو أصل أصلا في إنزال الرواة منازلهم جرحا أو تعديلا ، ثم وجدنا أن تلك القاعدة أو ذلك الأصل يخالف ولا يطابق التقعيد الواضح أو المنهج اللائح من أقوال أو تصرفات الأئمة المتقدمين = فمن سيتردد أن المرجع هم أهل الاصطلاح وبناة العلم ( وهم المتقدمون )؟!!! إني – بحق – لا أعرف أحدا يخالف في ذلك ؛ لأني لا أتصور طالب علم يخفى عليه مأخذه !
    أما قول من يقول : إن المتأخرين من علماء الحديث ( كالذهبي والعراقي وابن حجر والسخاوي والسيوطي) أعرف الناس بمنهج المتقدمين في قواعد الحديث , وأنهم نصروا مذهبهم = فإني أقول له :
    أولاً : فإذا اختلف المتأخرون ( وما أكثر ما اختلفوا فيه : من تعريف الحديث الصحيح إلى المدبج ومعناه) = فمن هو الحكم ؟ وإلى ماذا المرجع ؟ أو ليس هو تطبيقات المتقدمين وأحكامهم وأقوالهم ؟
    أم أن هذا القائل لتلك المقالة يريد منا أن نقفل باب الاستقراء والدراسة لأقول الأئمة المتقدمين ؟!!!
    ما أشبه الليلة بالبارحة ! كنا – معشر أتباع الدليل – نذكر الأدلة لمقلدة المذاهب ، ونعجب بل نستنكر قول المقلدين المتعصبين : إن إمامنا أعرف بهذه الأدلة منكم ، وكل من خالف قول إمامنا إما مؤول أو منسوخ !! ثم أرى بعض أتباع الدليل يرجعون إلى مثل هذا القول !!!
    فإن كان ذلك القائل لايريد منا إقفال باب الاستقراء والدراسة لأقوال الأئمة المتقدمين ، بل هو مؤيد لهذا المنهج = فما الذي يستنكره على دعاة هذا المنهج ؟! وأخشى ما أخشاه أنه بذلك يؤصل ( من حيث يشعر أو لم يشعر) منهج التقليد الأعمى ، وينسف أصل السلفية العظيم ، وهو الرجوع الى الدليل الصحيح ،وهذا ما نراه في بحوث ودراسات كثير من المعاصرين من المخالفين لنا في منهج دراسة علوم الحديث فأصبحنا ضحكة لأهل البدع : نجتهد في الفروع الفقهية ، ونقلد في علوم الحديث !! ونرضى أن نعد أخطاء العلماء العقدية ، ونستشنع أن يخطأ أحد منهم في تفسير مصطلح من المصطلحات!!!
    فإنا لله وإنا اليه راجعون
    ثانياً : أضف الى ذلك كله في الرد على تلك المقالة : أن المتأخرين الذين تصدوا إلى علم الحديث تأليفا وبيانا لقواعده وشرحا لمصطلحاته قد أخطئوا في بعض ما قرروه، وهذا يعترف به المخالف قبل المؤالف
    وبجمع بعض تلك الأخطاء بعضها الى بعض ، وبعد دراستها لمعرفة سبب وقوع ذلك العالم فيها 0 ولمعرفة ما اذا كانت مجرد خطأ جزئي أم أنها خطأ منهجي = تبين أن بعض تلك الأخطاء سببها خطأ منهجي، أي في طريقة دراسة ذلك العالم لتلك المسائل ومنهجه في تناولها وهذا ما أثبته بوضوح كامل في كتابي ( المنهج المقترح) ، وبينت دواعيه التاريخية والعلمية والعقدية والفكرية ، واستدللت له بأدلة واقعية من أخطاء بعض العلماء
    وذلك الخطأ المنهجي في دراسة المصطلح لدى المتأخرين لم يتناول كل دراستهم ، ولذلك أصابوا في كثير من مباحث علم الحديث ، لما طبقوا المنهج الصواب ، الذي لاندعوا – اليوم – إلا اليه
    لكن ظهور ذلك المنهج الخطأ لدى بعض العلماء المتأخرين كان أثره واتساع دائرة تطبيقه تدريجيا ، إلى العصر الحديث فكان ( المنهج المقترح ) أول كتاب يبين بجلاء أن خطا المتأخرين في علوم الحديث ىليس دائما خطأ جزئيا كغيره من الأخطاء التي يمكن استدراكها بسهولة ، ولا يكون له خطورة على العلم ذاته بل إن بعض تلك الأخطاء نتجت عن خطأ منهجي خطير ، قائم ( في وجهه اللسافر ) على مشاحة أهل الاصطلاح اصطلاحهم ، وعلى مناقضة أصحاب التقعيد تقعيدهم !! وكان ( المنهج المقترح) بعد ذلك أول كتاب أيضا يبين معالم المنهج الصحيح لفهم المصطلح ، بوضع خطوات واضحة له
    وفي الختام :
    فإني أنصح كل من فاته أجر وشرف السبق إلى إحياء منهج المتقدمين ، أن يبادر إلى مسايرة ركب هذا المنهج ، الذي يزداد أتباعه يوما بعد يوم ( بحمد الله تعالى) ولا تقعدن بك ( أخي) حظوظ النفس ( من الحسد والكبر) عن فضيلة الرجوع الى الحق، فهذا لن يزيدك إلا كمدا وغما وإثما بزيادة ظهور الحق وأهله ؛ فإن الحق يغلب ولا يغلب ، وإن بدت للباطل دولة ، فغلبة البرهان لاتكون إلا للحق في كل زمان

    **************
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ الدكتور : حمزة المليباري .

    قال في كتابه المستطاب (( الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين )) [ الطبعة الثاني ] :
    من هم المتقدمين ومن هم المتأخرين من المحدثين ؟
    وما حاجتنا إلى معرفة ذلك في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي ؟
    وهل يصح أن نضفي على المناهج والمفاهيم المتفق عليها لدى المتأخرين شرعية مطلقة لتفسير نصوص المتقدمين وتأويل مصطلحاتهم في مجال التصحيح والتضعيف ، أو في مجال الجرح والتعديل ؟
    وما مصداقية ذلك التفسير إذا لم تعتبر فيه الخلفية العلمية لتلك المصطلحات ، وأساليب أصحابها في استعمالها ؟
    ومن الجدير بالذكر أن معرفة الإجابة الدقيقة عن هذه التساؤلات أمر لا بد منه لمن يتعامل مع نصوص المتقدمين في مجال التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل ، التي تزخر بها مصادر الحديث وكتب الرجال ، وذلك لتفادي التلفيق بين المناهج المختلفة عند تحديد مفاهيم المصطلحات ودلالات النصوص ذات الطابع النقدي .
    ولذا نرى من الضروري أن نشرح مواقف الأئمة تجاه مسألة التفريق بين المتقدمين و المتأخرين بوجه عام في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي ، ثم نسلط الضوء على الأمور التاريخية التي أدت إلى تباين المنهج بينهم في ذلك عموما، حتى تكون الإجابة على تلك التساؤلات واقعية دقيقة .
    التفريق بين المتقدمين و المتأخرين واقع تاريخي يجب احترامه :
    سبق لي ذكر مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في كتابي " نظرات جديدة في علوم الحديث" ، لكني أعيدها هنا بشيء من التفصيل لأمرين :
    الأول : استدراك بعض النقائص التي دفعت ببعض الإخوة إلى إساءة الظن بنا ، وتعكير صفاء هذا الموضوع الذي نحن بحاجة ماسة إلى بلورته وإثرائه ، من أجل التحرر من الإشكالات المعقدة كافة حول كثير من أنواع علوم الحديث، وفهم ما تحويه مصطلحاتها من الأبعاد النقدية فهما صحيحاً متكاملاً،والتأص يل لمنهج المحدثين النقاد في تصحيح الأحاديث وتعليلها، دون خلطه بمناهج الفقهاء وعلماء الكلام والأصول، بإذن الله سبحانه وتعالى.
    الثاني : أن هذه المسألة تشكل نقطة أساسية لموضوع هذا البحث.
    إن قضية التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في قسمي علوم الحديث: النظري والتطبيقي ، ليست فكرة محدثة كما يتصورها بعضنا ، ولا هي بدعة منكرة ، ولا هي مجرد خاطرة خطرت ببالنا كما اتهمنا بها بعض آخر ، وإنما هي فكرة قديمة نوه بها قبلنا علماء التحقيق والتدقيق من المتأخرين أنفسهم . وما دعاني إلى إثارتها من جديد إلا إحياء منهج المحدثين النقاد المتقدمين في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، بعد أن لمست في كثير من البحوث والدراسات المعاصرة انتهاج منهج ملفق بين منهج المحدثين النقاد وبين منهج الفقهاء وعلماء الأصول ، ثم إلصاقه بنقاد الحديث .
    موقف العلماء من التفريق بين المنهجين :
    ونسوق هنا من النصوص ما يحدد لنا بدقة مواقف العلماء تجاه قضية التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتضعيف وما يتعلق بهما من القضايا والمسائل .
    قال الحافظ الذهبي ( رحمه الله تعالى ) : " يا شيخ ارفق بنفسك والزم الإنصاف ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشزر ولا ترمقنهم بعين النقص ، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا حاشا وكلا ، وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال : من أحمد ؟ وما ابن المديني ؟ وأي شئ أبو زرعة وأبو داود ؟ فاسكت بحلم أو انطق بعلم ، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث فلا نحن ولا أنت ، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل 1 .
    ثم قال في ترجمة الإسماعيلي صاحب المستخرج على صحيح البخاري : " صنف ( يعني الإسماعيلي ) مسند عمر رضي الله عنه ، طالعته و علقت منه وابتهرت بحفظ هذا الإمام ، وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين 2 .
    والجدير بالذكر أن الذهبي قد أدرج الإسماعيلي المتوفى سنة 371 هـ ، من المتقدمين ، على الرغم من قوله بأن " الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين ثلاث مائة سنة " 3 .
    و قال أيضاً :" وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث ، فإن أولئك الأئمة ، كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها ، وأما نحن فطالت الأسانيد وفقدت العبارات المتيقنة ، وبمثل هذا ونحوه دخل الدخل على الحاكم في تصرفه في المستدرك " 4 .
    وقال الحافظ ابن حجر : " وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين ، وشدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه ، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد ، كالترمذي ، وكأبي حاتم ابن حبان ، فإنه أخرجه في صحيحه ، وهو معروف بالتساهل في باب النقد ، ولا سيما كون الحديث المذكور في فضائل الأعمال " 5 .
    وقال السخاوي :" ولذا كان الحكم من المتأخرين عسراً جداً ، وللنظر فيه مجال ، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه و طائفة ، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ، وهكذا إلى زمن الدارقطني البيهقي ولم يجئ بعدهم مساو لهم ولا مقارب أفاده العلائي ، وقال : فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمداً لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح ا.هـ 6
    يعني السخاوي بقوله هذا ، أن تصحيح الحديث أو تعليله بناء على معرفة ما يحيط به من القرائن يصعب على المتأخرين ، بخلاف المتقدمين لتبحرهم في علم الحديث وتوسعهم في حفظه .
    وقال الحافظ العلائي بعد أن سرد آراء الفقهاء وعلماء الأصول حول مسألة زيادة الثقة :" كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحي بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل و البخاري وأمثالهم يقتضي أن لا يحكم في هذه المسألة ـ يعني زيادة الثقة ـ بحكم كلي ، بل عملهم في ذلك دائر على الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في حديث حديث" 7 .
    وقال الحافظ ابن حجر في المناسبة نفسها :" والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي ويحي القطان وأحمد بن حنبل و يحي بن معين وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي الدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ، ولا يعرف عن أحد منهم قبول الزيادة " 8 .
    وهذه النصوص واضحة وجلية في مدى احترام أئمتنا فكرة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في مجال الحديث وعلومه ، وشعورهم العميق بالفوراق العلمية الأخذة في تبلورها بينهم بقدر كبير في معالجة مسائل علوم الحديث ، تنظيراً وتطبيقاً .
    كما أن هذه النصوص تحمل إشارة واضحة إلى أن كلمة " المتقدمين " يقصدون بها نقاد الحديث ، باستثناء المعروفين منهم بالتساهل في التصحيح : كابن خزيمة وابن حبان والحاكم . بينما يعنون بالمتأخرين غير النقاد ممن كان يقبل الأحاديث ويردها بعد الدارقطني ، من الفقهاء وعلماء الكلام وغيرهم ممن ينتهج منهجهم ، أو يلفق بينه وبين منهج المحدثين النقاد ، كما هو جلي من سياق كلام الحافظ العلائي والحافظ ابن حجر ، إذ إن تعقيبهما الذي نقلته آنفا كان بعد سرد آراء علماء الطوائف ـ وهم الفقهاء ، وعلماء الكلام والأصول ، وعلماء الحديث حول مسألة زيادة الثقة . ولذلك ينبغي أن يكون الحد الفاصل بينهم منهجياً أكثر من كونه زمنياً .
    هذا وقد كان استخدام لفظتي " المتقدمين والمتأخرين " مألوفاً في كتب مصطلح الحديث وغيرها ، مما يبرهن به على وجود تباين بينهم في استخدام المصطلحات عموماً ، الأمر الذي يفرض على الباحث في علوم الحديث أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار عند شرح المصطلحات والنصوص ذات الطابع النقدي ، لا سيما في الأنواع التي توسعت مفاهيمها وضوابطها في العصور المتأخرة ، كطرق التحمل والأداء ، والجرح والتعديل
    إن أول موضع من كتب المصطلح في التفريق بين المنهجين :
    ولعل أول موضع من كتب المصطلح يشد انتباه القراء إلى ضرورة التفريق بين المناهج المختلفة في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي هو مبحث الصحيح .
    فقد قال ابن الصلاح :" الصحيح ما اتصل سنده بالعدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة " . ثم أشار إلى أن هذا التعريف على منهج أهل الحديث حين قال : " فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلا ف بين أهل الحديث " 9 . وتبعه في ذلك كل من صنف في مصطلح الحديث عموماً ، متفقين على أن هذا التعريف إنما هو على منهج المحدثين دون غيرهم من الفقهاء و علماء الأصول .
    وذلك لأن الفقهاء و علماء الأصول لم يشترطوا في الصحيح أن يكون الحديث خاليا من أسباب الشذوذ والعلة المتفق عليها عند المحدثين . ويتجلى ذلك بوضوح في مسألة زيادة الثقة ، ومسألة ما يتفرد به الثقة من الأحاديث ، ومسألة تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ، و مسألتي الشاذ والمنكر ، إذ كان موقف الفقهاء و علماء الأصول تجاه هذه المسائل هو قبول ما يرده نقاد الحديث .
    ولهذا قال ابن دقيق العيد : ومداره ( يعني الصحيح ) بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال مع التيقظ ، العدالة المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر في الفقه ، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسندا . وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذا و لا معلـلا ، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى مذهب الفقهاء ، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء10 .
    وقال أيضاً في شرح الإلمام : " إن لكل من أئمة الفقه والحديث طريقاً غير طريق الآخر ، فإن الذي تقتضيه قواعد الأصول و الفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي و جزمه بالرواية ، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي و عدم غلطه ، فمتى حصل ذلك و جاز ألا يكون غلطا وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه . فأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل تمنعهم عن الحكم بصحته " وقال الصنعاني معقباً عليه : وهو صريح في اختلاف الاصطلاحين في مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه " 11 .
    وقال أبو الحسن بن الحصار الأندلسي ( 611هـ) " إن للمحدثين أغراضاً في طريقهم احتاطوا فيها وبالغوا في الاحتياط ، ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك، كتعليلهم الحديث المرفوع بأنه روي موقوفاً أو مرسلاً ، وكطعنهم في الراوي إذا انفرد بالحديث أو بزيادة فيه أو لمخالفته من هو أعدل منه ، أو أحفظ . وقد يعلم الفقيه صحة الحديث بموافقة الأصول ، أو آية من كتاب الله تعالى ، فيحمله ذلك على قبول الحديث ، والعمل به ، واعتقاد صحته ، وإذ لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة " 12 .
    وإن كان في قول أبي الحسن الأندلسي بعض المؤاخذات العلمية التي سأبديها قريباً فإن هذه النصوص أفادتنا عموماً بضرورة التفريق بين الفقهاء و علماء الأصول وبين نقاد الحديث في تنظير قواعد التصحيح و التضعيف وتطبيقاتها ، لئلا تكون المفاهيم حولها ملفقة بين مناهجهم المختلفة . ومعلوم أن هذه القواعد إنما تؤخذ عن المحدثين النقاد ، دون غيرهم ، ويجب التسليم لهم في ذلك ، ولذا قال الحافظ ابن حجر :" يتبين عظم موقع كلام المتقدمين ، وشدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه " 13
    وقال أيضاً :" ... فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله ، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه " 14
    وقال ابن كثير :" أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن ( أي في جرح الرواة ) فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب ، وذلك للعلم بمعرفتهم ، و اطلاعهم ، واضطلاعهم في هذا الشأن ، واتصفوا بالإنصاف والديانة ، والخبرة والنصح ، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذاباً أو نحو ذلك فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفه في مواقفهم ، لصدقهم وأمانتهم و نصحهم " 15 .
    وقال السخاوي : فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمدا لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح ا.هـ16
    وهذا الإمام السبكي يسجل لنا ما صدر من الإمام الجويني ـ وهو أحد أئمة علم الكلام والأصول ـ من بالغ التقدير والاحترام لمنهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف ، وذلك بعد أن أدرك خطأه في طريقة تصحيحه للأحاديث ، والاحتجاج بها ، وهذا نصه :
    " كان الشيخ أبو محمد قد شرع في كتاب سماه ( المحيط ) عزم فيه على عدم التقيد بالمذهب ،وأنه يقف على مورد الأحاديث لا يعدوها ، ويتجنب جانب العصبية للمذاهب فوقع إلى الحافظ أبي بكر البيهقي منه ثلاثة أجزاء ، فانتقد عليه أوهاما حديثية ، وبين أن الآخذ بالحديث الواقف عنده هو الشافعي ، رضي الله تعالى عنه ، وأن رغبته عن الأحاديث التي أوردها الشيخ أبو محمد إنما هي لعلـل فيها ، يعرفها من يتقن صناعة المحدثين " .
    "فلما وصلت الرسالة إلى الشيخ أبي محمد قال : هذه بركة العلم ، ودعا للبيهقي ، وترك إتمام التصنيف ، فرضي الله عنهما ، لم يكن قصدهما غير الحق والنصيحة للمسلمين ، وقد حصل عند البيهقي مما فعله الشيخ أبو محمد أمر عظيم ، كما يظهر من كلامه في هذه الرسالة " ا.هـ17
    ومن المفيد أن ننقل هنا بعض ما ورد عن البيهقي في رسالته المذكورة يقول :
    " وكنت أسمع رغبة الشيخ رضي الله عنه في سماع الحديث والنظر في كتب أهله ، فأشكر إليه ، وأشكر الله تعالى عليه ، وأقول في نفسي ، ثم فيما بين الناس : قد جاء الله عز وجل بمن يرغب في الحديث ويرغب فيه من بين الفقهاء ، ويميز فيما يرويه ويحتج به الصحيح من السقيم ، من جملة العلماء ، وأرجو من الله أن يحيي سنة إمامنا المطلبي في قبول الآثار ، حيث أماتها أكثر فقهاء الأمصار بعد من مضى من الأئمة الكبار الذين جمعوا بين نوعي علمي الفقه والأخبار ، ثم لم يرض بعضهم بالجهل به حتى رأيته حمل العالم به بالوقوع فيه ، والإزراء به والضحك منه وهو مع هذا يعظم صاحب مذهبه ويجله ، ويزعم أنه لا يفارق في منصوصاته قوله ، ثم يدع في كيفية قبول الحديث ورده طريقته ، ولا يسلك فيها سيرته ، لقلة معرفته بما عرف ، وكثرة غفلته عما عليه وقف، هل نظر في كتبه ثم اعتبر باحتياطه في انتقاده لرواة خبره ، واعتماده فيمن اشتبه عليه حاله على رواية غيره ! فنرى سلوك مذهبه مع دلالة العقل والسمع واجبا على كل من انتصب للفتيا ، فإما أن يجتهد في تعلمها أو يسكت عن الوقوع فيمن يعلمه ، ولا يجمع عليه وزران ، حيث فاته الأجران ، والله المستعان وعليه التكلان "
    " ثم إن بعض أصحاب الشيخ ـ أدام الله عزه ـ وقع إلى هذه الناحية فعرض علي أجزاء ثلاثة مما أملاه من كتابه المسمى ( بالمحيط ) فسررت به ورجوت أن يكون الأمر فيما يورده من الأخبار على طريقة من مضى من الأئمة الكبار ، لائقاً بما خص به من علم الأصل والفرع ، موافقاً لما ميز به من فضل العلم والورع " 18
    والذي يبدو من مضمون الرسالة المشار إليها آنفاً أن معاصري الإمام البيهقي من فقهاء الشافعية سلكوا في قبول الأحاديث والاحتجاج بها مسلكاً يناهض منهج إمامهم الشافعي وغيره من المتقدمين من أصحاب الحديث والأثر . وعلى الرغم من دفاع الإمام البيهقي عن المحدثين النقاد و منهجهم في التصحيح والتضعيف ، وقبول الإمام الجويني ذلك منه بحفاوة ورحب صدر ، فإن اللاحقين من الفقهاء استمروا في تساهلهم في تصحيح الأخبار وقبولها والاحتجاج بها .
    ويتجلى ذلك بوضوح بما قاله ابن الجوز ي:" فرأيت أن إسعاف الطالب للعلم بمطلوبه يتعين خصوصا ً عند قلة الطلاب،لا سيما لعلم النقل ،فإنه أعرض عنه بالكلية حتى إن جماعة من الفقهاء يبنون على العلوم الموضوعة " يعني: أنهم يستدلون بالأحاديث الموضوعة 19. والله أعلم .
    وقال في موضع آخر : " رأيت بضاعة أكثر الفقهاء في الحديث مزجاة ، يعول أكثرهم على أحاديث لا تصح ، ويعرض عن الصحاح ، ويقلد بعضهم بعضاً فيما ينقل " 20
    وقال الإمام النووي " وأما فعل كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ذلك واعتمادهم عليه ( يعني ما رواه الضعفاء ) فليس بصواب بل قبيح جداً ، وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه لم يحل له أن يحتج به ، فإنهم متفقون على أنه لا يحتج بالضعيف في الأحكام ، وإن كان لا يعرف ضعفه لم يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفا ، أو بسؤال أهل العلم إن لم يكن عارفا . والله أعلم " 21
    ملاحظات حول قول أبي الحسن الأندلسي :
    وأما ما زعمه أبو الحسن الأندلسي ( رحمه الله تعالى ) " أن للمحدثين أغراضا في طريقهم احتاطوا فيها وبالغوا في الاحتياط ، ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك ، وأن الفقيه قد يعلم صحة الحديث بموافقة الأصول ، أو آية من كتاب الله تعالى ، فيحمله ذلك على قبول الحديث ، والعمل به ، واعتقاد صحته ، وإذا لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة " 22 .
    فيرده ما سبق سرده من نصوص الأئمة هذا من حيث الجملة .
    وأما من حيث التفصيل فقوله " إن المحدثين بالغوا في الاحتياط " بعيد عن الدقة ، وذلك لأن منتهج المحدثين في التصحيح و التضعيف لم يكن قائما على التخمين والاحتياط ، وإنما على تتبع القرائن والملابسات ، ولذلك فإنهم حين أعلـوا الحديث المرفوع بالموقوف يعني أن القرائن نبهتهم على أن رفع الحديث خطأ ، وليس لمجرد وجود المخالفة بين الموقوف و المرفوع ، أو بين المتصل والمرسل ، وليس لأنهم مبالغون في الاحتياط ، ويمكن أن نصفه بذلك إذا كان منهجهم في ذلك مجرد تخمين وظن ، دون تعويل على القرائن والملابسات .
    وأما طعنهم في الراوي فليس كما قال الأندلسي : إذا انفرد بالحديث أو بزيادة فيه أو لمخالفته من هو أعدل منه ، أو أحفظ ، يطعن فيه النقاد ، وإنما طعنوا فيه لكثرة مخالفته الصواب و كثرة تفرده بما ليس له أصل ، وليس لمجرد أنه قد خالف من هو أعدل منه ، دون لجوء إلى ما يحف به من القرائن .
    وأما الجملة الأخيرة فتعد غريبة منه رحمه الله تعالى ، وهي وليدة خلط بين قضيتين مختلفتين تتميز كل منهم عن الآخر بالضوابط ، إذ موافقة القول المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم الأصول أو الآية القرآنية لا تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله بالضرورة، والذي ذكره أبو الحسن الأندلسي إنما هو من حيث محتوى النص ، فسلامته من الخلل تتم بانسجامه مع الأصل الثابت أو الإجماع ، وأما من حيث روايته وإضافته إلى شخص ما فينبغي أن يكون خاضعا لقواعد النقل و الرواية . وبمجرد أن يكون نص ما قد وافق الآية القرآنية لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله بالضرورة إذا لم يكن من رواية الكذاب.
    ومن المعلوم أن النقل له قواعد وضوابط ، كما للعقل قواعد وضوابط، ولا ينبغي إخضاع أحدهما لقواعد الآخر إلا في حالات معينة وبطريقة علمية منهجية ، وبالتالي فما لا يمنع العقل وقوعه لا يلزم إضافته إلى شخص ، ما لم يثبت عنه نقلا ، وكيف إذا كان الآمر يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الخطب فيه جلل والعاقبة وخيمة .
    وعلى كل فقد ظهر جليا مما سبق أن أئمة الفقه والأصول كانوا يقعدون القواعد وينظرون المسائل فيما يخص التصحيح والتعليل والقبول والرد والجرح والتعديل وفق ما يقتضيه التجويز العقلي المجرد ، كما سبق الإشارة إلى ذلك في نص الإمام ابن دقيق العيد ، وكذا نص أبي الحسن الأندلسي ، وبالتالي يكون من الإنصاف العلمي أن لا يعد ذلك منهجا علميا يوازي منهج المحدثين النقاد
    ربما نجد في نصوص بعض المتأخرين أن المحدثين يضعفون الأحاديث لعلة غير قادحة ، وأنهم يضعفون الحديث لاختلاف رواته على شيوخهم في اسم الصحابي ، ويعدون مثل هذا الاختلاف علة تقدح في صحة الحديث . و أما الفقهاء فلا يعدونه قادحا لأن الحديث في جميع الاحتمالات يكون من رواية الصحابي ، ولا يضر الإبهام في اسمه لثبوت عدالة الصحابة ، مما يوهم القارئ المستعجل أن الفقهاء هم في غاية من الدقة في التصحيح و التضعيف . أقول : كلا ثم كلا ، فإن ذلك النوع من الخلاف لن يكون مقياسا لمعرفة دقة الفقهاء في التصحيح و التضعيف و مرونتهم في ذلك ، وهذا في الواقع أمر سهل ، بل لا يرد أحد من النقاد الأحاديث من أجله ، وإنما يرفض فقط أن يحدد الراوي بأنه فلان ، لوقوع اضطراب حوله ، دون أن يقدح ذلك في صحة الحديث.
    وأما الخلاف الجوهري المتمثل في كون الحديث موقوفا أو مرفوعا ، أو كون الحديث مرسلا أو متصلا ، أو كون الحديث بزيادة أو بدونها فيعد ذلك كله من العلل القادحة فقط إذا توفرت القرائن على أن رفعه أو وصله أو زيادته خطأ محض من راويه أيا كان هذا الراوي ، ولم يكن ذلك مبنيا على مجرد تخمين ، أو تجويز عقلي .
    في حين يعد الفقهاء هذا النوع من الاختلاف عللا غير قادحة ، نظرا لكون راوي ذلك ثقة أو صدوقا ، وأن الزيادة منه مقبولة عندهم إذ كانوا يجوزون عقليا صدور ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم صارفين النظر عما يحيط بتلـك الزيادات من ملابسات وقرائن . ولذا فعلى المنصف أن يتأمل : أي منهج يتسم بالدقة المتناهية التي تقتضيها مكانة السنة النبوية ، منهج المحدثين النقاد الذي يقوم على تتبع القرائن والملابسات ؟ أو منهج الفقهاء و الأصوليين الذي يعتمد على التجويز العقلي ؟ 23.
    وفي ضوء ما سبق ذكره يمكن لنا القول : من كان منهجه في التصحيح و التضعيف هو النظر في عدالة الراوي واتصال السند فهو على طريقة الفقهاء ، وعليه جرى عمل كثير من المتأخرين من أهل الحديث عموما ، وهو ظاهر لكل من يتتبع كتب الفقه وأحاديث الأحكام ، وكتب التخريجات ، وكذلك المعاصرون ينتهجون المنهج نفسه ، كما نرى ذلك في كثير من بحوثهم ودراساتهم . غير أنهم يتفاوتون في ذلك بقدر ممارستهم بمنهج المحدثين النقاد .
    هذا وقد تبلور التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في تقعيد قواعد القبول والرد في مناسبات أخرى في علوم الحديث ، كمبحث تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ، ومبحث زيادة الثقة ، ومبحث الاستخراج ، ومبحث الشاذ المنكر.
    يقول الحافظ العلائي في صدد بيان هذا التباين :
    " فأما إذا كان رجال الإسناد متكافئين في الحفظ أو العدد ، أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شئ من ذلك ، مع أن كلهم ثقات محتج بهم ، فههنا مجال النظر واختلاف أئمة الحديث والفقهاء ."
    " فالذي يسلكه كثير من أهل الحديث بل غالبهم جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقا ، فيرجعون إلى الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى ، فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشيء من وجوه الترجيح حكموا لها ، وإلا توقفوا عن الحديث وعللوه بذلك ، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص ، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات ، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة ، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده ".
    " وأما أئمة الفقه والأصول ، فإنهم جعلوا إسناد الحديث ورفعه كالزيادة في متنه يعني كما تقدم تفصيله عنهم . ويلزم على ذلك قبول الحديث الشاذ كما تقدم " 24.
    و قال الحافظ ابن حجر : " وهذا ( يعني قبول زيادة الثقة ) قول جماعة من أئمة الفقه والأصول ، وجرى على هذا الشيخ محي الدين النووي في مصنفاته " 25 .
    وقال الحافظ العلائي : " فهذا ( قبول زيادة الثقة ) كلام أئمة الأصول ممن وقفت عليه ، وأما أئمة الحديث فالمتقدمون منهم كيحي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ، ومن بعدهما كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين ومسلم والنسائي والترمذي وأمثالهم ، ثم الدار قطني و الخليلي ، كل هؤلاء يقتضي تصرفهم في الزيادة قبولا وردا الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث ، ولا يحكمون في المسألة بحكم كلي يعم جميع الأحاديث ، وهذا هو الحق والصواب كما سنبينه إن شاء الله تعالى " 26 ثم استثنى العلائي منهم الإمام الحاكم وابن حبان لتساهلهما في التصحيح .
    وهذه النصوص كلها واضحة وجلية في التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في مسألة التصحيح والتضعيف وما يلحق بهما من المسائل والضوابط ، وأن المتقدمين هم نقاد الحديث ، وأن المتأخرين هم الفقهاء وعلماء الكلام والأصول ومن تبعهم في المنهج من أهل الحديث ، دون النظر إلى الفاصل الزمني في التفريق .
    ولذا أطلق السخاوي بقوله السابق : " ولذا كان الحكم من المتأخرين عسرا جدا ، وللنظر فيه مجال ، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي و نحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة ، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ، وهكذا إلى زمن الدار قطني والبيهقي ، ولم يجئ بعدهم مساو لهم ولا مقارب" 27 .
    ومن هنا يتجلى وهاء ما ذكره الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ( رحمة الله عليه ) في سبيل دفاعه عن حديث عون بن عبدالله الخزار عن مالك عن الزهري عن نافع عن ابن عمر مرفوعا موضوع ترك رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام ، وعن صحته ، مع أن الراوي قد انفرد به مخالفا للثابت عن مالك ثم عن الزهري ثم عن نافع ثم عن ابن عمر ثم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ونص بعض النقاد على أنه باطل ، وأوضح ذلك الشيخ الألباني رحمة الله عليه .
    بيان مواضع أخرى من كتب المصطلح استخدم فيها العلماء مصطلحي المتقدمين والمتأخرين :
    كتب المصطلح تزخر بلفظي المتقدمين والمتأخرين في كثير من المسائل ، ومنها طرق التحمل والأداء ، والجرح والتعديل ، حيث كان هذان الموضوعان محل عناية لدى المتأخرين ، على الرغم من اختلاف تخصصاتهم العلمية وتوجهاتهم الفكرية ، إذ الأولى تشكل نظم التعليم التي من شأنها أن تطور وفق مقتضيات العصر ، ويـتأثر بذلك جميع العلوم . وأما الثاني فدخل فيها الفقهاء والأصوليون من باب مسألة الشهادة ، وأطنبوا فيها حتى تعرضت لخلط الآراء القديمة و الجديدة ، ومعلوم أن معظم المؤلفين في كتب المصطلح هم أصحاب تخصص فقهي أو أصولي أو تاريخي مع وجود تفاوت كبير فيما بينهم من حيث الفهم والممارسة والاهتمام .
    استعمال مصطلحي " المتقدمون" و " المتأخرون " أمر شائع في كتب المصطلح:
    وأسرد هنا ـ على سبيل المثال دون استيعاب ـ تلك المواضع التي ورد فيها مصطلحا "المتقدمين" و " المتأخرين" من غير ترتيب موضوعي لها ، أو توضيح ملابسات تلك المسائل التي تعرضت للتباين المنهجي بينهم , إذ الغاية هي مجرد عرض لهذه المواضع ليقف القارئ على أنني لم أحدث شيئا جديدا في قضية التفريق بين المتقدمين والمتأخرين . وأنا على يقين أن القارئ على علم بذلك .
    1- قال الحافظ ابن حجر ( رحمه الله تعالى ) : " وكذا خصصوا ( الإنباء ) بـ ( الإجازة ) التي يشافه بها الشيخ من يجيزه ، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم ، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل ، وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته . نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط ، لأنه صار حقيقة عرفية عندهم فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح ، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين 28 .
    2- و قال أيضا : " والإنباء بمعنى الأحبار عند المتقدمين جزما " 29 .
    3- وقال أيضا : " قوله ( أنبأنا أبو إسحاق ) كذا هو بلفظ الإنباء ، وهو في عرف المتقدمين بمعنى الإخبار والتحديث وهذا منه " 30 .
    4-وقال أيضا :" وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين ، ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه ، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين ، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة " 31 .
    يلاحظ أن موضوع هذا النص فيما يخص تأويل حديث عذاب الميت ببكاء أهله .
    5- وقال ابن الصلاح :" التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين ، فيكتبون لا بن خمس فصاعدا ( سمع ) ، ولمن لم يبلغها ( حضر ) أو ( أحضر ) " 32 ، ونقله عنه اللاحقون في كتب المصطلح .
    6- وقال السخاوي :" فاعلم أنه قد تقدم اغتفار الكلمة والكلمتين ، يعني سواء أخلتا أو إحداهما بفهم الباقي ، لا لأن فهم المعنى لا يشترط ، وسواء كان يعرفهما أم لا ، والظاهر أن هذا بالنسبة إلى الأزمان المتأخرة ، وإلا ففي غير موضع من كتاب النسائي ، يقول :( وذكر كلمة معناها كذا ) لكونه فيما يظهر لم يسمعها جيدا وعلمها " 33.
    7- وقال أيضا " وخص بعضهم الاستواء بالأزمان المتأخرة التي حصل التسامح فيها في السماع بالنسبة للمتقدمين لكونه آل لتسلسل السند إذ هو حاصل بالإجازة " 34 .
    8- وقال أيضا نقلا عن أبي العلاء الحسن بن أحمد الهمداني العطار : " لم أر في اصطلاح المتقدمين من ذلك شيئا ، غير أن نفرا من المتأخرين استعملوا هذه الألفاظ ، ولم يروا بها بأسا ، ورأوا أن التخصيص و التعميم في هذا سواء " 35 .
    9- وقال في موضع آخر نقلا عن ( توضيح النخبة ) : " إن القول بها توسع غير مرضي ، لأن الإجازة الخاصة المعينة مختلف في صحتها اختلافا قويا عند القدماء، وإن كان العلم استقر على اعتبارها عند المتأخرين فهي دون السماع بالاتفاق " 36.
    10- وقال أيضا : وهذه الألفاظ إن كثر استعمالها لذلك بين المتأخرين من بعد الخمسمائة وهلم جرا فما سلم من استعمالها مطلقا من الإبهام وطرف من التدليس ، أما المشافهة فتوهم مشافهة بالتحديث ، وأما الكتابة فتوهم أنه كتب إليه بذلك الحديث بعينه ، كما يفعله المتقدمون " 37 .
    11- وفي 2/119 : " نعم اصطلح قوم من المتأخرين على إطلاقها فيها "( يعني لفظة " أنبأنا " في الإجازة ) إلى أن قال :" وراعى في التعبير به عن الإجازة اصطلاح المتأخرين ، لا سيما ولم يكن الاصطلاح بذلك انتشر" .
    12- وفي 2/132 " لكن إذا صح عند أحد من المتقدمين كما عليه ابن الصلاح ، أو المتأخرين على المختار ما حصل الإعلام به من الحديث حصل الوثوق به " .
    13- وفي 2/206 : " وكذا خص بعض المتشددين الجواز بما إذا لم يخرج الكتاب عن يده بعارية أو غيرها ، قال بعضهم : وهو احتياط حسن يقرب منه صنيع المتقدمين أو جلهم في المكاتبة " .
    14- وقال في 2/208 : " فإن حديث المتقدمين من كتبهم مصاحب غالبا بالضبط و الإتقان الذي يزول به الخلل ، حتى إن الحاكم أدرج في المجروحين من تساهل في الرواية من نسخ مشتراة أو مستعارة غير مقابلة لتوهمهم الصدق في الرواية منها بخلاف المتأخرين في ذلك فهو غالبا عري عن الضبط والإتقان ، وإن نوقش في أصله كما تقرر في محله ".
    15- وفي 2/249: " وإن اصطلح المتأخرون على التصرف في أسماء الرواة وأنسابهم بالزيادة والنقص و بزيادة تعيين تاريخ السماع " إلى أن قال : " وهو توسع أشار ابن دقيق العيد إلى منعه " .
    16- وفي 2/256 : كما جوزه ( يعني تقديم المتن على السند ) بعض المتقدمين من المحدثين ، وكلام أحمد يشعر به ، فإن أبا داود سأله هل لمن سمع كذلك أن يؤلف بينهما ؟ قال :نعم ، وبه صرح ابن كثير من المتأخرين فقال : الأشبه عندي جوازه ".
    17- وفي 2/269 : " وفعله ( يعني أن يجمع بين الروايات مع بيان الفروق فيما بينها ) من المتأخرين عياض فقال في الشفاء : وعن عائشة و الحسن وأبي سعيد وغيرهم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم يزيد على بعض".
    18- وفي 2/281 : " وقد فعله جماعة من المتأخرين ، وبالغ بعض المتساهلين فكان يقرأ عليه الماشي حال كونه راكبا ، وذلك قبيح منهما " .
    19- وفي 2/283 : " و كذلك الشافعي قد أخذ عنه العلم في سن الحداثة وانتصب لذلك ، في آخرين من الأئمة المتقدمين والمتأخرين " .
    20- وفي 2/292 : " واعلم أن القراء في هذه الأعصار المتأخرة ، بل وحكاه ابن دقيق العيد أيضا قد تسامحوا في ذلك وصار القارئ يستعجل استعجالا يمنع السامع من إدراك حروف كثيرة ، بل كلمات ، وقد اختلف السلف في ذلك ".
    21- وفي 3/18- 19 : " وعلو الصفة عند أئمة الحديث بالأندلس أرجح من علو المسافة ، خلافا للمشارقة ، يعني المتأخرين ، ولأجل هذا قال العماد بن كثير : إنه نوع قليل الجدوى بالنسبة إلى باقي الفنون ، ونحوه قول شيخنا : وقد عظمت رغبة المتأخرين فيه حتى غلب ذلك على كثير منهم بحيث أهملوا الاشتغال بما هو أهم منه " ، ثم نقل عن ابن دقيق العيد قوله : " وقد عظمت رغبة المتأخرين في طلب العلو ، حتى كان سببا لخلل كثير في الصنعة ، ولم يكن فيه إلا الإعراض عمن طلب العلم بنفسه بتمييزه إلى من أجلس صغيرا ، لا تمييز له ولا ضبط ولا فهم ، طلبا للعلو وتقدم السماع " .
    22- وفي 3/26 : " لو جمع بين سندين أحدهما أعلى بأيهما يبدأ فجمهور المتأخرين يبدؤون بالأنزل ليكون لإيراد الأعلى بعده فرحة ، وأكثر المتقدمين بالأعلى لشرفة " . ثم أورد لذلك الأمثلة من صحيح البخاري و صحيح مسلم .
    وهذه النصوص كلها توضح وقوع فوارق منهجية لا فتة الانتباه بين المتقدمين والمتأخرين فيما يخص طرق التحمل والأداء ، وأن مصطلح " المتأخرين " هنا يشمل جميع علماء الطوائف الثلاث : أئمة الفقه ، وأئمة الأصول و الكلام ، وأهل الحديث ، كما يظهر ذلك لمن يتتبع مبحث طرق التحمل والأداء وما يتعلق بهما من مسائل في كتب المصطلح حيث إن حضور هؤلاء الأئمة جميعا في تقعيد ما يتعلق بها واضح وجلي ، منهم القاضي أبو بكر الباقلاني ( ت 403هـ) ، وأبو الفتح سليم الرازي ( ت 447هـ ) ، وأبو إسحاق الشيرازي ( ت 476هـ ) وابن الصباغ (ت 477هـ) ، وأبو إسحاق الاسفرائيني ( ت 418هـ) وأبو الوليد سليمان بن خلف الباجي وإمام الحرمين (ت 478هـ) ، والمازري ، والماوردي ( ت 450هـ ) ، وغيرهم ممن عاصر الحافظين المشهورين : البيهقي ( ت 458هـ ) ، والخطيب البغدادي ( 460هـ ) ، ولاحقيهما كالآمدي ( ت 631 هـ) ، وابن الحاجب ( ت 646هـ ) .
    وأما الموضوعات الأخرى التي نص فيها العلماء على تباين منهجي بين المتقدمين والمتأخرين فهي كالآتي : قال السخاوي " ولا شك أن في المتكلمين في ذلك من المتأخرين من كان من الورع بمكان كالحافظ عبد الغني صاحب الكمال في معرفة الرجال المخرج لهم في الكتب الستة ، الذي هذبه المزي وصار كتابا حافلا ، عليه معول من جاء بعده ، واختصره شيخنا وغيره ، ومن المتقدمين من لم يشك في ورعه كالإمام أحمد " 38 .
    23- وقال أيضا : " قد شغف جماعة من المتأخرين القائلين بالتاريخ وما أشبهه كالذهبي ثم شيخنا بذكر المعائب ولو لم يكن المعاب من أهل الرواية ، ولذلك غيبة محضا " 39 .
    24- وقال أيضا: " لعل ابن معين لا يدري ما الفلسفة ، فإنه ليس من أهلها ، ولذا كان الجهل بالعلوم و مراتبها والحق والباطل منها أحد الأوجه الخمسة التي تدخل الآفة منها في ذلك ، كما ذكره ابن دقيق العيد ، وقال : إنه محتاج إليه في المتأخرين أكثر لأنه الناس انتشرت بينهم أنواع من العلوم المتقدمة و المتأخرة حتى علوم الأوائل .." إلى أن قال : " و المتقدمون قد استراحوا من هذا لعدم شيوع هذه الأمور في زمانهم " 40
    25- وفي 3/360 : " فنسب الأكثر من المتأخرين منهم كما كانت العجم تنسب للأوطان ، وهذا وإن وقع في المتقدمين أيضا فهو قليل ، كما أنه يقع في المتأخرين أيضا النسبة إلى القبائل بقلة " .
    26- وقال السخاوي 6: " ليس يمكن في عصرنا ( يعني التصحيح والتحسين ) ، بل جنح لمنع الحكم بكل منهما في الأعصار المتأخرة الشاملة له ، واقتصر فيهما على ما نص عليه الأئمة في تصانيفهم المعتمدة التي يؤمن فيها لشهرتها من التغيير والتحريف ، محتجا بأنه ما من إسناد إلا في روايته من اعتمد على ما في كتابه عريا عن الضبط والإتقان " 41 .
    27- وقال أيضا " لكن قد وافق اختيار ابن الصلاح جماعة من المتأخرين " 42 .
    28- وقال أيضاً : " وبسعيد ( يعني سعيد بن المسيب الذي روي عنه أنه لا يحتج بالمرسل ) يرد على ابن جرير الطبري من المتقدمين ،وابن الحاجب من المتأخرين ادعاءهما إجماع التابعين على قبوله ( أي المرسل43)"
    29- وقال أيضا : " إن ما تقدم في كون ( عن ) وما أشبهها محمولا على السماع ، والحكم له بالاتصال بالشرطين المذكورين ، هو في المتقدمين خاصة ، وإلا فقد قال ابن الصلاح : لا أرى الحكم يستمر بعدهم فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه ( ذكر فلان ) ( قال فلان) و نحو ذلك ، أي فليس له حكم الاتصال إلا إن كان له من شيخه إجازة "44 ، إلى أن قال في 163 : " وكثير بين المنتسبين إلى الحديث استعمال ( عن ) في ذا الزمن المتأخر أي بعد الخمسمائة إجازة " .
    30- وقال في 1/166 من فتح المغيث : " وإلا فالحق حسب الاستقراء من صنيع متقدمي الفن ، كابن مهدي والقطان وأحمد و البخاري عدم المراد حكم كلي ، بل ذلك دائر مع الترجيح ، فتارة يترجح الوصل و تارة الإرسال وتارة يترجح عد الذوات على الصفات ، وتارة العكس ، ومن راجع أحكامهم الجزئية تبين له ذلك .. إلى أن قال : ويتأيد كل ذلك بتقديم البخاري نفسه للإرسال في أحاديث أخر لقرائن قامت عنده .. هذا حاصل ما أفاده شيخنا مع زيادة و سبقه لكون ذلك مقتضى كلام الأئمة العلائي ومن قبله ابن دقيق العيد و غيرهما " .
    31 – وفي 1/222 : " ولذا حكم غير واحد من الحفاظ كالنووي في الخلاصة وابن عبد الهادي وغيره من المتأخرين باضطراب سنده " .
    32- وفي 1/333 : الثالث عشر : في عدم مراعاة ما تقدم في الأزمان المتأخرة وأعرضوا أي المحدثون فضلا عن غيرهم في هذه الدهور المتأخرة عن اعتبار اجتماع هذه الأمور التي شرحت فيما مضى في الراوي و ضبطه فلم يتقيدوا بها في عملهم لعسرها وتعذر الوفاء بها ، بل استقر الحال بينهم على اعتبار بعضها .. " .
    33- قال الحافظ السيوطي نقلا عن الحافظ العراقي : " وهو الذي عليه عمل أهل الحديث ، فقد صحح جماعة من المتأخرين أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحا : فمن المعاصرين لابن الصلاح أبو الحسن ابن القطان الفاسي صاحب كتاب ( الوهم والإيهام ) صحح فيه حديث ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما ، ومنهم الحافظ ضياء الدين المقدسي جمع كتابا سماه ( المختارة ) التزم فيه الصحة ، وصحح الحافظ زكي الدين المنذري ، ثم صحح الطبقة التي تلي هذه فصحح الحافظ شرف الدين الدمياطي ، ثم تقي الدين السبكي ، قال : ولم يزل ذلك دأب من بلغ أهلية ذلك منهم ، إلا أن منهم من لا يقبل ذلك منهم ، وكذا كان المتقدمون ربما صحح بعضهم شيئا فأنكر عليه تصحيحه " 45
    34- وقال أيضا : " لكن قد يقوى ما ذهب إليه ابن الصلاح بوجه آخر ، وهو ضعف نظر المتأخرين بالنسبة إلى المتقدمين " 46.
    35- وقال أيضا نقلا عن ابن الصلاح : " وفيما قاله مسلم نظر ، قال : ولا أرى هذا الحكم يستمر بعد المتقدمين فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه : ( ذكر فلان ) أو ( قال فلان ) أي فليس له حكم الاتصال "47 .
    36-وقال أيضا : " والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد والمزي أن لذلك حكم العنعنة " 48 .
    37- وقال في ص 180 من تدريب الراوي : " من الأمور المهمة تحرير الفرق بين الرواية و الشهادة ، وقد خاض فيه المتأخرون " .
    38- وفي ص 181: " فالمختار عند المتأخرين أنه إن كان جازما بنفيه بأن قال ما رويته أو كذب علي ، ونحوه وجب رده لتعارض قولهما مع أن الجاحد هو الأصل " .
    39- و قال الحافظ ابن حجر : " تنبيه : حاصل كلام المصنف أن للفظ ( عن ) ثلاثة أحوال : أحدها أنها بمنزلة ( حدثنا ) و ( أخبرنا ) بالشرط السابق ، الثاني : أنها ليست بتلك المنزلة إذا صدرت ( عن ) عن مدلس ، وهاتان الحالتان مختصتان بالمتقدمين ، وأما المتأخرون وهم من بعد الخمسمائة وهلم جرا فاصطلحوا عليها للإجازة، فهي بمنزلة أخبرنا " 49 .
    40- وقال أيضا : " وقد أفرط بعض المتأخرين فجعل الانقطاع قيدا في تعريف المعلول ، فقرأت في (المقنع ) للشيخ سراج الدين ابن الملقن ، قال : ( ذكر ابن حبيش في كتاب علوم الحديث : أن المعلول أن يروي عمن لم يجتمع به كمن تتقدم وفاته عن ميلاد من يروي عنه ، أو تختلف جهتهما ، كأن يروي الخراساني مثلا عن المغربي، ولا ينقل أن أحدهما رحل عن بلده " 50.
    41- ونختم هذا بما قاله العلامة محمد أنور شاه الكشميري في كتابه فيض الباري ، وهذا نصه :
    " وليعلم أن تحسين المتأخرين ، وتصحيحهم ، لا يوازي تحسين المتقدمين فإنهم كانوا أعرف بحال الرواة لقرب عهدهم بهم ، فكانوا يحكمون ما يحكمون به ، بعد تثبت تام ، ومعرفة جزئية ، أما المتأخرون فليس عندهم من أمرهم غير الأثر بعد العين ، فلا يحكمون إلا بعد مطالعة أحوالهم في الأوراق ، وأنت تعلم أنه كم من فرق بين المجرب والحكيم ، و ما يغني السواد الذي في البياض عند المتأخرين ، عما عند المتقدمين من العلم على أحوالهم كالعيان ، فإنهم أدركوا الرواة بأنفسهم ، فاستغنوا عن التساؤل ، والأخذ عن أفواه الناس ، فهؤلاء أعرف الناس ، فبهم العبرة ، وحينئذ إن وجدت النووي مثلا يتكلم في حديث ، والترمذي يحسنه ، فعليك بما ذهب إليه الترمذي ، ولم يحسن الحافظ في عدم قبول تحسين الترمذي ، فإن مبناه على القواعد لا غير ، وحكم الترمذي يبني على الذوق والوجدان الصحيح ، وإن هذا هو العلم ، وإنما الضوابط عصا الأعمى " 51 .
    هكذا تضافرت النصوص على استخدام مصطلحي " المتقدمون والمتأخرون " مؤكدة بأهمية التفريق بين المناهج المختلفة في قسمي علوم الحديث: النظري والتطبيقي ، ونحن إذ نطرح ذلك من جديد فإننا نقصد بذلك بلورة هذه الفكرة ، لضرورة العودة إلى منهج المتقدمين في معرفة صحة الحديث وضعفه ، وتحديد معاني المصطلحات التي استخدموها في مجال النقد ، أو الجرح و التعديل ، مستعينا في ذلك بالتعريفات التي ذكرها المتأخرون في كتب المصطلح.
    والذي أثار غرابتي وعجبي أن المناوئين لمسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين كانوا يفرقون بينهم ، ويستخدمون هذين المصطلحين بين حين وآخر عند تناولهم مسائل علوم الحديث ، لقد سمعت من بعض الشيوخ يصف هذا المنهج بأنه محدث وبدعة في الدين ، وفي الوقت ذاته يفرق بينهم عشرات المرات في تحرير معنى الحسن وغيره من مسائل علوم الحديث .
    وفي ضوء ما تقدم من النصوص نستطيع أن نلخص ما يلي :
    1-ورد في بعض النصوص ما ينص على أن الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين هو الخمسمائة سنة الهجرية .
    2-وكان موقف العلماء موحداً حول وجود تباين جوهري بين المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتضعيف .
    3-الأسماء الواردة في قائمة المتقدمين هم : شعبة والقطان وابن مهدي ونجوهم ، وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة ، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وهكذا إلى زمن الدارقطني والخليلي والبيهقي .
    4-فاتضح بذلك أن البيهقي هو خاتمة المتقدمين .
    5-وأن هذه الأسماء إنما ذكرت على سبيل المثال لا على سبيل الحصر .
    6-ويبرهن بذكر هذه الأسماء على أن قصدهم بالمتقدمين هم نقاد الحديث .
    7-وأدرج الذهبي الإسماعيلي (371هـ) في زمرة المتقدمين ، رغم قول الذهبي بأن الحد الفاصل بينهم هو القرن الثالث الهجري .
    8-وأن الأسماء الواردة في قائمة المتأخرين هي : ابن المرابط ، وعياض ، وابن تيمية ، وابن كثير ، وعبد الغني صاحب الكمال ، والذهبي ، والحافظ ابن حجر ، وابن الصلاح ، وابن الحاجب ، والنووي ، وابن عبد الهادي ، وابن القطان الفاسي ، وضياء الدين المقدسي ، وزكي الدين المنذري ، وشرف الدين الدمياطي ، وتقي الدين السبكي ، وابن دقيق العيد ، والمزي .
    9-و تضم هذه القائمة ـ كما ترى ـ أهل الحديث وأهل الفقه والأصول . وأطلق عليهم جميعاً مصطلح " المتأخرين " .
    10- صرح السيوطي بضعف نظر المتأخرين بالنسبة إلى المتقدمين ، هذا بالطبع فيما يخص الحديث وعلومه فقط ، ولم يكن( رحمه الله ) شاذا في ذلك ، بل يؤيده ما سبق ذكره من نصوص الأئمة ، ولهذا قال الحافظ ابن حجر بوجوب تسليم الأمر للمتقدمين في مجال التصحيح و التضعيف وتنظير القواعد المتعلقة بهما .
    وفي نهاية هذا التلخيص نعود ونقول مرة أخرى إن أئمتنا قد استخدموا مصطلحي المتقدمين والمتأخرين ، لوجود تباين منهجي بينهم في التصحيح والتضعيف ، وتنظير ما يتعلق بهما من المسائل والقواعد ، ولتفاوتهم في التكوين العلمي في مجال الحديث وحفظه و نقده .
    وبعد هذا يكون من المفيد أن ننظر في العوامل التاريخية التي أدت إلى وقوع ذلك التباين ، وهذا ما أذكره في الفقرات التالية .
    العوامل التاريخية التي أدت إلى وقوع ذلك التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين :
    إذا نظرنا في المراحل الزمنية التي مرت عليها السنة النبوية وقمنا بتحليل ما يميزها بعضها عن بعض من أساليب التعلم والتعليم ، وطبيعة الحركات العلمية العامة ، نجد أنها تنقسم إلى مرحلتين متميزتين يكاد كل واحد منهما يستأثر بخصائص منهجية وسمات علمية ، على الرغم من أن اللاحقة منهما ما هي إلا امتداد للسابقة .
    *****************
    الحواشي :
    1-الحافظ الذهبي ، تذكرة الحفاظ ص : 726 -826
    2-المصدر السابق ، ص : 849
    3-ميزان الاعتدال 1/4
    4-الموقظ : ص 46 ( تحقيق عبد الفتاح أبو غدة ط : 2 ، سنة 1412هـ ، دار البشائر الإسلامية ، بيروت )
    5- النكت على كتاب ابن الصلاح 2/726 ( ط: 1، الجامعة الإسلامية ) ، وأما قول الحافظ ابن حجر في معرض تعقيبه على ابن الصلاح في مسألة التصحيح في العصور المتأخرة :" فيلزم على الأولِ( يعني قول ابن الصلاح : فأل الأمر إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة ) تصحيح ما ليس بصحيح ، لأن كثيراً من الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل خطها عن رتبة الصحة ، ولا سيما من كان لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن " ( النكت 1/270) فيعني به تصحيح المتساهلين من المتقدمين ، كابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، دون التعميم على جميع المتقدمين النقاد ، ولذا عقبه بقوله " فكم في كتاب ابن خزيمة من حديث محكوم منه بصحته ، وهو لا يرتقي عن ربتة الحسن " . ولذا فإن قول الحافظ ابن حجر هذا لا يتعارض مع الذي نقلناه عنه من ضرورة الرجوع إلى تصحيح المتقدمين وتعليلهم ، وتسليم الأمر لهم فيهما . والله أعلم .
    6- الحافظ السخاوي ، فتح المغيث 1/237 ( الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة ، ط2 سنة 1388هـ ) .
    7- نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في " النكت على كتاب ابن الصلاح " 2/604، والصنعاني في توضيح الأفكار 1/312.
    8- الحافظ ابن حجر ، شرح نخبة الفكر ص:13، وانظر أيضاً كتابه " النكت على مقدمة ابن الصلاح " 2/692.
    9- علوم الحديث المشهور بـ" مقدمة ابن الصلاح " ص : 11-13 ( تحقيق نور الدين عتر ، ط : 3، سنة 1418هـ )
    10- الاقتراح في بيان الاصطلاح ص : 186( تحقيق عامر حسن الصبر ي ، ط : 1، سنة 1417، دار البشائر الإسلامية ، بيروت )
    11- ـ توضيح الأفكار 1/23
    12- ـ نقله الحافظ في كتاب النكت على ابن الصلاح 2/128ـ 131 ( مناهج المحدثين ص : 25)
    13- النكت على كتاب ابن الصلاح 2/726
    14-النكت 2/711. انظر اختصار علوم الحديث ص:64
    15- اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث : 79
    16- فتح المغيث 1/237 . وتوضيح الأفكار 1/344 ، والنكت 2/604ـ605
    17- طبقات الشافعية الكبرى 5/76ـ 77 للإمام السبكي ( تحقيق محمود محمد الطناحي ، ط : 1، سنة 1967م )
    18-طبقات الشافعية الكبرى ، ص :81-82
    19- الموضوعات 1/3
    20- التحقيق في اختلاف الحديث 1/3
    21-شرح النووي لصحيح مسلم 1/126
    22- نقله الحافظ في كتاب النكت على ابن الصلاح 2/128- 131 ( مناهج المحدثين ص:25)
    23- هذا الموضوع مشروح بتفاصيل دقيقة في كتاب جديد للمؤلف عنوانه " كيف ندرس علوم الحديث " .
    24- نقله الحافظ في النكت على كتاب ابن الصلاح ـ النوع الثامن عشر : معرفة العلل ـ 2/712
    25- ـ المصدر السابق ـ في النوع السادس عشر : معرفة زيادات الثقات 2/688
    26-ـ نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد ص : 209-210( تحقيق بدر بن عبدالله ، ط : 1،سنة 1416هـ ، دار ابن الجوزي )
    27-فتح المغيث 1/327 ، وتوضيح الأفكار 1/344 ، و النكت 2/604-605
    28- فتح الباري شرح صحيح البخاري 1/145
    29-المصدر السابق 5/400
    30- المصدر السابق 2/563
    31- المصدر السابق 3/155
    32-مقدمة ابن الصالح ص :130
    33- فتح المغيث 2/48
    34-المصدر السابق 2/58
    35- المصدر السابق 2/68
    36-ت المصدر السابق 2/73
    37-المصدر السابق 2/118
    38- فتح المغيث 3/323
    39- فتح المغيث 3/324
    40- المصدر السابق وفي 3/327
    41- فتح المغيث 1/44
    42- المصدر السابق 1/51
    43- المصدر السابق 1/136
    44- المصدر السابق 1/162
    45- تدريب الراوي ، ص : 71( دار الكتب العلمية ، سنة 1417هــ ، بيروت )
    46- المصدر السابق ص : 73
    47-المصدر السابق ، ص : 114
    48- المصدر السابق ، ص : 117
    49- النكت على كتاب ابن الصلاح ـ النوع الحادي عشر : المعضل 2/586
    50- المصدر السابق ـ النوع الثامن عشر : العلل ـ 2/746
    51- فيض الباري 4/414، 415
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ الدكتور : تركي الغميز

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
    فإن علم السنة علم جليل الخطر، عظيم الأثر، وقد نهض بخدمته علماء أجلاء، ورجال فضلاء من أفذاذ هذه الأمة المحمدية المرحومة، كانت لهم بمعرفته يد طولى، حيث ذبو الكذب عن حديث المصطفى r ونفوا الخطاء والغلط، وبينوا الصحيح من السقيم ، وعانوا في سبيل ذلك ما عانوا من نصب وعناء ، وأجرهم على الله تعالى ، ولقد كان لهم في معرفة ذلك وتمييزه قواعد عظيمة ، ومسالك دقيقة ، مبنية على سعة الحفظ وقوة الاطلاع ، والمعرفة الدقيقة بأحوال الرواة والمرويات .
    ولقد كان أئمة الحديث في عصور الازدهار من أمثال شعبة بن الحجاج ، ويحي القطان ، وابن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، وابن معين ، وابن المديني ، والبخاري ،ومسلم ،وأبي داود ،و الترمذي ، والنسائي ، وأبي زرعة ،وأبي حاتم وغيرهم – على نهج واحد وطريق متحد في عمومه مبني على النظر الدقيق،والتفتيش العميق في أحوال الرواة والمقارنة بين المرويات لتمييز الخطأ من الصواب .
    وكان هذا المنهج واضحاً لهم تمام الوضوح كما هو واضح لمن اطلع على كلامهم وتأمل في أحكامهم ، وكتبهم بين أيدينا ، وهي شاهدة وناطقة بذلك ، وهذا لا يعني رفع الاختلاف بينهم ، بل الاختلاف واقع ، ولكن مع اتحاد الأصول العامة التي يسيرون عليها، وإنما ينتج الاختلاف في التطبيقات الجزئية لاختلاف النظر وتفاوت العلم بينهم في ذلك . فقد يطلع أحدهم على ما لم يطلع عليه الآخر ، وقد ينقدح في ذهن أحدهم مالم ينقدح في ذهن الآخر ، وقد يشدد أحدهم ويتسمح الآخر ، إلا أن ذلك لا يخرج عن الأصل العام الذي يسيرون عليه .
    ثم ضعف علم السنة بعد ذلك ، وتكلم فيه من لم يتقنه ، وكثر ذلك ، حتى ظهرت قواعد جديدة ، وآراء غريبة في تمييز الصحيح من السقيم ، وقد قام بتطبيق هذه القواعد جملة من الفقهاء والأصوليين وغيرهم ، ثم تبناها بعض متأخري المحدثين ، وجعلوها قواعد في علم السنة امتلأت بها كتب المصطلح.ولازال كثير ممن عنى بخدمة السنة يطبق هذه القواعد المتأخرة في التمييز بين الصحيح و السقيم إلى هذا العصر ، ومن هنا انقسم الكلام في هذا العلم إلى قسمين وانتسبت إلى مدرستين ، وصار على منهجين :
    الأول : منهج المتقدمين من أئمة الحديث ، كمن سبق ذكرهم ومن أهم ما يتميز به هذا المنهج ما يلي :
    1 ــ القاعدة عندهم في النظر عند الاختلاف بين الرواة -كاختلاف في وصل وإرسال أو رفع ووقف أو زيادة ونقص ونحو ذلك - مبنية على التأمل الدقيق في أحوال الرواة المختلفين والتأمل التام في المتن المروي ، فلا يحكمون للواصل مطلقاً سواء كان ثقة أو غير ثقة ، ولا يحكمون للمرسل – أيضاً – مطلقاً ، وكذا الزائد والناقص الخ .. وإنما يتأملون في ذلك فإن دلت القرائن على صواب المُرسِل حكموا به ، وإن دلت على صواب الواصل حكموا به ، وهكذا بقية الاختلاف ، وهذا أمر ليس بالهين ، بل يستدعي بحثاً دقيقاً ، ونظراً متكاملاً ، وتأملاً قوياً ، في الموازنة بين ذلك ، وإنما ساعدهم على هذا سعة حفظهم وقوة فهمهم وقربهم من عصر الرواية .
    ولأجل هذا الأمر فإنهم لا يحكمون على إسنادٍ بمفرده إلا بعد أن يتبين أن هذا الإسناد سالم من العلل ، كما قال ابن المديني "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه" .
    2 ــ ومن أهم ما تميز به عمل الأئمة المتقدمين التفتيش في حديث الراوي ، وتمييز القوي منه وغير القوي ، وذلك أن الراوي قد يكون ثقة ، إلا أن في حديثه شيئاً في بعض الأحوال ، أو الأوقات ، أو عن بعض الشيوخ ، أو نحو ذلك ، فهم يهتمون بتمييز ذلك والتنبيه عليه ، وبناءً عليه فقد يكون الحديث خطاءً وإن كان راويه ثقة ، ولأجل هذا فإنهم قد جعلوا أصحاب الرواة المشاهير على طبقات متفاوتة بعضهم أتقن من بعض وهكذا .
    3 ــ ومن القضايا المهمة في هذا أن الأئمة المتقدمين كانت لهم عناية خاصة بنقد المتون ، والتنبيه على ما وقع فيها من خطأ ووهم ، وهذا كثير في كلامهم .
    فهذه جملة من القضايا والميزات المهمة التي تميز بها عمل الأئمة المتقدمين في نقد السنة وتمييز صحيحها من سقيمها ، وليس القصد من ذلك الحصر ، فإن هناك قضايا أخرى متعلقة بإثبات السماع وعدمه والاتصال والانقطاع ، وأخرى في التدليس وغير ذلك .
    المنهج الثاني : منهج المتأخرين أو منهج الفقهاء والأصوليين ومن تبعهم من متأخري المحدثين وقد تميز هذا المنهج بميزات أيضاً ، ومن أهمها ما يلي :
    1 ــ أهم ما يتميز به هذا المنهج أنهم قعدوا قواعد نظرية ثم طردوها ، مع أنهم قد يختلفون في بعض هذه القواعد ، فمن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة مطلقاً ، دون تحرٍ في ذلك هل أصاب الثقة في هذه الزيادة أو أخطأ ، فإذا اختلف في وصل حديث وإرساله أو وقفه ورفعه ، وكان الواصل أو الرافع ثقة فقوله هو الصواب ، ومنهم من يقول المرسل هو المصيب لأن هو المتيقن ، فهذه قاعدة أخرى مقابلة للقاعدة السابقة ، وكل هذا مجانب المنهج أئمة الحديث ،ولهذا ذكر ابن رجب أن هذه الأقوال كلها لا تعرف عن أئمة الحديث المتقدمين . ويترتب على قاعدتهم في زيادة الثقة فروع كثيرة ليس المقصود حصرها .
    2 ــ وتبعاً للقاعدة السابقة في زيادة الثقة – أيضاً – فقد برز بوضوح في عمل المتأخرين الحكم على الأسانيد مفردة دون النظر في بقية طرق الحديث التي قد تظهر علة قادحة في هذا الإسناد المفرد ، وفي هذا المنهج هدم لجزء كبير مما اشتملت عليه كتب العلل، ولهذا قل اهتمامهم بهذه الكتب ، حتى لا تكاد تذكر إلا قليلاً مع أهميتها البالغة وجلالة مؤلفيها.
    3 ــ ومما يميز منهج المتأخرين أنهم لا يعتنون كثيراً بالتفريق بين أحاديث الراوي ، لأنهم لما حكموا بأنه ثقة ألزموا أنفسهم بقبول كل ما روى، ولهذا ظهر في العصور المتأخرة الحرص على إبداء كلمة مختصرة في الحكم على الراوي لتكون عامة في جميع رواياته .
    4 ــ ومن الأمور الظاهرة في منهج المتأخرين المبالغة الظاهرة في تقوية النصوص المعلولة بعضها ببعض ، وقد أسرف بعض المعاصرين في هذا جداً، وحتى قُوِّيَّ الخطأ بالخطأ فصار صواباً ،ولا شك أن تقوية النصوص بعضها ببعض أمر وارد عند أئمة الحديث المتقدمين ولكن ذلك على نطاق معين ،وله شروط وضوابط ، ولم يراعها كثير من المتأخرين.
    وبناءاً على الاختلاف في المنهج بين المتقدمين والمتأخرين من خلال النقاط السابقة وغيرها مما لم أذكره ، ظهر اختلاف شديد وتباين واضح في الحكم على الأحاديث ، فوجدنا مئات الأحاديث التي نص الأئمة المتقدمون على ضعفها أو أنها خطأ ووهم ،قد صححها بعض المتأخرون ، وصار الأمر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من أن بعض المتأخرين عمدوا إلى أحاديث هي خطأ عند بعض الأئمة المتقدمين فصححها هؤلاء المتأخرون ثم عارضوا بها النصوص الثابتة فاحتاجوا إلى الجمع بينها فجاءوا بأوجهٍ مستنكرة في الجمع بين هذه النصوص. وما ذكره أمر واقع لا شك فيه ، بل اضطر بعض المتأخرين إلى تبني أقوال مهجورة وآراء شاذة في بعض المسائل تبعاً لتصحيحه لبعض النصوص الساقطة والأوهام والأخطاء .
    والنتائج المترتبة على الاختلاف بين المنهجين عظيمة جداً ، وتمثل خطراً جسيماً على علم السنة إذ يُنسَب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت عنه ،بل ما يعلم أنه أخطئ عليه فيه، وهذه نتيجة طبيعية للفروق الكبيرة بين المنهجين.
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    يتبع غدا رفع الباقي والله المستعان
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ بشار عواد معروف
    الجامع الكبير
    للإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي
    المتوفي سنة 279هـ
    المجلد الأول
    الطهارة – الصلاة
    حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه
    الدكتور / بشار عواد معروف
    دار الغرب الإسلامي
    قال الدكتور بشار معروف عواد :
    وأرى من الواجب علي ، وقد أنهيت تحقيق هذا الكتاب العظيم ، أن أشرك إخوتي من طلبة العلم ببعض الفوائد والقواعد التي تحصلت عندي ، لنتدبرها ونزيدها دراسة عسى أن نصل فيها إلى رأي ينهض بهذا العمل الشريف ويوضح مناهجه ويجلي أنظار علمائه الأعلام الجهابذة الأوائل .
    أولاً : سلفية المنهج العلمي :
    مثلما نحن نؤمن بأننا سلفيون في عقيدتنا لا نرضى بغير الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة ، وبغير أصحابه الكرام نموذجاً للهدي النبوي ، فإننا نرى أن ننتهج هذه السلفية الحبيبة في أسلوب تفكيرنا ومنهجنا العلمي الذي نسير عليه ، فتتبع المنهج العلمي الأقوم الذي انتهجه الجهابذة من العلماء الفهماء الأوائل ممن نذروا أنفسهم لهذا العلم ، فأبدعوا فيه ، وشرعوا لمن جاء بعدهم طريقاً واضحة معالمه في أصول البحث العلمي والتحقيق والنقد والتدقيق ، يظهر في طريقة سردهم للحديث ، وتعليلهم لطرقه ومتونه ، لا سيما في الكتب التي صنفوها في العلل ، كابن المديني ، وأحمد ، وابن أبي حاتم ، والدار قطني ، ونحوهم .
    وقد جرت عادة بعض العلماء المتأخرين عند تصحيح حديث ما أو تضعيفه تطبيق القواعد المدونة في كتب المصطلح من غير اعتبار كبير لأقوال الجهابذة المتقدمين في الحكم على الأحاديث ، غير مدركين أن كتب المصطلح إنما وضعت نتيجة لاستقراء أنظار الجهابذة المتقدمين في هذا العلم ، فلا يجوز أن تكون حاكمة على أقوالهم ، بل أقوالهم حاكمة على هذه القواعد في كثير من المواطن ، فلا يجوز عندئذ التسوية بين أحكام العلماء الجهابذة الأوائل كابن المديني ، وابن معين ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وابي زرعة ، وأبي حاتم ، والترمذي ، وأبي داود ، والنسائي وبين أقوال المتأخرين الأقل شأناً منهم كابن حبان والحاكم والبيهقي والمنذري والنووي والعراقي والهثيمي وابن حجر والسخاوي والسيوطي ونحوهم .
    وآية ذلك أن مناهج المتقدمين الجهابذة في غير مناهج المتأخرين ، فأولئك علماء قد سروا الطرق ، وجمعوا أحاديث الرجال ، وحكموا عليها بعد موازنات دقيقة ، وعرضوها ما حفظوه من مئات ألوف الأسانيد وآلاف المتون حتى توصلوا إلى النتائج التي توصلوا إليها ، فأصدروا الأحكام نتيجة لذلك ، ولم يبينوا لنا دائماً أصول تلك الدراسات والأبحاث التي أوصلتهم إلى تلك النتائج إلا في حالات نادرة ، أما المتأخرون كالحاكم ومن جاء بعده وإلى يوم الناس هذا فهم عيال على نتائج دراسات المتقدمين وسبرهم لأحوال الرجال ومروياتهم ؛ ألا ترى أننا إذا اتفق الجهابذة الأول على توثيق رجل قبلنا حديثه عموماً ، وإذا اتفقوا على تضعيفه طرحنا حديثه عموماً ، نأخذ بأحكامهم من غير مساءلة لهم عن الدواعي التي دعتهم إلى ذاك التوثيق أو هذا التضعيف ؟!
    وكذلك كان فعل المتأخرين وهلم جرا إلى عصرنا ، فإن عمدتهم على أحكام المتقدمين ، يضعفون الحديث إذا وجدوا في إسناده رجلاً ضعفه المتقدمون .
    فإذا كان الأمر كما بينا والحال كما وصفنا فالأولى أن تعتبر أقوال المتقدمين في تعليل الأحاديث أقصى حدود الاعتبار ، والتحرز من مخالفتهم لا سيما عند اجتماع كبرائهم على أمر ، وإنما يُصار إلى ذلك عند اختلافهم وتباينهم فتنظر الأدلة والأسباب ، ويوازن بينها ، ويرجع الباحث عندئذ بين رأي وآخر بمراجحات وأدلة من جنس أدلتهم ومرجحاتهم ، مثلنا في ذلك مثل الموازنة في الجرح والتعديل حينما يُطالب الجارح المنفرد بالتفسير .
    ولو لم يكن إلا تتبع آراء المتقدمين وبيان اختلافهم وإيرادها في موضع التعليق لكان وحده غاية ، فإن أقوال المتقدمين ثمينة لا ينبغي التفريط بها وإهمالها بحجة الاكتفاء باتباع القواعد، فمن أمثلة ذلك أن المصنف الترمذي حسن حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا في أول مرة ، فكان لابد من الإشارة إلى قول ابن المبارك بعدم ثبوت حديث ابن مسعود هذا ، وقول أبي حاتم " "هذا خطأ ، يقال: وهم الثوري" ، وقول أبي داود : "ليس هو بصحيح على هذا اللفظ"( ) .
    ثانياً : ثانياً : إعلال جهابذة المتقدمين لحديث ما ، لا ينفعه تصحيح المتآخرين :
    واستناداً إلى ما تقدم ، ومع إيماننا بأن تصحيح الأحاديث وتضعيفها من الأمور الاجتهادية التي تتباين فيها القدرات العلمية والذهنية والمؤثرات المحيطة والاختلاف في تقويم الرواة ، فإن اجتماع أكثر من واحد من الجهابذة على إعلال حديث ما ينبغي التنبه إليه وعدم تجاوزه بحيثيات بنيت قواعدها بعدهم .
    ولا بد لي هنا من بعض أمثلة دالة مبينة لهذا الأمر ، فقد روى الترمذي( ) حديث عيسى بن يونس ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سرين ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ، ومن استقاء عمداً فليقضي" ، ثم قال بعده : "وفي الباب عن أبي الدرداء ، وثوبان ، وفضالة بن عبيد . حديث أبي هريرة حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عيسى بن يونس . وقال محمد : لا أراه محفوظاً . وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح إسناده" .
    فهذا الحديث صححه الحاكم ، ومن المحدثين : العلامة الألبان والعلامة شعيب الأرنؤوط، وكذلك فعلت في تعليقي على سنن ابن ماجه قبل نستين (1676). والحديث معلول ، وإن كان ظاهره الصحة إذا رجاله ثقات رجال الصحيحين ، فقد قال الإمام أحمد : "ليس من ذا شيء" يعني : أنه غير محفوظ ، وإنما يروي هذا عن عبد الله بن سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رفعه، وخالفه يحيى بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، قال : حدثنا يحيى ، عن عمر بن حكم بن ثوبان سمع أبا هريرة ، وقال : إذا قال أحدكم فلا يفطر فإنما يخرج ولا يولج"( ) فكان يرى الصحيح فيه الوقف . وقال النسائي : "أوقفه عطاء على أبي هريرة " .
    وقال منها عن أحمد : "حدث بن عيسى وليس هو في كتابه ، غلط فيه ، وليس هو من حديثه" . وقال الدرامي : "قال عيسى – يعني ابن يونس – زعم أهل البصرة أن هشام أوهم فيه، فموضع الخلاف هاهنا" .
    قلت : فالوهم من هشام إذن ، فإن عيسى بن يونس لم ينفرد به كما ذكر الترمذي، فقد تابعه حفص بن غياث عند ابن ماجة ، وقال أبو داود : "رواه أيضاً حفص بن غياث عن هشام مثله" .
    وقد أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن أبي هريرة موقوفاً ، وإسناده صحيح . وأخرجه البخاري في تاريخه الكبير موقوفاً كما تقدم أيضاً، وإسناده حسن .
    فحديث يعله الأئمة : أحمد ، والبخاري ، والدرامي ، والنسائي ، وغيرهم من الجهابذة لا ينفعه تصحيح الحاكم وغيره( ) .
    ومن أمثلة ذلك قول المصنف عقب الحديث (1365) : "وقد روى عن ابن عمر ، وابن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" . رواه ضمرة بن ربيعة عن الثوري ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يتابع ضمرة على هذا الحديث ، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث" .
    وهذا الحديث قد استنكره من العلماء الفهماء الجهابذة المتقدمين إضافة إلى الترمذي : النسائي فقال : "حديث منكر"( ) ، والإمام المبجل أحمد بن حنبل ، فقد قال أبو زرعة الدمشقي: "قلت لأحمد : فإن ضمرة يحدث عن الثوري ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : من ملك ذا رحم محرم فهو حر ، فأنكره ورده رداً شديداً"( ) ، وقال البيهقي : "المحفوظ بهذا الإسناد حديث: نهى عن بيع الولاء وعن هبته " .
    وقد ورد المتأخرون هذا التضعيف لوثاقة ضمرة عندهم ، وأن تفرد الثقة لا يضر ، وأن زيادة مقبولة مطلقاً ، فقال ابن حزم : "هذا خبر صحيح كل رواته ثقات تقوم به الحجة ، وقد تعلل فيه الطوائف المذكورة بأن ضمرة أنفرد به وأخطأ فيه ، فقلنا : فكان ماذا إذا انفرد به .. وأما دعوى أنه أخطأ فيه فباطل لأنها دعوى بلا برهان"( ) .وقال ابن التركماني : "ليس انفراد ضمرة به دليلاً على أنه غير محفوظ ولا يوجد ذلك علة فيه ، لأنه من الثقات المأمونين ، ولم يكن بالشام رجل يشبهه ، كذا قال ابن حنبل ، وقال ابن سعد : كان ثقة مأموناً لم يكن بالشام رجل يشبه ، كذا قال ابن حنبل ، وقال ابن سعد : كان ثقة مأموناً لم يكن هناك أفضل منه ، وقال أبو سعيد بن يونس : كان فقيه أهل فلسطين في زمانه . والحديث إذا انفرد به مثل هذا كان صحيحاً ولا يضره تفرده ، فلا أدري من أين وهم في هذا الحديث روايه كما زعم البيهقي"( ) . وأيده العلامة الألباني وأثنى على قوله هذا( )، وفي قول ابن التركماني مآخذ عدة نذكر منها :
    الأول : أنه جعل ضمرة ثقة مأموناً ، وليس هو كذلك ، فجماع ترجمته تدل على أنه كان ثقة بينهم ، بل قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" : "صدوق يهم قليلاً" ، وأيضاً فإن الشيخين لم يخرجا له شيئاً في صحيحيهما .
    الثاني : أنه أورد التوثيق وأهمل الجرح ، وفي ضمرة جرح ليس بالقليل ، كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" .
    الثالث : أنه نقل قول أحمد في توثيقه ولم ينقل قوله في استنكاره الشديد ورده لحديثه هذا! .
    الرابع : أنه زعم أن من غلط ضمرة في هذا الحديث لم يذكر السبب مع أن البيهقي ذكر وبين أنه متن آخر .
    الخامس : أن الثقة يهم ويغلط ، وهو أمر لم يسلم منه الجهابذة الذين هم أعلى وأغلى من ضمرة مرات ، فكان ماذا ؟
    السادس : أنه لم يتدبر جيداً قول الترمذي : "وهو حديث خطأ عند أهل الحديث" ، فهذا يشير إلى اتفاق الجهابذة من أهل الحديث في عصر الترمذي وقبله على رده .
    وحديث ينكره النسائي وأحمد والترمذي وأضرابهم ويعدوه غلطاً لا ينفع فيه تصحيح أحد من المتأخرين كابن التركماني وغيره .
    ومن ذلك أيضاً أن المصنف حينما ساق حديث معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية .. الحديث ، نقل عن البخاري قوله : "هذا حديث غير محفوظ" ، ثم ذكر أن الصحيح هو المرسل( ) . وكذلك رجح المرسل أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان( ) ، ومسلم بن الحجاج في "التمييز" كما نقل الحافظ في تلخيص الحبير، ثم نقل عن الأثرم عن أحمد ، قال : "هذا الحديث ليس بصحيح" ، وقال ابن عبد البر : "طرقه كلها معلولة" ، وتابعهم الحافظ ابن حجر في التلخيص .
    وقد حاول بعض الحفاظ المتأخرين – منهم ابن القطان الفاسي وابن كثير – القول بتصحيح الحديث وأنه قد روي من وجه آخر مرفوعاً مثل رواية معمر من طريق سيف بن عبيد الله ، عن سرار بن مجشر ، عن أيوب ، عن نافع وسالم ، عن ابن عمر . وهو إسناد حسن في ظاهره أخرجه الطبراني( ) ، وأبو نعيم( ) ، والدار قطني( ) ، والبيهقي( ) .
    على أن الذي يمعن النظر في طرق هذا الحديث يجد أن أصحاب الزهري قد اختلفوا في هذا الحديث عليه اختلافاً كبيراً فاضطربوا فيه مما يوجب طرحه .
    ومثل هذا الحديث الذي يتفق على تضعيفه البخاري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان ، وغيرهم ، ويرجحون المرسل ، ولا يخفى عليهم إسناد له متصل صحيح لا يعرفونه إن كان موجوداً !
    ثالثاً : نظرة في زيادة الثقة :
    مما تقدم يتبين لنا أن المتأخرين قد صححوا كثيراً من الأحاديث التي أعلها المتقدمون بالإرسال أو الوقوف بحجة أن زيادة الثقة مقبولة مطلقاً ، قال النووي : "إذا روى بعض الثقات الضابطين ا لحديث مرسلاً وبعضهم متصلاً أو بعضهم موقوفاً أو بعضهم مرفوعاً أو صلة وهو أو رفعه في وقت أ وأرساله ووقفه في وقت فالصحيح أن الحكم لمن وصله أو رفعه سواء كان المخالف له مثله أو أكثر لأن ذلك زيادة ثقة وهي مقبولة"( ) ، وقال في موضع آخر : "الصحيح بل الصواب الذي عليه الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين أنه إذا روي الحديث مرفوعاً وموقوفاً، أو موصولاً ومرسلاً ، حكم بالرفع والوصل لأنه زيادة ثقة ، وسواء كان الرفع والواصل أكثر أو أقل في الحفظ والعدد"( ) .
    وهذا الكلام الذي ساقه النووي بهذه الصفة الجازمة لم يقل به جماهير السلف من المحدثين الأوائل من أهل المعرفة التامة بعلل الحديث ، ومع ذلك صار هو مذهب جمهور المتأخرين من الفقهاء والمحدثين بقبول زيادة الثقة مطلقاً( ) ، منهم : ابن التركماني ، والعراقي ، وابن حجر , والسخاوي ، والسيوطي ، ومن العصريين : العلماء الأعلام ؛ الشيخ أحمد شاكر ، والشيخ ناصر الدين الألباني وكثير من تلامذتهم . والأخذ بمثل هذه القاعدة على هذا الاضطراد فيه تقليل من شأن كتب العلل الأولى ، ذلك أن أكثر العلل في كتابي ابن أبي حاتم والدار قطني تدور على هذا النوع .
    ومع أن المصنف ذكر في علله الصغير أنه : "إذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظه قبل ذلك منه"( ) ، إلا أن صنيع المؤلف في الأحاديث التي أعلها هو أو شيخه البخاري يبين أن الاختلاف في الوصل والإرسال والوقف والرفع والزيادة وعدمها ونحوها إنما مداره على قوة القرائن ، ومنها اعتبار : الأوثق ، والأحفظ ، والأكثر ، ونحو ذلك ، وهو مذهب المتقدمين الصحيح .
    وقد ساق الترمذي حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة في المواقيت ، ونقل عن شيخه البخاري قوله : "وحديث محمد بن فضيل خطأ ، أخطأ فيه محمد بن فضيل ، وذكر أن الصحيح فيه حديث الأعمش ، عن مجاهد ، قوله"( ) ، ثم ساقه من قوله مجاهد( ).
    وهذه العلة ردها العلامة أحمد شاكر ، وغلط من قال بها ، وقال : إن الرواية المرسلة أو الموقوفة تؤيد الرواية المتصلة المرفوعة ، ولا تكون تعليلاً لها أصلاً" . وأيده في ذلك العلامة الكبير الشيخ ناصر الدين الألباني في السلسلة الصحيحة( ) .
    وهذا الذي ذهب إليه العلامتان فيه نظر ، فالموقف هنا علة للمرفوع إذا ثبت برواية الثقات الراجحة ، والرفع شذوذ ، وهو مبدأ العلماء الجهابذة الأوائل ، قال أبو حاتم : "هذا خطأ، وهم فيه ابن فضيل ، يرويه أصحاب الأعمش ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قوله"( ) . وقال العباس بن محمد الدوري : "سمعت يحيى بن معين يضعف حديث يريد : إن للصلاة أولاً وآخراً ، وقال : إنما يروى عن الأعمش ، عن مجاهد"( ) ، وقال الدار قطني : "هذا لا يصح مسنداً ، وهم في إسناده ابن فضيل" . ومحمد بن فضيل ثقة ، كما بيناه في "تحرير أحكام التقريب"، لكن هؤلاء أربعة من الجهابذة : البخاري ، وأبو حاتم ، وابن معين ، والدار قطني إضافة إلى الترمذي قد أعلوا الحديث ، فماذا بعدهم ؟
    وقد أعل المصنف حديث عبد الرزاق – وهو ثقة معروف – عن سفيان ، عن الأعمش، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن معاذ ، قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، بمن رواه عن سفيان مرسلاً ، فقال : "روى بعضهم هذا الحديث عن سفيان، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فأمره أن يأخذ، وهذا أصح( )" .
    وأعل المصنف حديث الفضل بن موسى السيناني – وهو ثقة – عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في الصلاة يمينا وشمالاً ، ولا يلوي عنقه خلف ظهره ، بحديث وكيع المرسل ، فقال : "هذا حديث غريب" ، وقد خالف وكيع الفضل بن موسى في روايته " . ثم ساق حديث وكيع، عن عبد الله ، عن بعض أصحاب عكرمة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه( ) . وكذلك قال أبو داود .
    وقد صحح الحاكم وبعض العلماء الفضلاء المعاصرين الرواية المتصلة واستعجبوا من صنيع الترمذي وأبي داود المرسل ، مع أن القواعد الحديثية التي أصلها الجهابذة الأوائل ترجح المرسل ، فعند الموازنة بين وكيع والفضل بن موسى لا يشك أحد من أهل العلم بأن وكيعاً أتقن وأحفظ ، فضلاً عما عرف في بعض حديث الفضل بن موسى من المناكير كما قرره علامة الدنيا على ابن المديني( ) ، إضافة إلى أقوال العلماء الفهماء من الجهابذة المتقدمين : الترمذي وأبي داود الذي قال بعد أن ساق المرسل : " وهذا أصح – يعني من حديث عكرمة عن ابن عباس" . وقال الدار قطني بعد أن ساقه متصلاً : وأرسله غيره( ) .وهو إعلال للرواية المتصلة .
    ومن ذلك أن الترمذي أعل حديث عامر بن صالح الزبيري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في تطييب المساجد( ) ، ثم ساقه مرسلاً من رواية سفيان بن عيينة عن هشام مثل رواية عبدة ووكيع( ) .
    وما ذهب إليه الترمذي هو الصواب ، وهو قول أبي حاتم الرازي( ) ، فاجتماع عبدة بن سليمان ووكيع بن الجراح وسفيان بن عيينة على روايته عن هشام مرسلاً أقوى من جميع من رواه عن هشام مرفوعاً وهم : عامر بن صالح الزبيري عند المصنف – وهو متروك – ومالك بن سعيد عند ابن ماجه – وهو ممن لا يرتقي حديثه إلى الصحة ، وزائدة بن قدامة عند ابن ماجة .
    ومع ذلك فقد صحح المسند ابن حبان ، والعلماء الفضلاء : أحمد شاكر ، والألباني ، وشعيب الأرنؤوط باعتبار أن المسند لا يُعل بالمرسل وأن الوصل من الثقة زيادة مقبولة . قلت : إنما هذا حينما يكون الرواة في مستوى واحد من الدقة والضبط والاتقان ، وهو ما لم يتحقق هنا ، فأين عبدة ووكيع وسفيان وقد اجتمعوا على روايته مرسلاً ممن رواه موصولاً !
    ولولا ضيق المقام لسقنا عشرات الأمثلة التي تدل على أن هذا الأمر لا يؤخذ على إطلاقه وأن العلماء المتقدمين راعوا فيه أمرواً أخرى ، وفيما ذكرنا كفاية للفطن اللبيب .
    رابعاً : التوثيق من تصحيح أحاديث المتأخرين :
    من المعروف عند أهل العناية بالتاريخ والحديث أن العالم الإسلامي قد شهد في المئتين الثانية والثالثة نهضة لا مثيل لها في جمع السنة النبوية الشريفة وتتبعها وتدوينها وتبويبها على أنحاء شتى من التنظيم والتبويب ، مما لم تعرفه أمة من الأمم فكان ذلك خصيصاً بهذه الأمة الإسلامية . وهيأ الله سبحانه مئات الحفاظ الجهابذة الذين حفظوا مئات ألوف من طرق الأحاديث ورحلوا من أجلها إلى البلدان النائية وطوفوا في البلدان شرقاً وغرباً ليصدروا عن خبرة وعيان ، وسألوا عن الرواة واطلعوا على مروياتهم ومدوناتهم ومحفوظاتهم ، فجمعت السنة في صدور الحفاظ ، ودونت في الأجزاء والمصنفات والمسانيد والمعجمات والجوامع والسنن ، وإن كان فات بعضهم الشيء منها فما كان ليخفي على مجموعهم وهم يتذاكرون المتون والأسانيد .
    على أننا لا نشك في الوقت نفسه أن الحافظ قد أهملوا كثيراً من الطرق الواهية والتالفة والمعلولة لا سيما عند التصنيف ، وإلا فأين مئات الألوف التي كان يحفظها من مثل أحمد بن حنبل ، والبخاري ، وأبي حاتم وأضرابهم ؟ !
    من هنا يتعين على المشتغلين بالسنة النبوية الشريفة أن ينظروا بعين فاحصة ناقدة إلى كل حديث أو طريق يظهر في المصنفات التي جاءت بعد هذه العصور وليس له من أصل في المؤلفات السابقة، فيدرس دراسة نقدية متأنية متأتية للوقوف على السبب الذي جعله لا يظهر إلا بعد هذه المدة ، وفيما إذا كان في مصنف مفقود لم يصل إلينا ، أو أن يكون هذا الحديث أو الطريق معروفاً فترك عمداً لشدة ضعفه .
    ونظراً لضيق المقام أكتفي بضرب مثل واحد حدث الوصاة بطلبة العلم الذي يرويه أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري ، وهو حديث رواه الترمذي( ) ، وقال : "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي هارون ، عن أبي سعيد" . قلت : وإسناده ضعيف جداً لأن أبا هارون هذا متروك .
    ثم لا يلبث أن يظهر لهذا الحديث إسناد آخر في منتصف المئة الرابعة من طريق سعيد بن سليمان، عن عباد بن العوام ، عن سعيد بن إياس الجريري ، عن أبي نضرة العبدي ، عن أبي سعيد ، عند الرامهرمزي "ت 405هـ" ، و"فوائد" تمام الرازي الدمشقي "ت 414هت" ومن معاصرهم ، ويقول الحاكم بعد أن يسوقه من هذا الوجه : "هذا حديث صحيح ثابت لاتفاق الشيخين على الاحتجاج بسعيد ابن سليمان وعباد بن العوام بن الجريري ، ثم احتجاج مسلم بحديث أبي نضرة فقد عددت له في المسند الصحيح أحد عشر أصلاً للجريري ، ولم يخرجا هذا الحديث الذي هو أول حديث في فضل طلاب الحديث ولا يعلم له علة ، ولهذا الحديث طرق يجمعها أهل الحديث عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد ، وأبو هارون سكتوا عنه"( ) .
    وقد اعتد العلامة الكبير الشيخ ناصر الدين الألباني – حفظه الله ومتعنا بعلمه – بقول الحاكم ، فساق هذا الحديث في صحيحته( ) ، وساق قول العلائي : "إسناده لا بأس به ، لأن سعيد بن سلمان هذا هو النشيطي فيه لين يُحتمل ، حدث عنه أبو زرعة وأبو حاتم الرازي وغيرهما" . ورد عليه الشيخ العلامة وأثبت أن سعيد بن سليمان هذا هو الواسطي الثقة . ثم نقل من "المنتخب" لابن قدامة قول مهنا ، صاحب الإمام أحمد : "سألت أحمد عن حديث حدثنا سعيد بن سليمان (فساقه بسنده ) فقال أحمد : ما خلق الله من ذا شيئاً ، هذا حديث أبي هارون عن أبي سعيد" ! وقد علق الشيخ العلامة على كلام أحمد بقوله : "وجواب أحمد هذا يحتمل أحمد أمرين : إما أن يكون سعيد عنده هو الواسطي ، وعندئذ فتوهيمه في إسناده إياه مما لا وجه له في نظري لثقته كما سبق ، وإما أن يكون عني أنه النشيطي الضعيف ، وهذا مما لا وجه له بعد ثبوت أنه الواسطي" . ثم ساق له متابعاً مجهولاً رواه عن الجريري عن أبي نضرة أخرجه الرامهرمزي ومن طريقه العلائي . ثم ساق الشيخ العلامة طريقين آخرين عن أبي سعيد لا يصحان أيضاً ، وشواهد ضعيفة ، وإنما كان مدار تصحيحه للحديث على رواية عباد بن العوام ، عن الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد .
    وقد غفل الشيخ العلامة – حفظه الله تعالى – عن علة هذا الحديث الحقيقية وهي اختلاط الجريري ، إذ كان الجريري قد اختلط قبل موته بثلاث سنين . وقد بينا في كتابنا "التحرير" أن الذين سمعوا منه قبل اختلاطه هم : شعبة ، والسفيانان ، والحمادان ، وإسماعيل بن علية ، ومعمر بن راشد ، وعبد الوارث بن سعيد ، ويزيد بن زريع ، ووهيب بن خالد ، وعبد الوهاب بن المجيد الثقفي ، وبشر بن المفضل ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي . أما الباقون فسمعوا منه بعد الاختلاط .
    ومن سوء صنيع الحاكم في مستدركه أن يستدرك على الشيخين أحاديث رويت لرجال من رجالهما دون مراعاة منه لصنيعهما وطريقتهما في إخراج الحديث من رواية بعضهم عن بعض. نعم احتج الشيخان بسعيد بن سليمان الواسطي ، واحتجا بعباد بن العوام ، واحتجا بالجريري، ولكن هل احتجا برواية عباد بن العوام من الجريري ؟ لا شك أنهما لا يفعلان ذلك ، وكيف يفعلان ، وهما من هما في العلم والمعرفة ، فهل يفوتهما أن عباد بن العوام إنما سمع من الجريري بعد اختلاطه ؟!
    ثم لنتأمل عبارة الإمام المبجل أحمد بن حنبل جواباً عن سؤال تلميذه مهنا : "ما خلق الله من ذا شيئاً ، هذا حديث أبي هارون عن أبي سعيد " ثم نضع بجانبها قول الترمذي : "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي هارون عن أبي سعيد " ، فهذان الإمام العالمان الجهبذان الحافظان مئات ألوف الأسانيد استنكر أن يوجد هذا الحديث إلا من حديث أبي هارون .
    وسؤال مهنا الإمام أحمد عن هذا الإساند يدل على أنه كان معروفاً في ذلك الوقت ، لكن أحداً من المصنفين كأصحاب الكتب الستة أو المسانيد والمصنفات كأحمد والطيالسي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة لم يذكروه في كتبهم ، فلماذا بقي مختفياً ليظهر في القرن الرابع الهجري ؟! وجواب ذلك عندنا يسير إن شاء الله ، وهو أن هذا الإسناد خطأ لا صحة له ، وآفته عندنا الجريري فلعله رواه بعد اختلاطه عن " أبي نضرة " بدلاً من "أبي هارون" لا سيما وهو يروي عن كليهما .
    خامسا ً: الذهبي ومستدرك الحاكم :
    كتاب " المستدرك على الصحيحين " لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفي سنة 405هـ كتاب وسيع مشهور بين أهل العلم زعم مؤلفه أنه استدرك أحاديثه على الشيخين ، وفيه بلايا ، قال الذهبي في السير : "في المستدرك شيء كبير على شرطهما ، وشيء كثير على شرط أحدهما ، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب ، بل أقل ، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما ، وفي الباطن لها علل خفيفة مؤثرة ، وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد ، وذلك نحو ربعه ، وباقي الكتاب مناكير وعجائب ، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المئة يشهد القلب ببطلانها ، كنت قد أفردت منها جزءاً ، وحديث الطير( ) بالنسبة إليها سماء( ) " .
    وقد قام الذهبي في أول عنايته بطلب الحديث بتخليص مجموعة من الكتب كان "المستدرك" واحداً منها . ثم جرت عادة علماء العصر من المعنيين بالحديث النبوي الشريف وتخريجه والحكم عليه قولهم : "صحة الحاكم ووافقه الذهبي" ، وهم يشيرون بذلك إلى تلخيص الذهبي لمستدرك الحاكم المطبوع بهامشة .
    وهذا عندنا وهم كبير يتعين التنبيه إليه لا ندري من أين جاء ولا كيف بدأ ، فالذهبي رحمه الله لخص الكتاب ولم يكن من وكده الكلام على أحاديثه تصحيحاً وتضعيفاً ، وإنما تكلم على بعض أغلاط الحاكم الكثيرة الفاحشة في هذا الكتاب فذكرها في أثناء الاختصار على عادته عند اختصار أي كتاب ، تدل على ذلك ثلاثة أمور :
    الأول : قوله في سير أعلام النبلاء : "فهو كتاب مفيد قد اختصرته ويعوز علاً وتحريراً"( ) ، فهذه العبارة من أوضح دليل على أنه اختصر الكتاب ولم يحرر أحكامه ، وإلا فما معنى قوله : "ويعوز عملاً وتحريراً" ؟
    الثاني : أن الذهبي كان ينص في كتبه الأخرى على مخالفه لأحكام الحاكم في "المستدرك"، في حين كان يردد عبارته في "المستدرك" ، أو يسكت ، فمن ذلك مثلاً قوله في معاوية بن صالح من "الميزان" : "وهو ممن احتج به مسلم دون البخاري ، وترى الحاكم يروي في مستدركه أحاديثه ويقول : هذا على شرط البخاري ، فيهم في ذلك يكرره "( ) ، وحين جاءت مثل هذه العبارة عند الحاكم لم يعترض الذهبي عليه( ) ، ومن يوازن بين الأحكام في مختصر المتسدرك –التي هي أحكام الحاكم – وبين أحاكم الذهبي في كتبه الأخرى – يجد اختلافاً كبيراً .
    الثالث : أن قول الذهبي في تلخيصه "على شرط خ" أو "على شرط م" أو "صحيح" إنما هو قول الحاكم ، وليس قوله ، ومن ثم لا يجوز نسبة هذا الأمر إليه . إلخ.....
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الدكتور ماهر الفحل

    تباين منهج المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتعليل
    كان لسلفنا الصالح من أصحاب القرون الثلاثة الأولى فضل كبير في خدمة السنة النبوية ، ومن تلك الخدمة : نقلها إلينا بعد تنقيتها من الدخيل والزائد عليها ؛ إنهم بذلوا أعلى غاية الجهد في خدمة السنة من أجل أن يدفعوا عنها كل دخيل ؛ فأبطلوا جميع مخططات الأعداء الذين كانوا يريدون النيل من السنة وأعملوا أفكارهم وبذلوا جهدهم حتى بينوا أوهام الرواة وأخطاءهم ، وحفظوا لنا السنة في صدورهم ودواوينهم حتى أوصلوها لنا نقية من تحريف كل مبطل .
    ثم إن هذا الرعيل الأول من المتقدمين قد بلغوا في الحفظ والضبط والإتقان والقوة أقصى غاياته وحفظوا ونقبوا عن الطرق أشد التنقيب ؛ حتى بذلوا في خدمة السنة كل غال ونفيس . ومادامت السنة في صدورهم وبين أحضانهم ولعصر الرواية انتماؤهم ووجودهم ولها ثبتت ملاحظتهم ومعايشتهم فقد تأكد وعلى ممر القرون وبالنظر والموازنة والمقارنة أن أحكامهم في هذا الشأن أعلى الأحكام وأصحها ؛ لشدة قربهم ومعاصرتهم للرواية ، وقوة قرائحهم وحفظهم مئات الألوف من الأسانيد حتى أصبح السند الذي يشذ عن أحدهم عزيزاً نادراً .
    ومع هذا الاتصاف بالحفظ التام والنظر الثاقب امتازوا بالورع التام والديانة والمذاكرة بينهم في خدمة هذا الدين عن طريق تنقية السنة من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين .
    إذن فإن أقوال المتقدمين وأحكامهم في هذا الشان ينبغي أن تعتبر أقصى حدود الاعتبار ، وإن إعلال المتقدمين لحديث من الأحاديث لا ينفعه تصحيح المتأخرين .
    بل إن المتأخرين لن يقفوا على مالم يقف عليه المتقدمون ولو وجد شيء على غرار هذا لكان علم المتقدمين به أولاً معلوماً ، لكنهم أعلم بما لابس هذا المتن أو الإسناد من علل ظاهرة أوخفية .
    وإن مما يؤسف له أن كثيراً ممن ينتحل صناعة الحديث ظن أن هذه الصناعة قواعد مطردة كقواعد الرياضيات ؛ فأصبح يعمل القواعد على ظواهر الأسانيد ، ويحكم على الأحاديث على حسب الظاهر ، بل ربما كان قصارى جهد أحدهم الحكم على الإسناد من خلال تقريب الحافظ ابن حجر أو ما أشبه ذلك من غير مراعاة لما يلحق الرواية سنداً ومتناً من ملابسات وعلل وأخطاء واختلافات . وإننا لنلمح هذا كثيراً حينما نجد تصحيحات المتأخرين تخالف إعلال المتقدمين ، وبعد النظر والتحليل وجمع طرق الحديث مع الموازنة والمقارنة وإعادة الفكرة نجد الصواب مع المتقدمين وإنما فات المتأخرين بسبب إهمالهم لجمع الطرق والفحص الشديد وإعمال للقواعد على ظاهرها لكونها عامة مطردة باعتقادهم .
    وإن مما يفوت المتأخرين كثيراً قلة اهتمامهم بما يحف الرواية من اختلاف حال الثقة أو الصدوق أو الضعيف من حال إلى حال ، ومن وقت إلى وقت ، ومن مكان إلى مكان ، وكما إن حديث الثقة ليس كله صحيحاً فكذلك حديث الضعيف ليس كله ضعيفاً بل منه ما يقوى ، ومع أنا قد ابتلينا بكثرة تصحيح الأحاديث على مجرد النظر في الأسانيد أو إعمال قواعد كقواعد الرياضيات كذلك ابتلينا بالمبالغة في التصحيح بالشواهد والمتابعات من غير بحث ونظر من خشية أن تلك المتابعات والشواهد وهم وخطأ ، ربما جاءنا طريق ضعيف من حديث أبي هريرة قويناه ، لسند آخر من حديث ابن عباس ، مع أن السند الثاني وهم ناتج عن السند الأول .
    ومن الأمثلة التي من خلالها يظهر لنا جلياً تباين منهج المتقدمين والمتأخرين حديث عيسى بن يونس ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة مرفوعاً : (( من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ، ومن استقاء فليقض )) .
    أخرجه أحمد 2/498 ، والدارمي (1736) ، والبخاري في التاريخ الكبير 1/91 ، وأبو داود (2380) ، وابن ماجه (1676) ، والترمذي (720) ، والنسائي في الكبرى(3130) ، وابن الجارود في المنتقى (385) ، وابن خزيمة (1960) و(1961) ، والطحاوي في شرح المعاني 2/97 وفي شرح المشكل ، له ( 1680 ) ، وابن حبان ( 3518 ) ، والدارقطني 2/184 ، والحاكم 1/426 ، والبيهقي 4/219 ، والبغوي ( 1755 ) من طرق عن عيسى بن يونس به ، وقد توبع عيسى بن يونس تابعه حفص بن غياث عند ابن ماجه ( 1676 ) ، وابن خزيمة عقب ( 1961 ) ، والحاكم 1/426 ، والبيهقي 4/219.
    هذا الحديث صححه المتأخرون منهم ابن حبان (3518) ، والحاكم في المستدرك 1/427 فقال : (( صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه )) ، والبغوي في شرح السنة (1755) ، وصححه أيضاً العلامة الألباني في تعليقه على ابن خزيمة 3/226 ، والشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند الأحمدي 16/284 ، والدكتور بشار في تعليقه على ابن ماجه 3/172 ، بينما نجد جهابذة المتقدمين أعلوا هذا الحديث بالوقف وعدوه من أوهام هشام بن حسان ، وإن الصواب في الحديث الوقف . قال البخاري : ((لم يصح )) التأريخ الكبير 6/251 ، وقال أيضاً : (( لا أراه محفوظاً )) نقله عنه تلميذه الترمذي عقب (720) ، وقال أبو داود : ((قلت له -يعني الإمام أحمد- حديث هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة ؟ قال : ليس من هذا شيء )) سؤالات أبي داود : 292 ، وقال البيهقي : ((وبعض الحفاظ لا يراه محفوظاً )) السنن الكبرى 4/219 ، ونقل الزيلعي عن مسند إسحاق بن راهويه : (( قال عيسى بن يونس زعم أهل البصرة أن هشاماً وهم في هذا
    الحديث )) نصب الراية 2/449 ، وقال الدارمي : (( زعم أهل البصرة أن هشاماً أوهم فيه ، فموضع الخلاف ههنا )) سنن الدرامي 1/25 ، ووجه توهيم هشام بن حسان : أن الحديث محفوظ موقوفاً ، ورفعه وهم توهم فيه هشام . قال البخاري : (( ولم يصح وإنما يروى هذا عن عبد الله بن سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رفعه ، وخالفه يحبى بن صالح ، قال : حدثنا يحيى ، عن عمر بن حكيم بن ثوبان سمع أبا هريرة ، قال : (( إذا قاء أحدكم فلا يفطر فإنما يخرج ولايولج )) التاريخ الكبير 1/251 ، وهذا نظر عميق من البخاري في إعلال الرواية المرفوعة بالرواية الموقوفة ، وإن سبب الوهم الذي دخل على هشام إنما كان بسبب رواية عبد الله بن سعيد المتروك ، وقد وافق البخاري على هذا الإعلال الإمام النسائي ، فقد قال : (( وقفه عطاء )) ، ثم ذكر الرواية الموقوفة . السنن الكبرى عقب (3130) ، وقد خالف الشيخ ناصر الدين الألباني ذلك فصحح الحديث في تعليقه على صحيح ابن خزيمة 3/229 معتمداً على متابعة حفص بن غياث - وهي عند ابن ماجه (1676) ، والحاكم 1/426 ، والبيهقي 4/429 - لعيسى بن يونس قال : (( وإنما قال البخاري وغيره :بأنه غير محفوظ لظنهم أنه تفرد به عيسى بن يونس ، عن هشام )) إرواء الغليل 3/53 .
    قلت : وهذا بعيد جداً ؛ لأنه يستبعد عن الأئمة الحفاظ السابقين الذين حفظوا مئات ألوف من الأسانيد أنهم لم يطلعوا على هذه المتابعة ، فأصدروا هذا الحكم ، بل إن العلة عندهم هي وهم هشام لا تفرد عيسى بن يونس كما صرح به البخاري في تاريخه ؛ فإنه قال : (( إن حديث هشام عندهم وهم لا يلتفت إليه )) التاريخ الكبير 1/19 ، وقد تقدم قول عيسى بن يونس في توهيم هشام ونقله عن أهل البصرة ذلك ، وإقرار الدارمي ذلك ، ومما يدل على أن المتابعة التي ذكرها الشيخ الألباني معروفة لديهم أن أبا داود الذي سأل الإمام أحمد بن حنبل عن حديث هشام قد أشار إلى متابعة حفص لعيسى ، إذ قال : (( ورواه أيضاً حفص بن غياث ، عن هشام مثله )) السنن عقب
    ( 2380 ).
    إذن فإعلال جهابذة المحدثين ومنهم : أحمد والبخاري والدارمي والنسائي -وَهُمْ مَنْ هُمْ في الحفظ والإتقان -لا ينفعه ولا يضره تصحيح المتأخرين .
    ومن الأمثلة الأخرى التي من خلالها يظهر لنا جليا تباين منهج المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتعليل حديث رواه الترمذي الجامع الكبير (2651) ، قال : حدثنا قتيبة ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون ، فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيراً )) ، قال : فكان أبو سعيد إذا رآنا ، قال : مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    مدار هذا الحديث على أبي هارون فقد رواه عنه معمر في جامعه (20466) ، ومن طريقه البيهقي في المدخل (622) ، ومحمد بن مهزم عند الطيالسي في مسنده (2191) ، وسفيان عند ابن ماجه في سننه (2191) ، والترمذي في الجامع الكبير (2650) ، والصيداوي في معجم شيوخه : 358 ، والحكم بن عبدة عند ابن ماجه في سننه (247) ، وعلي بن عاصم عند الرامهرمزي في المحدّث الفاصل (22) ، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (33) ، ومحمد بن ذكوان عند البيهقي في شعب الإيمان (1741) وفي المدخل ، له (624) ، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (35) ، وحسن بن صالح عند الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (807) ، وقد تفرد به أبو هارون ، وأشار إلى ذلك الترمذي إذ قال : (( هذا حديث لا نعرفه إلاَّ من حديث أبي هارون ، عن أبي سعيد )) الجامع الكبير عقب (2651) ، وأبو هارون هو عمارة بن جوين متروك الحديث ومنهم من كذبه انظر ميزان الاعتدال 3/173 ، والتقريب (4840) ، وعلى هذا فالحديث ضعيف .
    إلاَّ أن بعض المصادر المتأخرة مثل المحدث الفاصل للرامهرمزي (21) ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم في 2/12 ، والمستدرك للحاكم 1/18 ، والمدخل للبيهقي (621) أخرجوه من طريق سعيد بن سليمان ، بالإسناد أعلاه .
    وأخرجه الرامهرمزي في المحدّث الفاصل (20) من طريق بشر بن معاذ العقدي قال : حدثنا أبو عبد الله ( شيخ ينـزل وراء منـزل حماد بن زيد ) ، قال : حدثنا الجريري .
    وأوردت طريقاً آخر لهذا الحديث عن سعيد بن سليمان الواسطي ، عن عباد بن وهو سعيد بن إياس - ، عن أبي نضرة العبدي ، عن أبيالعوام ، عن الجريري سعيد به ، واستدل بعض أئمة الحديث المتأخرين بهذا الطريق لتصحيح هذا الحديث إذ استشهد به الرامهرمزي في المحدث
    الفاصل ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ، وصححه الحاكم ، وقال : (( هذا حديث صحيح ثابت لاتفاق الشيخين على الاحتجاج بسعيد بن سلمان ، وعباد بن العوام ، والجريري ثم احتجاج مسلم بحديث أبي نضرة فقد عددت له في المسند الصحيح أحد عشر أصلاً للجريري ، ولم يخرجا هذا الحديث الذي هو أول حديث في فضل طلاب الحديث ، ولايعلم له علة فلهذا الحديث طرق يجمعها أهل الحديث عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد ، وأبو هارون ممن سكتوا عنه )) المستدرك 1/88 ، وأشار البيهقي إلى أن رواية الجريري ، عن أبي نضرة عاضدة لرواية أبي هارون إذ قال :
    (( هكذا رواه جماعة من الأئمة ، عن أبي هارون العبدي . وأبو هارون ، وإن كان ضعيفاً ، فرواية أبي نضرة له شاهدة )) المدخل إلى السنن الكبرى : 369 فقرة ( 623 ) ، وحسنه العلائي فقال :
    (( إسناده لا بأس به ؛ لأن سعيد بن سليمان هذا هو النشيطي فيه لين يحتمل ، حدّث عنه أبو زرعة ، وأبو حاتم الرازي وغيرهما )) ، وصححه أيضاً العلامة الألباني حيث أورده في الصحيحة حديث رقم (280) ، وأسهب الكلام في تصحيحه مستنداً في ذلك إلى ما ذهب إليه الحاكم ، ورد على العلائي في أن سعيد بن سليمان هو الواسطي الثقة وليس النشيطي . وأورد بعد ذلك متابعات وشواهد أخرى للحديث .
    إلاَّ أن الإمام أحمد كانت له نظرة أخرى لهذا السند دلت على دقة ملاحظة المتقدمين من أئمة الحديث وبعد نظرهم ؛ إذ قال حينما سأله تلميذه مهنأ عن هذا الإسناد : (( ما خلق الله من ذا
    شيئاً ، هذا حديث أبي هارون ، عن أبي سعيد )) ، وعلق على ذلك العلامة الألباني قائلاً :
    (( وجواب أحمد هذا يحتمل أحد أمرين : إما أن يكون سعيد عنده هو الواسطي ، وحينئذ فتوهيمه في إسناده إياه مما لا وجه له في نظري لثقته كما سبق ، وإما أن يكون عني أنه النشيطي الضعيف ، وهذا مما لا وجه له بعد ثبوت أنه الواسطي )) .
    والواضح أن علة الحديث ليست بكون سعيد بن سليمان هو الواسطي أو النشيطي ، بل إن علته التي تنبه لها الإمام أحمد والإمام الترمذي هي اختلاط الجريري حيث إنه اختلط قبل وفاته بثلاث سنين ومن سمع منه قبل الاختلاط هم ( شعبة ، وسفيان الثوري ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وإسماعيل بن علية ، ومعمر بن راشد ، وعبد الوارث بن سعيد ، ويزيد بن زريع ، ووهيب بن
    خالد ، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، وبشر بن المفضل ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى ، وسفيان بن عيينة ) ، ومن هذا يتضح أن عباد بن العوام سمع من الجريري بعد الاختلاط ، وأن الجريري أخطأ في ذكر أبي نضرة بدلاً من أبي هارون ، ومما يدل على اختلاط الجريري في هذا الحديث وخطئه أنه خالف من هم أكثر منه عدداً وحفظاً فكما سبق ذكره أن ( محمد بن مهزم ، ومعمر ، وسفيان الثوري ، والحكم بن عبدة ، وعلي بن عاصم ، ومحمد بن ذكوان ، وحسن بن صالح ) جميعهم رووا الحديث عن أبي هارون ، عن أبي سعيد ، ولم يذكر أحداً منهم أبا نضرة .
    أما المتابعات التي ساقها العلامة الألباني فإنها ضعيفة ، وإليك ما وقفنا عليهِ من المتابعات :
    1. روي من طريق سفيان الثوري ، عن أبي هريرة ، عن أبي سعيد ، به . عندَ أبي نعيم في
    الحلية 9/253 ، وهذا إسناد ضعيف للانقطاع في سنده بين سفيان الثوري وأبي هريرة .
    2. روي من طريق الليث بن أبي سليم ، عن شهر حوشب ، عن أبي سعيد ، به عندَ الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (357) ، والذهبي سير أعلام النبلاء 15/362 ، وهذا إسناد ضعيف أيضاً فيهِ الليث بن أبي سليم ضعيف فيهِ كلام ليس باليسير .
    3. روي من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قالَ : حدثنا ابن الغسيل ، عن أبي خالد مولى ابن الصباح الأسدي ، عن أبي سعيد الخدري ، به . عندَ الرامهرمزي المحدّث الفاصل (23 ) ، وهذا أيضاً ضعيف فيهِ يحيى بن عبد الحميد الحماني أتهم بسرقة الحديث التقريب ( 7591 ) ، ولعل هذا مما سرقه وجنته يداه .
    بعد عرض هذا الحديث يبدو واضحاً الفرق بين إعلال المتقدمين لهذا الحديث وبين تسرع المتأخرين في تصحيحه ، لا سيما وقد اتفق على تضعيفه عالمان جليلان من مدرستين مختلفتين :
    أولاهما : الإمام المبجل العراقي أحمد بن حنبل ، والإمام الجهبذ محمد بن عيسى الترمذي تلميذ البخاري وخريجه ، وهذا الجزم منهما على أن الحديث حديث أبي هارون هوَ حكم ناتج عن استقراء تام للمرويات ولم يخف عليهم طريق عباد بن العوام ، عن الجريري ، وأنه إسناد خطأ مركب لذا كانَ جواب الإمام المبجل أحمد بن حنبل : (( ما خلق الله من ذا شيئاً )) . نص صريح في الحكم على خطأ الحديث .
    وهذا وأمثاله يقوي لنا الجزم بأن كثيراً من الأسانيد الغريبة التي لم تدون في المصنفات القديمة لا قيمة لها ، وإلاَّ فكيف نفسر إهمالهم لها مع معرفتهم بها ، بل وكيف نفسر حفظهم لمئات الألوف من الأسانيد ثم طرحها وعدم تصنيفها والاكتفاء بتصنيف عشر معشارها .
    وهناك حديث وقفت به على علة ، وهو أني نظرت إلى إعلال ابن المديني واستوقفني حكمه عليه بالنكارة ، فأردت أن أفسر النكارة ، وأعرف سبب هذا الإعلال مع أن ظاهر السند القوة ، وهو حديث رواه ابن أبي شيبة (1723) ، وأحمد 4/194، والبزار (3762) ، والطحاوي في شرح المعاني 1/73، والطبراني في الكبير(5221) و(5222) ، وابن عدي في الكامل 7/270 ، من طريق محمد بن إسحاق ، قال : حدثني الزهري ، عن عروة ، عن زيد بن خالد الجهني ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( مَنْ مسَّ فَرجَهُ فليتوضأ )) .
    وظاهر إسناد هذا الحديث الصحة ومحمد بن إسحاق صرح بالسماع فانتفت شبهة تدليسه ، وقد حسّن هذا الإسناد الشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على مسند الإمام أحمد 36/19(21689) ط الرسالة إذ قال:(( إسناده حسن من أجل محمد بن إسحاق،وباقي رجاله ثقات رجال
    الشيخين..)) .
    ولكن أئمة علم الحديث من المتقدمين قد حكموا على هذا الإسناد بالوهم والنكارة ، إذ قال الإمام زهير بن حرب : (( هذا عندي وهم ، إنما رواه عروة ، عن سبرة )) الكامل 7/270 وحكم عليه الإمام علي بن المديني بالنكارة المعرفة والتأريخ 2/16 ، وتأريخ بغداد 1/229 .
    وعلى هذا وافقهم من المتأخرين ابن عبد الهادي فقال في التنقيح 1/458 : (( حديث زيد بن خالد غلط فيه ابن إسحاق ، وصوابه عن بسرة بدل زيد )) .
    وبعد المتابعة والبحث وجدنا أن تضعيف الإمامين الجليلين لهذا السند كان مبنياً على أسس علمية رصينة إن دلت على شيء فإنها تدل على قوة ملاحظة أئمة الحديث من المتقدمين وبعد نظرهم وإحاطتهم بطرق الحديث كافة ، مع مراعاة حالة الرواة ومدى ضبطهم للأحاديث ؛ إذ إن الإمام الجهبذ علي بن المديني عدَّ هذا الإسناد من منكرات محمد بن إسحاق واتضح لنا أن محمد بن إسحاق قد خالف من هم أحفظ منه لرواية الزهري ؛ إذ إن هذا الحديث روي من طريق شعيب بن أبي حمزة عند أحمد 6/407 ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3222) ، والنسائي 1/100-101 ، والطبراني 24/ (493) ، والبيهقي في السنن 1/129 وفي الخلافيات ، له (504) ، وابن عبد البر في التمهيد 17/188، ويونس بن يزيد الأيلي عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3227) ، والطبراني24/(494) ، وابن أبي ذئب عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3223) ، والطبراني 24/ (495) ، وعبد الرحمان بن خالد بن مسافر عند الطبراني 24/ (492 )، وعقيل بن خالد عند البيهقي في السنن 1/132 وفي الخلافيات ، له (505) ، هؤلاء جميعهم رووه عن الزهري ، عن
    عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري ، أنه سمع عروة بن الزبير : (( ذكر مروان في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مسّ الذكر إذا أفضى إليه الرجل بيده فأنكرت ذلك عليه، فقلت : لا وضوء على من مسه ، فقال مروان : أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما يتوضأ منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( وَيتوضأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ )) .. )) .
    وهذا هو الصواب ؛ لأن محمد بن إسحاق قد خالف في هذا الحديث من هم أوثق منه في الزهري ومن هؤلاء شعيب بن أبي حمزة الذي قال عنه ابن معين : (( شعيب أثبت الناس في
    الزهري ..)) تهذيب الكمال 3/ 396 ، إضافةً إلى المتابعات الأخرى لشعيب ، وقال البيهقي عن هذا الطريق عقب رواية عقيل بن خالد ، عن الزهري : (( هذا هو الصحيح من حديث
    الزهري )) .
    أما طريق ابن إسحاق فهو وهم منه ولم يتابعه عليه أحد إلاّ متابعة واهية عند ابن عدي في الكامل 1/318 ، من طريق أحمد بن هارون المصيصي ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وزيد بن خالد ، به ، وهذا إسناد معلول لسببين :
    الأول : فيه أحمد بن هارون ، قال ابن عدي عنه : (( يروي مناكير عن قوم ثقات لا يتابع عليه أحد )) ، وقال : (( وهذا الحديث يرويه محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن زيد بن خالد . ومن حديث ابن جريج ، عن الزهري غير محفوظ )) ، وقال أيضاً بعد أن سرد حديثاً آخر له : (( ولم أجد لأحمد هذا أشنع من هذين الحديثين )) الكامل 1/318-319 .
    والثاني : تدليس ابن جريج .
    ومن هذا يتضح أن الشيخ شعيباً –حفظه الله ومتعنا بعلمه- قد تابع ظاهر سند الحديث ، وهذا ما درج عليه المعاصرون من الناقدين دون الدخول إلى تفريعات وطرق الأحاديث المتشعبة وهذا ما يؤدي بهم –وكما هو الحال في هذا المثال- إلى الوقوع في وهم في الحكم على الأحاديث . وهذا ما تنبه له أئمة الحديث الأفاضل من المتقدمين إذ إنهم لا يحكمون على الحديث لأول وهلة ، لكن بعد متابعة طرقها ومعرفة حال رواتها ومتى تكون رواياتهم دقيقة ؟ ومتى تكون مخالفة للصواب ؟ والفضل في هذا يعود إلى الكم الهائل والخزين الوافر من حفظ الأسانيد والمتون الذي كانوا يتمتعون به فهم عاصروا الرواية وكانت السنة محفوظة لديهم بصدورهم وسطورهم وعاينوا أحوال الرواة ومراتبهم ، وما تحيط الأحاديث من أمور وعلل ، وأحوال فرحمهم الله وجزاهم عن الإسلام والمسلمين ألف
    خير . وإن من واجب المتأخرين الآن أن يجدّوا ويجتهدوا في شرح إعلالات جهابذة المتقدمين ويحاولوا الوصول إلى شرح مرادهم وحلِّ عباراتهم ومعرفة سبب أحكامهم .
    وإن من أسباب التباين بين منهج المتقدمين والمتأخرين ، أن المتأخرين في نقدهم الحديث لا يحيطون بجميع أحوال الراوي ؛ إذ إن الرواة ثقاتاً كانوا أو غير ذَلِكَ لهم حالات مخصوصة في
    شيوخهم ، فنجد الثقة في بعض الأحيان يكون ضعيفاً في شيخ معين أو في روايته عن أهل بلد معين وما أشبه ذَلِكَ ، ونجد الضعيف في بعض الأحيان يكون ثقة في بعض شيوخه ؛ لشدة ملازمته لهم أو مزيد عنايته بضبط أحاديثهم ، وأُمثّلُ لهذا التنظير بما رواه ابن سعد في الطبقات 1/456 ، والترمذي في الشمائل (117) ، والعقيلي في الضعفاء 3/21 ، وابن حبان (6397) ، وأبو الشيخ في : 117 ، والخطيب في تأريخ بغداد 11/293 ، والبغوي في شرحأخلاق النبي السنة (3109)
    و(3110) ، من طريق عبد العزيز بن محمد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه )) .عن ابن عمر قالَ : (( كانَ النبي
    هذا الحديث قوّى إسناده العلامة الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان
    (6397) ، وحسّن إسناده في تعليقه على شرح السنة للبغوي (3109) و(3110) ، وصححه العلامة الألباني في الصحيحة ( 717 ) ، بكثرة طرقه وشواهده ، وعنوا بضعف من رواه عن الدراوردي ، فذكروا المتابعات ، وبعد البحث والنظر والتفتيش تبين أن العلامتين الأرناؤوط والألباني لم يتنبها إلى علته ، فهوَ معلول بعبد العزيز بن محمد الدراوردي الثقة ، وفيه من هذا الوجه علتان :
    الأولى : إن الإمام أحمد أشار إلى ضعفه في روايته عن عبيد الله بن عمر العمري خاصة ، فقالَ فيما نقله عنه أبو طالب : (( وربما قلب حديث عبد الله بن عمر -وهو ضعيف- يرويها عن عبيد الله ابن عمر )) الجرح والتعديل 5/ الترجمة ( 1833 ) ، ولذلك قالَ النسائي : (( حديثه عن عبيد الله بن عمر منكر )) تهذيب الكمال 18/194 ، وقول النسائي هذا نقله الحافظ ابن حجر في التقريب .
    الثانية : إن الصحيح في هذا الحديث أنه موقوف ، قاله الإمام أحمد فيما نقله العقيلي ، قالَ : (( حدثني الخضر بن داود ، قالَ : حدثنا أحمد بن محمد ، قالَ : قيل لأبي عبد الله : الدراوردي يروي عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كانَ يرخي عمامته من خلفه . فتبسم ، وأنكر ، وقال : إنما هوَ هذا موقوف )) الضعفاء الكبير 3/21 ، ونقله الذهبي في السير8/367 ، والرواية الموقوفة : أخرجها ابن سعد الطبقات 4/174 ، عن وكيع ، عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه اعتم .
    ورواه ابن سعد الطبقات 4/175 ، عن غير العمري موقوفاً كذَلِكَ .
    إذن لزمنا أن نتبع المنهج العلمي الذي سار عليهِ جهابذة هذا الفن من أهل الحديث من العلماء الأوائل أصحاب القرون الأولى الذين حفظوا لنا تراث سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، إذ إنهم حفظوا لنا السنة برمتها في صدورهم ودواوينهم .
    ثم إن المتقدمين قد رسموا لمن جاء بعدهم طريقاً واضحاً بيناً سليما يمتاز بالدقة والنظر التام . فعلى المتأخرين أن يعتبروا أقوال المتقدمين أقصى حدود الاعتبار ليحصلوا على المنهج العلمي والمعيار البحثي الأصل ، وذلك من طريقة سرد المتقدمين للأحكام ونقدهم لطرق الحديث ومتونه .
    وإن مما يؤكد لنا صحة المنهج البحثي للمتقدمين ، أنهم سبروا الطرق ، وجمعوا أحاديث الرجال ، وحكموا على المتون والرجال بعد معاودة النظر والمذاكرة والبحث والموازنة والمقارنة والنظر الثاقب بعين الإنصاف . ثم بعد كل هذا الجهد ، عرضوا هذه الأحكام وتلكم النتائج على ما حفظوه من ثروة هائلة من تراث هذه الأمة . وهذه الثروة تتمثل بحفظ الجم الغفير من المتون والأسانيد المتكررة التي بلغت مئات ألوف من الأسانيد وعشرات الألوف من المتون حتى انتهوا إلى أحكامهم الصحيحة التي توصلوا إليها بعد إفراغ جهدهم فكانت أحكامهم صادرة نتيجة دراسات وأبحاث قل نظيرها مع دقة الميزان النقدي الذي تمتعوا به ؛ لكثرة حفظهم للأحاديث واعتيادهم عليها واختلاطها بدمهم ولحمهم ، بل إن ما يحكمون عليهِ من أحاديث لم يكونوا يعرضونه على ما حفظوه من أسانيد فحسب ، بل يعرضونها كذلك على ما رزقهم الله به من معرفة واسعة في الفقه ؛ إذ لم يكونوا محدّثين فحسب بل كانوا فقهاء محدّثين ، والفقه عندهم ضروري ؛ إذ كيف يحكمون على الحديث وعدم المخالفة القادحة شرط ، والمخالفة ليست قاصرة على مخالفة الحديث لحديث آخر بل هوَ أوسع من ذَلِكَ ، فمن ذَلِكَ المخالفة لآية أو إجماع أو سنة ثابتة أو قاعدة متفق عليها ، وما أشبه ذَلِكَ من المخالفات .
    وإن من أوجب الواجب على المتأخرين أن يحاولوا فهم كلام المتقدمين بالتعليل ، ومع هذا ليس كل أحد منا أو أي باحث يستطيع أن يعلل أحكامهم ويفهم سبب ما ذهبوا إليه ، إلاَّ من رزقه الله فهما واسعاً واطلاعاً كبيراً ، واعتاد على معاودة النظر في كلام الأئمة المجتهدين من أهل الحديث ثم أمعن النظر في كتب العلل والرجال والتخريج مع ممارسته النقد والتعليل .
    ولما كانَ الأمر كذلك يجب تقديم منهج المتقدمين على المتأخرين . ويجب اعتبار أقوال الأئمة المتقدمين أيما اعتبار في تعليل الأحاديث أو تصحيحها ونقد متونها . ويجب أن يعتبر ذَلِكَ أقصى غاية الاعتبار مع التحرز من مخالفتهم في أحكامهم لا سيما عندَ اجتماع كبرائهم على أمر في التصحيح والتضعيف والتجريح . وأقوال المتقدمين ثمينة غالية لا ينبغي التفريط بها وإهمالها بحجة الاكتفاء باتباع القواعد التي في كتب المصطلح .
    وربما نُسأل إذا كانَ الأمر كذلك فمتى يسعنا مخالفة المتقدمين ؟
    وجوابه :أننا يحق لنا ويسعنا أن نخالف بعض المتقدمين إذا اختلفوا وتباينت وجهات نظرهم ، فعندها ننظر إلى الأدلة والأسباب والقرائن والمرجحات ونعمل الرأي والاجتهاد نحو طريقتهم بجنس مرجحاتهم وقرائنهم وقواعدهم التي ساروا عليها .
    وما ذكرناه نقوله مع إيماننا العميق بأن التصحيح والتضعيف من الأمور الاجتهادية التي تباينت فيها القدرات العلمية والمكانة التي يتمثل بها الناقد مع المقدرات الذهنية وظهور المرجحات والقرائن لكل واحد .
    ومن الأمور التي جعلت التباين واضحاً بين منهج المتقدمين والمتأخرين ، وكون المتأخرين على أمور خالفوا فيها المتقدمين ، ومن ذَلِكَ : قبول زيادة الثقة مطلقاً ؛ فقد شاع وانتشر واشتهر عندَ المتأخرين قبول زيادة الثقة مطلقاً ، وهذا المنهج اشتهر منذ القرن الخامس الهجري .
    قالَ الخطيب في الكفاية( 424-425 ه* ، 597 ت ) : (( قالَ الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث : زيادة الثقة مقبولة إذا انفرد بها ولم يفرقوا بين زيادة يتعلق بها حكم شرعي أو لا يتعلق بها حكم وبين زيادة توجب نقصاناً من أحكام تثبت بخبر ليست فيهِ تلك الزيادة ، وبين زيادة توجب تغيير الحكم الثابت أو زيادة لا توجب ذَلِكَ وسواء كانت الزيادة في خبر رواه راويه مرة ناقصاً ثم رواه بعد وفيه تلك الزيادة ، أو كانت الزيادة قد رواها غيره ولم يروها هوَ )) .
    وقد قلده النووي تقليدا تاماً تنظيراً وتطبيقاً ، قالَ السخاوي : وجرى عليهِ النووي في مصنفاته . فتح المغيث 1/234. بل قالَ النووي : (( زيادات الثقة مقبولة مطلقاً عندَ الجماهير من أهل الحديث والفقه والأصول )) شرح صحيح مسلم 1/25.
    وهذه النقول الجازمة لم يقل بها الجماهير من المتقدمين مع كل هذا فقد اغتر بنقل الخطيب والنووي عدد غير قليل من العلماء ، بل أصبح قبول زيادة الثقة منهج أغلب المتأخرين .
    والأخذ بهذه القاعدة الشاذة المنكرة بهذا التوسع غير صحيح ، بل هوَ مخالف ومباين لمنهج المتقدمين ، ومن خلال بحثي العميق في كتب العلل والجرح والتعديل والتخريج والنظر في كلام المتقدمين ، وجدت أن مدار ذَلِكَ على قوة القرائن والمرجحات ، ومن تلك القرائن والمرجحات :
    اعتبار الأوثق والأحفظ والأكثر والأشد ملازمة والأطول صحبة والأشد عناية بحديث ما وما إلى غير ذَلِكَ من المرجحات والقرائن .
    ومعرفة المتقدمين للزيادات واسعة ، ومعرفة صحيحها من سقيمها أمور ميسور عليهم ؛ إذ حفظوا مئات من الألوف من طرق الأحاديث وطافوا في شتى أنحاء المعمورة من أجل التنقيب والتنقير عن الحديث النبوي الشريف ، وفتشوا إيما تفتيشٍ عن أحوال الرواة والزيادات فكانت السنة النبوية في صدور أولئك الحفاظ من المتقدمين وتدوين السنة وأحوال الرواة ، وقد واكبوا الرواية وتدوين السنة وأحوال الرواة وقد دونت الكتب الحديثية بشتى أنواعها في كتب الجوامع والسنن والمصنفات والمسانيد والمعاجم والأجزاء والفوائد ؛ لذا لم يفت المتقدمين شيء من مورث سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ بل إن المتقدمين لم يكتفوا بسماع الحديث مرة أو مرتين بل كانوا يرحلون من أجل العلو والتأكد من الحفظ وكانوا يتذاكرون المتون والأسانيد والعلل والزيادات وأوهام الرواة .
    ومن الأمور التي جعلت التباين كبيراً بين منهج المتقدمين والمتأخرين أن المتأخرين قد بالغوا في تصحيح الأحاديث وتقويتها بالشواهد والمتابعات ، لكن كانَ علينا أن ندرك في الوقت نفسه أن أئمة هذا الفن من المصنفين في علم الحديث قد أهملوا كثيراً من الطرق الواهية والتالفة والمعلولة والمركبة التي كانوا يحفظونها لا سيما عندَ التصنيف ، وإلا فكيف نفسر تركهم لمئات ألوف من الأحاديث التي كانوا يحفظونها من مثل الإمام أحمد الذي كانَ يحفظ ألف ألف إسناد ولم يستوعب كتابه ثلاثين ألف إسناد ، ومن مثل الإمام البخاري الذي كانَ يحفظ ستمئة ألف سند ولم يتجاوز كتابه تسعة آلاف سند ، وعلى غرارهما الإمام مسلم وأبو داود وأبو حاتم وأضرابهم من المحدثين .
    إذن كثير من الأسانيد التي اغتر المتأخرون بتقوية بعضها ببعض إنما هي أسانيد لا قيمة لها ولا تصلح للمتابعة والتقوية ، وهذا المنهج يظهر جلياً في تخريجات العلامتين الألباني وشعيب مع أن جهدهما مشكور في خدمة السنة ، وعلى هذا يتعّين على الناقد أن ينظر بعين فاحصة بصيرة إلى سبب ترك المحدثين الأوائل لهذه الكمية من الأحاديث ، وأن ينظروا إلى كل حديث أو طريق لم يوجد إلا في المصنفات المتأخرة وليس لها أصل في المؤلفات السابقة ، فعلى الباحث أن يمعن النظر في دراسة هذه الأحاديث للوقوف على السبب الذي جعله لا يوجد إلاّ في هذه المصنفات المتأخرة ، وممّا يقوي هذا أن حديث عبّاد بن العوام ، عن الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد في الوصية لطلبة العلم كانَ موجوداً في الأعصر المتقدمة يؤيده سؤال مُهنأ الإمام أحمد عنه وإجابته بقولِهِ : (( ما خلق الله من ذا شيئاً )) ، ومع هذا فإن أحداً من المصنفين المتقدمين كأصحاب المسانيد والجوامع والمصنفات والسنن لم يخرجوه في كتبهم فبقي هذا السند التالف متروكاً مختفياً حتى ظهر القرن الرابع ، وإن مما يؤسف عليهِ أن المتأخرين لتقويتهم لبعض الأحاديث في المتابعات والشواهد ، حينما ينقلون حديثاً من كتب التراجم لا يتنبهون إلى أن من وضعها في هذه الكتب ، إنما مرادهم في الأعم الأغلب حرصهم أن تقع لهم هذه الأحاديث ، من طرق من ترجموا لهُ بغض النظر عن قوة هذه الأحاديث وعما تمثله من قيمة حديثية ، فيغفل المتأخر الذي يصحح بالمتابعات والشواهد ، عن هذه الطريقة وهذا المقصود ، وربما تكون هذه الأسانيد ضعيفة أو واهية ، ومراد المخرّج لها سوق تلك الأحاديث في ترجمة المترجم لهُ ، فعلى هذا يتعين على الباحث الناقد ، أن يعلم أن إيراد الحديث بكتب التراجم عندَ الذين كتبوا في التراجم لهُ غايات وأسباب عديدة ، ومن تلك الأسباب ، أنها تهدف في الأعم الأغلب إلى تقويم هذا الراوي وبيان حاله من قوة أو ضعف ، وأدل دليل على هذا أنهم لم يضعوا هذه الأحاديث في كثير من الأحيان في الكتب الخاصه بالمتون ، وأحسن مثال على ذَلِكَ صنيع الإمام البخاري ؛ إذ ألف كتابه الصحيح ليكون خاصاً بالأحاديث الصحيحة ، وألف كتابه التاريخ ليكون حاكماً على الرجال ، وأحوالهم ولم يكن هدفه في التأريخ كهدفه في الصحيح ، وعلى طريقة الإمام البخاري ، سار تلميذه وخريجه مسلم بن الحجاج فألف كتابه الصحيح ، وخصّهُ بالأحاديث الصحيحة ، وألف كتابه التمييز وخصّه لنقد الأحاديث المعلولة ، أما أبو داود فقد أراد أن يورد في كتابه السنن
    الصحيح ، وما يشبهه عنده مما يمكن أن يستدل به الفقيهُ في استنباط الأحكام الشرعية ، مع أنه يبين علل بعض الأحاديث ، أما الترمذي في كتابه الجامع ، فأراد نقد أدلة الفقهاء ، وبيان صحيحها من سقيمها .
    أما كتاب الضعفاء للعقيلي ، والكامل لابن عدي فقد اشتملت على أحاديث ما أخطا فيهِ الراوي . إذا كان صنيع المتأخرين في اعتماد كثير من أحاديث كتب التراجم والمشيخات والفوائد ، التي فيها تصريح المدلسين بالسماع ، أو ما أشبه ذَلِكَ من رفع الموقوف ، أو وصل المرسل ، أو اتصال المنقطع هوَ أمر خطير ، يؤدي إلى مخالفة المتقدمين كالإمام أحمد ، والبخاري ، وأبي حاتم ،
    والنسائي ، والدارقطني ، وغيرهم من حذاق هذا الفن .
    إذن فحفظ المتقدمين لمئات ألوف من الأسانيد ثم تركها ، وعدم تصنيفها يدلُ على أنها من تركيب الكذابين والهلكى والضعفاء والمتروكين .
    وما كانَ ذَلِكَ من صنع المتقدمين إلا من أجل الغربلة والفحص والتنقية للسنة ، لذا يقول يحيى ابن معين : (( كتبنا عن الكذابين ، وسجرنا به التنور ، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً )) .
    فعلى هذا يتضح لنا أن المتقدمين لم يتركوا حديثاً قوياً إلا ودونوه في دواوينهم ، وأدخلوه في توالفيهم .
    وهذا أحسن ما نفسر به كلام محمد بن يعقوب الأخرم : (( قلما يفوت البخاري ، ومسلماً مما يثبت من الحديث )) .
    ومما يختلف فيهِ الحال بين منهج المتقدمين والمتأخرين ما أحدث موخراً من قولهم : صحيح على شرط الشيخين ، أو على شرط الشيخين ، أو على شرط البخاري ، أو على شرط مسلم ، وهذه البلية أول من أظهرها الحاكم في مستدركه ثم انتشرت قليلاً بين المتأخرين حتى شاعت عندَ بعض عصريينا . وعند استخدامهم لهذه الطريقة ، أو المصطلح يشار به إلى أن شرط الشيخين معروف لكل من الناس . وهو أمر خلاف الواقع ؛ لأن من حاول هذا لم يحاوله إلا عن طريق الاستقراء كما فعل بعض من كتب في شروط الأئمة الستة أو الخمسة ، وإن الحق الذي نعتقدهُ ، ولا يتخللهُ شك أنا لا نستطيع الجزم بالطريقة التي تم إنتقاء الشيخين البخاري ومسلم لها ، فنحن لا نعلم كيف انتقى البخاري من حديث سفيان ، أو الزهري ، أو يزيد بن زريع ، ولا ندري كيف انتقى من أحاديث سالم أو غيره من الثقات الأثبات ، ثم إنا نجزم بأنهما لم يريدا استيعاب جميع مارواه الثقة ، بل ليس كل مارواه الثقة صحيحاً .
    إذن فصنيع الشيخين في أحاديث الثقات صنيع انتقائي وليس شمولياً ، ونحن لا نعرف الأسس والموازين التي من خلالها انتقى الشيخان أحاديث هؤلاء الثقات .
    وما دام الأمر كذلك : فإن قصورنا يكون أكثر وعجزنا يكون أكبر ، أما طريقة انتقاء الشيخين من حديث من في حفظهم شيء مثال : إسماعيل بن أبي أويس ، والحسن بن ذكوان ، وخالد بن مخلد القطواني .
    قالَ الحافظ ابن حجر : (( روينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج لهُ أصوله ، وأذن له أن ينتقي منها وأن يعلم لهُ ما يحدث به ليحدث به ويعرض عما سواه ، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه من صحيح حديثة لأنه كتب من أصوله . ( هدي الساري : 391 ).
    وقال الزيلعي في نصب الراية 1/341 : (( خرج في الصحيح لخلق ممن تكلم فيهم ، ومنهم جعفر بن سليمان الصبغي ، والحارث بن عبد الإيادي ، وأيمن بن نايل الحبسثي ، ، وخالد مخلد القطواني وسويد بن سعيد الحدثاني ، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي ، وغيرهم ، ولكن صاحبا الصحيح _ رحمهما الله _ إذا أخرجا لمن يتكلم فيهِ فانهم ينتقون من حديثه )) .
    وقال ابن القيم في زاد المعاد 1/364 مجيباً عما عيب على مسلم إخراج حديث من تكلم فيهِ : (( ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه ؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيهِ )) .
    وإن من الأضرار والمفاسد التي تنجم من استخدام مصطلح : على شرط الشيخين ، أو على شرط أحدهما ، هوَ تصحيح جميع الأحاديث المروية عن الرجال الذين أخرج لهم مجتمعين أو منفردين وهو أمر خطير ، إذ ليس جمع الأحاديث التي رجالها رجال الشيخين ترتقي إلى هذه المرتبة بل ربما كانَ منها ما هوَ معلول بعلل قادحة سواء كانت ظاهرة أو خفية وهذا مما لا يدركه إلا من رزقه الله فهماً واسعاً واطلاعاً غائصاً ، ونظراً ثاقباً ، ومعرفة تامة بأحوال الرواة والطرق والروايات أو حفظ جملة كثيرة من المتون حتى اختلطت بلحمه ودمه .
    ومع كل ما ذكر : فإن بعضهم يتساهل في مجرد كون الرواة من رواة الشيخين ، ولا يبالي في كيفية تخريج الشيخين للرواة أعني برواية الواحد عن الآخر ، كمن خلط في رواية هشيم عن الزهري ، وصحح على مقتضاها بأنها على شرط الشيخين ، والصحيح أن البخاري ومسلماً لم يخرجا عن الزهري من طريق هشيم ، وكذلك سماك عن عكرمة وأمثال ذَلِكَ كثيرة مما حصل فيهِ خطأ وخلط للمتأخرين غير قليل .
    ومن أعظم المفاسد لاستخدام مصطلح على شرط الشيخين أننا سنقوم بإلغاء مبدأ الانتقاء ، ثم نقوم بتصحيح أحاديث من في حفظهم شيء من رجال الصحيحين ؛ لذا ربما أتى المتأخر فصحح أحاديث هؤلاء وغيرهم بحجة أنهم على شرط الشيخين ، وهذا بلا شك مخالف لصنيع المتقدمين ؛ بل هوَ نسف لقواعد المتقدمين .
    وأنا إذ أكتب هذا الكلمات مفرقاً بين منهج المتقدمين والمتأخرين ، أنما هو رأي ورأي شيخي الدكتور بشار ، وقد استفدت في بحثي هذا من كلامه في مقدمته النافعة لتأريخ مدينة السلام بغداد – حرسها الله-ومقدمته لجامع الترمذي .
    وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ شعيب الأرناؤوط وبشار عواد


    تحرير تقريب التهذيب
    للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
    المتوفي سنة 852هـ
    تأليف
    الدكتور بشار عواد معروف
    والشيخ شعيب الأرنؤوط
    الجزء الأول
    مؤسسة الرسالة
    قال بشار عواد وشعيب الأرناؤوط:
    الأولى : ما تجمع لدينا من أحكام أثناء قيامنا بتحقيق "تهذيب الكمال" وما استدركناه عليه من أقوال في الجرح والتعديل مما لم يقف عليه هو أو المعنيون بكتابه من المختصرين والمستدركين .
    الثانية : ما يسر الله سبحانه لنا من خبرة عملية بالرجال وأحاديثهم بعد قيامنا بتحقيق عدد من أمهات دواوين السنة النبوية ، وتخرج أحاديثها والحكم على أسانيدها في مدة تزيد على ثلاثين عاماً .
    ويتعين علينا قبل بيان منهجنا الذي انتهجناه في عملنا هذا أن نقرر بعض الحقائق والقواعد ، ليكون القارئ العالم على بينة تامة من هذا النهج :
    أولاً : النقد الحديثي بين المتقدمين والمتأخرين :
    لقد شاع بين الناس أن النقد الحديثي يقوم على الإسناد والنظر فيما قرره النقاد الجهابذة من أحوال الرواة جرحاً أو تعديلاً ، وهو أمر يحتاج إلى دراسة وإيضاح ، فالنقد الحديثي فيما نرى مر بمراحل متعددة :
    المرحلة الأولى : وتقوم على نقد المتون ، وعلى أساسها تم الكلام في الرواة جرحاً أو تعديلاً ، وهي مرحلة تمتد من عصر الصحابة حتى نهاية النصف الأول من القرن الثاني الهجري، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يرد بعضهم على بعض حينما يستمعون إلى متون الأحاديث المروية ، والأحكام المتصلة بها ، فترد عائشة مثلاً على أبي هريرة وابن عمر وأبيه ، ويرد عمر على عائشة وعلى فاطمة بنت قيس ، وهلم جراً ويظهر ذلك في العديد من الأحاديث التي ساقها البخاري ومسلم في "صحيحهما" .
    المرحلة الثانية : وهو طور التبويب والتنظيم ، وجمع أحاديث كل محدث والحكم عليه من خلال دراستها ، ويتبدى ذلك في الأحكام التي أصدرها علي ابن المديني ، ويحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وأضربهم .
    غير أنه لا يخالجنا شك أن بعض العلماء المتقدمين قد تكلموا في الرجال جرحاً أو تعديلاً لمعاصرتهم لهم أو اجتماعهم بهم ، مثل مالك بن أنس ، والسفيانين ، وشعبة بن الحجاج ، وحماد بن زيد ، والأوزاعي ، ووكيع بن الجراح ، وأن الطبقة التي تلت هؤلاء تكلموا في الرواة الذي أخذوا عنهم ، واتصلوا بهم ، لكن كيف نفسر كلام كبار علماء الجرح والتعديل ممن عاشوا في المئة الثالثة في رواة لم يحلقوهم من التابعين ومن بعدهم ، ولم يؤثر للمتقدمين فيهم جرح أو تعديل، فندعي أنهم اعتمدوا أقوال من سبقهم في الحكم عليهم ؟ بيان ذلك في الأمثلة الآتية الموضحة :
    قال ابن أبي حاتم في ترجمة أحمد بن إبراهيم الحلبي ، "سألت أبي عنه ، وعرضت عليه حديثه ، فقال : لا أعرفه ، وأحاديثه باطلة موضوعة كلها ليس لها أصول ، يدل حديثه على أنه كذاب"( ) .
    وقال في ترجمة أحمد بن المنذر بن الجارود القزاز : "سألت أبي عنه ، فقال : لا أعرفه، وعرضت عليه حديثه ، فقال : حديث صحيح"( ) .
    وقال أبو عبيد الأجري في مسلمة بن محمد الثقفي البصري : "سألت أبا داود عنه ، قلت: قال يحيى (يعني ابن معين) : ليس بشيء ؟
    قال : حدثنا عنه مسدد ، أحاديثه مستقيمة : قلت : حدث عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : إياكم والزنج ، فإنهم خلق مشوه . فقال : من حدث بهذا فاتهمه( ) ! .
    فهذه الأمثلة الثلاثة واضحة الدلالة على أن أبا حاتم الرازي وأبا داود لم يعرفا هؤلاء الرواة إلا عن طريق تفتيش حديثهم المجموع ، وأنهما أصدرا أحكامها استناداً إلى ذلك .
    ومثل ذلك قول البخاري "ت256" في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي المدني "83-165هـ" : منكر الحديث ، وقول أبي حاتم الرازي "ت 277هـ" فيه : شيخ ليس بقوي ، يكتب حديثه ولا يحتج به ، منكر الحديث ، وقول النسائي "ت303هـ" فيه : ضعيف( ).
    فهؤلاء العلماء الثلاثة لم يدركوه ولا عرفوه عن قرب ولا نقلوا عن شيوخهم أو آخرين ما يفيد ذلك ، فكيف تم لهم الحصول على هذه النتائج والأقوال ؟ واضح أنهم جمعوا حديثه ودرسوه ، وأصدروا أحكامهم اعتماداً على هذه الدراسة .
    وحينما يذكر المتقدمون أن النقد إنما يقوم على العلماء الجهابذة ، فليس معنى ذلك أنه يقوم على دراسة الإسناد ، يقول ابن أبي حاتم : "فإن قيل : فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والقسيمة ؟ قيل : بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عز وجل بهذه الفضيلة ، ورزقهم هذه المعرفة في كل دهر وزمانِ"( ) .ثم قال : "قيل لابن المبارك : وهذه الأحاديث المصنوعة ؟ قال : يعيش لها الجهابذة "( ) .
    ولعل الرواية الآتية أبين دليل على أن العلماء الذين تمرسوا بهذا العلم في هذه المرحلة إنما كانوا يتقدمون المتون أكثر من نقدهم الأسانيد ، قال أبو حاتم الرازي : "جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي ، من أهل الفهم منهم ، ومعه دفتر فعرضه علي ، فقلت في بعضها : هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث ، وقلت في بعضه : هذا حديث باطل ، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر ، وقلت في بعضه : هذا حديث كذب ، وسائر ذلك أحاديث صحاح . فقال لي : من أين علمت أن هذا خطأ ، وأن هذا باطل ، وأن هذا كذب ؟ أأخبرك راوي هذا الكتاب بأني علطت وأني كذبت في حديث كذا ؟ فقلت : لا ما أدري هذا الجزء من رواية من هو ؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ ، وأن هذا الحديث باطل ، وأن هذا الحديث كذب . فقال : تدعي الغيب. قال : قلت : ما هذا ادعاءً الغيب . قال : فما الدليل على ما تقول ؟ قلت : سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن ، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم . قال : من هو الذي يحسن مثل ما تحسن ؟ قلت : أبو زرعة . قال : ويقول أبو زرعة مثل ما قلت ؟ قلت : نعم . قال : هذا عجب . فأخذ فكتب في كاغد ألفاظي في تلك الأحاديث ، ثم رجع إلى وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث فما قلت : إنه باطل ، قال أبو زرعة : هو كذب ، قلت : الكذب والباطل واحد ، وما قلت : إنه كذب ، قال أبو زرعة : هو باطل ، وما قلت إنه منكر ، قال : هو منكر ، كما قلت ، وما قلت : إنه صحاح ، قال أبو زرعة : هو صحاح . فقال : ما أعجب هذا ، تتفقان من غيره موطأة فيما بينكما . فقلت : فقد تبين لك أنا لم نجازف وإنما قلنا بعلم ومعرفة قد أوتينا .
    والدليل على صحة ما نقوله بأن ديناراً نبهرجاً يُحمل إلى الناقد ، فيقول : هذا دينار نبهرج ، ويقول دينار : هو جيد . فإن قيل له : من أين قلت : أن هذا نبهرج ، هل كنت حاضراً حين بهرج ؟ قال : لا . فإن قيل له : فأخبرك الرجل الذي بهجره : أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا . قيل : فمن أين قلت : إن هذا نبهرج ؟ قال : علماً رزقت . وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك.
    قلت له : فتحمل فص ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين ، فيقول : هذا زجاج، ويقول لمثله : هذا ياقوت ، فإن قيل له : من أين علمت أن هذا زجاج وأن هذا ياقوت؟ هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج ؟ قال : لا ، قيل له : فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً ، قال : لا . قال : فمن أين علمت ؟ قال : هذا علم رزقت . وكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا الحديث كذب ، وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه"( ) .
    وهذه المرحلة هي المرحلة الأكثر أهمية في تاريخ الجرح والتعديل ، وهي التي ينبغي أن تتبع اليوم ، ولا سيما في المختلف فيهم ، إذا يتعين جمع حديثهم ، ودراسته من عدة أوجه :
    أولها : أن ينظر في الراوي إن كان له متابع على روايته ممن هو بدرجته ، أو أكثر إتقاناً منه .
    والثاني : أن يعرض حديثه على المتون الصحيحة التي هي بمنزلة قواعد كلية ، وهي القرآن الكريم وما ثبت من الحديث ، فإن وافقها اعتبرت شواهد لها يتقوى بها ، أما الشواهد الضعيفة فلا عبرة بها .
    المرحلة الثالثة : الجمع بين أقوال المتقدمين في الرواة ، وبين جمع حديث الراوي وسبره وإصدار الحكم عليه ، كما نراه واضحاً عند علماء القرن الرابع الهجري مثل ابن حبان "ت354هـ" وابن عدي الجرجاني "ت 365هـ" ، والدار قطني "ت 385هـ" .
    ولعل أبرز من يمثل هذه المرحلة هو ابن عدي في كتابه " الكامل في ضعفاء الرجال" . كان ابن عدي يعتمد أقوال المتقدمين ، فيوردها عادة في صدر الترجمة ، ثم يفتش حديث الرجل –وهذا يقتضي أن يجمع حديثه ، ويسوق منه أحاديثه المنكرة ، أو ما أنكر عليه ، أو الأحاديث التي ضعف من أجلها ، فيدرسها ويبين طرقها – إن كانت لها طرق أخرى - ، ويصدر حكماً في نهاية الترجمة يبين فيه نتيجة دراسته هذه ، ويعبر عن ذلك بأقوال دالة نحو قوله : "لم أجد له حديثاً منكراً"( ) ، أو : "لا أعرف له من الحديث إلا دون عشرة" ، أو : "هذه الأحاديث التي ذكرتها أنكر ما رأيت له"( ) . ونحو ذلك من الأقوال و الأحكام التي تشير إلى أن الأساس في الحكم على أي شخص جرحاً أو تعديلاً هي الأسانيد التي ساقها والمتون التي رواها ، ولا ما قاله أهل الجرح والتعديل فقط . وقد دفعه هذا المنهج إلى إيراد رجال لم يتكلم فيهم أحد ، لكنه وجد لهم أحاديث استنكرت عليهم لمخالفتهم ما هو معروف متداول من الأسانيد والمتون ، وهو ما يُعبر عنه بعدم متابعة الناس له عليها ، أو أنها غير محفوظة ، نحو قوله في ترجمة سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري بعد أن ساق له جملة أحاديث غير محفوظة : "ولسعد غير ما ذكرت ، وعامة ما يرويه غير محفوظ ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً ، إلا أني ذكرته لأبين أن رواياته عن أخيه عن أبيه عن أبي هريرة عامتها لا يتابعه أحد عليها"( ) .
    وقضية سعد هذا بينها ابن حبان في "المجروحين" بشكل أوضح ، فقال : "يروي عن أخيه وأبيه عن جده بصحيفة لا تشبه حديث أبي هريرة يتخايل إلى المستمع لها أنها موضوعة أو مقلوبة أو موهومة ، لا يحل الاحتجاج بخبره " .
    المرحلة الرابعة : التأكيد على نقد السند استناداً إلى أقوال أئمة الجرح والتعديل بعد جمعهم لها والموازنة بينها ، ووضع القواعد الخاصة بهذا الأمر مما ظهر في كتب المصطلح ، فصححوا الأحاديث التي اتصل إسنادها برواية الثقات العدول ، وخلت من الشذوذ والعلة ، وحسنوا الأحاديث التي اتصلت أسانيدها ، واختلف النقاد في واحد أو أكثر من رواتها ، وضعفوا الأحاديث التي لم تتصل أسانيدها ، أو ضعف واحد أو أكثر من رواتها ، على اختلاف بينهم بين متشدد ومتساهل بحسب مناهجهم التي ارتضوها ، وما أدري إليه اجتهادهم . وقد ظهر هذا الاتجاه منذ عصر أبي عبد الله الحاكم النيسابوري "ت 405هـ" وإلى عصور متأخرة .
    المرحلة الخامسة : وهي المرحلة التي سادت بين أوساط المشتغلين بهذا العلم – على قلتهم- في العصور المتأخرة وإلى يوم الناس هذا ، وهي التي تعتمد أقوال المتأخرين في نقد الرجال، ولا سيما الأحكام التي صاغها الحافظ ابن حجر في "التقريب" حيث صار دستوراً لمشتغلين في هذا العلم ، فيحكمون على أسانيد الأحاديث استناداً إليه ، ولا يرجعون – في الأغلب الأعم – إلى أقول المتقدمين ، ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يعتمدون تصحيح أو تضعيف المتأخرين للأحاديث مثل الحاكم ، والمنذري ، وابن الصلاح ، والنووي ، والذهبي ، وابن كثير، والعراقي ، وابن حجر ، وغيرهم من أن هؤلاء لم ينهجوا منهج المتقدمين في معرفة حال الراوي من خلال مروياته ، وإنما اعتمدوا أقوال المتقدمين في نقد الرجال مع تساهل غير قليل عند بعضهم مثل الحاكم وغيره .
    ثانياً : قواعد المصطلح والحكم على الرواة اجتهادية :
    إن القواعد التي وضعها مؤلفو كتب المصطلح اجتهادية ، منها ما هو مبني على استقراء تام ، ومنها – وهو أغلبها – ما هو مبني على استقراء غير تام .
    وكذلك الحكم على الرواة في الغالب ، لم يبين على الاستقراء التام ؛ فالأحكام الصادرة عن الأئمة النقاد تختلف باختلاف ثقافاتهم ، وقدراتهم العلمية والذهنية ، والمؤثرات التي أحاطت بهم ، وبحسب ما يتراءى لهم من حال الراوي تبعاً لمعرفتهم بأحاديثه ونقدهم مروياته ، وتبينهم فيه قوة العدالة أو الضبط أو الضعف فيهما ، وقد رأينا منهم من ضعف محدثاً بسبب غلط يسير وقع فيه لا وزن له بجانب العدد الكثير من الأحاديث الصحيحة التي رواها ، ووجدنا منهم من يوثق محدثاً على الرغم من كثرة أوهامه وأخطائه ، قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب "سبل السلام" في رسالته : "إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد" : "قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث في الراوي الواحد ، وفي الحديث الواحد ، فيضعف هذا حديثاً ، وهذا يصححها ، ويرمي هذا رجلاً من الرواة بالجرح ، وآخر يعدله ، وذلك مما يشعر أن التصحيح ونحوه من مسائل الاجتهاد التي اختلفت فيها الآراء"( ) ...إلخ
    المقالة ناقصة سأتمها فيما بعد إن تيسر ذلك
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ إبراهيم الصبيحي


    النكت الجياد
    المنتخبة من كلام شيخ النقاد
    ذهبي العصر العلامة : عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني
    1312هـ - 1386هـ
    القسم الأول " تراجم الرجال "
    أعده وعلق عليه
    أبو أنس إبراهيم بن سعيد الصبيحي
    قال أبو أنس إبراهيم بن سعيد الصبيحي في مقدمة كتابه (النكت الجياد):
    أصول السلف
    بسم الله الرحمن الرحيم
    تمهيد في تعظيم قدر أئمة النقد
    إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . {يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران آية : 102] ، {يا أيها النسا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساؤلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء آية : 1] ، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزراً عظيماً} [الأحزاب آية : 70 ، 71 ] .
    أما بعد :
    فإن الله تعالى قد أحكم كتابه ,تكفل بحفظه ، فامتلأت به الصدور قبل أن يدون في السطور ، لا يسقط منه حرف ، ولا يختلف فيه على شيء ، يقرأ غضاً طريا ، فلا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه . قال تعالى : {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر : 9] .
    وإن الله تعالى قد أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بسنة ماضية ، وهدي يقتدي به ، وأمرنا الله بالتمسك بسنته واتباع هديه ، وكل ما جاء به ، قال تعالى : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل 44] .
    {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [الحشر 7] . وقال تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ...} [الأحزاب : 21] .
    وبين الله عز وجل أن النبي صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي} [النجم : 3،4] .
    فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله عز وجل أمره ، وعن كتابه معاني ما خوطب به الناس ، وما أراد الله عز وجل به ، وما شرع من معاني دينه وأحكامه وفرائضه ، وموجباته ، وآدابه ، ومدوبه ، وسننه التي سنها ، وأحكامه التي حكم بها .
    فلبث صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة ثلاثاً وعشرين سنة ، يقيم للناس معالم الدين، يفرض الفرائض ، ويسن السنن ، ويمضي الأحكام ، ويحرم الحرام ، ويحل الحلال ويقيم الناس على منهاج الحق بالقول والفعل ، صلوات الله عليه وعلى آله ، أفضل صلاة وأزكاها وأكملها.
    فثبت عليه الصلاة والسالم حجة الله عز وجل على خلقه ، بما أدى عنه وبين من محكم كتابه ومتشابهه ، وخاصة وعامه ، وناسخه ومسوخه ، وحو ذلك .
    ولذا فقد أمر الله تعالى بطاعته فقال : {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء : 59] وحذر من مخالفته فقال : {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنه أو يصيبهم عذاب أليم} [النور : 63] .
    وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم : في أتباع سنته ؛ إذ هي النور البهي ، والأمر الجلي، والحجة الواضحة والمحجة اللائحة ، من تمسك بها اهتدى ، ومن عدل عنها ضل وغوى.
    وإذ أمرنا الله سبحانه باتباع سنته وهديه وكل ما جاء به ، فقد كان من لازم ذلك أن يحفظ الله لنا تلك السنة – كما حفظ الكتاب – فتصل إلينا من طريق تقام بها علينا الحجة ، {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء : 165] .
    ولذا فقد أمنا – ولله الحمد – أن تكون شريعة أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ندب إليها ، أو فعلها عليه السلام ، فتضيع ، ولم تبلغ إلى أحد من أمته . وأمنا أيضاً أن يكون الله تعالى يفرد بنقلها من لا تقوم بنقله الحجة . وكذا أن تكون شريعة يخطئ فيها راويها الثقة، ولا يأتي من الدلائل أو القرائن أو الشواهد ما يبين خطاه فيه .
    ولذلك فإنه يتمنع أن يريد الله تعالى تشريع حكم ، ثم يقطع على الأمة الطريق الموصلة إليه. وهذا القطع إما أن يكون بعدم وصوله إليهم وكتمانه عنهم أصلاً ، وإما بإيصاله إليهم من طريق لا تقوم عليهم به حدة . فالأول ممنوع شرعاً وعقلاً ، والثاني مردود لعدم فائدته .
    (ولما كان ثابت السنن والآثار ، وصحاح الأحاديث المنقولة والأخبار ، ملجأ المسلمين في الأحوال ، ومركز المؤمنين في الأعمال ؛ إذ لا قوام للإسلام إلا باستعمالها ، ولا ثبات للإيمان إلا بانتحالها ، وجب الاجتهاد في علم أصولها ، ولزم الحث على ما عاد بعمارة سبيلها) ( ) .
    فإذا قد أقام الله تعالى الحجة بحفظ دينه ، وكان الكتاب لا يختلف في سبيل وصوله ، وضمن الله تعالى لنا حفظ سنة نبيه ، فقد وجب علينا معرفة السبيل الذي أرتضاه الله عز وجل ليكون حجة علينا في معرفة معاني كتابه ، ومعالم دينه ، وأحكام شرعيته .
    وهذا السبيل هو : "النقل والرواية" .
    فقد اختار الله عز وجل لصحبة نبيه قوماً ، شرفهم ، وأعلى قدرهم ، ورفع منزلتهم ، ورضى عنهم ، فحفظوا على الأمة أحكام الرسول ، وأخبروا عن أنباء التنزيل ، ونقلوا أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، وضبطوا على اختلاف الأمور أحواله ، في : يقظته ومنامه ، وقعوده وقيامه ، وملبسه ومركبه ، ومأكله ومشربه ، وهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل ، وعرفوا التفسير والتأويل ، ففقهوا في الدين ، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده ، بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله ، وتلقفهم منه واستنباطهم عنه ، فشرفهم الله عز وجل بما من عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة ، فنفى عنهم الشك والكذب والريبة ، وسماهم عدول الأمة ، فكانوا أئمة الهدى ، وحجج الدين ، ونقلة الكتاب والسنة .
    فهذا هو أصل المحجة التي ارتضاها الله عز وجل لهذه الأمة في معرفة دينه ، ألا وهو نقل الصحابة الكرام عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمشاهدة والمعاينة للوحي والتنزيل .
    ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حض صحابته على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، فقال: "بلغوا عني ولو آية" . وقال في خطبته : "فليبلغ الشاهد منكم الغائب" . ودعا لمن بلغ عنه فقال : "نصر الله امرءا سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره" .
    (ثم تفرقت الصحابة رضي الله عنهم في النواحي والأمصار والثغور ، وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء ، فبث كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به : ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكموا بحكم الله عز وجل ، وأمضوا الأمور على ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وافتوا فيما سُئلوا عنه ما حضرهم من جواب رصول الله صلى الله عليه وسلم عن نظائرها من المسائل ، وجردوا أنفسهم لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام حتى قبضهم الله عز وجل ، رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين.
    ثم خلف بعدهم التابعون الذي اختارهم الله عز وجل لإقامة دينه ، وخصهم بحفظ فرائضه وحدوده وأمره ونهيه وأحكامه وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ، فحفظوا عن صحابته ما نشروه وبثوه من العلم ، فأتقنوه وعلموه وفقهوا فيه، فكانوا من الإسلام والدين ومراعاة أمر الله عز وجل ونهيه بحيث وضعهم الله عز وجل ، ونصبهم له ، إذ يقول الله عز وجل:{والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة : 100] .
    فصاروا – برضوان الله عز وجل لهم وجميل ما أثنى عليهم – بالمنزلة التي نزههم الله بها عن أن يلحقهم مغمز أو تدركهم وصمة ؛ لتيقظهم وتحرزهم وتثبتهم – رحمه الله ومغفرته عليهم أجمعين – إلا ما كان ممن الحق نفسه بهم ، ودلسها بينهم ممن ليس يلحقهم ، ولا هو في مثل حالهم، لا في فقه ولا علم ولا حفظ ولا إتقان ، ممن بين أهل النقد حالهم ، وميزوهم عن غيرهم من أقرانهم ليعرفوا .
    ثم خلفهم تابعو التابعين ، وهم خلف الأخيار ، وأعلام المصار في دين الله عز وجل ، ونقل سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحفظه وإتقانه ، والعلماء بالحلال والحرام ، والفقهاء في أحكام الله عز وجل وفرضه وأمره ونهيه) ( ) .
    وهم على مراتب في الورع والضبط والإتقان ، وقد جعل الله عز وجل لكل شيء قدراً. ومنهم أيضاً – وهم في هذه الطبقة أكثر من التي قبلها – من ألصق نفسه بهم ، ودلسها بينهم ، ممن ليس من أهل الصدق والأمانة ، ومن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال منهم الكذب ، فبينوا أمرهم .
    هكذا حمل المتأخر عن المتقدم ، واللاحق عن السابق ، وتناقلت الرواة الأخبار والسنن ، وزادت الوسائط المبلغة لدين الله عز وجل ، وسميت هذه الوسائط بـ : "الإسناد" .
    ولما كان الله عز وجل قد أرتضى أن يكون "النقل" هو السبيل إلى تعرف هذه الأمة على دينه وشرعه ، وقد ضمن الله لنا حفظ الدين ، فقد دل ذلك أن السبيل إلى هذا التعرف – ألا وهو النقل الذي تقوم به الحجة – محفوظ أيضاً .
    فكيف إذا حفظ الله عز وجل هذا "النقل" ؟
    والجواب : أن الله تعالى كما اختار لصحبه نبيه أعلاماً أكفاء ، إئتمنهم على تبليغ دينه ، فقد اختار أيضاً رجالاً صنعهم على عينه ، وخصهم بهذه الفضيلة ، ورزقهم هذه المعرفة ، وهيأ لهم من الأحوال ، ما جعلهم علماً للإسلام ، وقدوة في الدين ، ونقاداً لناقلة الأخبار ، فاجتهدوا في حفظ هذا الدين ، ونفي تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وبيان خطأ المخطئين ، ولو كانوا من الثقات المتقنين .
    وميز هؤلاء بين عدول النقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم ، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة .
    (وقد جعلهم الله تعالى أركان الشريعة ، وهدم بهم كل بدعة شنيعة ، فهم أمناء الله من خليقته ، والوساطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، والمجتهدون في حفظ ملته .
    أنوارهم زاهرة ، وفضائلهم سائرة ، وآياتهم باهرة ، ومذاهبهم ظاهرة ، وحججهم قاهرة.
    وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه ، أو تستحسن رأياً تعكف عليه – سواهم ؛ فإن الكتاب عدتهم ، والسنة حجتهم ، والرسول فئتهم ، وإليه نسبتهم ، لا يعرجون على الأهواء ، ولا يلتفتون إلى الآراء .
    يقبل منهم ما رووا عن الرسول ، وهم المأمونون عليه والعدول ، حفظه الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته .
    إذا اختلف في حديث ، كان إليهم الرجوع ، فما حكموا به فهو المقبول المسموع .
    وهم الجمهور العظيم ، وسبيلهم السبيل المستقيم ، من كادهم قصمه الله ، ومن عاندهم خذله الله ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا يفلح من اعتزلهم .
    المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير ، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير ، وإن الله على نصرهم لقدير .
    قد جعلهم الله عز وجل حراس الدين ، وصرف كيد المعاندين ، لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين .
    فشأنهم حفظ الآثار ، وقطع المفاوز والقفار ، وركوب البراري والبحار ، اقتفاء لحديث النبي المختار .
    قبلوا شريعته قولاً وفعلاً ، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً ، حتى ثبتوا بذلك أصلها ، وكانوا أحق بها وأهلها .
    وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها ، والله تعالى يذب بهم عنها ، فهم الحفاظ لأركان ، والقوامون بأمرها وشأنها ، {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة : 22] ( ) .
    ولولا هؤلاء الأئمة الجهابذة النقاد الذين اصطفاهم الله عز وجل لحفظ دينه ، لا ندرس الإسلام ، ولغابت شمس الشريعة عن الأنام ، ولأصبح الناس في ظلمة دهماء ، وحيرة عمياء ، لا يميزون بين الحق والباطل ، ولا الصحيح من السقيم ، ولارتفع صوت الإلحاد ، ولضاع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كيد كائد ، وحقد حاقد .
    فاللهم انفعنا بمحبتهم ، واحشرنا في زمرتهم ، ولا تفتنا بعدهم ، ولا تحرمنا أجرهم ، واجعلنا من اتباعهم ، وحملة لوائهم ، وبلغنا شرف منزلتهم ، وحسن سيرتهم ، وأمتنا على ملتهم، إنك بنا خبير بصير .
    فهؤلاء النقاد – لما انتشرت رواية الأحاديث الضعيفة بحسن نية من الرواة الصالحين الموصوفين بكثرة الغلط وغلبة الوهم ، وبسوء نية من أصحاب الأهواء وغيرهم – شمروا عن ساعد الجد ، وتأهبوا للقيام بالمهمة التي أنيطت بهم ، وعزموا على تنقية السنة الشريفة من كل ما خالطها من الأباطيل والأكاذيب .
    وأرسى هؤلاء القواعد لحفظ الأسانيد والمتون من الوضع والتحريف والتصحيف والأوهام ؛ كما اشترطوا شروطاً وضوابط لقبول الحديث أو رده ، غاية في الإتقان .
    فقد بلغ هؤلاء من البراعة في الدقة ، والتثبت ، والاحتياط ما يحير العقول ، حتى لقد حدا ببعض من لم يعرف لهم قدرهم ، ولم يطلع على قدراتهم ، ولم يضبط قواعد فنهم ، أن رأي أحكامهم على الأخبار تصحيحاً وتضعيفاً ، بكلام مجمل ، فظن أنهم يدعون الغيب ، أو أنهم يتكهنون !
    قال أبو حاتم الرازي( ) : "جاء من جلة أصحاب الرأي ، من أهل الفهم منهم ، ومعه دفتر، فعرضه على ، فقلت في بعضها : هذا حديث خطأ ؛ قد دخل لصحابه حديث في حديث . وقلت في بعضه : هذا حديث باطل وقلت في بعضه : هذا حديث منكر . وقلت في بعضه : هذا حديث كاذب ، وسائر ذلك أحاديث صحاح .
    فقال لي : من أين علمت أن هذا خطأ ، وأن هذا باطل ، وأن هذا كذب ؟ . أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا ؟ .
    فقلت لا ، وما أدري هذا الجزء من رواية من هو ؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ ، وأن هذا الحديث باطل ، وأن هذا الحديث كذب .
    فقال : تدعي الغيب ؟
    قلت : ما هذا ادعاء الغيب .
    قال : فما الدليل على ما تقول ؟
    قلت : سلْ عما قلتُ من يُحسنُ مثل ما أحسنُ ، فإن اتفقنا ، علمت أنا لم نجازف ، ولم نقله إلا بفهم .
    قال : من هو الذي يحسن مثل ما تحسن ؟
    قلت : أبو زرعة .
    قال : ويقول أبو زرعة مثل ما قلت ؟
    قلت : نعم .
    قال : هذا عجب . فأخذ ، فكتب في كاغد ألفاطي في تلك الأحاديث ، ثم رجع إلى ، وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث .
    فما قلت إنه باطل ، قال أبو زرعة : هو كذب . قلت : الكذب والباطل واحد. وما قلت إنه كذب قال أبو زرعة : هو باطل . وما قلت إنه منكر ، قال : هو منكر ، كما قلت : وما قلت إنه صحاح ، قال أبو زرعة : هو صحاح .
    فقال : ما أعجب هذا ! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما ؟ فقلت : فقد( ) ذلك أنا لم نجازف ، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا ، والدليل على صحة ما نقوله بأن دينارا نبهرجا( ) يحمل إلى الناقد( ) ، فيقول : هذا دينار نبهرج ، ويقول لدينار : هو جيد ، فإن قيل له : من أين قلت أن هذا نبهرج ؟ هل كنت حاضرا حين بهجر هذا الدينار ؟ قال : لا . فإن قيل له : فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار ؟ قال : لا ، قيل : فمن أين قلت إن هذا نبهرج؟ قال : علماً رزقت .
    وكذلك نحن ، رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا الحديث كذب، وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه " أهـ.
    قلت : معنى كلام أبي حاتم رحمه الله تعالى أنه قد صارت له ولأبي زرعة وغيرهما من النقاد -وهم قليل كما سيأتي- "ملكة" قوية و "سجية" و "غريزة" ، يكشفون بها زيف الزائف ، ووهم الواهم وغير ذلك .
    أسباب تحيل تلك "الملكة" :
    وهذه " الملكة لم يؤتوها من فراغ ، وإنما هي حصاد رحلة طويلة من الطلب ، والسماع، والكتابة ، وإحصاء أحاديث الشيوخ ، وحفظ أسماء الرجال ، وكناهم ، وألقابهم ، وأنسابهم، وبلدانهم ، وتواريخ ولادة الرواة ووفياتهم ، وابتدائهم في الطب والسماع ، وارتحالهم من بلد إلى آخر ، وسماعهم من الشيوخ في البلدان ، من سمع في كل بلد ؟ ومتى سمع ؟ وكيف سمع ؟ ومع من سمع ؟ وكيف كتابه ، ثم معرفة أحوال الشيوخ الذين يحدث الراوي عنهم ، وبلدانهم ، ووفياتهم ، وأوقات تحديثهم ، وعادتهم في التحديث ، ومعرفة مرويات الناس عن هؤلاء الشيوخ، وعرض مرويات هذا الراوي عليها ، واعتبارها بها ، إلى غير ذلك مما يطول شرحه .
    هذا مع سعة الاطلاع على الأخبار المروية ، ومعرفة سائر أحوال الرواة التفصيلية، والخبرة بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم ، وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب ، وبمظنات الخطأ والغلط ، ومداخل الخلل .
    هذا مع اليقظة التامة ، والفهم الثاقب ، ودقيق الفطنة ، وامتلاك النفس عند الغضب، وعدم الميل مع الهوى ، والإنصاف مع المواقف والمخالف ، وغير ذلك .
    وهذه المرتبة بعيدة المرام ، عزيزة المنال ، لم يبلغها إلا الأفذاد ، وقد كانوا في القلة بحيث صاروا رؤوس أصحاب الحديث فضلاً عن غيرهم ، وأضحت الكلمة إليهم دون سواهم .
    ندرة أهل النقد ودقة منهجهم :
    وليس ذاك الرجل الذي حكى أبو حاتم مجيئه إليه ، وعرضه دفتره عليه – وقد كان من أهل الفهم من أصحاب الرأي – بأحسن حالاً من كثير من أهل بلده وعصره فضلاً عمن بعدهم.
    قال أبو حاتم( ) : "جرى بيني وبين أبي زرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته ، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها ، وكذلك كنت أذكر أحاديث خطأ وعللها ، وخطأ الشيوخ ، فقال لي : يا أبا حاتم ، قل من يفهم هذا ، ما أعز هذا ، إذا رفعت هذا من واحد واثنين فما أقل من تجد من يحسن هذا . وربما أشك في شيء أو يتخالجني شيء في حديث ، فإلي ألتقي معك لا أجد من يشفيني منه . قال أبو حاتم : وكذاك كان أمري .
    فقال ابن أبي حاتم : قلت لأبي . محمد بن مسلم [ يعني : ابن وارة] ؟ قال : يحفظ أشياء عن محدثين يؤديها، ليس معرفته للحديث غريزة" . أهـ.
    وابن وارة حافظ ثبت ، قال ابن أبي حاتم : ثقة صدوق ، وجدت أبا زرعة يجله ويكرمه. وقال أبو بكر بن أبي شيبة : أحفظ من رأيت : ابن الفرات ، وابن وآرة ، وأبو زرعة . وقال النسائي : ثقة صاحب حديث . وقال الطحاوي : ثلاثة بالري لم يكن في الأرض مثلهم في وقتهم: أبو حاتم وأبو زرعة وابن وارة .
    ومع ذلك يقول عنه أبو حاتم : ليس معرفته للحديث غريزة .
    فأنت ترى عزة هؤلاء النفر وندرتهم بين أهل زمانهم ، ووعورة طريقتهم على أكثر الخلق – وفيهم جملة من المشتغلين بالحديث وروايته – مع اطلاع الكثير على أحوالهم ، وسعة حفظهم، وتوفر المقتضى الداعي لفهم منهجهم ، من القرب منهم ، وإمكانية الرجوع إليهم ، مع مشاهدة ميدان الرواية ، ومجالس التحديث ، وأحوال الرواة تحملاً وأداءً ، ودرجاتهم في التثبت والاحتياط، وغير ذلك من المجالات التي تدور عليها تعليلات هؤلاء النقاد .
    فإذا كان الأمر على نحو ما ذكرت ، فليس من عجب أن تزداد تلك الوعورة على من بعدهم ، وتزداد الهوة بينهم ، إلى سائر الأزمان المتأخرة ، وهلهم جرا إلى زماننا هذا .
    رأس مال الناقد :
    فمما ينبغي أن يستحضره الناظر في كلام الناقد : هذا الاطلاع الواسع الذي سبق التنبيه عليه إجمالاً ، ولكني ههنا أخص بالذكر "رأس مال الناقد" في هذا الشأن ، ألا وهو :
    "الإحصاء والحفظ"
    فأقول : كان الناقد يستوعب أولاً ما عند شيوخ بلده من الحديث فيسمعه ، ويكتبه على الوجه ، محصيا أحاديث كل شيخ عن شيوخه ، حافظاً لتلك الأسانيد برواتها ومتونها ، وربما كان بعضهم يصنف أحاديث الشيوخ على : الأبواب ، كالإيمان والطهارة والصلاة ونحوها ، أو على المسانيد ، كحديث أبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس وهكذا . فيصير الحديث الواحد عنده مخرجاً في أكثر من باب . ولاشك أن في شيوخ هذا الناقد من أهل بلده من رحلوا ، ورووا عن شيوخهم من هنا وهناك ، فأصبح عند الناقد أحاديث بعض شيوخ البلدان والأمصار .
    ثم يبدأ الناقد في سماع الحديث والأثر ، ويصنع بأحاديث كل شيخ ممن سمعهم في الرحلة مثلما صنع في أحاديث شيوخ بلده ، ولا شك أن في سماعه الجديد أشياء يسمعها من شيوخ شيوخ بلده ، فيقارنها بما سمعه من شيوخ بلده عنهم ، فمن النقاد من يكتبها مرة أخرى ، ومنهم من ينتخب ما يجد فيها خلافاً عما سمعه من شيوخ بلده أو غيرهم – سواء كان هذا الاختلاف في الإسناد في المتن ، وكان من أمثلة النوع ا لأول من هؤلاء النقاد : أبو زرعة ، ومن النوع الثاني : أبو حاتم رحمهما الله تعالى .
    قال ابن أبي حاتم( ) : سمعت أبي رحمة الله يقول : "كنا إذا اجتمعنا عند محدث أنا وأبو زرعة ، كنت أتولى الانخاب ، وكنت إذا كتبت حديثاً عن ثقة لم أعده ، وكنت أكتب ما ليس عندي . وكان أبو زرعة إذا انختب يكثر الكتابة ، كان إذا رأى حديثاً جيداً قد كتبه عن غيره أعاده" اهـ.
    وكان الناقد ربما سمع من الشيخ الواحد عدة مرات ، بينها فترات ؛ التماسا لسماع ما لم يسمعه منه من قبل ، وكان ينتخب أيضاً ما فاته سماعه فقط ، فيكتبه ، أما المعاد ، فإنه يعرضه على كل ما كتبه عنه أولاً ؛ لاختبار حال الشيخ في الضبط .
    قال أبي حاتم( ) : سمعت أبي رحمه الله يقول : "كنا إذا اجتمعنا عند محدث أنا وأبو زرعة ، كنت أتولى الانتخاب ، وكنت إذا كتبت حديث عن ثقة لم أعده ، وكنت أكتب ما ليس عندي. وكان أبو زرعة إذا انتخب يكثر الكتابةى ، كان إذا رأى حديثاً جيداً قد كتبه عن غيره أعاده"اهـ .
    وكان الناقد ربما سمع من الشيخ الواحد عدة مرات ، بينها فترات ؛ التماساً لسماع ما لم يسمعه منه من قبل ، وكان ينتخب أيضاً ما فاته سماعه فقط ، فيكتبه ، أما المعاد ، فإنه يعرضه على ما كتبه عنه أولاً ؛ لاختبار حال الشيخ في الضبط .
    قال ابن أبي حاتم( ) : سمعت أبي يقول : "كنت أتولى الانتخاب على أبي الوليد( ) ، وكنت لا انتخب ما سمعت من أبي الوليد قديماً ... فلما تيسر لي الخروج من البصرة ، قلت لأبي زرعة: تخرج ؟ فقال : لا ، إنك تركت أحاديث من حديث أبي الوليد مما كتبت عنه سمعت منه قديماً، فكرهت أن أسأل في شيء يكون عليك معاداً ، فأنا أقيم بعدك حتى أسمع" اهـ.
    وقال أبو الوليد الطيالسي( ) : قال حماد بن زيد : ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة؛ لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة ، يعاد صاحبه مراراً ، ونحن كنا إذا سمعناه مرة اجتزينا به"اهـ.
    وقال أبو داود الطيالسي( ) : سمعت شعبة يقول : سمعتُ من طلحة بن مصرف حديثاً واحداً ، وكنت كما مررت به سألته عنه ، فقيل له : لم يا أبا بسطام ؟ قال : أردت أن أنظر إلى
    حفظه ، فإن غير فيه شيئاً تركته". اهـ.
    أمثلة لما "يحصيه" الناقد :
    فالناقد يدأب في التراحل ، والسماع ، والكتابة ، والتصنيف ، والانتخاب ، على نحو ما سبق ، ويولي عنايته أثناء ذلك لأمور : منها :
    1- حصر أحاديث من تدور عليهم الأسانيد في البلدان . وذلك بأن يجمع الناقد أحاديث على واحد منهم ، مبوباً ذلك على شيوخه وتلاميذه .
    قال علي بن المديني( ) : "نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة : الزهري ، وعمرو بن دينار، وقتادة ، ويحيى بن أبي كثير ، وأبي إسحاق – يعني الهمداني – وسليمان الأعمش .
    ثم صار علم هؤلاء الستة إلى أصحاب الأصناف ، فممن صنف من أهل الحجاز : مالك بن أنس ، وابن جريح ، ومحمد بن إسحاق ، وسفيان بن عيينة .
    ومن أهل البصرة : شعبة ، وسعيد بن أبي عروبة ، وحماد بن سلمة ، ومعمر ، وأبو عوانة.
    ومن أهل الكوفة : سفيان الثوري .
    ومن أهل الشام : الأوزاعي .
    ومن أهل واسط : هشيم .
    ثم صار علم هؤلاء الأثنى عشر إلى ستة : إلى يحيى بن سعيد – يعني القطان – وعبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع بن الجرح ، ويحيى بن أبي زائدة ، ويحيى بن آدم ، وعبد الله بن المبارك" اهـ .
    فكان الناقد يحفظ أحاديث كل من هؤلاء ، من طريق تلامذتهم الملازمين لهم ، المعروفين بهم ، وكان لبعض هؤلاء نسخ وصحائف بأحاديثهم التي حدثوا بها ، بحيث يستطيع الناقد عن طريق هذا "الإحصاء" الدقيق لحديث كل منهم أن يقول فيما يعرض عليه : هذا ليس من حديث فلان – أو هو غريب من حديث فلان – أو لا يجيء من حديث فلان .
    أو هو من حديث فلان لكن بإسناد آخر ، أو بهذا الإسناد لكن بمتن آخر ، وهكذا.
    ويحكم الناقد بهذا على راوي ذاك الحديث بالوهم في روايته ، وقد يكون هذا الراوي ثقة، ولكن حفظ الناقد – وهو فوق الثقة بلا شك – أولى من حفظ غيره ، لأنه يعتمد على "الحصر" و "الإحصاء" .
    قال أبو حاتم( ) : "صليت بجنب يحيى بن معين فرأيت بين يديه جزءاً .. فطالعته ، فإذا : "ما روى الأعمش عن يحيى بن وثاب أو عن خيثمة – شك أبو حاتم – فظننت أنه صنف حديث الأعمش " اهـ .
    معنى ذلك أن ابن معين كانت عنده أحاديث الأعمش مصنفة بحسب مشايخه ، وهذا "حصر" لأحاديث الأعمش بصورة دقيقة متقنة ، وقص على ذلك أحاديث غيره ، وكذا صنيع غالب النقاد .
    وقال علي بن الحسين بن الجنيد( ) : ما رأيت أحداً أحفظ لحديث مالك بن أنس لمسنده ومنقطعة من أبي زرعة . فقال له ابن أبي حاتم : ما في الموطأ والزيادات التي ليست في الموطأ ؟ فقال : نعم" اهـ.
    وقال أبو زرعة( ) : " نظرت في نحو من ثمانين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر وفي غير مصر ما أعلم أني رأيت له حديثاً لا أصل له" اهـ.
    وقال أبو زرعة أيضاً( ) : "خرجت من الري المرة الثانية سنة سبع وعشرين ومائتين ، ورجعت إلىمصر ، فأقمت بمصر خمسة عشر شهراً ، وكنت عزمت في بدو قدومي مصر أني أقل المقام بها ، لما رأيت كثرة العلم بها وكثرة الاستفادة ، عزمت على المقام ، ولم أكن عزمت على سماع كتب الشافعي ، فلما عزمت على المقام وجهت إلى أعرف رجل بمصر بكتب الشافعي ، فقبلتها منه بثمانين درهماً أن يكتبها كلها ، وأعطيته الكاغد ، وكنت حملت معي ثوبين .. لأقطعهما لنفسي ، فلما عزمت على كتابتها ، أمرت بيعهما ، فبيعا بستين درهما ، واشتريت مائة ورقة كاغد بعشرة دراهم ، كتبت فيها كتب الشافعي .." .
    فانظر إلى نفقته في "إحصاء" كتب الشافعي .
    وقال أبن أبي حاتم( ) : "سمعنا من محمد بن عزيز الأيلي الجزء السادس من مشايخ عقيل، فنظر أبي في كتابه ، فأخذ القلم فعلم على أربعة وعشرين حديثاً ؛ خمسة عشر حديثاً منها متصلة بعضها ببعض ، وتسعة أحاديث في آخر الجزء متصلة ، فسمعته يقول : ليست هذه الأحاديث من حديث عقيل عن هؤلاء المشيخة ، إنما ذلك من حديث محمد بن إسحاق عن هؤلاء المسيخة.
    ونظر إلى أحاديث عن عقيل عن الزهري ، وعقيل عن يحيى بن أبي كثير ، وعقيل عن عمرو بن شعيب ومكحول ، وعقيل عن أسامة بن زيد الليثي فقال : هذه الأحاديث كلها من حديث الأوزعي عن يحيى بن أبي كثير ، والأوزاعي عن نافع ، والأوزاعي عن أسامة بن زيد ، والأوزاعي عن مكحول ، وإن عقيلاً لم يسمع من هؤلاء المشيخة هذه الأحاديث"اهـ .
    فتدبر قول أبي حاتم : "ليست هذه الأحاديث من حديث عقيل عن هؤلاء المشيخة" من أين كان يتأتى له أن يجزم بذلك إن لم تكن أحاديث عقيل مجموعة عنده ، مصنفة على أسماء شيوخه ، فلم يجد فيها ما رآه في كتاب ابن أبي حاتم المشار إليه ، وكانت تلك الأحاديث فيما أحصاه أبو حاتم من حديث محمد ابن إسحاق عن هؤلاء الشيوخ ، فعلم أن خطئاً طرأ على ذاك الكتاب لعله من التحويل أو غير ذلك من أسباب الخلل ، فأبدل اسم ابن إسحاق بعقيل ، وكذلك أبدل اسم الأوزاعي به في سائر الأحاديث ؛ لأن أمثال هؤلاء : عقيل ، وابن إسحاق ، والأوزاعي ممن "يحصر" النقاد أحاديثهم فلا يغيب عنهم منا شيء .
    وقيل لأبي حاتم( ) : إن عبد الجبار بن العلاء روى عن مروان الفزاري عن ابن أبي ئنب، فقال : قد نظرت في حديث مروان بالشام الكثير ، فما رأيتُ عن ابن أبي ذئب أصلاً".
    وكذلك استنكر أبو زرعة هذه الرواية ، فاتفقا من غير تواطؤ بينهما ؛ لمعرفتهما بهذا الشأن، كما قال ابن أبي حاتم .
    فمن أين لهما الجزم بذلك إن لم تكن أحاديث مروان نصب أعينهما ، يعدانها عدا ، ويحصيانها إحصاء ؟
    فقس على هذا "حصر" النقاد أحاديث من تدور عليهم الأسانيد في البلدان .
    2- ومنها : معرفة طبقات الرواة عن أولئك الحفاظ ، ودرجاتهم في الثقة ، والضبط ، والتثبت، والصحبة ، والملازمة ، والإكثار وغير ذلك ، وهذا النوع من المعرفة يتوقف عليه تقديم الناقد رواية بعض الرواة على بعض( ) .
    3- ومنها : حصر أحاديث الضعفاء ونسخهم وصحفهم ، حتى لا تختلط بأحاديث الثقات ، فإذا أبدل اسم الضعيف بثقة ، لم يرج ذلك عليهم .
    قال الأثرم( ) : رأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين بصنعاء في زاوية ، وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان( ) عن أنس ، فإذا طلع عليه إنسان كتمه . فقال له أحمد بن حنبل : تكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس ، وتعلم أنها موضوعة ، فلو قال لك قائل : إنك تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه على الوجه ؟ فقال : رحمك الله يا أبا عبد الله ، أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها ، وأعلم أنها موضوعة ، حتى لا يجيء بعده إنسان فيجعل بدل : "أبان" "ثابتاً"( ) ، ويرويها عن معمر عن ثابت عن أنس بن مالك ، فأقول له : كذبت ، إنما هي عن معمر عن أبان ، لا عن ثابت" اهـ .
    وانظر كتاب "الجامع" للخطيب (2/192) ، فقد بوب على هذا المعنى وذكر لهذه الحكاية نظائر عن بعض الأئمة .
    4- السؤال عن أحوال من لم يعرفهم من رجال الأسانيد التي يسمعها ، وجمع أحاديث المقلين منهم ، ومعرفة المجاهيل من الرواة ، ومن لم يرو عنهم إلا القليل ، والوقوف على الأحاديث التي لا ترد إلا من طريقهم ، وكشف الشواذ والمناكير من الآثار بعرضها على أصول الكتاب والسنة، وعلى سائر ما صح من الأخبار ، ويكون ذلك وغيره باستعمال "ملكته" الخاصة ، وبالمذاكرة بينه وبين سائر النقاد الأحبار .
    والناقد يحفظ تلك الغرائب للمعرفة ، لا لروايتها ولا للاحتجاج بها ، وإنما يهجرها الأئمة ولا يعولون عليها ، لثبوت الوهم تفيها خطأ أو عمداً ، وللأسف يأتي من بعدهم فيقفون عليها، فيظنون بأنفسهم خيرا ، ولا يدركون ما فيها من الشذوذ والغربة – سنداً أو متناً - ، فلا يقنعون بهجر الأوائل لها ، ولا بتركهم لروايتها ، ولا بتنبيه بعضهم على نكارتها ، فتجدهم يقوون بها أحاديث ضعيفة ، ويضمدون بها أخبار جريحة ، ويتباري القاصرون في تصحيح تلك المناكير، غير ملتفتين إلى أن الناقد خبير .
    وقد كان للنقاد عناية خاصة بالتعرف على غرائب الحديث ، وأوهام الرواة ، وكانت جل مذاكراتهم إنما تدور حول هذا النوع من الحديث ، فيتذاكرون علل الأحاديث ، وأخطاء الرواة ، ويقومون بالفحص عنها والتفيش عن مظانها ، حتى إنهم ليتنافسون في معرفتها والوقوف عليها .
    وقد سبق إيراد قول أبي حاتم : "جرى بيني وبين أبي زرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها ، وكذلك كنت أذكر أحاديث خطأ وعللها وخطأ الشيوخ..." .
    وكان لأصحاب الحديث لغة يعبرون بها عن تلك الغرائب ، قال الإمام أحمد : "إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون : هذا الحديث غريب أو فائدة ، فأعلم أنه خطأ ، أو دخل في حديث، أو خطأ من المحدث ، أو حديث ليس له إسناد ، وإن كان قد روى شعبة وسفيان . فإذا سمعتهم يقولون : لا شيء فاعلم أنه حديث صحيح"( ) .
    وقوله " لا شيء " أي ليس هو من جنس ما يعتنون بتحصيله ومعرفته ، وإنما هو حديث صحيح مشهور .
    وقد كان النقاد – مع معرفتهم بتلك الغرائب – يمدحون المشهور من الحديث ، ويذمون الغريب منه ، خشية أن يتتبعها من لا علم له ، فيسقط فيها .
    قال عبد الله بن المبارك : "العلم هو الذي يجيئك من ههنا ومن ههنا" يعني المشهور. وقال الإمام مالك : "شر العلم الغريب" ، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس" . وقال الإمام أحمد: "شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها" . وقال أيضاً : "تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب ، ما أقل الفقه فيهم ؟!" .
    وقال شعبة : "لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ"( ) .
    يقول الخطيب البغدادي( ) : "أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور ، وسماع المنكر دون المعروف ، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين الضعفاء ، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبا ، والثابت مصدوفا عنه مطروحاً ، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم ، ونقصان علمهم بالتمييز ، وزهدهم في تعلمه ، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين ، والأعلام من سلفنا الماضين".
    نقل ذلك ابن رجب في "شرح العلل" (1/409) ، ثم قال : "وهذا الذي ذكره الخطيب حق، ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها ، ويعتني بالأجزاء الغريبة ، وبمثل مسند البزار ، ومعاجم الطبراني ، أو أفراد الدار قطني ، وهي مجمع الغرائب والمناكير" اهـ .
    ويلتحق بما ذكره ابن رجب : كتب الضعفاء ، ككتاب العقيلي ، وابن حبان ، وابن عدي، وكتاب "الحلية" لأبي نعيم ، و "مسند الفردوس" للديلمي ، وأغلب ما يساق في تراجم الرواة في كتب التواريخ مثل : تاريخ الخطيب ، والحاكم ، وابن عساكر ، وغيرها ، وكتابي أبي الشيخ وأبي نعيم في "الأصبهانين" وغيرها من كتب تواريخ البلدان ، وطبقات الرواة ، وكتب "الفوائد" ، والأجزاء الحديثية .
    وهؤلاء وغيرهم إنما قصدوا جمع غرائب الأحاديث ، وأوهام الرواة ، وراموا جمع ما لم يكن مخرجاً في كتب الصحاح والأصول المعروفة ، وإنما كانت تلك الأحاديث متداولة على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون ، فهجروها عمداً ولم يخرجوها في كتبهم ، وقد كانت تدور تارة بين الوعاظ المتشدقين ، وتارة بين المتفقهين ، وتارة بين أهل الأهواء والبدع في الدين ، وتارة بين الضعفاء والمجروحين ، وربما كان أصل تلك الأحاديث : آثاراً لبعض الصحابة والتابعين ، أو كلاماً لبعض الحكماء الواعظين ، أو قواعد مستنبطات من الفقه في الدين ، أو أخبارً لبني إسرائيل، أو معاني محتملات أو مفهومات من بعض أدلة الكتاب والسنة ، فرواها قوم لا يعرفون غوامض الرواية ، فجعلوها أحاديث مستقلة برأسها عمداً أو خطأ ، وربما كانت جملاً شتى في أحاديث مختلفة ، جعلوها حديثاً واحداً بنسق واحد .
    وهذه الأحاديث لا تخلو عن أمرين :
    إما أن المتقدمين تفحصوا عنها ولم يجدوا لها أصولاً حتى يشتغلوا بروايتها .
    وإما أنهم وجدوا لها أصولاً ولكن صادفوا فيها قدحاً أو علة موجبة لترك روايتها فتركوها( ).
    وعلى كل حال فليست تلك الأحاديث صالحة للاعتماد عليها ، حتى يتمسك بها في عقيدة أو عمل .
    وقد أضل هذا القسم قوماً ممن لم يتدبروا ما سلف من مناهج الأئمة والمصنفين ، فأغتروا بكثرة الطرق الورادة في تلك المصنفات ، وحسبوا أنهم وقفوا على ما لم يقف عليه المتقدمون ، فسموا تلك الطرق "متابعات" و "شواهد" فجعلوا الغرائب والمناكير عواضد يشدون بها ما تسقر أهل النقد على طرحه ووهنه .
    ولم يفطن هؤلاء القوم إلى أن عصور الرواية قد انقضت وتلك الأحاديث في عيون النقاد غريبة منكرة مهجورة .
    فلم ينصف هؤلاء أسلافهم ولم يقدروهم قدرهم ، بل دل صنيعهم على اعتقاد أنهم قصروا في تحصيل تلك الطرق ، ولم يفطنوا إلى منهج أولئك المصنفين في أنهم ما أخرجوا تلك الطرق للاحتجاج ولا للاعتبار .
    وهذا المبحث يحتاج إلى بسط ، ليس هذا موضوعه ، ولعل فيما ذكرت إشارة إلى ما أردناه . ولعلنا في قسم القواعد ، ومناهج الأئمة والمصنفين ، نتناوله بشيء من التوسع إن شاء الله تعالى .
    والأئمة لا يقفون عند نقدهم لغرائب الضعفاء والمجاهيل فحسب ، بل كان البارعون منهم ينتخبون الأحاديث الغريبة والروايات المنكرة من أصول شيوخ ثقات لهم أو لغيرهم، وحرصاً منهم على تمييز تلك الأحاديث ، كان يرسم كل منهم أمام الأحاديث علامة خاصة به ليتميز بها عن علامات أصحابه .
    وقد عقد أبو بكر الخطيب في كتابه " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" بابا خاصا بعنوان : "رسم الحافظ العلامة على ما ينتخبه"( ) .
    ومن ا لواضح مما هناك أن أكثر النقاد لا ينتخبون من الأصول إلا الأحاديث الغريبة والروايات المنكرة ، وذلك أنهم يريدون به لفت انتباه من ينظر فيها إلى غرابتها ونكارتها ، وهذا الصنيع لا يقدر عليه إلا فحول النقاد وفرسانهم .
    وقد أورد الخطيب هناك أمثلة ، منها حديث قتيبة بن سعيد عن الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل مرفوعاً ، وفيه جمع التقديم في غزوة تبوك . هذا الحديث قد أعله أئمة النقد قائلين بأن قتيبة تفرد به عن الليث بهذا الإسناد ، وأن هذا الحديث قد أعله أئمة النقد قائلين بأن قتيبة تفرد به عن الليث بهذا الإسناد ، وأن هذا الحديث لا يعرف عن الليث، ولم يروه عنه أهل مصر ، ولا هو عند أصحابه ، ولا في أصوله المعروفة ، من هؤلاء النقاد ممن صرحوا بإعلاله : الإمام البخاري ، وأبو حاتم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن يونس ، والحاكم والبيهقي وغيرهم ، كما سيأتي . قال الحاكم في "معرفة علوم الحديث" ص : 120 "هذا حديث رواته أئمة ثقات ، وهو شاذ الإسناد والمتن .. وقد حدثونا عن أبي العباس الثقفي قال : كان قتيبة بن سعيد يقول لنا : على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل ، وعلى بن المديني ، ويحيى بن معين ، وأبي بكر ابن أبي شيبة ، وأبي خيثمة ، حتى عد قتيبة أسامي سبعة من أئمة الحديث ، كتبوا عنه هذا الحديث . وقد أخبرناه أحمد بن جعفر القطيعي قال : ثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال : ثنا قتيبة فذكره .
    قال الحاكم : فأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجباً من إسناده ومتنه ..." .
    وقد اتفق أصحاب "الملكة" من النقاد على إعلال هذا الحديث ، وأنه خطأ ولا أصل له ، مع اختلافهم في تحديد المخطئ فيه ، وهذا لا يؤثر في الاتفاق المذكور( ) .
    ولم يجر على ظاهر إسناد هذا الحديث فصححه إلا نفر من المتأخرين والمعاصرين ، وهذا مظهر من مظاهر تلك الهوة التي لا تبرح في زيادة بين النقاد ومن بعدهم ، والتي أشرنا إليها آنفاً.
    ولم يسع الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد عرض مذاهب النقاد في إعلال هذا الحديث إلا أن يسجل شهادته الخالدة ، فيقول( ) : "وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام المتقدمين ، وشدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك ، والتسليم لهم فيه ، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى على ظاهر الإسناد" اهـ.
    5- ومنها : معرفة من ضعف حديثه من الثقات في بعض الأوقات دون بعض ، وهم من اختلطوا أو تغيروا أو ذهب بصرهم ، أو كتابهم ، في آخر عمرهم( ) .
    6- ومنها : معرفة من ضعف حديثه في بعض الأمكنة دون بعض( ) .
    7- ومنها : معرفة من ضعف حديثه عن بعض الشيوخ دون بعض( ) .
    8- ومنها : المعرفة الناشئة عن كثرة الممارسة لأحاديث الرواة ، بحيث يصير للناقد فهم خاص يدرك به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان ، ولا يشبه حديث فلان ، فيعلل الأحاديث بذلك ، وهذا إنما يكون لأهل الحذق من صيارفه النقاد( ) .
    ملكة "الحفظ" :
    ولم يكن الأمر متوقفاً عند مجرد "الحصر" ، وإنما كانوا يحفظون ما حصروه عن ظهر قلب، يمثل أمام أعينهم متى احتاجوا إليه .
    قال أبو زرعة( ) : "سمعت من بعض المشايخ أحاديث ، فسألني رجل من أصحاب الحديث فأعطيته كتابي ، فرد علي الكتاب بعد ستة أشهر ، فأنظر إلى الكتاب ، فإذا إنه قد غير في سبعة مواضع . فأخذت الكتاب وصرت إلى عنده ، فقلت : ألا تتقي الله ، تفعل مثل هذا؟ فأوقفته على موضع موضع ، وأخبرته ، وقلت له : أما هذا الذي غيرت فإنه هذا الذي جعلت عن ابن أبي فديك ، فإنه عن أبي ضمرة مشهور ، وليس هذا من حديث ابن أبي فديك ، وأما هذا فإنه كذا وكذا ، فإنه لا يجيء عن فلان ، وإنما هذا كذا ، فلم أزل أخبره حتى أوقفته على كله، ثم قلت له : فإني حفظت جميع ما فيه في الوقت الذي انتخبت على الشيخ ، ولو لم أحفظه لكان لا يخفى على مثل هذا ، فاتق الله عز وجل يا رجل" اهـ .
    فانظر إلى هذا الحفظ العجيب ، يحفظ ما انتخبه على الشيخ ساعة انتخابه له ، ثم يفارقه الكتاب قبل أن يعاود النظر فيه ، إلى ستة أشهر ، ثم هو لا يخرم منه حرفاً !
    وتدبر قوله : "ليس هذا من حديث ابن أبي فديك ... فإنه لا يجيء عن فلان " وتذكر ما أشرنا إليه من حقيقة "الإحصاء" .
    وأدق من ذلك " أن رجلاً دفع إلى أبي زرعة حديثاً فقال اقرأ ، فلما نظر أبو زرعة في الحديث قال : من أين لك هذا ؟ قال : وجدته على ظهر كتاب ليوسف الوراق . قال أبو زرعة : هذا الحديث من حديثي ، غير أني لم أحدث به . قيل له : وأنت تحفظ ما حدثت به مما لم تحدث به؟ قال بلى ، ما في بيتي حديث إلا وأنا أفهم موضعه"( ) .
    فكم من حديث سمعه الناقد أو كتبه ، ثم أعرض عنه ولم يحدث به ، لما علم من شذوذه ، أو خطأ روايه ، ولذا فإن عدم تداول أهل النقد لحديث بالرواية ليسير إلى حالة واستحقاقه للترك والهجر.
    وأكثر بيان في "الحفظ" ما ذكره ابن أبي حاتم( ) قال : حضر عند أبي زرعة : محمد بن مسلم (بن وارة) والفضل بن العباس المعروف بالصائغ ، فجرى بينهم مذاكرة ، فذكر محمد بن مسلم حديثاً فأنكر فضل الصائغ ... فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة : أيش تقول : أينا المخطئ؟ فسكت أبو زرعة ... وجعل يتغافل – فألح عليه محمد بن مسلم – فقال أبو زرعة : هاتوا أبا القاسم ابن أخي فدعى به ، فقال : أذهب وأدخل بيت الكتب ، فدع القمطر الأول ، والقمطر الثاني ، والقمطر الثالث ، وعد ستة عشر جزءاً ، وأئتني بالجزء السابع عشر ، فذهب فجاء بالدفتر فدفعه إليه ، فأخذ أبو زرعة فتصفح الأوراق وأخرج الحديث ، ودفعه إلى محمد بن مسلم، فقرأه محمد بن مسلم ، فقال: نعم غلطنا فكان ماذا ؟ " اهـ .
    واستقصاء هذا وشرح عجائبه يطول جداً ، وإنما هذا غيض من فيض .
    ولم يقف الأمر عند مجرد "الإحصاء" و "الحفظ للأحاديث" ، بل كانوا يحصون على الرواة – لا سيما المدلسين – صيغ الأداء في الرواية .
    قال شعبة( ) : "نصصت على قتادة سبعين حديثاً كلها يقول : سمعت من أنس ، إلا أربعة" اهـ .
    بل كانتوا يحصون ما أخذه الراوي عن شيخه سماعاً ، وما أخذه عنه من كتاب بغير سماع.
    قال أبي المديني( ) : سمعت يحيى بن سعيد قال : كان شعبة يقول : أحاديث الحكم عن مقسم كتاب إلا خمسة أحاديث . قلت ليحيى : عدها شعبة ؟ قال : نعم : حديث الوتر ، وحديث القنوت ، وحديث عزمة الطلاق ، وحديث جزاء مثل ما قتل ما النعم ، والرجل يأتي امرأته وهي حائض" اهـ .
    ولذا فلا تعجب إذا حكم الأئمة الجهابذة على رواية فيها تصريح بالسماع أو ما يدل عليه بالخطأ والوهم ، ولو كان الإسناد ظاهره الصحة ، لأن الأئمة ليسوا كما يظن البعض "حملة أسفار" بل هم "نقدة أخبار" .
    والنقاد يضبط حال السماع والكتابة صيغ الأداء ، بل ويوقف عليها الشيوخ ، فيكشف بعد ذلك عن أوهام الرواة وأخطائهم .
    قال أبو داود( ) – وهو الطياليسي - : نا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم أن عليا كان يجعل للإخوة من الأم – يعني في المشتركة . قلت للأعمش : سمعته من إبراهيم ؟ فقال برأسه أي : نعم " اهـ .
    فانظر إلى توقيف شعبة للأعمش في سماعه هذا من إبراهيم وهو ابن يزيد النخعي ، مع أن إبراهيم من شيوخ الأعمش الذين أكثر عنهم ، حتى قال بعض الحفاظ المتأخرين – وهو الذهبي رحمه الله – أنه لا يقبل من الأعمش – لتدليسه – إلا ما صرح فيه بالسماع ، إلا في شيوخ قد أكثر عنهم، كإبراهيم ، وأبي وائل – شقيق بن سلمة ، وأبي صالح السمان ، قال( ) : "فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال" .
    فبان بإيقاف شعبة للأعمش أن ا لأمر ليس بهذا الإطلاق ، وإنما هو للغالب ، والله تعالى أعلم( ) .
    وهذا حجاج بن أرطاة أحد المكثرين من التدليس ، قال غير واحد من النقاد أنه لم يسمع من الزهري شيئاً . قال الترمذي( ) : فقلت له يعني للبخاري - : فإنهم يرون عن الحجاج قال : سألت الزهري .
    قال : لا شيء ، يروي عن هشيم قال : قال لي الحجاج : صف لي الزهري " اهـ .
    وقال أبو زعرة( ) : لم يسمع الحسن البصري من أبي هريرة ولم يره ، قيل له : فمن قال : ثنا أبو هريرة ؟ قال : يخطئ " اهـ .
    وقال ابن أبي حاتم( ) : سألت أبي : سمع الحسن من جابر ؟ قال : ما رأي ، ولكن هشام بن حسان يقول عن الحسن : ثنا جابر بن عبد الله ، وأنا أنكر هذا ، إنما الحسن عن جابر كتاب، مع أنه أدرك جابرا" اهـ .
    وقال ابن المديني( ) : سمعت يحيى – يعني القطان – وقيل له : كان الحسن يقول : سمعت عمران بن حصين ؟ فقال : أما عن ثقة فلا " اهـ .
    بل ترك يحيى بن سعيد القطان أسامة بن زيد الليثي ، لما روى عن الزهري قال : سمعت سعيد بن المسيب ، مع اتفاق أصحاب الزهري على روايته عن سعيد بالعنعنة( ) .
    وأمثلة هذا الضرب من النقد أكثر من أن تحصى .
    وبالجملة فهذا الباب يحتمل كتاباً مستقلاً ، وقد أجمعت العزم على إفراده بالذكر إن شاء الله تعالى ، في رسالة مستقلة .
    والمقصود ههنا التذكير بعظم قدر أئمة النقد ، والتقريب لما كانوا يتمتعون به من ملكات فذة ، وغرائز حديثية متميزة ، وحافظ ثاقبة ، وأفهام دقيقة ، ويقظة عالية ، وهمة سامقة ، وصبر على شظف العيش لا يوصف ، وتحمل لمشقات الرحلة لا يباري .
    هذا مع اعتقاد أن الكمال لله وحده ، وأن لا عصمة إلا لمن عصمه الله تعالى ، ولكن الحق لايغيب عن جماعة أهل النقد ، فمن الناس بعدهم ؟
    ولعل فيما ذكرته ههنا مقنع لمن درجوا على الاستقلال بنقد الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً، اغتراراً بظواهر الأسانيد ، دون الاستبصار بنقد أصحاب "الملكة" ومهم أهل "التخصص" ، ومن حباهم الله عز وجل – مما سبق الإشارة إليه – ما أهلهم للقيام على هذا الصغر العظيم من ثغور الإسلام ، ألا وهو حفظ الآثار أن يداخلها ما ليس منها ، وتنقيتها مما التصق بها خطئاً أو عمداً .
    وكم ممن غلبته سكرة "التعالم" ونشوته ، فرد تحقيقات النقاد من طرف القلم ، بأمور بديهية لم تكن خافية على المبتدئين ، وإنما أخذها هؤلاء "التعالمون" من أوليات أولئك الجهابذة، فانتهى هؤلاء إلى حيث يبدأ الناقد السبق ، فكيف بالقاعد أن يزاحم الفرسان ، أم كيف بالخالف أن يبلغ العنان .
    وكأن لسان حال الناقد يقول للمتعلم :
    أأبيت سهران الدجى وتبيته نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي
    وأرجو إذا يسر الله تعالى إتمام هذا الكتاب – بأقسامه – كما أحب ، أن يتضح لقارئه سبيل القوم في نقد الرواة والأخبار ، وعسى أن يكون ذلك داعياً لي ولأولي الهمم إلى الاستعداد لسلوكه ، فيكون منهم أئمة مجتهدون في ذلك إن شاء الله تعالى( ) .
    هذا ، والله تعالى الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ علي الصياح

    قال في كتابه من قصص أئمة الحديث المتقدمين
    ....ولكن مما يسر أنّ هناك عودة قوية لدراسة مناهج النقاد من خلال أقوالهم وتطبيقاتهم ، وفهم مصطلحاتهم من خلال السبر والتتبع الطويل مع التحليل والنظر ، وفي ظني أنّ هذه الدراسات ستقلص من الاعتراضات على النقاد، وتقلل من الاختلاف بين أحكام المعاصرين على الأحاديث وأحكام المتقدمين، وكذلك المعاصرين بعضهم مع بعض.
    وهذه العودة لدراسة مناهج النقاد..الخ= هي روح ولُبّ مسألة "منهج المتقدمين في الحديث" والتي -في رأيي- حُمّلتْ ما لا تحتمل، وصُورت على غير حقيقتها التي يدعو إليها الفضلاء، فليس هناك تقليلٌ من قدر المحدثين المتأخرين، وليس هناك تفريقٌ للأمّة، وليس هناك بدعة، بل إنَّ الكلام في هذه المسألة هو بحثٌ في مسائل علمية حديثية دقيقة تتعلق بمصطلحات وقواعد ومناهج سار عليها أئمة الحديث المتقدمين وروّاد هذا الفن ومن يرجع إليه في هذا العلم، وغالب الخلاف الواقع بين الفضلاء في هذه المسألة من نوع الخلاف اللفظيّ، وطلبةُ العلم فيها بين أجر وأجرين -إنْ شاء الله تعالى-، والمسألة من مطارح الاجتهاد، ومسارح النظر.
    ومما ينبغي التفطن له أنّ هذه الدعوة ليست من التقليد في شيء، بل هي دعوةٌ لأخذ العلم من مصدره، إذ من المعلوم أنّ قوانين وقواعد معرفة حال الراوي والمروي إنّما أُخذت عن هؤلاء الأئمة فهم الحكم في هذه المسائل، وإليهم الرجوع عند التنازع كما تقدم في كلام العلائي وغيره.
    ورَحِمَ اللهُ علماءَ المسلمين-المتقدمين منهم والمتأخرين- فقد ورثوا للأمة علماً زاخراً يخدم كتاب الله وسنة رسوله  *، وإنَّ من حقهم على الأمّة الدعاء لهم، والترحم عليهم، والاستفادة من علومهم، وهذا هو منهج مَنْ تَبِعَهُم بإحسان قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (الحشر: 10).
    وقال أيضا :
    و أسبابُ هذا التفاوت (يعني في الحكم على الأحاديث بين المعاصرين وأئمة النقد المتقدمين )- في الغالب - ترجع إلى أمور ثلاثة-مرتبة حسب الأهمية- :
    1- القصور في "علم علل الحديث" وعدم التفطن لدقائقه، ولذا تجد بعض الباحثين - وفقهم الله - ينقل شواهد للحديث ومتابعات من كتب العلل مما استنكره الأئمة على الرواة، ولم يقف وقفةَ نَظَرٍ لماذا ذُكِرَ هذا الحديث أو الطريق في كتب العلل؟، ولربما كان هذا الحديث المذكور في كتب العلل يُعل حديثه كأن يكون موقوفاً وحديثه مرفوعاً ونحو ذلك.
    وعلاجه في أمرين:
    أ*- كثرة القراءة في كتب العلل النظرية والتطبيقية، فإنْ غلبت عن قراءتها فلا تغلب على كتابين: الأوَّل: التمييز للإمام مسلم بن الحجاج، والثاني: كتاب"شرح علل الترمذي"لابن رجب، وأرى أنَّ الكتابين –من أولهما إلى آخرهما- من أحسن ما يقرر على طلاب الحديث لفهم العلل ومعرفة طريقة النقاد فيها.
    ب*- تتبع أقوال كبار نقاد الحديث على الحديث المراد بحثه، والاستفادة من كل كلمة يقولونها عن الحديث- لأنَّ تعاليل الأئمة للأخبار مبنيةٌ في الغالب على الاختصار ، والإجمال، والإشارة فيقولون مثلاً " الصواب رواية فلان"، أو "وَهِمَ فلان" أو "حديث فلان يشبه حديث فلان" أو "دَخَلَ حديثٌ في حديث" ولا يذكرون الأدلة والأسباب التي دعتهم إلى ذلك القول لأنّ كلامهم في الغالب موجه إلى أناسٍ يفهمون الصناعة الحديثية والعلل والإشارة فيدركون المراد بمجرد إشارة الإمام للعلة وذكرها- ومِنْ ثمّ دراسة أسباب هذا الحكم من الناقد، ومدى موافقة بقية النقاد له، ومع كثرة الممارسة لكلام النقاد تكون عند الباحث ملكة تؤدي -بتوفيق من الله وإعانة- إلى موافقتهم قبل أنْ يطلعَ على كلامهم المعين في الحديث المراد بحثه.
    2- عدم تحقيق الكلام على الرجال الذين تدور عليهم علة الحديث والاكتفاء بالمختصرات كتقريب التهذيب خصوصاً، وتقدم التنبيه على هذا وكيفية علاجه، وأضيف هنا أهمية أن يقرأ طالب الحديث كتاب "الميزان" للذهبيّ كاملاً من أوله إلى آخره، متلمساً المناهج، مقيداً الفوائد.
    3- التوسع في قبول الشواهد والمتابعات، وهذا الأمر ناتجٌ عن الخطأ في الأمرين السابقين فعدم التفطن لعلل الأخبار وعدم تحقيق مرتبة الراوي بدقة يترتب عليه قبول " الشواهد والمتابعات"، أو عدم قبولها ، وفرقٌ بين أن نحكم على راوٍ ما بأنه ضعيف لسوء الحفظ، وبين الحكم عليه بالترك فالأول يقبل " الشواهد والمتابعات" -إنْ سلم من العلل الأخرى كالتفرد، والشذوذ- والثاني لا يقبل، وقد وُفق الشيخ طارق عوض الله فكتب في هذا الأمر كتابة رائعة في كتابه " الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات" عالج فيها جانباً من القصور في هذا المسألة.
    ولقد كان المعلميّ دقيقاً عندما قال :(( وتحسين المتأخرين فيه نظر)) الأنوار الكاشفة (ص30).
    وكذلك في قوله :((عندما أقرن نظري بنظر المتأخرين:أجدني أرى كثيراً منهم متساهلين)) الفوائد المجموعة (ص2).


    وقال في ختام كتابه جهود المحدثين
    التوصيات:
    هذه بعض التوصيات التي لمستُ أهميتها أثناء كتابة البحث فمن ذلك:
    1- ضرورةُ العنايةِ بعلم علل الحديث بالنسبة للمشتغلين بالحديث وعلومه، ووضعُ مقرر خاص لطلبة الدراسات العليا في هذا الفن والبحث فيه نظرياً وعملياً، فكثير من الخلل الواقع في كلام المعاصرين على الأحاديث نتيجة للقصور في علم العلل وعدم التفطن لدقائقه، وهذا من أكبر أسباب التنافر والاختلاف في الحكم على الأحاديث بين المعاصرين وكبار النقاد المتقدمين.
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ محمد بن عبدالله القناص
    السؤال
    بعض الأخوة يقولون
    أن كل حديث ضعفه الألباني فهو ضعيف
    وكل حديث صححه الألباني بعض منها ضعيف ،
    هل هذا الكلام صحيح؟
    الجواب
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
    هذا الكلام نقل عن بعض أهل العلم، وهو أن العلامة الشيخ الألباني – رحمه الله – قوي فيما ضعف، وليس كذلك فيما صحح أو حسن، ومعنى ذلك أنه صحح أحاديث أو حسنها، وعند التدقيق يظهر أنها ضعيفة، وقد تراجع الشيخ – رحمه الله – عن أحاديث صححها ثم تبين له ضعفها فيما بعد،
    ولكن لا يناسب أخذ هذا الكلام على إطلاقه،
    فهناك أحاديث ضعفها الشيخ – رحمه الله -، وقد تراجع عن تضعيفها، أو يكون ضعفها في مكان وصححها في مكان آخر، أو ضعفها باعتبار إسناد معين، وهي بمجموع الطرق والشواهد تكون صحيحة، أو ضعفها واستُدِركَ عليه في تضعيفها من قبل بعض أهل العلم والباحثين لاسيما ما كان في الصحيحين أو أحدهما .
    وأود في هذه المناسبة أن أشير إلى بعض الأمور المتعلقة بتصحيح نصوص السنة، أوجزها فيما يأتي:
    1- أن التصحيح ليس من الأمور السهلة، والخوض فيه مزلة أقدام، وهو يحتاج إلى طول ممارسة ومطالعة واسعة لكلام أئمة هذا الشأن، وتوفر ملكة راسخة في هذا الفن، وفهم دقيق لأصوله وقواعده، ومن ثم تطبيق ذلك على الأسانيد والطرق، والتدقيق في المتون، والتأكد من سلامتها من الشذوذ والعلل، وهل فيها معارضة لنصوص أخرى من الكتاب والسنة، ومعنى هذا أنه لا يتأهل للتصحيح والتضعيف إلا القلة على مر الدهور والعصور، قال ابن رجب - رحمه الله - وهو في معرض حديثه عن البخاري ومسلم وصحيحيهما: " فقلَّ حديثٌ تركاه إلا وله علةٌ خفيّة؛ لكن لعزة من يَعرف العلل كمعرفتهما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المتباعدة: صار الأمر في ذلك إلى الاعتماد على كتابيهما، والوثوق بهما والرجوع إليهما، ثم بعدهما إلى بقية الكتب المشار إليها . ولم يُقبل من أحد بعد ذلك الصحيح والضعيف إلا عمَّن اشتُهر حِذقه ومعرفته بهذا الفن واطلاعُه عليه، وهم قليل جداً .
    " [ مجموع رسائل ابن رجب ( 2/622 ) ] .
    2- أن المتأمل في الأحكام على الأحاديث يجد كثرة الأحاديث التي صححها من جاء بعد الأئمة المتقدمين وقد حكم عليها الأئمة المتقدمون بالضعف والنكارة وربما بالبطلان أو الوضع، ومن المعلوم أن الأئمة المتقدمين هم أهل هذا الشأن، فهم أرسخ في فهم قواعد هذا العلم وأصوله، وهم المرجع في التصحيح والتضعيف، حيث توفر لهم من الأسباب والعوامل المعينة على تمييز الصحيح من الضعيف والمحفوظ من المنكر مالم يتوفر لغيرهم، وهذا يجعل كلامهم أقرب إلى الصواب .
    قال الذهبي - وهو يتحدث عن العنعنة والتدليس -: " وهذا في زماننا يَعْسُرُ نقدُه على المحدَّث، فإن أولئك الأئمة، كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وَعَرَفوا عِلَلَها، وأما نحن فطالت الأسانيدُ وَفُقِدَتْ العباراتُ المتيقَّنة، وبمثل هذا ونحوه دخل الدَّخَلُ على الحاكم في تَصَرُّفِه في المستدرك "
    [ الموقظة ص: 46 ]،
    وقال الحافظ ابن حجر - بعد أن ذكر كلام بعض الأئمة في نقد حديث-:
    " وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه ."
    [ ينظر: النكت على ابن الصلاح ( 2/726 ) ]
    وقال السخاوي وهو يتحدث عن التفرد: " ولذا كان الحكم به من المتأخرين عسراً جداً، وللنظر فيه مجال، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهوية، وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي، ولم يجيء بعدهم مساو لهم ولا مقارب أفاده العلائي، وقال: فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمداً لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح . "
    [ فتح المغيث ( 1/237 ) ]
    3- إذا تقرر هذا فمن المهم معرفة منهج الأئمة المتقدمين في دراسة الأسانيد والمرويات، وهذا يحتاج إلى بسط لا يتسع له المقام ، ولكن من المناسب الإشارة إلى أبرز معالم المنهج النقدي الذي سلكه الأئمة ، ومن ذلك:
    - العناية التامة بسلامة الحديث من العلة والشذوذ
    - الترجيح بالقرائن في زيادات الثقات وتعارض الوصل والإرسال والوقف والرفع .
    - مراعاة أحوال الرواة الثقات في شيوخهم، إذ أن هناك من الرواة الثقات من ضعف في بعض شيوخه، أو في روايته عن أهل بلد معين، أو إذا حدث من حفظه .
    - حرصهم على النص على ما يوجد في الأسانيد من تفرد وغرابة ونكارة، وأن وجود التفرد مظنة قوية على خطأ الراوي وإن كان ثقة .
    - التحقق من وجود الاتصال بين الرواة ولا يحكم للراوي أنه سمع مِنْ مَنْ روى عنه حتى يثبت هذا بطريق راجح .
    - تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد له ضوابط ومن أبرزها التأكد من كونها محفوظة وسالمة من الخطأ والوهم ، إذا أن تعدد الطرق من راوي قد يكون سببه اضطرابه أو اضطراب من روى عنه ، وأن كثرة الطرق قد لا تفيد الحديث قوة إذ أنها ترجع إلى طريق واحد ، وما يظن أنه شاهد قد يكون خطأ من بعض الرواة.
    هذه إشارات موجزة وعبارات مقتضبة عن منهج الأئمة المتقدمين في دراسة المرويات، وقد حصل الإخلال بهذا المنهج في الجملة في تصحيح كثير من المتأخرين ، إما عن قصور في فهمه أو تركه على سبيل القصد والتعمد ، ولذا ينبغي عرض ما نجده من تصحيح المتأخرين على كلام الأئمة المتقدمين ، وإذ لم نجد لهم كلاماً خاصاً في الحديث، فنعرضه على منهجهم والقواعد التي ساروا عليها .
    قال السخاوي: " فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقاداً تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه، وعلله، ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين، فتقليدهم والمشي وراءهم ، وإمعان النظر في تواليفهم .... وملازمة التقوى والتواضع يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله . "
    [ فتح المغيث ( 1/274 ) ] ،
    وهذا والله أعلم .
    د. محمد بن عبدالله القناص
    27/7/1428 هـ
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    كلام الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله

    س/ هل هناك فرق بين منهج المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتضعيفها مع التفصيل إن كان هناك تفصيل؟
    الجواب: نعم يوجد فرق .
    فالمتقدمون أحدهم يعرف المحدث ، وما روى عن شيخه ، وما روى عن طلبته ، ويحفظون كتاب فلان ، فإذا حدث بحديث يقولون : هذا ليس بحديث فلان. - إلى أن قال - والمعاصرون لا يعدو أحدهم أن يكون باحثاً أما كتب( العلل) فالمعاصرون لا يتحرون في هذا ، وكذلك زيادة الثقة ، والشاذ ، فربما أخذ أحدهم بظاهر السند ويحكم على الحديث بظاهر السند وقد سبقه المتقدمون وحكموا عليه بأنه حديثٌ معل .
    فينبغي أن تعرض كتب الحديث على كتب العلل حتى تعرف أخطاؤهم فإن لهم أخطاء كثيرة بالنسبة إلى العلماء المتقدمين ، ولا يُقال : كم ترك الأول للآخر في غلم الحديث !
    أروني شخصاً يحفظ مثل ما يحفظ البخاري ، أو أحمد بن حنبل ، أو تكون له معرفة بعلم الرجال مثل يحيى بن معين ، أو له معرفة بالعلل مثل علي بن المديني والدارقطني ، بل مثل معشار الواحد من هؤلاء ، ففرق كبير بن المتقدمين والمتأخرين .
    ((تحفة المجيب)) للشيخ المحدّث / مقبل الوادعي ـ رحمه الله ـ ، ص 97 .


    س/ إن كان الأئمـه قد ضَعّفوا حديثاً بعينه ثم جاء المتأخرون فصححوه ، وقد ذكر الأئمة في السابق أن له طريق بعضها ضعيفه وبعضها كذا إلا أن الرجل المتأ خر رد هذه العلة ، مرة يرد هذه العلة ومرة يقول: أنا بحثت عن الحديث فوجدت له سنداً لم يطلع عليه الحفاظ الأولون ، فماذا تقول ؟

    ج / سؤال حسن ومهم جداً ـ جزاكم الله خيرا ـ .
    والعلماء المتقدمون مُقَدَّمون فى هذا ، لأنهم ـ كما قلنا ـ قد عرفوا هذه الطرق .
    ومن الأمثلة على هذا : ما جاء أن الحافظ ـ رحمه الله تعالى ـ يقول في حديث المسح على الوجه بعدالدعاء أنه بمجموع طرقة حسن ، والأمام أحمد يقول: أنه حديث لا يثبت .
    وهكذا إذا حصل من الشيخ ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ هذا نحن نأخذ بقول المتقدمين ، ونتوقف في كلام الشيخ ناصر الدين الألباني ، فهناك كتب ما وضعت للتصحيح والتوضعيف ، وضعت لبيان أحوال الرجال ، مثل : ((الكامل)) لابن عدي ((والضعفاء)) للعقيلي ، هم وإن تعرضوا للتضعيف فى هذا فهى موضوعة لبيان أحوال الرجال وليست بكتب علل ، فنحن الذى تطمئن إليه نفوسنا أننا نأخذ بكلام المتقدمين ، لأن الشيخ ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ ما بلغ فى الحديث مبلغ الإمام أحمد بن حنبل ، ولا مبلغ البخاري ومن جرى مجراهما . ونحن مانظن أن المتأخرين يعثرون على ما لم يعثر عليه المتقدمون ، اللهم إلافى النادر .
    القصد أن هذا الحديث إذا ضعفه العلماء المتقدمون الذين هم حفاظ ويعرفون كم لكل حديث طريق ، أحسن واحد فى هذا الزمن هو الشيخ ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله تعالى ـ وهو يعتبر باحثا ولا يعتبر حافظا ، وقد أعطاه الله من البصيرة فى هذا الزمن مالم يعط غيره ، حسبه أن يكون الوحيد فى هذا المجال ، لكن ما بلغ مبلغ المتقدمين .


    س / إذا قال أحد من أئمة الحديث : إن الحديث معلول. فهل لا بد من أن يبين السبب ويظهره لنا كطلبة علم، أو لا يقبل منه هذا القول، أو يقبل منه من غير بيان ؟
    الجواب:
    أنا وأنت في هذا الأمر ننظر إلى القائل ، فإذا قاله أبوحاتم ، أو أبوزرعة ، أو البخاري ، أو أحمد بن حنبل ، أو علي بن المديني ، ومن جرى مجراهم ، نقبل منه هذا القول .
    وقد قال أبوزرعة كما في ((علوم الحديث للحاكم)) ص (113) عند جاء إليه رجل وقال: ما الحجة في تعليلكم الحديث ؟ قال : الحجة ـ إذا أردت أن تعرف صدقنا من عدمه ، أنحن نقول بتثبت أم نقول بمجرد الظن والتخمين ؟ ـ أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته ، ثم تقصد ابن وارة ـ يعني محمد بن مسلم بن وارة ـ وتسأله عنه ولا تخبره بأنك قد سألتني عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله ، ثم تميز كلام كل منا على ذلك الحديث ، فإن وجدت بيننا خلاف فاعلم أن كلاً منا تكلم على مراده ، وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم . ففعل الرجل فاتفقت كلمتهم عليه فقال أشهد أن هذا العلم إلهام .
    وقد قال عبدالرحمن بن مهدي كما في ((العلل)) لابن أبي حاتم (ج1 ص10) : إن كلامنا في هذا الفن يعتبر كهانة عند الجهال.
    وإذا صدر من حافظ من المتأخرين ، حتى من الحافظ ابن حجر ففي النفس شيء ، لكننا لا نستطيع أن نخطّئه ، وقد مرّ بي حديث في ((بلوغ المرام)) قال الحافظ : إنه معلول. ونظرت في كلام المتقدمين ، فما وجدت كلامًا في تصحيح الحديث ولا تضعيفه ، ولا وجدت علةً ، فتوقفت فيه.
    ففهمنا من هذا ، أنه إذا قاله العلماء المتقدمون ولم يختلفوا، أخذنا به عن طيبة نفس واقتناع ، وإذا قاله حافظ من معاصري الحافظ ابن حجر نتوقف فيه

    وينظر كتاب الشيخ غارة الِفصَل
    وكتابه أحاديث معلة ظاهرها الصحة
    وينظر هنا :
    http://majles.alukah.net/showthread.php?t=6226
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,089

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    مقال الشيخ عبد الكريم الخضير :


    قال في أجوبته على أسئلة أعضاء ملتقى أهل الحديث
    س4/ ما رأيكم بمنهج من يرى التفريق بين المتقدمين والمتأخرين ؟
    ج4/ التفريق بين المتقدمين والمتأخرين لا شك أن المتأخرين عالة على المتقدمين في هذا العلم وغيره لكن ليس بمقدور كل أحد من طلاب العلم لا سيما المبتدئين أن يتطاول حتى يسامي المتقدمين فدون ذلك خرط القتاد لابد من أن يتمرن على ما كتبه أهل العلم في علوم الحديث على الجادة المعروفة ويقرن القواعد النظرية بالتطبيق العملي ملاحظاً مواقع استعمال الأئمة للأحكام وإذا تكونت لديه الأهلية بعد الإكثار من التخريج ودراسة الأسانيد ومذاكرة الشيوخ والأقران وعرض ما كتبه وما توصل إليه من نتائج عليهم فإذا تأهل لا مانع من أن يحكم بالقرائن بعد الاطلاع على ما يمكنه الاطلاع عليه من طرق الأحاديث . فالباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه .
    ولا خلاف بيننا وبين الأخوان الذين يدعون إلى قفو أثر المتقدمين إلا في أن مثل هذا الكلام لا يلقى على المبتدئين لأني أرى أن مثل هذا الكلام قد يكون سبباً في ضياع طالب العلم نظير مطالبته المبتدئ في الطلب بالاجتهاد وترك أقوال العلماء في الأحكام قبل التأهل والله المستعان


    س9/ ما رأيكم بمنهج من يرى التفريق بين المتقدمين والمتأخرين ؟ رأي الشيخ في تحسينات الألباني ؟ ونود من المشرف لو يدلني على كلام لأهل الملتقى في المسألة مشكوراً ومأجوراً ؟
    سبق الحديث عن منهج المتقدمين وأن المتقدمين هم الأصل وعليهم المعَّول لكن ينبغي أن يكون المخاطب بذلك بعد التأهل لمحاكاتهم ولا ينبغي أن يخاطب بذلك طالب العلم المبتدئ .
    أحكام الشيخ الألباني رحمه الله معتبرة وهو إمام من أئمة هذا الشأن وليس بالمعصوم فهو كغيره قد يخطئ ويكون الصواب مع غيره ممن ضعف ما صححه الشيخ والعكس وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم وقد يتساهل الشيخ رحمه الله في التحسين فيجبر الضعيف الذي لا يقبل الانجبار بالطرق المماثلة وسبقه لذلك السيوطي كما قررة في ألفيته ومشى عليه في أحكامه والله المستعان


    وله كلام آخر في شرحه على النخبة لا يفهم منه مخالفته لكلامه الأول وقد تقدم النقاش حوله هنا :
    http://majles.alukah.net/showthread.php?t=6226

    وهذا نص كلامه :
    "هناك دعوةٌ تُرَدَّدٌ على ألسنة بعض طلبة العلم ، وهي الدعوة إلى نبذ قواعد المتأخرين في مصطلح الحديث والأخذ مباشرة من كتب المتقدمين ، وذلك لأن قواعد المتأخرين قد تختلف أحياناً عن مناهج المتقدمين ، فمثلاً: زيادة الثقة أو تعارض الوصل والإرسال أو الوقف والرفع عند المتأخرين في كتبهم النظرية يحكمون بحكم عام مطرد ، فيرجحون قبول الزيادة مطلقاً والحكم للوصل مطلقاً والرفع دائماً ، ومنهم من يرجح ضد ذلك لأنه المتيقن .
    وإذا راجعنا أحكام المتقدمين كالبخاري وأبي حاتم وأحمد وغيرهم كالدارقطني ، وجدناهم لا يحكمون بحكم عام مطرد بل ينظرون إلى كل حديث على حدة ، تارة يحكمون بالزيادة وقبولها ، وتارة يحكمون بردها لأنها شاذة ، وتارة يحكمون للوصل ، وتارة يحكمون للإرسال ، وهكذا في الرفع والوقف تبعاً لما ترجحه القرائن .
    وهي دعوة في جملتها وظاهرها مقبولة ، لكنها لا تصلح أن يخاطب بها جميع الطلبة ، فالمبتدئ في حكم العامي عليه أن يقلد أهل العلم ، وتقليد المتقدمين يجعل الطالب في حيرة لصعوبة محاكاتهم ممن هو في البداية لأنه يلزم عليه أن يقلدهم في كل حديث على حدة ، وهذا يلزم عليه قطع باب التصحيح والتضعيف من قِبَل المتأخرين ، وهذا ما دعى إليه ابن الصلاح - رحمه الله - ، لكنه قول رده أهل العلم عيه وفنَّدوه وقوَّضوا دعائمه .
    وأما طالب العلم المتمكّن من جمع الطرق واستيعابها ، وإدامة النظر في أحكام المتقدمين بعد أن تخرّج على قواعد المتأخرين وطبقها في حياته العلمية مدة طويلة ، وحصل عنده مَلَكة تؤهله للحكم بالقرائن ، فهذا هو المطلوب بالنسبة لهذا النوع ، وهذا هو مسلك المتأخرين أنفسهم كالذهبي ، وابن حجر لا تجد لهم أحكاماً مطردة في التطبيق وإن اطرد قولهم في التقعيد للتمرين .
    وإذا كان كبار الأئمة في عصرنا وقبله كسماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز ، ومحدث العصر الشيخ ناصر الدين الألباني رحمهما الله ، قد اعتمدا كثيراً على قواعد المتأخرين ، فكيف بمن دونهما بمراحل.
    وليست قواعد المتأخرين قواعد كلية لا يخرج عنها أي فرع من فروعها ، بل هي قواعد أغلبية يخرج عنها بعض الفروع كغير هذا العلم من العلوم الأخرى .
    ونظير هذه الدعوى دعوى سبقتها ، وهي الدعوة إلى نبذ كتب الفقه ، وطرح كلام الفقهاء وعدم اعتبارها ، والتفقه مباشرة من الكتاب والسنة ، وهي دعوة كسابقتها لا يمكن أن يخاطب بها جميع فئات الطلبة بل يخاطب بها طالب العلم المتمكن الذي لديه أهلية النظر في الأدلة وما يتعلق بها ، فليست كتب الفقه وأقوال الفقهاء دساتير لا يحاد عنها بل ينظر فيها ، فما وافق الدليل عمل به ، وما خالف الدليل ضرب به عُرض الحائط كما أوصى به الأئمة أنفسهم . أهـ المقصود
    [أنظر تحقيق الرغبة ص12]
    قال السراج البلقينـي في محاسن الاصطلاح ص176:
    " لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض "

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Apr 2007
    المشاركات
    701

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    أجزل الله لك الثواب على هذا الاستيعاب
    مجموعة من كتبي وقف لله يحق لكل مسلم طبعها ، شريطة التقيد بالنص
    http://www.saaid.net/book/search.php...C7%E1%DD%CD%E1

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Feb 2008
    المشاركات
    9

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك

  20. #20

    افتراضي رد: الجامع للمقالات والمقدمات حول مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في منهجية ال

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    جزاك الله خيراً

    وأنصحك بقراءة هذا الكتاب

    http://www.bazmool.co.cc/files/mustalah.rar

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •