[3ٍ]: مفاتيح صحيح البخاري
قد تكلمنا في حلقتين سابقتين عن ترجمة الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالي وتكلمنا بشيء من الإيجاز عن حياته وجوانبها وعن ثناء الناس عليه واليوم إن شاء الله تعالي سنتكلم عن مفاتيح الكتاب مفاتيح صحيح البخاري لأنك لا تستطيع أن تلج بابًا إلا بمفتاح :
سبب بلوغ كتاب البخاري الذروة في الدقة والإتقان وحسن الصنعة
وكتاب الإمام البخاري كتاب بلغ الذروة في الدقة والإتقان وحسن الصنعة وكما قلت هذا محل إجماع بين أهل العلم جميعًا لا نعلم بينهم خلاف في هذا .
وهذا يرجع أولاً إلى قيمة الصحيح ووزنه بين أهل العلم ثم هو راجع إلى سداد فهمه أيضًا وإلى حافظته الكثيرة الواعية .
رجل من أهل بغداد قال أن محمد بن إسماعيل لا يحسنُ يصلى فبلغه هذا القول فقال لو شئتُ ألا أقوم من مجلسي هذا حتى أسرد عشرة ألاف حديث في الصلاة خصوصًا لفعلت .
رجل محفوظه عشرة ألاف حديث في الصلاة وحدها ، رجل يملك كيف يقال أنه لا يحسن يصلي ، هذا عند ه محفوظ عنده رأس مال ثم عنده جودة صحية وسيلان ذهن فصنف كتابه ليس في مدة يسيرة مع ثقل هذا الإمام وجودة فهمه وسيلان ذهنه الذي ذكرت وكثرة محفوظه ظل سبعة عشر عامًا يؤلف هذا الكتاب ، يبدل ويغير ويقدم ويؤخر .
فليس من السهل أبدًا على رجل يعرف قدر نفسه أن يعترض ببساطة وسهولة على هذا الإمام ولذلك لا تجد يجترأ علي الإمام إلا الجهلة إنما العلماء ، لا .
وهناك واقعة مشهورة ذكرها بن علي رحمه الله عن عدة من مشايخه في كتابه الذي صنفه في أسماء شيوخ محمد بن إسماعيل .
قال إن البخاري لما دخل بغداد ووصلها صيته قبل أن يدخل فلما دخل قالوا جاء البخاري جاء البخاري ، فبعض الناس ممن ينتقصون العلماء أرادوا أن يعملوا للبخاري اختبار ، فأتوا على مائة حديث بدلوا أسانيدها فجعلوا إسناد الحديث الأول وضعوه بدلًا من إسناد الحديث الثالث وإسناد الثاني وضعوه بدلاً من إسناد الحديث العاشر وهكذا ، أي لم يبقوا إسنادًا على حديث إلا بدلوا هذه الأسانيد وجعلوها على أحاديث أُخَر وأعطوا المائة حديث لعشرة كل واحد من العشرة أخذ عشرة أحاديث ، وقالوا عند ما ينتهي مجلس الإملاء فيقوم الأول فيقول ما تقول في الحديث حدثنا فلان عن فلان عن فلان أو رواه فلان عن فلان عن فلان أن النبي صلي الله عليه وسلم قال كذا وكذا ولما ينتهي الأول من الأحاديث العشرة يبدأ الثاني فيقول العشرة التي تليهم وهكذا حتى تمام المائة .
وبالفعل قام الأول وسأل البخاري في العشرة الأولى وفي كل هذا كلما سمع البخاري الحديث قال لا أعرفه لا أعرفه لا أعرفه فلما انتهي الأول من العشرة الأولي قام الثاني فلما انتهي من الأحاديث العشرة قال البخاري لا أعرفها حتى تمام المائة ، في كل ذلك يقول البخاري لا أعرفه لا أعرفه لا أعرفه .
الجماعة الجهلة حشو المحاضرات وحشو الدروس وغير ذلك قالوا أهذا هو البخاري ؟ يقولون البخاري البخاري وهو لا يعلم أي حديث ، كل حديث يقول لا أعرفه لا أعرفه ، أما أهل العلم فقالوا فطن الرجل اكتشف الملعوب ، اكتشف القصة .
وبعد أن انتهي العاشر من تمام المائة حديث قال البخاري للأول أما حديثك الأول فإسناده عند الثالث وأما حديثك الثاني إسناده عند الرابع وحديثك الثالث إسناده عند العاشر إلى آخره حتى رد كل المتون إلى أسانيدها الصحيحة فما قام البخاري من مجلسه حتى أذعنوا له بالفضل .
الحافظ بن حجر العسقلاني يعلق على هذا الخبر: فيقول ليس بعجيب أن يحفظ البخاري الصواب هذا يعرفه كثير من الناس ، إنما العجيب أن يحفظ الخطأ على ترتيب ما ألقوه ، فعندما يقول له حديثك الأول إسناده عند العاشر وحديثك الثاني إسناده عند التاسع أو الثامن ، كيف حفظ البخاري هذا كله بمجرد إلقاءٍ واحد ، ليس العجيب أن يعرف الصواب فإن الصواب يعرفه كثير من الناس بل العجيب أن يحفظ الخطأ على ترتيب ما ألقوه ، لذلك لم يقوم البخاري من هذا المجلس حتى أذعنوا له بالفضل .
وأضرب هذا المثل لأبين الفرق بين أهل العلم وبين الجهلة : الجاهل لا يفهم ، أول ما يرى شيئًا يعترض عليه إنما العالم هو الذي يعرف مسالك الدلالة سيوفق يحمل هذا على معني وهذا على معني على حسب الأصول الصحيحة
وأنا اليوم طالما سندخل في صحيح البخاري أريد أن أعطيك المفتاح ، لأنه بدون هذا المفتاح يظل الكتاب مغلقًا : لذلك هذا الدرس في منتهى الأهمية ؟ لماذا ؟ سيبنى عليه فهم الكتاب .
وأريد أن أنبه أن بعض الناس يخاف أن الكلام يكون مغلقًا فيقول أن هذا الكلام كلام عالي يحتاج إلى ناس متخصصين وأنا أقول لك لأ ، وأنا لي تجربة وأنت ربما تشعر بشيء من الصعوبة في بداية الكلام لكن أنا لي تجربة طويلة مع الناس في مسألة التدريس بحيث أنت تنتبه معي لا تشغل نفسك بالليل تناول العشاء وتهيئ نفسك وأول ما تأتي المحاضرة تجلس وتعطيني أذنك وقلبك قبل أذنك ولك على إن شاء الله عز وجل أن أصيرك مدمنًا بحيث أنك ستجد نفسك تعودت ولا تستطعم إلا مثل هذا الكلام ،:
وأنا أذكر بين يدي كلامي أحدث تجربتين وقعتا لي في هذا الأمر .
التجربة الأولي:
في مسجدي الذي أدرس فيه في يوم الاثنين ، أعطي في مرة شرح صحيح مسلم والاثنين الذي يليه أعطي درس في مصطلح الحديث في علم الحديث ولأنني أعلم أن كثير من الناس يأتون المسجد فيكونوا جُدُدًا لأول مرة يحضرون عندي وهو متصور أنه كلما دخل المسجد يستمع إلى محاضرة يفهمها من أولها إلى آخرها ، ولأنني أعرف هذا فأنبه في درس صحيح مسلم أقول الاثنين القادم إن شاء الله سنشرح مصطلح وأقول لماذا أنا أقول ذلك ؟ حتى لا يأتي أحد يقول أنه قادم من بلاد بعيدة ولم يفهم ودائمًا في درس صحيح مسلم أنبه على المحاضرة القادمة ، المهم في يوم من الأيام وكان يوم الاثنين وكنت أشرح كتاب في علوم الحديث للحافظ بن كثير في المصطلح .
بعد نصف ساعة من المحاضرة وكنت أتكلم في هذه الأيام عن الحديث الشاذ وهذا أصعب نوع من أنواع علم الأحاديث أو من أصعبها فتكلمت نصف ساعة فوجدت واحد قام من بين الحضور وقال يا عمي الشيخ أنا بعد مرور نصف ساعة لم أفهم ولا كلمة ، قل لي كلام أفهمه أنا أتيت إليك من محافظة كذا ، طبعًا المسجد كله ضحك ، لأنني أنبه في كل مرة وهذا كان أول مرة يحضر هذا الأخ بعد ما سمع الشرائط وغير ذلك فقال أنا اذهب شخصيًا وأحضر مباشرة .
فقلت له حاضر أعطيني خمس دقائق حتى أغير أوضاعي وأكلمك بكلام مفهوم وكان أمامي في سند أحد الأحاديث أحد الرواة الثقات ، واعتبرت هذا نوع من الفرجة لما رأيت أمامي الإسناد وقلت أن هذا سيكون مدخلي أن هذا الرجل يفهم أو يشعر بشيء من الرضا لو فهم الكلام الذي سأقوله والراوي هذا أحد شيوخ البخاري أيضًا اسمه الضحاك بن مخلد الشيباني وكنيته أبو عاصم ولقبه النبيل وهو مشهورٌ بكنيته أكثر من اسمه فتجد دائمًا في الأسانيد يقول أبوعاصم فنحن نعلم أنه أبو عاصم النبيل .
لماذا لُقِبَ الضحاك بن مخلد الشيباني بالنبيل؟
فوقفت عند لقب هذا الإمام الكبير النبيل ، ولماذا لقب بالنبيل ؟
فقلت لقب بالنبيل هذا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه كان في مجلس, الإمام مالك صاحب المذهب المشهور وهم أثناء المجلس عند الإمام مالك فإذا برجل يقول الفيل ، الفيل ، فكل الحضور خرجوا يجرون من المجلس ليشاهدوا الفيل ، لكون رؤية الفيل شيء كبير ، ولو أن الفيل اليوم يمشي في الشارع لوجدت الناس ينظرون من البلكونات ليشاهدوه ، فما بالك بهذا الزمان ، الفيل نادر ، خرجوا ليشاهدوا الفيل ما عدا أبوعاصم الضحاك فقال له مالك لما لم تخرج كما خرج أصحابك ؟ وقال له ما أجد عنك عوضًا ، فقال له أنت نبيل ولذلك لُقِبَ بالنبيل .
القول لثاني: في لقبه ذكروا أن أبا عاصم النبيل هذا الضحاك كان رجلاً له هندام يلبس الملابس الثمينة والنظيفة وكان هناك رجلٌ أخر يُكني بأبي عاصم وكان غير نظيف , وفي حاله فجاء أبو عاصم صاحبنا صاحب الترجمة التي نتكلم فيها فأتي إلى أحد شيوخه يُقال له بن جريج وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج إمام أهل مكة ومن طبقة الإمام مالك .
المهم طرق أبو عاصم الباب فخرجت إليه جارية فدخلت وقالت لأبن جريج أبو عاصم بالباب قال لها فلان على الأخر ، قالت لا ، أبو عاصم النبيل والنبيل أي يلبس ملابس جيدة وطيبة ، فدخل أبو عاصم على بن جريج وهو يضحك فقال مما تضحك ؟ فحكي له حكاية الجارية فقال له بن جريج أنت النبيل فلُقِبَ بأبو عاصم النبيل .
الأمر الثالث: ذكروا أنه كان كبير الأنف والأنف هو أعلى شي في الوجه وأشرف شيء أيضًا في الوجه والأنفة والعزة من الأنف ولما واحد يحب أن يريك أنه أذل واحد يقول أن أنزلت أنفه الأرض وفي بعض دول الخليج لما واحد يطلب من واحد شيء فيقول له على خشمي أي على أنفي ونحن نقول هنا على عيني وهم هناك يقولون على خشمي فالأنف هذا شيء كبير .
فأبو عاصم هذا كان كبير الأنف فلما تزوج ودخل بامرأته فاقترب منها فقالت له نحي ركبتك عن وجهي فقال لها هذه ليست أذني هذا أنف ، كل هذا أنف لدرجة أنها تصورت أنه ركبه ولذلك لقب بالنبيل لأنه كان كبير الأنف .
فهذه كانت مدخلي للكلام عن الحديث ورواة الحديث وغير ذلك ، المهم أن الرجل شُد لما يسمع وبدأ يحس بأنه ينسجم أول محاضرة لم يفهم كل المحاضرة لكن طلع بهذه الفائدة وكم فائدة من تراجم الرواة ، وهذا الرجل الآن لا يغادر أبدًا أي درس في المصطلح حتى اليوم وحتى أخر درس أنا ألقيته في المصطلح منذ مدة دائمًا يحضر في دروس المصطلح .
التجربة الثانية:
التي أريد أن أحكيها حدثت لي في الكويت ، من حوالي ثلاث سنوات دعتني وزارة الأوقاف في الكويت لألقي أسبوعًا علميًا في موضوعات معينة .
وعملوا محاضرتين ، محاضرة ما بين المغرب والعشاء للعوام أتكلم فيها عن معاني الأحاديث ومحاضرة بعد العشاء لطلبة العلم في علم مصطلح الحديث ، والوزارة قالت أن الذي سيحضر مصطلح الحديث في حدود ثلاثين أو أربعين فجهزوا حوالي مائة كراسة بزيادة ، وما خطر ببالهم قط أن يزيد العدد عن مائة ، ولما جلست بعد صلاة المغرب لأعطي المحاضرة فالمسجد كان عن آخره أعطيت المحاضرة وبعد أن انتهيت من صلاة العشاء قام أحد الأخوة وقال يا جماعة الآن درس في مصطلح الحديث دري تخصصي ، فلم يقم أحد من المسجد وأنا أسقط في يدي ، لماذا ؟ أنا في بلدي ليس لدي مشكلة أنا مجرب صار لي خمسة وعشرون أعمل بهذا النظام لم أغير من طريقتي ولم أغير منهجي وبفضل الله عز وجل أستطيع أن أوصل المعلومة إلى المستمع مهما كانت المادة صعبة جدًا جدًا أستطيع مع كثرة الممارسة بعد توفيق الله عز وجل أن أوصل المعلومة للمستمع .
لكن أنا في بلد غريب لا أعرف الناس ولا أعرف كيف يستقبلون المعلومة فضربت أخماس في أسداس ماذا أفعل ؟ فقلت أعمل المحاضرة الأولى عن تاريخ السنة وتاريخ تدوين الحديث إلى آخره وبدأت في المحاضرة الثانية في اليوم التالي في شرح مصطلح الحديث ، ولم يقم أحد قط من المسجد ، أنا وجدت العوام وليس طلبة العلم لأن أنا قلت لهم كل واحد يحضر كراسة وقلم من أجل أن تكتبوا الفوائد ، فكنت أجد العوام هم الذين يحضرون الكراسات والأقلام ليكتبون ما أقول .
في خلال العشرة أيام عملنا ثقافة حديثيه عند كثير من الناس وبدأ الناس يطالبونني بأن أنا أمليهم أسماء كتب يعملوا مكتبات ، ليس لهم فقط وإنما لأولادهم لأنني تكلمت في ذلك في تلك المحاضرات عن وقف الأولاد لله عز وجل ، يكون عندك ولد وقف كما أنك تجعل مصحف وقف لله أو تجعل سبيل للمياه وقف لله يكون عندك وقف في أي حاجة فيكون عندك ولد وقف لله عز وجل ، تقول الولد هذا أنا أربيه وأنفق عليه وأهيأ له جميع المسائل ليكون من حرس الحدود وتكلمت في هذا المعني بما فتح الله عز وجل به ، وفي نهاية العشرة أيام أمليت عليهم أسماء كتب كثيرة وإلى الآن وأنا أتابع مع إخواننا هذه المحاضرات ما زال لها الأثر الحميد حتى اليوم .
وأنا أريد أن أقول أن قصدي أن أرتقي بذوق المشاهد : وأنا أعتقد أن العامي يمكن أن يكون مسددًا في ذوقه وأقصد بالعامي من ليس عالمًا في الشريعة مهما كان عالمًا في أي فن أخر ، وكل إنسان منا عامي في فن من الفنون أو أكثر أنا عامي بالنسبة للطب والهندسة والصيدلية والزراعة والتجارة والذرة وغير ذلك ، معلوماتي غير موثقة وأنا لست حجة في المجال إذا تكلمت أتكلم بمعلومات عامة معروفة .
كذلك الرجل عالم الذرة أو الطب أو الهندسة أوغير ذلك عامي في علم الشرعية ولا أقول عامي بقصد الشتم أو أقصد أن أحط من مقامه ، ولكن قصدي أن أرتقي بذوق المشاهد وربما يجد المشاهد بعض الصعوبة على حسب استقباله المعلومة في الأول ، وهذا شيء طبيعي جدًا أن يجد صعوبة ، لكن إذا صبر نفسه سينفتح له منجم عظيم يسدد ذوقه ويعلي من قدر فهمه .
اليوم إن شاء الله تعالي أريد أن أريكم نموذج من قدر الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري: في هذا الأسبوع بعض الجرائد تشتم في البخاري ، يقولون أن البخاري يكره النبي صلي الله عليه وسلم ، لماذا ؟ لأنه كشف حياته الشخصية ، هل هناك أحد يحب النبي عليه الصلاة والسلام يكشف حياته الشخصية ؟ فكيف كشفها ؟ قال روي أن النبي ﷺ وعائشة كانوا يغتسلون من إناء واحد من الجنابة ، فهل هذا شخص يحب النبي يكشف هذا الكلام ؟ فما الذي في ذلك ؟ هل الذي يتكلم عفيف جدًا والله أعلم يكون يمشى مع امرأة أو صاحب امرأة أو غير ذلك ، ويأتي يتكلم عن العفة ويرمي الأحرار ، فما الذي في قول البخاري ؟ .
ولم يقل أحد مطلقًا أن وصف غسل الجنابة فيه خدش الحياء ، هذه أحكام شرعية والله عز وجل أمر نبيه ﷺ أن يبلغها للناس وأن يوضحها وديننا دين النصح ، هؤلاء الناس الدين عندهم في المسجد فقط لكن لا يحكم الحياة ،.
ومن يكن ذا فمٍ مرٍ مريضٍ يجد مرًا به الماءَ الزُلالاَ
وخذ عشرات الكتب التي تسير على هذا المنوال وتحصد في مثل هذا الجهل الكبير الذي انتم بعد أن تعرفوا قدر هذا الإمام ستعرفوا قدر هؤلاء من الجهل أيضًا .
اليوم سنتكلم عن شيء اسمه الترجمة لأن فقه البخاري كله في تراجم الكتاب ،
فما معني الترجمة ؟
الترجمة: المعني المتبادر الذي يعلمه الجميع هو أن تنقل كلامًا من لغة إلى لغة ، تنقل كلام من عربي إلى إنجليزي ، فرنسي ، إيطالي ، أسباني أو من هذه اللغات إلى اللغة العربية أو من هذه اللغات إلى بعضها فهذه اسمها ترجمة النقل نقل الكلام من لسان إلى لسان أخر .
الترجمة لغةً: هي البيان والتفسير والإفصاح .
الترجمة اصطلاحاً :_في مصطلح أهل العلم_ هي جمع أحاديث لها معني واحد تحت باب . .
مثال ذلك: قول البخاري رحمه الله( باب ما جاء في الصحة والفراغ وألا عيش إلا عيش الآخرة )وهذا أول باب في كتاب الرقاق كلام البخاري هذا اسمه ترجمة .
هذه الترجمة تحتها نص أو أكثر والنص هذا إما أن يكون قرءانًا أو أن يكون حديثًا للنبي عليه الصلاة والسلام أو أن يكون كلامًا للصحابة أو التابعين .
النص: عبارة عن هذه الثلاثة ، قرءان ، سنة ، كلامًا للصحابة أو التابعين ، يكتب الترجمة ويورد تحتها أحاديث مثل أول حديث في كتاب الرقاق حديث بن عباس ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ).
عندما يقول باب ما جاء في الصحة والفراغ فهذه هي الترجمة وهذا هو الركن الأول .
الركن الثاني: النص الذي جعل له ترجمة والذي قلناه الآن .
فنحن عندنا الترجمة والمُتَرجَم له وهو النص والمُِترجٍم الذي هو البخاري ، فتكون القسمة العقلية لأي ترجمة ثلاثة ، المُِترجٍم الذي هو الإمام ، والمُتَرجَم له وهو النص الذي أورده والترجمة وهي الكلام الذي وضعه الإمام البخاري له معني متعلق بالنص الذي تحته.
ولابد أن تكون الترجمة صحيحة أي لها علاقة بالنص الذي تحتها .
فلا يأتي مثلاً ويقول (باب ما جاء في الصحة والفراغ) ويقول وقول الله تعالي: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ) (البقرة:222) فتقول وما العلاقة بينهما لا يوجد علاقة بينهما . ، فهذه تسمى ترجمة فاسدة لأنه لابد أن تكون هناك مناسبة بين الترجمة ومابين النص الذي تحت الترجمة حتى وإن كانت المناسبة خفية ، فلابد أن تكون هناك مناسبة .
تراجم البخاري هي التي أعرضت وأظهرت لنا فقه الإمام البخاري ، وسأعطي أمثلة لكي تعلم من هو الإمام البخاري ولا أستطيع أن أحضر كل أطايب صنيع الإمام في الصحيح لأن الحلقة محدودة ، لكن في أثناء شرحنا لكتاب الرقاق سنبين كثيرًا من محاسن تراجم الإمام البخاري رحمة الله عليه.
في كتاب مواقيت الصلاة وركز معي لأن البخاري كان من عادته أن يترجم بالشيء الخفي له تراجم ظاهرة وتراجم خفية ، عادة البخاري حتى في كتبه مثل كتاب التاريخ الكبير يتكلم بالشفرة ، يريد من يفهمه ، البخاري لا يفهمه إلا رجل سيال الذهن لأن كل شغله أو أغلبه بالشفرة واستمع لما يأتي.
كتاب مواقيت الصلاة كتب(باب من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس ):
وأورد تحت هذا الباب ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول: حديث أبو هريرة عن النبي_ صلي الله عليه وسلم: [ إذا أدرك أحدُكُم ركعةً من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وإذا أدرك ركعةً من صلاة الصبح قبل أن تشرق الشمس فليتم صلاته ] .
وهذا النص مباشر للترجمة وهي باب من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، أي ما حكم صلاته ؟ أنت عرفت حكم الصلاة من الحديث الذي قاله [ إذا أدرك أحدكم ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته ]_وفي اللفظ الأخر_( فقد أدرك )، فهذه الترجمة مباشرة مع الحديث أم لا ؟ نعم مباشرة مع الحديث .
الإشكال في الحديثين القادمين :
حديث بن عمر عن النبي ﷺ قال: [ إنما بقاؤكُم فيما سلف قبلُكُم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس ، أُوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأُعطوا قيراطًا قيراطًا ثم أُوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأُعطوا قيراطًا قيراطًا ثم أوتينا القرءان فعمِلنا من صلاة العصر إلى غروب الشمس فأُعطينا قيراطين قيراطين ، فاعترض أهل الإنجيل وأهل التوراة قالوا ربنا كنا أكثر عملًا منهم وقد أعطيتنا قيراطًا قيراطًا _كانوا أقل منا عملًا وأخذوا قيراطين قيراطين _، فقال الله عز وجل هل ظلمتكم من أجوركم من شيء ؟ قالوا: لا ، قال فذلك فضلي أُوتيه من أشاء
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا على عمل من الصباح إلى الليل واشترط العمل ووضع الأجر ، فاليهود عملوا إلى نصف النهار ثم قالوا: لا حاجة لنا في أجرك وتركوا العمل والنصارى عملوا من صلاة الظهر إلى العصر ثم قالوا لك ما عملنا أي لا نحتاج منك شيئًا ولن نكمل ، ثم عملنا من صلاة العصر إلى غروب الشمس فاستوفينا أجر الفريقين جميعًا "
ما هي علاقة الترجمة بهذين الحديثين ؟
باب من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس ما حال صلاته ؟ صحيحة أم لا ، فجاء الجواب في حديث أبوهريرة الأول أي فليتم صلاته فقد أدرك ، فهذه مفهومة، الترجمة مع حديث أبوهريرة مفهومة .
لكن ما علاقة من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس بحديث بن عمر وحديث أبي موسى ؟ .
فيأتي واحد لا يفهم لا يستطيع أن يصل إلى مراد البخاري فيقول هذه ترجمة فاسدة لأن هذين الحديثين ليس لهما علاقة بالتبويب ، ليس له علاقة بالترجمة .
وهل تعلم أن البخاري لماذا وضع هذين الحديثين ؟
في حديث بن عمر لما اعترض اليهود والنصارى كانوا أقل عملاً منا وأكثر أجرًا فقال لهم ربنا سبحانه وتعالي ( هل ظلمتكم من أجوركم من شيء ؟ قالوا: لا ، قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء ) .
رجل أدرك ركعة واحدة من صلاة العصر وبعد أن قام ليأتي بالثانية أذن المؤذن لصلاة المغرب ، الثلاث ركعات التي سيأتي بهم المتبقية من صلاة العصر وقعوا في وقت العصر أم وقعوا في وقت المغرب ؟ بالطبع وقعوا في وقت المغرب ، العدل أن الثلاث ركعات لا يأخذ أجرهم ، لماذا ؟ لأنه أوقعها في غير الوقت لا سيما إذا تذكرنا قول الله تبارك وتعالي:﴿ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء:103] أي موقت بوقت ، وقت أول ووقت آخر ، تصليها قبل الوقت لا تصح ، تصليها بعد الوقت لا تصح إلا بعذر العدل أنك تأخذ أجر ركعة واحدة ولا تأخذ أجر الثلاثة الأخرى ، فكان من فضل الله سبحانه وتعالي علي العباد أنك إذا أدركت ركعة في الوقت وهب لك أكثر الصلاة كأنك صليتها في الوقت .
المناسبة التي أورد الإمام البخاري هذين الحديثين
فيريد أن يقول أن الله تبارك وتعالى يعامل هذه الأمة بالفضل لا بالعدل ، وهذه هي المناسبة التي أورد الإمام البخاري هذين الحديثين من أجلهما في كتاب المواقيت تحت هذا التبويب الذي ذكرته لكم .
أحيانًا الإمام يورد الترجمة بصيغة الاستفهام:
مثال ذلك: الترجمة التي أوردها في كتاب الأحكام من صحيحه قال( باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان ؟)
فلماذا يورد البخاري الترجمة أحيانًا بصيغة الاستفهام ؟
لأن المسألة فيها خلاف مع أن رأي البخاري الذي يرجحه يكون ظاهرًا من الأحاديث أو النصوص التي يوردها تحت هذا التبويب .
ونحن نقول أن الترجمة لها كم ركن ؟
لها ثلاثة أركان وأنا أريد أن تركز معي وربما وجدت صعوبة في أول محاضرتين ولكن هذا هو المفتاح الذي ستفهم من خلاله الكتاب كله إذا فهمت هذا الكلام ونحن نكرر أكثر من مرة .
الترجمة لها ثلاثة أركان: الركن الأول المترجم وهو البخاري والركن الثاني وهو المترجم له وهو النص والركن الثالث وهو الترجمة نفسها .
(باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟) فما اسم هذه ؟ اسمها الترجمة ومن الذي ترجم أو كتب هذه الترجمة ؟ البخاري ، فلدينا ركنين البخاري والترجمة التي وضعها وذكرناها ، الركن الثالث وهو النص الذي ترجمت له .
الإمام البخاري أورد تحت هذا التبويب ثلاثة أحاديث فيما أذكر .
الحديث الأول: حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه كتب إلى ابنه وهو في ساجيستان وكان قاضيًا قال يا بني لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت النبي ﷺ يقول: [ لا يقضين أحدكم بين اثنين وهو غضبان ] ، نعود إلى الترجمة باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان ؟ ، ما الجواب ؟ هل يقضي وهو غضبان أو يفتي ؟ ، لا ، الحديث يقول: [ لا يقضي أحدكم بين اثنين وهو غضبان ] فهذه الترجمة مباشرة .
ثم ذكر تحته حديث أبي مسعود ألبدري رضي الله عنه:
( أن رجلاً أتي النبي صلي الله عليه وسلم قال يا رسول الله إني لا أدرك صلاة الغداة مم يطول بنا فلان )، قال بن مسعود فما رأيت النبي صلى الله علي وسلم قط أشد غضبًا منه في موعظة يومئذ وقال ( يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيما رجل صلى بالناس فليوجز فإن فيكم الضعيف والكبير وذا الحاجة
وأورد أيضًا حديث بن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض: قال: فتغيظ عليه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وقال( ليمسكها حتى تحيض ثم تطهر فإن شاء أن يطلق فليطلق ) أي أنه يطلق في طهر لم يمسها فيه
ما دلال هذه الأحاديث ؟
الحديث الأول: حديث أبي بكرة أنهي المسألة [ لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ] وحديث أبي مسعود فيه أن النبي صلي الله عليه وسلم غضب غضبًا شديدًا بسبب تطويل هذا الإمام وأنه تغيظ علي بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض .
وهناك حديث أخر لزيد بن خالد الجهني :والإمام البخاري أورد هذا الحديث في كتاب العلم قال (باب الغضب في الموعظة والتعليم وإذا رأى ما يكره) وأورد أحاديث منها حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه في اللُقَطه أنه سأل النبي صلي الله عليه وسلم عن اللُقَطه شخصٌ ما وجد مالاً ماذا يعمل فيه ؟ قال: ( عرفها ، عرف وقاصها ووكاءها ) (الوكاء)_ الحبل التي تشد به القربة_ ،( والعفاص) أي الجلد ، وجدت حافظة بها نقود ، العفاص هو لون الحافظة من جلد من قماش ، والوكاء أي السوستة مثلاً أو إنها مربوطة بحبل ، الصفة الخارجية للذي وجدت ، ( عرف عفاصها ووكاءها سنة فإن جاء ربُها_أي صاحبها_وإلا فاستمتع بها ) إن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فاستمتع بها ، فإن جاء ربها بعد ذلك ، بعد سنة بعد اثنين ، بعد ثلاثة بعد عشرة ردها إليه .
فقيل للنبي صلي الله عليه وسلم وضالة الغنم ؟ قال: ( هي لك أو لأخيك أو للذئب ) أي خذها ، لأنها إذا وجدها صاحبها أو أنت تأخذها فإن لم تأخذها أنت ولا صاحبها سيأخذها الذئب لأن الغنمة قليلة الحيلة لا تستطيع أن تصاول ذئبًا .
فقيل له يا رسول الله وضالة الإبل ؟ قال: فاحمرت وجنتاه من الغضب وقال:
( مالك ولها معها سقائُها وحذائُها تردُ الماء وترعى الشجر فدرها حتى يأتيها ربُها ) معها سقائها وحذائها ، والحذاء: هو الخف ، والجمل سريع جدًا أي إذا كان هناك وحش ، ذئب ، أسد ، نمر ، فهد ، غير ذلك ممكن أن يقاوم ويفلت وفي نفس الوقت معه غذاؤه وطعامه وشرابه ممكن يغيب عشرين يوم بدون أن يأكل أو يشرب ويأخذ من المخزون يطلع ويجتر ويبلع ثانية وغير ذلك .
لماذا غضب النبي عليه الصلاة والسلام في ضالة الإبل ؟
لأن الأصل في أموال الناس العصمة فلا يأخذ أحد حاجة أحد ، طالما أن الجمل فيه مظنة أن ينجوا وأن المدة تطول به حتى يبحث عنه صاحبه ويجده فليس لك شأن به ولا تقترب منه لأن الأصل في أموال الناس العصمة .
والنبي ﷺ لما سُئِلَ عن ضالة الإبل غضب حتى احمرت وجنتاه من الغضب وهذا قد يكون فيه شيئًا ظاهريً من التناقض ، نعود لتبويب البخاري.
هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان ؟
فالإمام أورد أحاديث كأنها متعارضة ، الأول: [ لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ] ثم جاء بأحاديث كان النبي ﷺ كان غضبان فيها
انظر إلى البخاري ودقة البخاري ، ماذا قال في التبويب ؟ ربما البعض لم ينتبه والبعض انتبه لتبويب البخاري ،.
البخاري ذكر شيئين في التبويب قال: باب هل يقضي القاضي أو يفتي ؟ أصبح عندنا قضاء وعندنا فتوى ، فنص في القضاء أنه لا يجوز أن يفتي وهو غضبان ، وأما في الفتوى فيجوز أن يفتي وهو غضبان .
وهذه تحليل المسألة ، فالبخاري رحمة الله عليه يريد أن ينبه على هذه المسألة ، وكان من الممكن أن يقول باب لا يقضي وهو غضان ،.