تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين ,, من خلال رد الدارمي على المريسي 1/ 2

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    18

    Arrow من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين ,, من خلال رد الدارمي على المريسي 1/ 2

    من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين ,, من خلال رد الدارمي على المريسي 1/ 2
    http://arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=496

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    18

    Arrow رد: من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين ,, من خلال رد الدارمي على المريسي 1/ 2

    من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين،، من خلال رد الدارمي على المريسي 2/ 2
    http://arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=596

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    18

    Arrow رد: من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين ,, من خلال رد الدارمي على المريسي 1/ 2

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الدكتور عمرو مشاهدة المشاركة
    من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين ,, من خلال رد الدارمي على المريسي 1/ 2
    http://arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=496
    من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين ,, من خلال رد الدارمي على المريسي 1/ 2
    بواسطة: أ. صلاح بن فتحي هَلَل*
    بتاريخ : السبت 12-03-2011 04:01 مساء



    خاص بالمركز العربي للدراسات والأبحاث


    الحمدُ لله رَبِّ العالمين، «حمدًا كثيرًا طَيِّبًا مباركًا فيه»، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صَلِّ اللهمَّ وسَلِّم وبَارِكْ عليه صلى الله عليه وسلم، وارْضَ اللهمَّ عَنْ آلِه وصَحْبِه الغُرِّ الميامين رضوان الله عليهم، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.


    أما بعد:

    فقد بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في جزيرةٍ عربية تموج بالفتن والثارات بين القبائل، طلبًا للفخر والشرف والمكانة، وكان للدين منزلة في نفوس الناس، وكان أهل الكتاب خاصة يترقَّبون ظهور نبيٍّ، ويعرفون ذلك مِن كتبهم، لكنهم كانوا يترقبونه منهم، لا مِن العرب، فلما بعثه الله عز وجل عربيًّا شَرِقَتْ به نفوسُ يهود خاصة، وأهل الكتاب والمشركين عامة، واتَّحَدَ أعداء الأمس ضد النبي العربي صلى الله عليه وسلم، وثارتْ يهود تثأر لمجدٍ كانت تحلم به، فلما لاحتْ لها هزيمتها، ورأتْ عجزها واضحًا في صدِّ قوة الإسلام وسطوة نوره؛ عندئذٍ تركت المجاهرة بعدائها، وسارتْ في كيدها وعدائها سِرًّا، فعملتْ على تأليب الأعداء تارةً، والدسِّ والتشويش وهو ما يسميه أهل عصرنا "الغزو الفكري" تارات أخرى.

    وقد بدا ذلك واضحًا في محاولات يهود المتكررة للنيل مِن الإسلام، مرةً عن طريق التحرُّش بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ بالسؤال عن بعض أمور الغيب ونحوها؛ لإحراجه صلى الله عليه وسلم، وإحراج أصحابه رضي الله عنهم، ومرة أخرى بالسعي في قتْل النبي صلى الله عليه وسلم بالسُّمِّ، أو تأليب الأعداء ضدّه صلى الله عليه وسلم والتعاون معهم، ورغم هذا كله زاد الإسلام قوة وانتشارًا، واتسعتْ دولته، خاصة في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضوان الله عليه وعلى سائر الخلفاء والصحابة أجمعين.

    حينئذٍ تظاهر بعض يهود بالإسلام، ليصل هؤلاء إلى المكيدة للمسلمين، كما حصل مِن ابن سبإٍ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام، وبذرَ بذرة التشيُّع القبيحة، وبدأ طوفان الفتن يشق الصفوف بقوةٍ، فتشيَّعَت الشيعة، واعتزلت المعتزلة.

    والحقيقة فإِنَّ ظهور المعتزلة كان له أعظم الضرر على الإسلام والمسلمين؛ نظرًا لما مَوَّهَتْ به أئمة المعتزلة مِن الدين والعلم، حتى خُدِعَتْ بهم طوائفُ مِن الأُمَّة، واستفحل خطرها، وصار كلُّ مَن أراد الطعن في الدين يدَّعي الاعتزال، فضمَّت المعتزلة بين جنباتها مِن الزنادقة والفلاسفة وأعداء الدين ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، رفعوا شعار البحث العلمي والعقلي، واتخذوا العقل مطيةً لإهدار النصوص وإبطال الشريعة والكيد للمسلمين، وافتخرتِ المعتزلةُ بأئمتها مِن أمثال النَّظَّام الزنديق الذي ألَّف في فضل التثليث على التوحيد، ثم جاء ينثر باطله في صفوف المسلمين، فجاءتْ أقواله على دربٍ واحدٍ مِن التشكيك في الدين، والطعن في الشريعة، لم تخفَ على كثيرٍ مِن علماء المسلمين كأبي منصور البغدادي وغيره ممَّن كشفوا زَيْف هذا النَّظَّام المعتزلي، لكن ثمة مَن خدعهم بريقُه، فنقلوا كلامه وأقواله، بل واتَّكأ عليها بعضُهم، وبرَّرَ له آخرون، أو اعتذروا عنه، إحسانًا للظنِّ به؛ على اعتبار نِسْبَتِه عندهم للعلم بل ولأئمة المعتزلة!، والناس كالطير يتبع بعضُها بعضًا.

    وهكذا نُقِلَتْ أبحاث الزنادقة وأفكارهم إلى ديار المسلمين، وتسرَّبَتْ أباطيلهم، فقرأنا وسمعنا ورأينا ما لم يكن يخطر ببالٍ لكنه وقع، وهنا قام أهل السنة والحديث والعلم والفضل؛ بهتك ستار القوم، وبيان عوارهم، ووسائلهم الملتوية في التسلُّل إلى عقول الناشئة.

    وفي حديثِ الإمام أبي منصورٍ البغدادي رحمه الله؛ عن النَّظَّام ما يكشف عن كثيرٍ مِن ألاعيب الزنادقة للوصول لأغراضهم الدنيئة، فيقول الإمام البغدادي أثناء كلامه على "النظامية": "هؤلاء أتباع أبي إسحق إبراهيم بن سَيَّار المعروف بالنَّظَّام، والمعتزلة يُمَوِّهُون على الأغمار بدينه، ويُوهِمُون أنَّه كان نَظَّامًا للكلام المنثور والشعر الموزون؛ وإِنَّما كان ينظم الخرز في سوق البصرة، ولأجل ذلك قيل له: النَّظَّام، وكان في زمان شبابه قد عاشر قومًا من الثَّنَويَّة وقومًا مِن السُّمَنِيَّة القائلين بتكافؤ الأدلة، وخالَطَ بعد كِبره قومًا مِن مُلْحدة الفلاسفة، ثم خالَطَ هشامَ بن الحكم الرافضي، فأخذ عن هشامٍ وعن ملحدة الفلاسفة قوله بإبطال الجزء الذي لا يتجزأ، ثم بنى عليه قوله بالطَّفرة التي لم يَسْبق إليها وهمُ أحدٍ قبله، وأخذ من الثَّنَوِية قوله بأن فاعل العدل لا يقدر على فِعل الجور والكذب، وأخذ مِن هشام بن الحكم أيضًا قوله بأن الألوان والطعوم والروائح والأصوات أجسامٌ، وبنى على هذه البدعة قوله بتداخل الأجسام في حيِّزٍ واحد، ودَوَّن مذاهبَ الثَّنَوية وبدعَ الفلاسفة وشُبَه الملحدة في دين الإسلام، وأُعْجِبَ بقول البراهمةِ بإبطال النبوَّات، ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفًا مِن السيف، فأنكر إعجاز القرآن في نَظْمِه، وأنكر ما رُوِيَ في معجزات نبيِّنا صلى الله عليه وسلم مِن انشقاق القمر، وتسبيح الحصا في يده، ونبوع الماء مِن بين أصابعه = ليتوصَّل بإنكار معجزات نبيِّنا عليه السلام إلى إنكار نبوته. ثم إنَّه استثقلَ أحكامَ شريعةِ الإسلام في فروعها، ولم يجسر على إظهار دفعها، فأَبْطَل الطرقَ الدالة عليها، فأنكر لأجل ذلك حجةَ الإجماع وحجة القياس في الفروع الشرعية، وأنكر الحجة مِن الأخبار التي لا توجب العلم الضروري.

    ثم إِنَّه عَلِمَ إجماعَ الصحابة على الاجتهاد في الفروع الشرعية فذكرهم بما يقرؤه غدًا في صحيفة مخازيه، وطعنَ في فتاوى أعلام الصحابة رضي الله عنهم، وجميعُ فرق الأمة مِن فريقي الرأي والحديث ـ مع الخوارج والشيعة والنجارية وأكثر المعتزلة ـ: مُتَّفِقُون على تكفير النَّظَّام، وإنَّما تَبِعَهُ في ضلالته شِرْذِمَةٌ مِن القدرية كالأسواري، وابن خابط، وفضل الحدثي، والجاحظ، مع مخالفة كلِّ واحدٍ منهم له في بعض ضلالاته وزيادة بعضهم عليه فيها، وإعجابُ هؤلاء النفر اليسير به كإعجاب الجُعْل بدُحْرُوجته[1]

    وعلى درب هؤلاء الزنادقة المخذولين والمبتدعة الهالكين سار المستشرقون وأذيالهم في عصرنا وقبله، بل وعلى هذا سار بعض المنتسبين إلى الإسلام أمثال أبي رية في كتابه "أضواء على السنة النبوية" الذي "تلقَّفَ فيه كلَّ ما قاله الأقدمون والْمُحْدَثون مِن طعون في الأحاديث، ورجالها، وما قاله المستشرقون والمبشرون، وأذنابهم، وحرص أشد الحرص على أَنْ يُظهر السنة بمظهر الاختلاف، والتناقض، والتحريف والتبديل، والسذاجة والتخريف، وفي سبيل هذا الغرض زَيَّفَ الصحيح، وصحَّحَ الْمُخْتَلَق المكذوب[2]

    "وقد حاول هؤلاء الأعداء أن يشككوا المسلمين في أساس دينهم وهو القرآن الكريم وذلك بالتشكيك في تواتره وإعجازه وسلامته من الاختلاف والتناقض وصلاحية أحكامه لكل عصرٍ ولكل بيئةٍ، وفي سبيل هذه الغاية اختلقوا الروايات وحرفوا معاني الآيات.

    وكذلك حاولوا أن يشككوا المسلمين في الأصل الثاني وهو السنة النبوية وقد اتخذوا للوصول إلى هذه الغاية الدنيئة أساليب متعددة، فتارةً عن طريق التشكيك في ثبوتها، وأنها آحادية وليست متواترة.

    وتارةً أخرى عن طريق اختلاق الروايات التي تُظْهِر الأحاديث بمظهر السطحية والسذاجة في التفكير ومخالفة الواقع المحسوس أو العقل الصريح أو النقل الصحيح أو التجربة المسلَّمَة إلى غير ذلك من الأساليب، وقد حمل لواء هذا التهجُّم من قديم (النَّظَّام)[3] ومَن على شاكلته من أعداء السنن النبوية...[4]

    وعلى أهل الإسلام الآن استقراء هذا التاريخ الغابر للوقوف على طرائق أعدائهم ومكائدهم للإسلام والمسلمين، ليأخذوا حذرهم.

    ويمكن لنا أن نقفَ على كثيرٍ مِن هذه الأساليب الملتوية، والمكائد البِدْعِيَّة، مِن خلال بعض الإشارات التي ذكرها الإمامُ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ (ت280)[5]، وهو ينافح عن السُّنَّةِ والإسلام، ويرد على أحد المبتدعة مِن تلاميذ "بِشْرِ الشَّرِّ" المُسَمَّى بِشْر بن غِيَاثٍ الْمَرِيْسِيُّ (تُوفِّي 218 وقيل: 219[6]، وابنِ الثَّلْجِيّ[7]، وقد ردَّ الإمامُ الدارِميُّ على ثلاثتِهم ردًّا بليغًا، نصر الله به السُّنَّة، وقمع الله به البدعة، وكشف أبو سعيدٍ الدارميُّ رحمه الله؛ الكثيرَ مِن أساليب أهل البدع وطُرُقهم في محاربة الإسلام والكيد للسُّنَّة وأهلها، فمرَّة يذكرون الدليل ويعترفون بصحته وتثبيته ثم يتأَوَّلونه بالمحال مِن التأويلات التي لا يعرفها أهل العلم ولا تجري على سَنَن لغة العَرب، ومرةً يُشكِّكون في صِحَّةِ النَّقْل ويطعنون في النَّقَلَةِ؛ بل يصل بهم الحال إلى الطعن في بعض الصحابةِ والتعدِّي على مقامهم رضي الله عنهم، وأهل البدعة والزَّنَدقة في كل ذلك تتناقض أقوالهم وأفعالهم، لحرصهم على تحقيق ما يشتهون ويرغبون فيه مِن الكيد للدين، فما يصحِّحونه في مكانٍ يضعِّفونه في آخر، وما يقبلونه في مكانٍ يردُّونه في آخر، أضف إلى ذلك أَنَّ بعضَ أفكارِهم قد سَمِعَها الدَّارميُّ (رحمه الله) مِن العجم واليهود! وقد كان والد المَرِيسيِّ يهوديًّا، فهل انتقلَ بِشْرٌ للإسلام بأفكاره وطموحاته وأطروحاته اليهودية عَنْ عمْدٍ؟ أم أنَّ المسألة مجرَّد واقعةَ عينٍ غير مقصودة؟ وما السِّرّ وراء تبوء المريسي هذه المنزلة الكبيرة، وإثارته هذه الضجَّة إِنْ كان الرجل لا يملك تاريخًا ولا نَسَبًا قديمًا في الإسلام؟.

    ولنترك بعض عبارات الإمامِ الدارمِيِّ (رحمه الله) تتحدث بنفسها عن ضلالات هذا المَرِيسيِّ وصاحبه ابن الثَّلْجِيِّ وتلميذهما الجهميِّ، وتكشف زَيْغَ هؤلاء الثلاثةِ؛

    · مخالفة إجماع المسلمين، والتأويلات المقلوبة؛ بل المحالة:

    وقد وصفَ الإمامُ الدارميُّ بِشْرَ بنَ غِيَاثٍ المَرِيسيَّ بـ: "المريسي الضال، الذي خرج بتأويله هذا مِن جميع لغات العرب والعجم،... وما أحسب هذا المريسي إلا وهو على يقينٍ مِن نفسه؛ أنها تأويل ضلال، ودعوى محال؛ غير أنَّه مكذِّب الأصل، مُتَلَطِّف لتكذيبه بمحال التأويل، كيلا يفطن لتكذيبه أهل الجهل، ولئن كان أهل الجهل في غَلَطٍ مِن أمره؛ إِنَّ أهل العلم منه لعلى يقين، فلا يظُنَّنَّ المنسلخُ مِن دين الله أنه يُغالط بتأويله هذا إلا مَن قد أَضَلَّهُ الله، وجعل على قلبه وبصره وسمعه غشاوة [7]

    ويشير الدارمي إلى مخالفة القوم للكتاب والسنة وما مضى عليه الصحابة والتابعون وأئمة الدين، فيقول الدارمي بعد كلامٍ له: "وإنما جئتُ بهذه الأخبار كلها ليعلم الناس أنَّ القومَ مخالفون لما قاله الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] وما مضى عليه الصحابة والتابعون، وأنهم في ذلك على غير سبيل المؤمنين ومَحَجَّةِ الصادقين[8]

    وقال الدارميُّ: "فمن يلتفت بعد هذا إلى تأويل هذا المريسي ويدع تأويل هؤلاء الأئمة؟[9]

    وقال له الدارمي: "قد عَلِمْتَ أيها المريسي أنَّ هذه تفاسير مقلوبة، خارجة مِن كلِّ معقولٍ لا يقبله إلا كلّ جهول"[10]

    وقال له: "فإلى هذا المعنى تقصد...، وقد سَمِعْنَاهُ مِن بعضِ خُطبائكم، مغالطين بمثل هذه الحجج، أَنْبَاط كُوثا أو بطاطا[11] أو يهود الحيرة أهل ملة أبيك وجيرانه؛ فقد سمعتُ أبا هشام الرِّفَاعي يذكُر أنَّه سَمِعَ أبا نُعَيْمٍ يقول: إِنَّه رأى أباكَ يهوديًّا صَبَّاغًا بالحِيَرَة"[12]

    · تفريق المجتمع وجَمْع المفترق، وتخصيص العام وتعميم الخاص:

    ويكشف الدارمي عن مسلكٍ دقيقٍ للمخالفين، حين يعمدون إلى نصوصٍ شرعيَّةٍ مجتمعة فيفرقون بينها، ويجمعون بين أخرى مفترقة، أو يُعمِّمون الخاص، ويخصصون العام؛ ليتسنى لهم الخروج بمعانٍ جديدةٍ غير مقصودة مِن السياق، فيقول الدارمي في ردِّه على بِشْرٍ الشَّرِّ: "لقد مَيَّزْتَ بين ما جَمَعَ الله، وجَمَعْتَ بين ما مَيَّزَ الله، ولا يجمع بين هذين في التأويل إلا كل جاهل بالكتاب والسنة؛ لأنَّ تأويل كل واحدٍ منهما مقرونٌ به في سياق القراءة لا يجهله إلا مثلك"[14]

    وقال له: "والقرآن عربيٌّ مُبِين، تُصرف معانيه إلى أشهر ما تعرفه العرب في لغاتها وأَعَمِّها عندهم، فإِنَّ تأَوَّلَ مُتَأَوِّل مثلك جاهل؛ في شيء منه خصوصًا، أو صَرَفه إلى مَعْنًى بعيدٍ عن العموم بلا أَثَرٍ = فعليه البينة على دعواه، وإلا فهو على العموم أبدًا كما قال الله تعالى[15]

    · قلةُ أمانة القوم واتهامهم في النَّقْل:

    ويكشف الدارمي عن قلة أمانة القوم واتهامهم في النَّقْل؛ عندما يقول لبِشْرٍ: "ولو لم يأتِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وعن أصحابه رضي الله عنهم؛ فيه أَثَر = لم تكُن مِمَّن يُعْتَمد على تفسيرك؛ لِمَا أَنَّك فيه ظنين غير أمين"[16]

    وقال له: "ومع روايتك هذه عن ابن عباس دلائل وشواهد أيضًا باطل؛ إحداها: أنك أنت رويتها وأنتَ المتهم في توحيد الله، والثانية: أنك رويتَهُ عن بعض أصحابك غير مُسَمًّى وأصحابك مثلك في الظِّنَّة والتهمة، والثالث: أنه عن الكلبي وقد أجمع أهل العلم بالأثر على أنْ لا يحتجوا بالكلبي في أَدْنى حلال ولا حرام؛ فكيف في تفسير توحيد الله وتفسير كتابه؟ وكذلك أبو صالح"[17]

    · إبطال الصحيح روايةً بالتأويل الفاسد والتفسير السَّمج:

    ويعود الدارمي فيوضِّح كيف يعمد القوم إلى الصحيح فيبطلونه بتأويلاتهم، ويخرجونه عن مقصوده؛ فقال الدارمي: "ثم انتدب المريسي الضال لرد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،.... فأقَرَّ الجاهلُ بالحديث وصحَّحَه وثَبَّتَ روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تَلَطَّفَ لرَدِّه وإبطاله بأقبح تأويلٍ، وأَسْمَجِ تفسيرٍ، ولو قد رَدَّ الحديث أصلًا كان أَعْذَر له مِن تفاسيره هذه المقلوبة، التي لا يُوافقه عليها أحدٌ مِن أهل العلم؛ ولا مِن أهلِ العربية"[18]

    وقال الدارمي: "فيقال لك أيها المريسي: أَقْرَرْتَ بالحديثِ وثَبَّتَهُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأَخَذَ الحديث بحلقك؛ لِمَا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قَرَنَ التفسير بالحديث، فأَوْضَحَهُ ولَخَّصَهُ، لِجَمْعِها جميعًا في إسنادٍ واحدٍ، حتى لم يَدَع لِمُتَأَوِّلٍ فيه مقالًأ"[19]

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
    · باحث وداعية إسلامي مصري.
    "حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"


    ([1]) "الفرق بين الفِرَق" لأبي منصور البغدادي (ت 429) (ص/131، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة العصرية، صيدا -بيروت، لبنان، 1416، الموافق1995م). وقد كشف البغدادي عن كثيرٍ مِن فضائح النَّظَّام، فليراجعها مَن أرادها.

    ([2]) تضمين من كتاب "دفاع عن السنة" د.محمد أبو شهبة (ص/9، ط: مكتبة السنة، الطبعة الأولى)، ويراجع في الرد على كتاب أبي رية أيضًا: "الأضواء الكاشفة" للعلامة المعلمي اليماني رحمة الله عليه.

    ([3]) قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (10/541): "النَّظَّامُ أبو إسحاق إبراهيم بن سَيَّارٍ، شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف،... مولى آل الحارث بن عَبَّادٍ، الضُّبَعِيُّ، البصري، المُتَكَلِّمُ، تكلم في القَدَرِ، وانفرد بمسائل، وهو شيخ الجاحِظِ، وكان يقول: إنَّ الله لا يقدر على الظلم ولا الشَّر، ولو كان قادرًا لَكُنَّا لاَ نَأْمَنُ وَقْعَ ذلك، وإِنَّ الناسَ يقدرون على الظلم، وصرَّح بأنَّ الله لا يقدرُ على إخراج أحدٍ مِن جهنم، وأنه ليس يَقْدِرُ على أَصْلَحَ مِمَّا خَلَقَ. قلتُ: القرآنُ والعقل الصحيح يُكَذِّبَانِ هؤلاء، وَيَزْجُرَانِهِ م عن القول بلا عِلْمٍ، ولم يكن النَّظَّامُ مِمَّن نفعَهُ العلمُ والفَهْمُ، وقد كَفَّرَهُ جماعةٌ، وقال بعضُهم: كان النَّظَّامُ على دِيْنِ البَرَاهِمَةِ المُنْكِرِيْنَ للنبوةِ والبَعْث ويُخْفِي ذلك.... وردَ أنَّهُ سقط مِن غُرفة وهو سَكْرَانُ، فمات في خلافة المُعْتَصِمِ أو الوَاثِقِ، سنة بضعٍ وعشرين ومائتين. وكان في هذا الوقت: العلامةُ المُتَكَلِّمُ أَحَدُ مشايخِ الجَهْمِيَّةِ إبراهيمُ ابن الحافظِ إسماعيلَ ابنِ عُلَيَّةَ البَصْرِيُّ".

    ([4])تضمين من كلام د.أبي شهبة في مقدمة كتابه السابق (ص/7).

    ([5]) وصفه الذهبي رحمه الله في صَدْر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (13/319) بـ "الإمام، العلامة، الحافظ، النَّاقدِ، شيخ تلك الديار، أبو سعيدٍ، التَّمِيْمِيُّ، الدَّارِمِيُّ، السِّجِسْتَانِي ُّ، صاحب المُسْنَدِ الكَبِيْرِ وَالتَّصَانِيْف ِ" أهـ.
    وذَكَرَهُ العلامة المُعَلِّمي في كتابه "التنكيل" (2/572) فقال رحمه الله: "كان الدارمي من أئمة السنة الذين يصدقون الله تعالى في كلِّ ما أَخْبَرَ به عن نفسِه، ويصدقون رسوله [صلى الله عليه وسلم] في كلِّ ما أخبر به عن رَبِّه" أهـ.

    ([6]) له ترجمة في "تاريخ مدينة السلام": بغداد، للخطيب البغدادي (7/531)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (10/199)، "ميزان الاعتدال" (1/332)، "البداية والنهاية" لابن كثير (14/233)، و"لسان الميزان" لابن حجر (2/306)، "الأعلام" للزركلي (2/55).
    وقال الخطيب البغدادي في صَدْر ترجمته: "وبشر من أصحاب الراي أخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي إلا أنه اشتغل بالكلام وجرد القول بخلق القرآن وحكى عنه أقوال شنيعة ومذاهب مستنكرة أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها وكفره أكثرهم لأجلها".
    ونقل الخطيب وغيره عن الإمام أحمد بن عبد الله العجلي قوله: "رأيتُ بِشْرَ المَرِيسيَّ عليه لعنة الله مَرَّةً واحدةً شيخًا قصيرًا، دميمَ المنظرِ، وسخ الثياب، وافر الشعر، أشبه شيءٍ باليهود، وكان أبوه يهوديًّا صبَّاغًا بالكوفة في سوق المراضع، ثم قال [العجلي]: لا يرحمه الله ولقد كان فاسقًا".
    وفي "سير أعلام النبلاء": "وقال المَرُّوْذِيُّ: سمعتُ أبا عبد الله -وذَكَرَ المَرِيْسِيَّ - فقالَ: كان أبوهُ يهوديًّا؛ أَيَّ شيءٍ تُرَاهُ يَكُوْنُ؟!" أهـ.
    قال الذهبي في "السِّيَر": "فهو بِشْرُ الشَّرِّ، وبِشْرٌ الحَافِي: بِشْرُ الخَيْرِ، كما أَنَّ أحمدَ بن حنبلٍ: هو أحمدُ السُّنَّةِ، وأحمدَ بن أبي دُوَادَ: أحمدُ البدعةِ".
    وذكرَ ابنُ كثيرٍ (رحمه الله) أَنَّ المَرِيْسيَّ "الْمُتَكَلِّ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَأَحَدُ مَنْ أَضَلَّ الْمَأْمُونَ".

    ([7]) واسمه مُحمد بن شُجاع، له ترجمة في "الكامل" لابن عدي (7/550)، و"تاريخ مدينة السلام": بغداد، للخطيب (3/315)، و"تهذيب الكمال" للمِزِّيِّ (25/362)، و"ميزان الاعتدال" للذهبي (3/577)، وغيرها.
    قال عنه الإمامُ زكريَّا بن يحيى السَّاجِيُّ: "كان كذَّابًا؛ احتال في إبطال الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وردِّه؛ نُصْرَةً لأبي حنيفةَ ورَأْيهِ".
    واتَّهَمَهُ الإمامُ ابنُ عَدِيٍّ بوضع الحديث والعياذ بالله، وذَكَرَ له بعض هذه الأحاديث التي وضعَها، ثم قال ابنُ عَدِيٍّ: "مع أحاديث كثيرة وَضَعَها مِن هذا النحو، فلا يجب أنْ يُشْتَغَل به؛ لأنَّه ليس مِن أهل الرواية، حَمَلَهُ التَّعَصُّب على أنْ وضعَ أحاديثَ يَثْلِب أهلَ الأثر بذلك"أهـ. ولهم فيه أقوالٌ أخرى تركتُها اختصارًا، وتُنظر ترجمته في المصادر السابقة.

    ([8]) "ردُّ الإمام الدارميِّ عثمان بن سعيد على بِشْر المَرِيسيِّ العنيد" (ص/33، صحَّحه وعلَّق عليه: الشيخ محمد حامد (رحمه الله) نشرته دار الكتب العلمية، بيروت).

    ([9]) السابق (ص/38).

    ([10]) السابق (ص/38).

    ([11]) السابق (ص/39).

    ([12]) في النشرة التي بتحقيق الدكتور رشيد بن حسن الألمعي (1/311، الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى1418، الموافق 1998م): "أبطاطا"، وهذه كلها أسماء بلدان قديمة، يريد الدارميُّ (رحمه الله) أَنَّ ما يقوله المريسيُّ الضالُّ قد سَمِعَهُ الدَّارِميُّ (رحمه الله) مِن العجم في بلدتي كُوثى وأبطاطا كما سَمِعَهُ مِن يهود الحيرة، وهذا ظِلٌّ آخر للقضية، يُفْهم مِنه أَنَّ هذا المريسي قد نقل أفكار اليهود والعجم ونشرها بين المسلمين!.

    ([13]) السابق (ص/46).

    ([14]) السابق (ص/50).

    ([15]) السابق (ص/52).

    ([16]) السابق (ص/52).

    ([17]) السابق (ص/54).

    ([18]) السابق (ص/55).

    ([19]) السابق (ص/56).

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    18

    Arrow رد: من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين ,, من خلال رد الدارمي على المريسي 1/ 2

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الدكتور عمرو مشاهدة المشاركة
    من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين،، من خلال رد الدارمي على المريسي 2/ 2
    http://arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=596
    من أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين،، من خلال رد الدارمي على المريسي 2/ 2
    بواسطة: أ. صلاح بن فتحي هَلَل*
    بتاريخ : الثلاثاء 29-03-2011 05:15 مساء




    خاص بالمركز العربي للدراسات والأبحاث
    الحمدُ لله رَبِّ العالمين، «حمدًا كثيرًا طَيِّبًا مباركًا فيه»، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صَلِّ اللهمَّ وسَلِّم وبَارِكْ عليه صلى الله عليه وسلم، وارْضَ اللهمَّ عَنْ آلِه وصَحْبِه الغُرِّ الميامين رضوان الله عليهم، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
    أما بعد:
    فقد ذكرتُ في القسم الأول من هذا «المقال» شيئًا مِن إشارات الإمام الدارمي رحمه الله، حول أساليب المخالفين في محاربة السنن والدين، ونكمل في هذا القسم الثاني شيئًا آخر مِن هذه الإشارات التي ذكرها رحمه الله، أثناء ردِّه على المريسي ومَن معه.

    سبب الجريمة:

    ويشير الدارمي إلى السبب الكائن وراء جرائمهم، عندما يقول الدارمي: «وما عِلْمك أيها المريسي بهذا وما أشبهه؛ غير أنَّه وردتْ عليكَ آثارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخذَتْ بحلْقِك، ونقَضَتْ عليكَ مذهبك، فالتمستَ الراحةَ منها بهذه المغاليط والأضاليل، التي لا يعرفها أحدٌ مِن أهل العِلْم والبَصَر بالعربية، وأنتَ منها في شُغْلٍ، كلَّما غالطتَ بشيءٍ أخذَ بحلقِك شيءٌ، فخنَقَكَ، حتى تلتمس له أغلوطة أخرى، ولئن جَزِعْتَ مِن هذه الآثار فدفعتَها بالمغاليط؛ مالك راحة فيما يصدقها مِن كتاب الله [عز وجل] الذي لا تقدر على دفعه، وكيف تقدر على دفع هذه الآثار وقد صَحَّتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاظُها بلسانٍ عربيٍّ مُبِين، مناقضة لمذاهبِك وتفاسيرِك؛ قد تداولتها أيدي المؤمنين؛ وتناسخوها، يُؤَدِّيها الأولُ إلى الآخر، والشاهدُ إلى الغائب؛ إلى أنْ تقوم الساعة، ليقرعوا بها رؤوس الجهمية، ويهشموا بها أنوفهم، وينبذوا تأويلك في حُشِّ أبيك، ويكسر في حَلْقِك كما كُسِرَ في حُلُوق مَن كان فوقكَ مِن الولاةِ والقضاة الذين كانوا مِن فوقك، مثل ابن أبي دُؤاد، وعبد الرحمن وشعيب بعده، وغسان، وابن رباح المفتري على القرآن، فإِنْ كنتَ تدفع هذه الآثار بجهلِك فما تصنع في القرآن؛ وكيف تحتال له؟ وهو مِن أوله إلى آخره ناقضٌ لمذهبك؛ ومُكَذِّبٌ لدعواك، حتى بلغني عنك مِن غير رواية المعارض أنك قلتَ: ما شيء أَنْقَض لدعوانا مِن القرآن غير أنَّه لا سبيل إلى دفعه إلا مكابرة بالتأويل، ثم أَنْشأْتَ أيها المريسي تطعن في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما صدَّقْتَ به، وعرفتَ أنَّه [صلى الله عليه وسلم] قد قاله، ثم فسَّرْتَه تفسيرًا مخالفًا لتفاسير أهل الصلاة»(1)
    قال الدارمي: «فيقال لهذا المريسي: تقرأ كتاب الله وقلبك غافل عمَّا يُتْلَى عليكَ فيه؟»(2)

    تَرْك المُحْكَم والتعلُّق بالمتشابه، مع الإصرار على الكِبْر والجحود:

    ويذكر الدارمي خطة أخرى للمجرمين، تتمثل في الحيدة عن النصوص المشهورة المُحْكَمَةِ والتعلُّق بالمشتبهات، فيقول لبِشْرٍ الشَّرِّ: «فهذا الذي عرفناه عن ابن عباس صحيحًا مشهورًا، فما بالك تحيد عن المشهور المنصوص مِن قوله وتتعلَّق بالمغموز منه، المتلبّس، الذي يحتمل المعاني؟»(3). «ثم رددتَ الحديث بعدما أقررتَ به أنَّه حقٌّ»(4). «ثم انتدبتَ أيها المريسي مُكَذِّبًا بعرش الله وكُرْسِيِّه، مُطنبًا في التكذيب بجهلك، متأوِّلًا في تكذيبه بخلاف ما تفعله العقلاء والعلماء»(5). «والعجب مِن استطالتك هذه وجهالتك وأغلوطاتك؛ إِذْ تقول لمن هو أعلم بالله وبكتابه منك: إنْ لم تعلموا تفسير ما قلنا وإلا فسلوا العلماء ولا تعجلوا بالقضاء، ويلك أيها المريسي، قد سألنا العلماء، وجالَسْنا الفقهاء، فوجدناهم كلهم على خلافِ مذهبك، فَسَمِّ عالِمًا مِمَّن مضى، ومِمَّنْ غَبَرَ يحتج بمثل هذه العمايات؛ ويتكلم بها، حتى نعرفه ونسأله، فإِنَّا ما رأينا مُتَكَلِّمًا ينتحل الإسلام أظهر كفرًا وأسمجَ كلامًا وأقلَّ إصابة في التأويلِ منك، وقد عرضنا كلامَك على كلامِ مَن مضى ومَنْ غَبَرَ مِن العلماء فما فوجدنا أحدًا على مذهبك، وعرضناه على لغات العرب والعجم فلم يحتمل شيءٌ منها شيئًا مِن كلامك، ولو كان عندك مَن ينصحك لحجر عليك الكلام، فضلا أنْ تفتخر بحسن الكلام»(6).

    فانظروا عَمَّنْ تأخذون دينكم:

    ويشير الدارمي إلى أنَّ التهمة تلحق بالتلميذ إذا اختار لنفسه شيخًا متهمًا، وأنَّ مثل هذا الشيخ لا ينفع تلميذه؛ فيقول الدارميُّ: «ثم ادَّعَى المعارض أنه انتهى إلى هاهنا السماع مِن بِشْرٍ، قال: ثم ابتدأنا بعون الله في حكايات ابنِ الثَّلْجِيِّ، فيقال لهذا المعارض المعجب بضلالات هذين الضَّالَيْن: فرغتَ مِن كلام بِشْرٍ بسخط الرحمن، وابتدأت في كلام ابنِ الثَّلْجِيِّ بعون الشيطان، ومثل فراغك مِن كلام بِشْرٍ وشروعك في كلامِ ابن الثلجي كمثل المستجير مِن الرَّمضاء بالنار، فزعتَ مِن احتجاجِ كافرٍ إلى احتجاجِ جهمي خاسر؟ فعلي أيِّ جنبيك وقعتَ منهما لم تنجبر، وبأيِّهما استعنتَ لم تظفر، وبأيهما استنصرتَ لم تُنْصَر، وكذلك قال الأَوْزَاعِيُّ لبعضِ أهلِ البدع إذا انتقلوا مِن رأي إلى رأي: إنكم لا ترجعون عن بدعةٍ إلا تَعَلَّقْتُم بأخرى هي أضَر عليكم منها... وسننقض على ابن الثَّلْجِيِّ ضلالاه، كما نقضنا مِن قبلُ ضلالات المريسيِّ إن شاء الله بعون الله وتوفيقه، حكيتَ أيها المعارض عن ابن الثلجي أنه قال: ناظرتُ بِشْرًا المَرِيسيَّ.... فيقال لهذا الثلجي الغوي: أولُ غوايتك سؤالك المريسي،... ويلك، أما وجدتَ شيخًا مِن أهل الإسلام وأهل العلم الذين أدركتَ أجود إيمانًا بالعَرْشِ(7) مِن بِشْر؛ وأحسن معرفة له؛ حتى تناظره فيه مِن بينهم؟ تستحسن تفسيره وترويه لأهل الغفلة عنه، كيما يعتقدونه دينًا، وكان أكفر أهل زمانه بالعَرْشِ، وأشدهم له إنكارًا ممن ينتحل الإسلام، فيكفي بهذا منك دليلًا وظِنَّة على الرِّيبة أنْ يكون المختار عندك مِن جميع العلماء في تفسير العرش بِشْر بن غِيَاث المَرِيسي، أو ما سمعتَ بِشْرًا وسوء مذهبه، وافتضاحه في بلده، وأهل مِصْره، وأنتَ له جار قريب؟ ولكنَّا نعتبر بالإمام المأموم والصاحب بالصاحب»(8). «ثم انتدب المعارض مُتَكَلِّمًا مِن قِبَل نفسه في العرش، مُتَأوِّلًا في تفسيره ومعناه خلاف ما تأوَّله أهلُ العلم بالله وكتابه وآياته»(9)

    استخدام الظن والتمويه باحتمال الدَّسّ في الكتب:

    ويرد الدارمي شبهة طالما رددها قومٌ ردَّوا الروايات الصحيحة بالظَّنِّ واحتمال الدسّ في كتب أهل الحديث، تمويهًا على الناس؛ فقال الدارمي عن المعارض(10): «ثم بعدما فَسَّرَ هذه التفاسير المقلوبة قال: ويحتمل أن يكون هذا مِن الأحاديث التي وضعتها الزنادقة فدسوها في كتب المحدثين، فيقال لهذا المعارض الأحمق، الذي تلعب به الشياطين: وأيُّ زنديقٍ استمْكَنَ مِن كتب المحدِّثين مثل حماد بن سَلَمَةَ(11) وحماد بن زيد وسُفْيَان وشُعْبَة ومالك ووَكِيع ونُظَرَائِهم فيدسُّوا مناكير الحديث في كتبهم؟ وقد كان أكثر هؤلاء أصحاب حِفْظٍ، ومَن كان منهم مِن أصحاب الكتب كانوا لا يكادون يُطلعون على كتبهم أهلَ الثقةِ عندهم فكيف الزنادقة؟ وأيُّ زنديقٍ كان يجترئ على أنْ يَتَرَاءَى لأمثالهم ويُزاحمهم في مجالسهم؟ فكيف يفتعلون عليهم الأحاديث ويدسُّونها في كتبهم؟ أرأيتكَ أيها الجاهلُ إِذْ(12) كان هذا الحديث عندك مِن وضع الزَّنادقة؛ فَلِمَ تلتمس له الوجوه والمخارج مِن التأويل والتفسير؛ كأَنَّكَ تُصوّبه وتُثَبِّته؟ أفلا قلتَ أوَّلًا: إِنَّ(13) هذا مِن وضعِ الزنادقة فتستريح وتُريح مِن العناء والاشتغال بتفسيره،... غير أَنَّك خلطتَ على نفسك فوقعتَ في تشويشٍ وتخليطٍ، لا تجد لنفسك منه مفزعًا إلَّا بهذه التخاليط، ولن تجزئ عنك شيئًا عند أهل العلم والمعرفة، وكلما أكْتَرْتَ مِن هذا وشَبَهه ازدَدْتَ به فضيحةً؛ لأنَّ أحسن حجج الباطل تركه»(14).

    التمويه بشيءٍ وإرادة غيره:

    وقال الدارمي لهذا المعارض: «أو لم تزعم أيها المعارض في صَدْر كتابك هذا: أنَّ مَن قال: غير مخلوق فهو كافر، فإِنْ كان الذي قال غير مخلوق كافرًا عندك؛ إِنَّ الذي يقول مخلوق مؤمن مُوَفَّقٌ مُصِيب في دعواك؛ فلِمَ تنسبه إلى البدعة وهو في دعواك مُوَفَّقٌ مُصِيبٌ؟ ولكنَّك مَوَّهْتَ بالأولِ لِئَلَّا يفطِن الجهال منك الأخرى، وقد صَرَّحْتَ وأوضحتَ وأفصحتَ به؛ حتى لم تَدَع لمُتَأَوِّلٍ عليك موضع شبهة»(15).

    الفرق بين المصيب والمريب:

    وقال له الدارميُّ: «والعجب منك ومِن إمامك المريسي أَنْ يحتج في ضلاله بالتمويه عن ابنِ عُمر وعن أبي البختري ويدع المنصوص المُفَسَّر عن ابنِ عمر... هذا إلى الابتداع أقرب منه إلى الاتباع، وإلى الجهل أقرب منه إلى العدل، غير أنَّ المصيب يتعلَّق مِن الآثار بكلِّ واضحٍ مشهورٍ، والمريب يتعلق بكل متشابه مغمور»(16).

    الاحتجاج بالمقذوفين:

    وقال الدارمي عن المعارض: «ومما يدل على ظِنَّته أنَّ احتجاجه فيه بالمقذوفين المتهمين في دين الله تعالى مثل المريسي واللؤلؤي وابن الثلجي ونظرائهم، فأين هو مِن الزُّهْرِيِّ والثَّوْرِيِّ والأَوْزَاعِيِّ ومالكِ بن أَنَسٍ وشُعْبَة ومَعْمَر وابنِ المبارك ووَكِيع ونُظرائهم؟ وأين هو مِمَّنْ كان في عصر ابنِ الثلجي مِن علماء أهل زمانه مثل أحمد بن حنبل وابن نُمَيْرٍ وابنِ أبي شَيْبَة وأبي عُبَيْد ونُظرائهم؟ إنْ كان مُتَّبِعًا مستقيمَ الطريقة، ولكن لا يمكنه عن أحدٍ منهم في مذهبه حكاية ولا رواية، وإنما يتعلَّق بالمغموزين المغمورين إِذْ لم يمكنه التعلُّق بهؤلاء المشهورين، كيما يُرَوِّج ضلالتَه على الناس بأهل الريب الذين لا قبول لهم ولا عدالة عند أهل الإسلام»(17).

    الكذب على الصحابة رضي الله عنهم، وعلى أئمة الدين بعدهم رحمهم الله، ومشايعة المخالفين، وفِعْل ما ينكرونه على غيرهم، واختراع قواعد باطلة للوصول لأغراضهم:

    ويشير الدارمي إلى وقوع المعاند فيما عابه على غيره، بل واقترافه للكذب؛ فقال الدارمي لهذا الجهمي المعارض: «أو ما تخشى على نفسِك ما تَخَوَّفْتَ على غيرك؟ فقد ارتطمتَ فيما تَخَوَّفْتَه على غيرك وأنتَ لا تشعر،... وبُؤْتَ بما عِبْتَ على غيرك، وقَدَّمْتَ بين يَدَي الله ورسوله، وشايَعْتَ جَهْمًا والمَرِيسيَّ في دعواهما»(18).

    إلى أَنْ قال الدارميُّ لهذا الجهميِّ تلميذ المريسيِّ وابنِ الثَّلْجِيِّ: «حتى ادَّعَيْتَ في ذلك كَذِبًا على عمر بن الخطاب أنه قال: (أكذب المحدِّثين أبو هُريرة) وهذا مكذوبٌ على عُمَرَ، فإِنْ تَكُ صادقًا في دعواك فاكشف عن رأسِ مَن رواه، فإِنَّك لا تكشف عن ثقةٍ، فكيف يستحل مسلمٌ يُؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يَرْمِي رجلًا مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بالكذب عن غير صِحَّةٍ ولا ثَبْتٍ(19)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَسُبُّوا أَصْحَابي) و(احْفَظُوني في أَصْحَابي) و(الله الله في أصحابي) و(مَن سَبَّ أصحابي فعليه لعنةُ الله)؛ فأيُّ سَبٍّ لصاحبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أعظم مِن تكذيبه في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وإِنَّه لَمِن أصدق أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظهم عنه وأَرْوَاهُم لنواسخِ أحاديثه، والأحدث فالأحدث مِن أَمْرِه؛ لأنَّهُ أسلمَ قبلَ وفاةِ النبي صلى الله عليه وسلم بنحوٍ مِن ثلاث سنين، بعدما أَحْكَمَ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ أَمْرِ الحدود والفرائض والأحكام. وكيف يتهمه عمر بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستعمله على الأعمال النفيسة ويُولِّيه الولايات؟ ولو كان عند عُمَر رضي الله عنه كما ادَّعاه المعارض لم يكن بالذي يأْتَمِنه على أمورِ المسلمين، ويُوَلِّيه أعمالهم مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ؛ حتى دعاه آخرَ ذلك إلى العمل فأَبَى عليه..... أفلا يُرَاقِبُ امرؤٌ رَبَّهُ فيَكُفّ لسانه ولا يُكَذِّب رجلًا أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيرميه بالكذب مِنْ غير ثَبْتٍ ولا صِحَّةٍ؟ وكيف يصح عند هذا المعارض كَذِبُه وقد ثَبَّتَهُ مثل طلحة بن عُبيد الله وعبد الله بن عُمر، لو عَضَّ هذا الرجلُ على حَجَرٍ أو على جَمْرَةٍ حتى يحرقَ لسانه كان خيرًا له مِمَّا تأَوَّل على صاحب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم..... فأَقْصِر أيها الرجل مِن طعنك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الروايات؛ فإِنَّهم لو كانوا عند الأُمَّةِ في موضعِ الجرح كما ادَّعَيْتَ عليهم ـ وليسوا كذلك ـ ما كانت لك حُجَّة على ألْفٍ سواهم مِن المهاجرين والأنصار مِمَّن لا تجد سبيلًا إلى الطعن عليهم، وقد رَوَوا مِن ذلك ما يغيظك، وقد اجتمعت الكلمة مِن جميع الفقهاء أَنَّ شهادات العدول إذا شَهِدَ معهم مَن ليس بعدْلٍ لا تسقط، ولا يُجعل مَثَلُ السّوء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم بحمد الله عدولٌ يُؤْتمنون على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمجروح مَن جرحهم، ولا يزيّف مائة ألف حديثٍ مشهورةٍ محفوظة مأثورة عن الثقات إذا وُجِدَ فيها مائة حديث منكرة، ولا يُجْرح ألف رجل مِن أهل الإتقان والحفظ في الرواية أَنْ وُجِدَ فيهم عشرون رجلًا يُنسبون إلى الغفلة والنسيان وقلة الإتقان، فاربح العناء فيما ليس لك فيه شفاء، وكما لا يُبهرج مائة دينار إذا وُجِدَ ديناران زائفان، ولا يُحكم على جماعة المسلمين بالجرح إذا وُجِدَ فيهم مجروحان؛ ولكن يزيّف الزائفة منها، ويروج المنقدة. فما تصنع بهذه العمايات والأغلوطات التي لا تُجْدِي عليك شيئًا؟ فإِنَّه لا يُتْرَك طلب العلم والآثار بخرافاتك هذه،....

    أو ليس قد ادَّعَيْتَ أَنَّ الزنادقة قد وضعوا اثني عشر ألفَ حديثٍ دلَّسُوها على المحدِّثين؟ فدونك أيها الناقد البصير الفارس النحرير؛ فأوجدنا منها اثني عشر حديثًا؛ فإِنْ لم تقدر عليها فلِمَ تهجن(20) العلم والدين في أعين الجهال بخرافاتك هذه؛ لأنَّ هذا الحديث إِنَّما هو دين الله بعد القرآن، وأصل كلِّ فقهٍ، فمَنْ طعنَ فيه فإِنَّما يطعن في دين الله، أو لم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ جعلَ حديثَه أصلَ الفقه كُلِّه فقال: (نَضَّرَ الله عبدًا سَمِعَ مقالتي فوَعَاهَا، فرُبَّ حامِل فِقْهٍ إلى مَن هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقه غير فقيه) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلَ الفقه كله بعد القرآن: حديثَه الذي تدفعه أنتَ وإمامك المريسي... فما ظنك أيها المعارض إذا لقيتَ الله تعالى وقد طعنتَ في دينه؟ ثم لم تقنع بجرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الروايات حتى تعرَّضت للتابعين؛ فقلتَ: ألا ترى أَنَّ ابنَ عمر قال لغُلامه: (انظر ألَّا تكذب عَلَيَّ كما كَذَبَ عكرمةُ على ابنِ عباس) تُوهم مَن حواليك مِن الجهال أنَّه إذا قيل هذا في مِثل عكرمة؛ فقد بطلت الروايات كلها؛ ويُظَن برواتها كلهم ما ظَنَّ ابنُ عمر بعكرمة، فيقال لهذا المعارض: إن كان ابن عمر يُجَوِّز الوهم على عكرمة في دعواك؛ فما لك راحة في رواية غيره عن ابنِ عباس وغيره؛ مِمَّا يغيظك مِمَّن لا تجد السبيل إلى الطعن عليهم؛ مِثل سعيد بن جُبَيْر وعطاء وطاووس ومجاهد وعُبَيْد الله بن عبد الله وجابر بن زيد ونُظَرَائهم، والعجب منك إِذْ تطعن في رواية عكرمة عن ابنِ عباس فيما يُبطل دعواك، وتحتج لإقامة دعواك برواية بِشْرٍ المَرِيسيِّ عن أبي شِهَابٍ الخَوْلَانِيِّ عن نُعَيْم بن أبي نُعَيْم الذين لا تدْرى مَن هم، وعن الكَلْبيِّ عن أبي صالح عن ابن عباس، وما أشبهه مِن الأسانيد التي أجمع أهل العلم على تركها.

    أفكلّ ما وافق مِن ذلك رأيك وإِنْ كان ضعيفًا صار عندك في حَدِّ القبول؟ وما خالف رأيك منها صار متروكًا عندك؛ وإِنْ كان عند الفقهاء في حَدِّ القبول؟ هذا ظلمٌ عظيم، وجور جسيمٌ. وادَّعَيْتَ أيضًا في دَفْع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحكةً لم يسبقك إلى مِثْلها عاقلٌ مِن الأمَّةِ، ولا جاهل؛ فزَعَمْتَ أَنَّه لا تقوم الحجة مِن الآثارِ الصحيحة التي تُرْوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَّا كلّ حديثٍ لو حلفَ رجلٌ بطلاقِ امرأته أَنَّه كَذِبٌ لَطُلِّقَت امْرَأَتُه(21).

    ثم قلتَ: ولو حلفَ رجلٌ بهذه اليمين على حديثٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح عنه أنَّه كَذِب ما طُلِّقَت امْرَأَتُه.

    فيقال لهذا المعارض الناقض على نفسه: قد أبطلْتَ بدعواك هذه جميعَ الآثار التي تُرْوَى عن النبي r، ما احتججتَ منها لضلالتك وما لم تحتجّ، ولو كنتَ مِمَّن يُلْتَفَت إلى تأويله؛ لقد سَنَنْتَ للنَّاس سُنَّة، وحددتَ لهم في الأخبار حَدًّا لم يستفيدوا مثلها مِن أحدٍ مِن العالمين قبلك، ولَوَجَبَ على كلِّ مختارٍ مِن الأئمة ـ في دعواك ـ ألَّا يختار منها شيئًا حتى يبدأ باليمين بطلاقِ امرأته؛ فيحلِف أنَّ هذا الحديث صِدْقٌ أو كَذِبٌ البتة؛ فإِنْ كان شيئًا طُلِّقَتْ به امْرَأَتُه اسْتَعْمَلَهُ، وإِنْ لم تُطَلَّق تَرَكَهُ.

    ويلك! إِنَّ العلماء لم يزالوا يختارون هذه الآثار ويستعملونها وهم يعلمون أنَّه لا يجوز لأحدٍ منهم أَنْ يحلفَ على أصحها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله البتة، وعلى أضعفها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله البتة، ولكنهم كانوا لا يألون الجهد في اختيار الأحفظ منها، والأَمْثَل فالأمثل مِن رُواتها في أنفسهم، ويَرَوْنَ أنَّ الأيمان التي أَلْزَمْتَهُم فيها بطلاقِ نسائهم مرفوعة عنهم، حتى ابتدعتَها أنتَ، مِن غير أنْ يسبقك إليها مسلمٌ أو كافر، ففي دعواك يجب على القضاة والحُكَّام أنْ لا يحكموا بشهادةِ العدول عندهم إلا بشيءٍ يمكن القاضي أنْ يحلِفَ عليه بطلاقِ امرأته أنَّ الشاهد به قد صَدَقَ، أو أنَّه إنْ حلف عليها بطلاق امرأته أنَّها كَذِب لم تُطَلَّق امرأَتُه.

    ويحك! مَن سبقك إلى هذا التأويل مِن أُمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في اتباع الروايات واختيار ما يجب منها؟ إِنَّما يجب على القاضي أنْ يفحصَ عن الشهودِ ويحتاط، فمَن عُدِّلَ عنده منهم حكم بشهادته وإِنْ كان كاذبًا في شهادته في عِلْمِ الله بَعْدُ، ما لم يَطَّلِع القاضي منه على ذلك، وتُرَدُّ شهادة المجروح وإِنْ كان صادقًا في شهادته في عِلْم الله بَعْدُ، ما لم يَطَّلِع القاضي على صِدْقِه، وكذلك المذهب في استعمال هذه الآثار وقبولها مِن رواتها، لا ما تَأَوَّلْتَ أنتَ فيها مِن هذه السخرية بنفسِك والضحك.

    وادَّعى المعارض أنَّ مِن الأحاديث التي تُرْوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث منكرة مُسْتَشْنَعَة جدًّا، لا يجوز إخراجها، فأَلَّفَ منها أحاديثَ بعضها موضوعة وبعضها مروية تُرْوى وتُوقف لا يُقْدَم على تفسيرها، يُوهِم مَن حواليه مِن الأغمار أَنَّ آثارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كلها ـ ما رُوِيَ منها مِمَّا يغيظ الجهمية في الرؤية والنّزول والصِّفات التي رواها العلماء المتقنون، ورَأَوْهَا حَقًّا ـ سبيلها سبيل هذه المنكرات التي لا يجوز إخراجها، ولا الاعتماد عليها(22)، ثم أَقْبَلَ عليها بعدما أَقَرَّ أَنَّها منكرات مستشنعة يفسرها، ويطلب لها مخارج تدعو إلى صواب التأويل في دعواه.

    ويحك أيها المعارض! وما يدعوك إلى تفسير أحاديث زَعَمْتَ أَنَّها مُسْتَشْنَعَة لا أصل لها عندك، ولا يجوز التحدُّث بها، فلو دَفَعْتَهَا بِعِلَلِها وشنعها عندك كان أَوْلَى بك مِن أَنْ تستنكرها وتُكَذِّب بها، ثم تُفسرها ثانية ـ كالمُثْبِت لها ـ على وجوهٍ ومعانٍ مِن المحال والضلال الذي لم يسبقك إلى مثله أحدٌ مِن العالمين(23)....»(24). إلى هنا انتهى النَّقْل عن الإمام الدارميِّ رحمه الله.

    والواجب على المسلمين الآن استجلاء حقائق التاريخ للوقوف عليها، والاستفادة منها في دراسة الواقع الحالي، فالباطل يعيد أساليبه ويكررها، والسعيد مَن وُعِظَ بتجارب الماضي، وأخذ منها خطته لحاضره ومستقبله.
    والله وحده الهادي والموفِّق والمستعان، والحمد لله ربِّ العالمين.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
    · باحث وداعية إسلامي مصري.

    "حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"




    ([1]) السابق (ص/65- 66).

    ([2]) السابق (ص/58).

    ([3]) السابق (ص/67).

    ([4]) السابق (ص/68).

    ([5]) السابق (ص/71).

    ([6]) السابق (ص/72).

    ([7]) يعني: عرش الرحمن سبحانه وتعالى.

    ([8]) السابق (ص/76- 77).

    ([9]) السابق (ص/78).

    ([10]) تلميذ المريسي وابن الثلجي، وهو الذي يرد عليه الدارمي في طول كتابه، وأضاف إلى ذلك الرد على أئمة المعترض ومشايخه المريسي وابن الثلجي.

    ([11]) سقط ذِكْر «حماد بن سلمة» مِن كتاب الدارمي (تحقيق الفقي رحمه الله) واستدركتُه من نشرة الألمعي (2/730)، ونشرة منصور السماري (ص/450، الناشر: مكتبة أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى1419، الموافق 1999م).

    ([12]) في نشرتَي الألمعي والسماري: «إِنْ».

    ([13]) مِن الألمعي والسماري، وسقطت مِن نشرة الفقي.

    ([14]) السابق (ص/89).

    ([15]) السابق (ص/94).

    ([16]) السابق (ص/98).

    ([17]) السابق (ص/119- 120).

    ([18]) السابق (ص/123).

    ([19]) يعني أَنَّه قد رمى أبا هريرة رضي الله عنه بذلك كذبًا وزورًا وبُهتَانًا فليس لهذا الكاذب بينة في دعواه هذه.

    ([20]) يعني: تعيب.

    ([21]) انقلبت هذه العبارة في نشرة الفقي والألمعي إلى: «لم تطلق امرأته»، وجاءت على الصواب في نشرة السماري (ص/374): «لَطُلِّقَتِ امرأته».

    ([22]) وقد سلك الكعبي المعتزلي هذا السلوك في كتابه الذي ألَّفه في «الطعن على المُحَدِّثين»، فقال ابنُ حجر العسقلاني رحمه الله في «لسان الميزان» (4/429): «عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي، أبو القاسم الكعبي، مِن كبار المعتزلة، وله تصنيفٌ في الطعن على المحدثين؛ يدل على كثرة اطِّلاعه وتعصِّبه،.... واشتملَ كتابه في المحدِّثين على الغَضِّ مِن أكابرهم وتَتَبُّع مثالبهم، سواء كان ذلك عن صحةٍ أم لا، وسواء كان ذلك قادحًا أم غير قادح، حتى إِنَّه سَرَد كتابَ الكَرَابيسيِّ في المُدَلِّسين، فأوهمَ أَنَّ التدليسَ بأنواعه عيبٌ عظيم، وحسبك مِمَّنْ يذكر شُعْبَةَ فيمَنْ يُعَدّ كثير الخطإ، وعَقَدَ بابًا أَوْرَدَ فيه ما يَرْوونه مِمَّا ليس له مَعْنًى بزعمه، وبابًا فيما يَرْوونه مُتَنَاقِضًا لِسُوء فهمه» أهـ، وقد سبق ونقلتُ كلام ابن حجر في ترجمة «الكعبي» قبل نهاية «الفصل الأول» مِن هذا الكتاب. والكعبي كان لا يزال طفلًا عندما مات الدارمي (تُوفِّي280 رحمه الله)، فقد ذُكِر في ترجمة الكعبي أنَّه وُلِد سنة (273) ومات الكعبي في رأي الأكثرين سنة 319، لكن هذا لا يمنع التشابه بين الكعبي وأسلافه والتابعين له، فالبِدْعة واحدة والأشكال والأجساد تختلف، وهذا يدل على وحدة المنهج والفِكْر التي تجمع أسلاف هؤلاء الضالين وأتباعهم.

    ([23]) وهذا يفضح مكنون هذا المعارض الجهمي، في اشتراطه الحلف بالطلاق؛ فالأمر لا يتجاوز أن يكون ضحكة كما وصفه الإمام الدارميُّ رحمه الله، ولم ينبع هذا الشرط مِن بحثٍ علميٍّ ولا رغبةٍ في تثبيت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحاشي الكذب في الروايات؛ وإنما يحاول الجهمي بشتَّى الطرق أن يردَّ السُّنَن، مرةً بالتأويلات المحالة، ومرَّاتٍ بالتشكيك في طريق النقل، ولو بتكذيب الرواة، فضلًا عن تكذيب بعض الصحابة رضي الله عنهم كما سبق.

    ([24]) السابق (ص/132 ـ فما بعد، ت: الفقي) باختصار وقد صوَّبْتُ بعض أشياء في هذا النص مِن نشرة الألمعي (2/617، فما بعد).

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •