الموضوع منفول من :
http://www.mahaja.com/showthread.php...87%D9%86%D8%AF

دائرة المعارف العثمانية في الهند.. قلعة لحماية تراث العرب

مطبعة متهالكة في هضبة الدكن الهندية, حفر الزمن عليها خطوطه عامًا بعد عام, كانت وراء حفظ جانب مهم من تراث العرب. وعلى الرغم من مرور السنوات, ودوران الأزمنة, أتراحًا وأفراحًا, صعودًا وانحدارًا, فلاتزال تلك المطبعة ومعها جنودها المخلصون من أبناء الهند, يقارعون المستحيل لبث الروح في كل ما يمكنهم جمعه وتحقيقه من مخطوطات عربية القلب, تناثرت في أرجاء العالم.

كان حجم الاهتمام باللغة العربية مفاجأة كبرى, وجدناها بانتظارنا, ضمن مفاجآت عدة رأيناها حين حططنا رحالنا في أرض الهند, حتى أننا من كثرة من قابلنا ممن يتحدثون بها, كدنا نظن أننا في بقعة عربية, وإن تبدلت عجمة اللسان قليلا.

ولعله كان من المستحيل أن نهبط أرض ذلك البلد (القارة) دون أن تصيبنا الدهشة ونحن نجد أن اللغة العربية تدرس في المرحلة الابتدائية كمادة أساسية لأبناء الأقلية المسلمة التى يتجاوز عددها 200 مليون إنسان, في الوقت الذي تعتبر فيه العربية لغة التدريس الثانية في مدارس عدد من المدن مثل حيدر أباد.

وأن نجد كذلك جائزة سنوية تقوم بمنحها رئاسة الدولة لباحثين متميزين في اللغة العربية تقديرا لخدمات مهمة قدموها لتلك اللغة, وبعد ذلك نلبي دعويين خلال تلك الزيارة القصيرة, إحداهما من قسم اللغة العربية في جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي, والثانية من المعهد المركزي للغات الأجنبية في حيدر أباد, ثم نعلم أن كل جامعة في الهند تضم قسما للغة العربية, وأن هذا البلد وحده يملك ما يزيد على خمسين ألف مخطوطة من أبدع وأثمن ما كتب بالعربية.

من هنا, كان انطلاقنا إلى حيدر أباد, حيث الجامعة العثمانية العريقة التي أعطت منذ نشأتها, ولاتزال حتى الآن تقدم بدأب وبجهود متميزة خدمات جليلة للغة العربية في شبه القارة الهندية, تتوازى أو ربما تزيد على الخدمات الجليلة التي تقدمها جامعة (ندوة العلماء) في مدينة (لكناو).

ولعل التميز ينبع من وجود دائرة المعارف العثمانية التي تضمها الجامعة, والتي ساهمت في الحفاظ على ثروة من المخطوطات والكتب العربية, كان يمكن لها أن تندثر, ولاتزال تقوم بهذا الدور الكبير للحفاظ على تراث العربية, متعقبة إياه في شتى أنحاء العالم. فما أغربه من واقع يقوم فيه الهنود المسلمون بإخلاص شديد وإصرار لافت بشراء المخطوطات من أي بقعة كانت في هذا العالم, وتحقيقها ثم نشرها, وبواسطة مطبعة موغلة في القدم, يندهش المرء وهو يراها تقدم إلى المكتبات العالمية كتبا ومجلدات خطت في الزمن القديم باللغة العربية, بينما أبناء العربية منشغلون بهموم أخرى.

صباحا وصلنا إلى مبنى الجامعة العثمانية التي تخضعلحكومة ولاية أندرا براديش تمويلا وإشرافا, والتي تأسست في العام 1918 مواستكمل البناء فيها في العام 1938م, بعدما أمر مير عثمان علي خان حاكمولاية حيدر أباد بانشائها, لنشر اللغة العربية وتعاليم الدين الإسلامي فيالبلاد, وقد سميت تلك الجامعة على اسمه, لا على اسم حكام الإمبراطوريةالعثمانية التي قد يتبادر إلى الذهن ما يوحي بأنها تنتمي إليهم.

توجهنا تحديدا إلى مبنى تنبعث منه رائحة العراقة, تقبع فيه كلية الفنون التي تضم بين أقسامها, قسما للغة العربية, وهذه الكلية هي واحدة من بين كليات عدة تضمها الجامعة العثمانية, في القسم التقينا عددا من الأساتذة, فاز بعضهم بالجائزة التي يخصصها رئيس جمهورية الهند للباحثين المتميزين في اللغة العربية.
في البداية, أكد لنا البروفيسور محمد عبد المجيد, أن هذا القسم الذي تخرج فيه الآلاف من الطلاب, قدم خدمات جليلة للغة العربية, مشيرا إلى أن زمرة من كبار الشعراء والأكاديميين من أبرزهم عبد الستار صديقي ومحمد عبد الحق وعبد المعين خان وهم من الشعراء المعروفين في جميع أرجاء الهند, قد تخرجوا فيه.
لكنه استطرد قائلا: إن القسم وإن كانت الدراسة فيه باللغة العربية في جميع مواده, فإن اللغة العربية في الجامعة تعد اللغة الثانية بعد الإنجليزية التي تعتمد في الهند كلغة رئيسية للتعليم بمختلف مراحله.
وإلى جانب دراساته الأكاديمية التي تصل إلى الماجستير والدكتوراه, فإن القسم يقدم أيضا دورات تأهيلية لمن يرغب في تعلم العربية, إضافة إلى مستوى (سنيور دبلومات) لمن يريد التعمق أكثر في اللغة العربية وفهم القرآن الكريم والحديث الشريف, مبينا أن عددا كبيرا ممن تخرجوا في القسم تقلدوا مناصب مهمة في السفارات الهندية لدى الدول العربية كما انضموا إلى السلك التعليمي للمدارس الأجنبية التي تعمل داخل تلك الدول.
البروفيسور عبد المجيد بدا متحمسا وهو يؤكد لنا أن متعلمي اللغة العربية في تزايد في منطقة شبه القارة الهندية, والسبب يكمن في القرآن الكريم والسنة النبوية, إذ يسعى المسلمون للتواصل مع مفرداتهما عن طريق تعلم العربية, غير أنه أيضا يشير إلى أن فتح أبواب العمل في الدول الخليجية أمام العمالة الهندية قد ساهم أيضا في ازدهار اللغة العربية وفي تزايد أعداد الذين يقبلون على تعلمها.
وهو أيضا ماشددت عليه البروفيسورة قمر النساء بيجوم التي أبلغتنا أن هناك رغبة حقيقية في تعلم اللغة العربية بين الفتيات أيضا, مشيرة إلى العشرات من الطالبات اللواتي يدرسن حاليا في القسم.
بدا الحديث محفزا للدهشة, لكن البروفيسور عبد المجيد لخصه قائلا (نحن نعيش في بيئة غير عربية لكننا نحاول خلق مناخ عربي للطلاب, كي يصبحوا أكثر مهارة في اللغة وفقا لماهو مستطاع).
ولمح هنا إلى رغبة القسم في تبادل البعثات التدريسية مع الجامعات العربية, تماما كما تفعل الجامعات الإيرانية مع القسم الفارسي بالجامعة العثمانية, حيث تقوم بإيفاد العديد من الأساتذة إليه.
دائرة المعارف


في مبنى قريب من الجامعة العثمانية, ذهبنا سيرا على الأقدام إلى مقر دائرة المعارف العثمانية وهي أقدم عهدا من الجامعة نفسها, وإن كانت انضمت تحت جناحها فيما بعد, هذه الدائرة شهدت في عهد السلطان نواب مير محبوب علي خان (نظام الملك) افتتاح واحدة من أقدم مطابع الكتبباللغة العربية في تاريخ الطباعة العربية بالهند وتحديدا في العام 1306 هـالموافق 1888م, حتى أن أي مكتبة عربية لاتخلو من كتاب يحمل اسم هذه الدار, إذ كانت المخطوطات المؤلفة تأتي إليها مع البحارة, فتعود إلى حيث جاءت مطبوعة بعشرات وآلاف النسخ من كتب الطب إلى الحديث فالتاريخ والعلوم الرياضية, تباع وتنشر في كل المدن الاسلامية.

هذه المطبعة التي كان لها الفضل في إحياء الكتب العلمية والدينية, هي التي مازالت تعمل حتى الان, مؤدية أعظم الخدمات للغة العربية ليس في شبه القارة الهندية وحدها, بل أيضا في البلدان العربية.

في البداية دخلنا إلى صالة تضم العديد من الكتب النادرة المطبوعة والمعروفة في العالم العربي, كتب في الفقه والتراجم والسيرة وغيرها من كل الأغراض التي عنيت بها الكتابة العربية.

هناك وجدنا (مسند أبي يعلي الموصلي) من القرن الرابع الهجري, الذي لايوجد منه الآن إلا ثلاث نسخ فقط في العالم, وتمتلك الدائرة النسخة الأصح منها.

ورأينا أيضا كتاب (المقفى الكبير) للمقريزي, وتوجد نسخة فقط منه في باريس, هي الوحيدة الموجودة في العالم وقد أحضرت الدائرة نسخة فيلمية منها إلى حيدر أباد وقامت بتحقيقها وطباعة نسخ عدة منها.

وكذلك رأينا نسخة نادرة وعجيبة لمصحف يضم 120 صفحة فقط, وكل جزء منه يتم ختمه في أربع صفحات فقط, والعجيب فيه أن كل سطر في هذا الكتاب يبدأ بحرف (الواو), من أول صفحة فيه إلى الصفحة الأخيرة.

أخبرنا الشيخ أبوبكر الهاشمي رئيس المصححين في الدائرة أن عملية التصحيح تتم بمراجعة وبحث وتحقيق المتون للكتب التي يتقرر طباعتها, مشيرا إلى أن الدول العربية وإن كانت قد عرفت المطابع في القرن التاسع عشر إلا أنها اهتمت بطباعة الكتب القديمة المتوافرة لديها, بينما استهدفت دائرة المعارف العثمانية التنقيب عن المخطوطات والمؤلفات العربية والإسلامية وتحقيقها وطباعتها ونشرها في أرجاء العالم الاسلامي, فقد اقتفت المخطوطات النادرة سواء كانت نسخا أصلية أو صورا مصغرة من المكتبات العالمية في الدول الأوربية والعربية وكانت تطبعها بعد ما تقوم بالتصحيح وكتابة الهوامش, وبذلك ساهمت في المحافظة على تراث علمي ضخم, ومنعت ضياعه أو تلفه وقدمته الى مختلف الأجيال صحيحا ومنقحا.

وهو ما أكده لنا الشيخ محمد عمران الأعظمي كبير المصححين في الدائرة وهو شاعر باللغة العربية وأديب يتحدث ست لغات, فقد لخص الأمر قائلا: (إن موضوعنا في هذه الدائرة هو الكتب التي لم تطبع بعد في العالم, فنحن نجلب الأفلام والصور الشمسية من مختلف الدول, ونقوم هنا بطباعتها وتوزيعها في مختلف أرجاء العالمين العربي والإسلامي).

وحين ذهبنا إلى الغرفة التي يقوم فيها رجال الصف بجمعالحروف على النمط التقليدي نفسه الذي اندثر في الوقت الحالي مع انتشاربرامج النشر الالكترونية, أذهلنا ماعلمناه من أن هؤلاء المصففين لايعرفوناللغة العربية أبدا, فهم من الهنود العاديين, غير أن خبرتهم الطويلة مكنتهممن حفظ أشكال الحروف واختيارها ورصها ببراعة من بين مئات الألوف من القطعالمعدنية الصغيرة الملقاة بغير انتظام في أوعية خشبية متقادمة.

حين لاحظ رئيس دائرة المعارف العثمانية البروفيسور عبد المجيد وهو نفسه رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة, اندهاشنا, سارع بالقول: إن قسم الصف هذا يودع أيامه الاخيرة فنحن مضطرون للتحول عنه إلى الأجهزة الحديثة, وسوف نبدأ بالفعل في رحلتنا الحالية التي نواصل فيها الاهتمام بالتراث العربي, في كتابة المخطوطات على أجهزة الكمبيوتر. لكن الدار - التي وضعت أمامها هدفا تمثل في جمع المخطوطات العلمية والفنية العربية والسعي لصيانتها, على أن تكون تلك المخطوطات, وفقا لما أخبرنا به البروفيسور محمد عبد المجيد, من مؤلفات القرون الثمانية الأولى من الهجرة التي تعد أزهى عصور الإسلام في مجال التأليف, وأن تكون نسخ تلك المخطوطات قد ندرت في العالم بحيث يخشى أن تفقد اذا لم يتم تدارك ذلك - قد أضافت إلى المكتبة الاسلامية والعربية مئات الكتب والمؤلفات التي منها على سبيل المثال: السنن الكبرى للبيهقي, والفالق في اللغة للزمخشري وتهذيب التهذيب للعسقلاني.
في سالارجنج

كان علينا, وقد حرضنا مارأيناه في دائرة المعارف العثمانية, أن نتوجه إلى مكان آخر في مدينة حيدر أباد توجد به كميات هائلة من المخطوطات, إنه متحف سالارجنجالذي أنشأه وزير في عهد نظام الملك, كان يهوى جمع التحف والمخطوطات النادرة, وقد حمل المكان اسم ذلك الوزير العاشق للثقافة والفنون.

كان (جناح المخطوطات) هو أكثر الأقسام إثارة, ونحن نشاهد فيه مجموعة من أندر المخطوطات العربية, وقد رأينا كتبا في الحديث مكتوبة بخط اليد, ومازالت تحتفظ بنفس ألوانها, وكتبا في الشعر والسوانح والتصوف والمواعظ والخطب وعلم المنطق واللغات والسيرة والتفسير والتاريخ والمذاهب باللغتين العربية والفارسية, وإن كان عدد المخطوطات في هذا الجناح باللغة الفارسية يفوق المخطوطات باللغة العربية بكثير, فالعربية منها تصل إلى مايزيد قليلا على 2600 مخطوطةمن بين 8500 تشمل اللغات الأخرى.

ومن مقتنيات المتحف النادرة نسخة من القرن الرابع عشر لبستان سعدي الشاعر الفارسي الكبير, ونسخة من (الشاهنامة) للفردوسي تعود إلى نهاية الربع الأول من القرن الخامس عشر, وهناك أيضا نسخة من مخطوطة تجمع أحاديث وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مترجمة إلى الفارسية من نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.
زكريا عبد الجواد
مجلة العربى عدد551 تاريخ 10/2004