البيان في موانع الاهتداء بالقران:
من المعلوم أن الله سبحانه انزل القران على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم لهدف هو من أسمى الهداف، ولغاية هي من اشرف الغايات ،ألا وهي هداية الناس أجمعين، وإخراجهم مما هم فيه من الظلمات إلى النور ،وليرشدهم إلى العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، والعلوم النافعة التي تحفظهم من مزالق الشهوات والشبهات ،فيعمروا الأرض وينشروا الخير ويبنوا العمران ،وتتحقق فيهم الخلافة الصالحة .
ولم يختلف المسلمون من الرعيل الأول في هذه الحقيقة الناصعة، فقد حددوا الغاية التي من اجلها انزل القران واخذوا يتلونه ويدرسونه ،ويبحثون عن مكنون كنوزه وعلومه ،واستخراج ما فيه من علوم وحكم وآداب، ولذا اثر القران في حياتهم تأثيرا واضحا جليا ظهر أثره على أخلاقهم وسلوكهم وعلومهم وفهومهم حتى أعطاهم الله سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، ووصلت الأمة الإسلامية في عهدهم إلى أوج قوتها ومجدها ورفعتها ولازالت اثأر تلك الحضارة الممتدة إلى اليوم تشهد بعلو كعبهم وتفوقه، بدليل قيام جامعات غربية على أساس ما بنوه وأسسوه من علوم ونظريات .
إلا أن المسلمين في عصورنا اعرضوا عن هداية القران وحقيقة ما انزل لأجله، واخذوا يستخدمونه لإغراض لا تمت له بصلة ،وشاعت فكرة تقديس القران واحترامه من جهات ضيقة قد لا تكون له صلة بقواعد الشريعة الغراء ،حتى وصلوا إلى ما هم فيه اليوم من ضياع وتفرق ،وانحلال وتكالب الأعداء من كل صوب وحدب، ينهبون خيراتهم ويسلبون بلادتهم الواحدة تلو الأخرى، ولاشك إن هناك أسبابا أدت إلى ذلك، وهو ما سنبحثه ونوضحه في تلك السطور القليلة ،والكلمات اليسيرة عسى أن يكون باعثا ذلك على النهوض من جديد لأجل الاهتداء بنور القران ،والاستضاءة بآياته، ومن ثم العمل به وتطبيقه على مستوى الإفراد والجماعات وبالله التوفيق :
أولا :اعتقاد المسلم انه غير مخاطب بالقران :
وهو من أعظم البليات والمصائب، وسبب هذا الاعتقاد الفاسد ما يردده بعض العلماء من إن بعض الآيات كآيات التنديد بالمشركين وعباداتهم لها وما يرتكبونه من بدع وانحرافات أنها خاصة بمن نزلت بهم لا تتجاوز غيرهم، نعم هناك آيات خاصة لكن من الخطاء الفاضح أن يفهم من هذا الكلام ما يفصل المسلمين عن كتاب ربهم حتى يصير كل وعيد نزل باليهود والنصارى والمشركين منصرفا إليهم لا يتناول غيرهم ،فيفقد المسلمون حينئذ الاعتبار والاهتداء بالقران ،ولهذا نرى المسلمون لا يتعصون بالقران وإحكامه ووعيدهن، ويحسبون بان كل من تلفظ بكلمة التوحيد وحرك بها لسانه من غير قيام بحقوقها كافية لنجاته من عذاب الآخرة ولو مارس الشرك الجلي كعبادة القبور والتوسل بالأموات، ويضاف إلى هذا السبب هو وجود أدعياء العلم من أهل التقليد والذين لم يستضيئوا بنور العلم ،والذين حالوا بين المسلمين وكتاب ربهم ،حيث يقول هؤلاء انه لا يمكن لا حدان يفهم القران إلا العلماء الفطاحل من أهل اللغة والدين، بل إن الذين يفهمونه ويفسرون كلامه انقرضوا ولن يخلفهم احد لما لهم من الصفات العلمية كالإحاطة بالعلوم والفنون كمعرفة الناسخ من المنسوخ ،والمكي من المدني إلى غير ذلك مما موجود في مضانه ،فيبقى المسلم حينئذ حائرا محروما من هداية القران ونوره، فاذا قراء مثلا قوله تعالى (إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم ) وقوله (إن الشرك لظلم عظيم )،وقوله( قل أدعو الذين زعمتم من دون الله لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ) وغير ذلك من الآيات المحذرة من الشرك، المنددة بهم ومن صنيعهم قال له هؤلاء: إنها خاصة بالمشركين في عهد التنزيل، وأوهموهم إن المشركين إنما كانوا يعبدون الحجارة المنحوتة من الحجر، وان هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله ،إما دعاء الصالحين وطلب الغوث من جنابهم ،والالتجاء إليهم فليس من هذا ولا قريب منه ،ويفهمون العوام بل وطلاب العلم أن التوحيد المطلوب هو الاعتقاد بوجود الرب - وهو نفسه الذي اقر به المشركون- فلو اقر المسلم بهذا التوحيد ولو كان يدعو غير الله من نبي أو ولي أو صالح فهو مؤمن مستحق لدخول الجنان، ومزاحمة السابقين مع الحسان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ثانيا :التقليد وعدم الاستقلالية في فهم القران :
والتقليد الأعمى يصد عن سبيل الله ،ويؤدي إلى هجر القران والعمل به ،والسبب كما أسلفنا هو وجود بعض الرؤساء المقلدين في عصرنا ممن حرموا على المسلمين الاهتداء مباشرة بالقران والاستدلال به إلا وفق شروط تعجيزية من الإحاطة بجميع العلوم حتى قال قائلهم (من قال إني اعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق ) (1)، وليس هذا فحسب بل الأعجب أن أصبح هؤلاء يحاربون كل من يدعو إلى القران لئلا تتوجه الأمة إلى الله، وتعرف الحق من غير طريقهم فيفقدون مراكزهم وسلطانهم ،وبعض ما يصل إلى جيوبهم من دراهم معدودة ،نعم لا نريد من الناس أن يكونوا كالشافعي وأبي حنيفة واحمد والثوري والطبري، لكن نريد من المسلمين أن يتدبروا كتاب ربهم كل حسب طاقته ،ومبلغ علمه فيعملوا به في حياتهم ،وان لا يؤثروا كلام غيره عليه ،وان يتعود المسلم على الاستقلالية في فهم المعنى بما يملكه من معلومات صحيحة عن الإسلام، ومعاني العقيدة ولو إجمالا، ومحاولة دراسة الواقع على ضوء القران وسنة الله في خلقه ،والاستفادة من معالم القران في الحياة العملية، لئلا يضل عن الطريق وينحرف عن الجادة ،ومن كان أميا لا يحسن القراءة فانه يطلب من يقرءا له القران ليفهمه الواجب عليه فيعمل به ،هذا هو السبيل الذي يعرف المسلمون به عقيدتهم ويمنحهم الحياة الطيبة الكريمة السعيدة قال تعالى (ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين....).
ثالثا :التكبر وإتباع الهوى :
التكبر هو غمط الحق ،وعدم الخضوع له وهو جرثومة من شانها إن تمنع صاحبها من رؤية الحق والانصياع له، ولو كان واضحا وضوح الشمس، وقد بين الله بان جزاء المتكبرين أن يصرف عنهم النظر والاستلال عن الحق لعدم انتفاعهم به قال تعالى (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك..)،والغفلة هي الغفلة المطبوعة المانعة عن أسباب العلم لا العارضة، فهؤلاء غافلون عن الآيات الكونية والشرعية لا يعطونها حقها من التدبر والتأمل، وذلك لانشغالهم عنها بالأهواء المضلة والتعصب الأعمى المقيت لمن يقلدونه، وقد يسلب الله عن المتكبر المتبع لهواه ما عنده من الآيات ولو كان حافظا لها، عالما بقواعدها وإحكامها، قادرا على بيانها إلا انه لم يعمل بعلمه بسبب إعراضه عن الهدى، والنظر المؤدي إليه قال تعالى(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها , فأتبعه الشيطان , فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها , ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه..).
رابعا :التشدد في إقامة الحروف ومخارجها :
إلى الحد الذي يصرف عن فهم القران وتدبر معانيه، وقراءة الألفاظ وإخراج الحروف من مخارجها وحده لا يكفي في حصول الهداية بالقران ما لم يقترن به الإذعان والتصديق والعمل، لان الفهم من باب التصور وهو خيال ما لم يتفاعل معه المسلم ،وقد سمعنا من يجيد القراءة بالإحكام وضبط الحروف ويجعل أمر العباد وشؤونهم إلى أصحاب القبور من أولياء وصالحين ،فكيف لمثله أن يحصل له هدايةنسال الله السلامة.
دفع شبه:نقل العلامة ابن الجوزي رحمه الله بسنده إلى عبد الله بن الإمام احمد بن حنبل انه قال: سمعت أبي يقول": رأيت رب العزة عزة وجل في المنام فقلت : يا رب ما أفضل ما يتقرب به إليك المتقربون فقال: كلامي يا احمد قال: قلت : بفهم أو بغير فهم فقال: بفهم وبغير فهم )(2) وهي تدل بظاهرها على إن الفهم غير شرط في تلاوة كتاب الله فنقول: في توضيح رؤيا الإمام ما يلي :
1- قد اختلف العلماء في رؤية الله في المنام ،والراجح انه يرى مثالا لا حقيقة ،فيراه المؤمن حسب إيمانه وتقواه، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ،وذكره في مواضع عدة من كتبه وفتاويه(3) لا مجال لذكرها في هذه العجالة .
2-قوله بفهم أو بغير فهم يخالف ما جاء في الآيات الدالة في وجوب تدبر القران ،وان المقصود من التلاوة الفهم والعمل قال تعالى ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ..)،وهذا يدل على أن الثمرة المقصودة من التلاوة هي الفهم ،والذي يؤدي إلى العمل لأنه فرع عنه ،قال بعض السلف: ( انزل هذا القران لتتلوه فاتخذوا تلاوته عملا )(4)،.وهو يدل على إن التلاوة بفهم وتدبر أعظم بكثير من تلاوة بفهم بل بينهما درجات علاوة على ذلك فقد لا يؤجر المسلم إذا تلا القران بدون تدبر وفهم .
3-رؤيا الإمام احمد تخالف روايته ،وقد تقرر في علم الحديث أن العبرة بما يرويه الراوي لا بما يراه أو يعمل به، فقد يرى خلاف ما يرويه نسيانا أو خطا، أو يتأول فهو غير معصوم، والله تعبدنا بإتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،هذا إذا كان رأيا فكيف إذا كان رؤيا منام ،.ومن المعلوم أن رؤيا المنام لا ينبني عليها حكما شرعيا، لان الإحكام مصدرها القران والسنة وإجماع السلف رضي الله عنهم .
4-قد يقول قائل إنها رؤيا الإمام احمد إمام أهل السنة وهي ليست عابرة فنقول ما قاله سيد العقلاء علي بن ابي طالب: (الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله)،وهو الذي من اجله جاهد الإمام احمد، وتحمل أنواع البلاء والفتن، وأوذي في سبيل ذلك حتى رفع الله به لواء السنة ،.وأخيرا فعلى تقدير صحة الرؤيا فنقول : قوله بفهم أو بغير فهم قد لا ينافي حصول ثواب التلاوة وان لم يفهم القارئ المعنى ،لكن أين ذلك من القراءة المترسلة التي يقف عندها القارئ ويتدبر معاني القران ، ومواعظه ،وإحكامه ،ووعده، ووعيده ؟(5).
بدع تمنع الاهتداء بالقران :
كلما امتد الزمان ،وبعد الناس عن اثأر النبوة والرسالة قل العلم، وفشي الجهل ،وظهرت البدع والخرافات يقول صلى الله عليه وسلم(إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتىإذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوسا جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا...)(6) ،ولا يقاوم البدع ويرد على أهلها إلا العلماء ،فإذا اختفى العلم والعلماء أتيحت الفرصة للبدع أن تظهر وتنتشر، وبسبب ذلك انتشرت في دنيا المسلمين بدع وضلالات صرفتهم عن الاهتداء بالقران ،والانتفاع من آياته ونوره، وأبعدتهم عن فهم معانيه وتدبر آياته والعمل بإحكامه فمن تلك البدع ما يلي.
1-التخوف من تفسير القران : قال تعالى (وقد يسرنا القران للذكر فهل من مدكر )أي مذكر ومتعظ به، والله انزل القران هداية لجميع الناس، ويسر لهم فهمه والعمل به ،فمن هو في البادية يفهم منه ما يمكنه العمل به ،وكذا من هو بين القصور والأبراج، وهؤلاء يتحرج احدهم من تفسير أية وان كان حافظا لمعناها ،وان كان قاراء لتفسيرها مرات، وان جاء احدهم يسألهم عن تفسير أية زجروه بشدة ونهروه، والأعظم من ذلك أنهم يقرؤون عليهم من الحواشي والمتون للمتأخرين من العلماء والفقهاء وشروحاتهم وتعليقاتهم،وهي على بعدها من نور النبوة ،وعدم فائدتها الكبيرة للحقائق الإيمانية ،والمطالب الإلهية ،لا ينتفعون منها نشئ، وبسببها هجر المسلمون تعاليم القران السامية، وما يدعو إليه من الأخلاق والفضائل التي رفعت امتنا الإسلامية إلى أوج عزها ومجدها ،وبسبب هذا الهجر وصلنا إلى ما نحن عليه من ضياع وتفرق .
-حكاية مكذوبة عن الامام السيوطي رحمه الله :ذكر عن السيوطي صاحب تفسير (الدر المنثور في التفسير بالمأثور انه كان إذا أراد أن يفسر أية من كتاب الله خرج إلى الجبل ففسره خوفا من الخطاء ،ومخافة أن ينال غضب ينزل عليه وعلى أهل البلد، قال صاحب كتاب (السنن والمبتدعات) تعليقا على الحكاية :كلام باطل لا أصل له البتة ،وما القي هذا بين الناس ألا الشيطان ليصدهم عن سبيل الله ،وقد قال تعالى (ولقد يسرنا القران للذكر فهل من مدكر )(7).
2-قراءة الفاتحة بنفس واحد : قد جاء النهي عن الإسراع في القراءة لأنه يمنع التدبر والاهتداء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو ( إقراء القران في كل سبع فقال: ليتني قبلت رخصة رسول الله وذلك أني كبرت وضعفت )وفي رواية لأبي داود انه قال إقراء القران في ثلاث )(8) ،وهذا الأمر لا يشرع الاقتداء به يقول شيخ الإسلام رحمه الله (فإذا كان من يقرؤه في ثلاث أحيانا قد يفهمه حصل مقصود الحديث ،ولا يلزم إذا شرع فعل ذلك أحيانا لبعض الناس أن تكون المداومة عليه مستحبة، ولهذا لم يعلم من الصحابة على عهده من داوم على ذلك اعني قرأه فيما دون سبع ،ولهذا كان الإمام احمد رحمه الله يقرؤه في كل سبع ) ،وقد نقل النووي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم انه ختم في كل ليلة ختمه، وبعضهم في كل ليلة ختمتين ،ونقل عن السيد ابن الكاتب الصولي رحمه الله انه ختم ثماني ختمات ،في الليل أربعا وفي النهار أربعا، وهذا يحمل على ما مع كل واحد منهم من قران ،أو يحمل على المبالغة أو يكون من باب إطلاق الكل واردة الجزء، ولهذا قال النووي بعد ذكر الخلاف في عدة الختم (والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه ،وكذا ما كان مشغولا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ،وان لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة.......) (9)،أما تلاوة الفاتحة بنفس واحد فهو مع انه خلاف السنة فهو يمنع من تدبر السورة ،وهي عادة بعض قراء زماننا حيث تراهم يتنافسون في سباق محموم في عدم اخذ النفس أثناء تلاوة القران أمام الجمهور ليقولوا عنه انه متمكن في تلاوته ،وله عرب صوتية ،وانه أفضل من ذاك المقرئ ،وهذا يعيب على ذلك ،وأخر يعيب على فلان والأمر لله الديان .
قراءة القران بأصوات الغناء :جاء في الحديث(اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتِها وإيَّاكم ولحون أهل الفِسْق وأهل الكِتابين، وسيجيءُ قومٌ من بعدى يرجِّعون القُرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنَّوح، لا يجاوز حناجرَهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الَّذين يعجبهم شأنهم...) (10)قال السخاوي في جمال القراء : (ومما ابتدع الناس فيي قراءة القرآن أصوات الغناء ، وهي التي أخبر بها رسول الله أنها ستكون بعده ،وقد قال رسول الله في هؤلاء، (11)مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم ،وابتدعوا أيضاً سموه الترعيد وهو أن يرعد صوته كالذي يرعد من برد أو ألم، وقد يخلطه بشيء من ألحان الغناء ،وآخر سموه الترقيص، وهو أن يروم السكوت على الساكن، ثم ينفر مع الحركة كأنه في عدْو أو هرولة وآخر يسمى التطريب، وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به، فيمد في غير مواضع المد، ويزيد في المد على ما ينبغي لأجل التطريب، فيأتي بما لا تجيزه العربية ونوع آخر يسمى التحزين، وهو أن بترك طباعه، وعادته في التلاوة، فيأتي بالتلاوة على وجه آخر، كأنه حزين يكاد يبكي، مع خشوع وخضوع، ولا يأخذ بذلك الشيوخ لما فيه من الرياء ".(12) اهـ وهذا الأخير إن كان خشوعا فهو حسن إلا إن الممنوع منه كما أشار السخاوي التكلف وقصد الرياء ،ومن البدع ما يفعله الجهال من العوام في حفلات المآتم والختامات عندما يسمعون قارئ القران فأنهم لا يفقهون شيئا مما يتلى بل يصيحون ويزعقون، وأحيانا يتكلمون بما يخالف الشرع ، والإثم يقع على هؤلاء القراء فان بعضهم يقرءاه لأجل حطام الدنيا ،ولا يصدر منهم أي إنكار لما يرونه ،ويسمعونه خوفا على جاههم ومركزهم ،يقول صاحب السنن والمبتدعات (وقولهم لقارئ القران كمان كمان ياستاذ هيه هيه يفتح عليك حرمه الله يقول سبحانه (وإذا قرائ القران فاستمعوا وأنصتوا لعلكم ترحمون ..)والحق أنهم لم يتذوقوا ألفاظ القران لأنهم لم يفقهوا له معنى بل ما كانت إلا من حسن نغمة القارئ، والدليل انه لو قرئ قارئ ليس حسن الصوت وقراء السورة بعينها التي كانت تتلى عليهم لانفضوا من حوله ساهين لاغين له ،ولمن جاء به قائلين جايب لنا فقي حسه زي حي البوابور )(13).
طريقة الاهتداء بالقران : وما دمنا تطرقنا إلى موانع الاهتداء بالقران، فلا بد من الإشارة ولو إجمالا إلى ما يعين على الاهتداء بالقران ،وهناك أمور معينة على الاهتداء بالقران والاستضاءة بنوره منها :
إعمال العقل في تفهم معانيه :ولاشك أن القران الكريم حوي علوما وفهوما، وجاء بهدايات تامة تفي بحاجة البشرية، ويكفي أن تستعرض مقاصد القران التى رمى إليها، وما دعا إليه من رحمة وهداية ،ولذلك حث القران المسلمين عموما على قراءة القران ودراسته، وتعقله والرجوع إليه في كل أمر ليتحقق لهم العلم النافع والعمل الصالح الذي يحفظهم من مزالق الشهوات والشبهات،و ليصل بهم الى هداية خلق الإيمان في القلب الذي هو منحة ربانية، وكل ذلك لا يتم إلا من خلال إعمال العقل وعدم إهماله في التفكر ،ومن ذلك دراسة القران وآياته على ضوء ما توصل إليه العلم الحديث من تطور في شتى المجالات العلمية ،فهذا من شانه أن يرتقي بإيمان المسلم ويقوي من يقينه بصدق ما جاء به الله ،ويكفي من أهمية إعمال العقل في القران أن مادة عقل وردت في القران خمسين مرة أو يزيد للدلالة على أهمية فهم القران في بناء شخصية المسلم .
الاستماع إلى التلاوة : ولاسيما من حسن الصوت فانه ابلغ في التأثير من مجرد قراءة المرء لنفسه، وقد روي عن ابن مسعود انه قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ( اقرأ علي ) . قلت : آقرأ عليك أنزل ؟ قال : ( فإني أحب أن أسمعه من غيري ) . فقرأت عليه سورة النساء ، حتى بلغت : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } . قال : ( أمسك ) . فإذا عيناه تذرفان ....(14)،وقد مدح الله سبحانه أهل السماع للقران لما يحصل لهم من زيادة الإيمان، واقشعرار الجلد ودمع العين قال تعالى (.{الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد.)وربما حصل بالسماع من حلاوة القران وكأنه لم يسمع الآية ألا هذه الساعة يقول الشيخ ابن تيمية رحمه الله : (وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات، زاد في قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ما لم يكن، حتى كأنه لم يسمع الآية إلا حينئذ، ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن، فزاد علمه باللّه ومحبته لطاعته، وهذه زيادة الإيمان، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏173‏]‏(15)،
ترديد الآية :وقد ذكر أهل العلم استحباب ذلك ،وأوردوا فيه اثأرا صحيحة يقول النووي رحمه الله في التبيان (اعلم أن جماعات من السلف كانوا يطلبون من أصحاب الأصوات الحسنة أن يقرءوا وهم يسمعون هذا متفق على استحبابه )(16)، ثم ذكر بعض الأحاديث والآثار في فضل استحباب ترديد الآية، ومن ذلك ما رواه أبو ذر رضي الله عنه انه قال قام النبي صلى الله عليه وسلم في أية يرددها حتى أصبح ..،وترديد الآية يفتح على المسلم مقصود الآية وتدبر معناها، ويرزقه الاهتداء بالقران والتمسك بعروته .
النظر في المصحف :وذلك أن العين تؤدي إلى النفس ،وبين النفس والصدر حجابا ، والقران في الصدر فإذا قراءه عن ظهر قلب فإنما يسمع بأذانه فتودعه إلى النفس، فإذا نظر في الخط كانت العين والإذن قد اشتركتا في الأداء، وذلك ادعى للأداء وكانت قد أخذت العين حظها كالإذن )(16)، وهذا التعليل يؤكده عمل الصحابة كونهم كانوا يقرؤون من المصحف بعد جمعه، وقد بنى بعض العلماء على هذا الأساس أفضلية القراءة من المصحف على القراءة عن ظهر قلب ،ومن المعاصرين من كان يخطر له خواطر وإشارات عن طريق التأمل والنظر في المصحف ،فيأخذ في تفسيره وبيان معانيه فينبهر الحاضرون من توقد ذكائه .
رفع الصوت بالقراءة :وهذا إن لم يؤد إلى التشويش على المصلين، أو إذا لم يخف الرياء على نفسه ، ومن فوائد رفع الصوت( انه يوقظ القارئ ،ويجمع همه إلى الفكر فيه ،ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم ،ويزيد في النشاط ويوقظ غيره من نائم وغافل وينشطه )(17) وقد جاء في الحديث ( ما إذن الله لشئ ما إذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقران يجهر به )(18)،وقد كان يسمع للصحابة في تلاوتهم للقران مثل دوي النحل في بيوتهم ليلا ،ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إني لأعرف أصوات رفقة الاشعريين بالليل حين يدخلون منازلهم من أصواتهم بالقران بالليل وان كنت لم أر منازلهم حين ينزلون بالنهار )(19).
مراجعة تفسير الآية : وهذا السر في كون شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان إذا أشكل عليه معرفة تفسير أية، أو أشكل عليه معناها على وجه التحديد يستغفر الله ألف مرة ،ثم يذهب إلى المقابر المهجورة ويراجع التفاسير لائمة العلم ويتضرع إلى الله، ويطلب منه المزيد من الفهم والعلم يقول ( ربما طالعت على الآية مائة تفسير ثم اسأل الله ائلفهم وأقول يامعلم إبراهيم علمني ) ،ولقد كان ذلك له ابلغ الأثر في أن فتح الله على الشيخ معاني القران وهو في محبسه الأخير يقول : (قد فتح الله على في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القران ومن أصول العلم أشياء كان أكثر العلماء يتمنونها ....)(20)أسال الله أن يرزقنا تلاوة كتاب الله وفهمه والعمل به، انه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله أولا وأخرا كما يجب ويرضى، والصلاة والسلام على اشر خلقه وصفة رسله وعلى اله وصحبه أجمعين .
_________________________
1) وانظر ردَّ العلاَّمة عبدالسلام الخضيري على هذه المقولة من كتابه( القيّم "السنن والمبتدعات") ص94 - 95، الكتاب من نشر دار الكتب العلميَّة بيروت عام 1400 – 1980 .
(2) سير أعلام النبلاء ج11 ص 347 .،وكتاب مناقب الإمام احمد لابن الجوزي فصل (المنامات والرؤى التي رئيت في الإمام) .
(3) مجموع الفتاوي لابن تيمية ج5ص251 ج1ص169، ومجموع فتاوى ابن باز 6- 367
(4) الجواب الكافي 252لمن سال عن الدواء الشافي للإمام ابن القيم رحمه الله .
(5) انظر كتاب مناقب الإمام احمد بن حنبل للعلامة ابن الجوزي رحمه الله فصل منامات ورؤى للامام رحمه الله .
(6)الحديث رواه عبدالله بن عمرو بن العاص في صحيح البخاري الرقم: 100ورواه مسلم في صحيحه الرقم: 2673(7) انظر السنن والمبتدعات تأليف العلامة عبد السلام ص الكتاب من نشر دار الكتب العلميَّة بيروت عام 1400 – 1980 .

(8)رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص الرقم: 1975

(9) كتاب اداب حملة القران للعلامة النووي رحمه الله ص60 ،تحقيق وتعليق محمد الحجار طبع دار ابن حزم الطبعة الرابعة 1996.
(10) الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط (7/ 183، رقم 7223)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 540، رقم 2649) ومحمد بن نصر في قيام الليل كما في مختصره للمقريزي (ص 219 رقم 147) بلفظ: ((اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتِها وإيَّاكم ولحون أهل الفِسْق وأهل الكِتابين، وسيجيءُ قومٌ من بعدى يرجِّعون القُرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنَّوح، لا يجاوز حناجرَهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الَّذين يعجبهم شأنهم))؛ محمد بن نصر في الصلاة، وأبو نصر السجزي في الإبانة عن حذيفة.
قال الهيثمي (7/ 169): فيه راوٍ لَم يسمَّ، وبقيَّة [يعنى بن الوليد أحد الضّعفاء المدلّسين] أيضًا.
قال الذَّهبي في الميزان (2/ 313) والحافظ في اللسان (2/ 319): تفرَّد به بقيَّة ليس بمعتمد، والخبر منكر؛ فالحديث ضعيف، لا يصح ولا يحتج به.قال الشَّيخ الألباني: ضعيف.
صحيح وضعيف الجامع الصغير (7/ 439).
(11ومن المراجع المهمَّة في باب بدع القرَّاء فتاوى شيخ الإسلام 36، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 237 وما بعدها، والسنن والمبتدعات وهو كتاب بديع في موضوعِه إلاَّ أنَّ مؤلِّفه - رحمه الله - قاسٍ في ألفاظه، انظر ص 215 إلى ص 222، والقول المفيد للأخ محمد موسى نصر ص 70، وفي كتاب بغية المُريد فصل في بيان الأساليب الممنوعة في التّلاوة ص 82. كتاب "تبين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزَّيلعي الحنفي ج1 - 91، وبدع القرَّاء ص 12 - 15، وأضواء البيان للشنقيطي ج8 – 358
(12) من المراجع الهامَّة في الباب كتاب "تبين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزَّيلعي الحنفي ج1 - 91، وبدع القرَّاء ص 12 - 15، وأضواء البيان للشنقيطي ج8 - 358. أحكام قراءة القُرآن الكريم للشَّيخ الحصري، ص 251، وما بعدها.
(13) انظر السنن والمبتدعات تاليف العلامة عبد السلام الشقيري ، والكتاب طبع عدة طبعات منها بمكتبة ابن تيمية بالقاهرة بتقديم الشيخ محمد حامد الفقي ،وطبع بتصحيح محمد خليل هراس بمطبعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1980 ،وهو كتاب نفيس في بيان البدع في الأذكار والدعوات ،إضافة على اشتماله فصول نافعة في التمسك بالكتاب والسنة والدعوة للجهاد في سبيل الله ،وفيه خطب ومواعظ وأذكار ، إلا إن أسلوبه اتسم بنوع من الحدة في بعض الأحيان في الرد على أهل البدع وأهل مكة أدرى بشعابها .
(14) رواه البخاري عن عمرو بن مرة الجهني الرقم: ،4582 ومسلم عن عبد الله بن مسعود الرقم: 800.
(15) انظر مجموع الفتاوى لسيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المجلد السابع فصل (أن الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به) .
(16) ذكر أهلُ العلم أنَّ ذلك مستحبّ، أورد النَّووي نصوصًا وآثارًا صحيحة في اسْتِحباب ترْديد الآي ص 46 فليراجع ففيه الغُنية والكِفاية، واعلم - رعاك الله - أنَّ ترديد الآية معِين على الوصول إلى مقاصِدِها، وبه يفتح الله من ألْطافه وخزائنه ما يجلّ عن الوصف، فلا ينبغي لمسلم أن يضيِّع هذه الصفْقة الرَّابِحة، وقد كتبتُ في الموضوع كتابًا صغيرًا عنوانه "البيان في تدبّر القرآن".
(17) المصدر السابق ص 105.
(18)المصدر السابق ص 106 .
(19)رواه مسلم في صحيحه الرقم: 792 الرقم: 1473، وانظر صحيح النسائي للشيخ الألباني رحمه الله الرقم: 1016 ،وصحيح أبي داود الرقم: 1473
(20)الراوي: أبو موسى الأشعري البخاري الرقم: 4232 ،ومسلم في صحيحه عن ابي موسى الاشعري الرقم: 2499.
(21)انظر طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي رحمه الله ص 395 وما بعدها ،وكتاب الأعلام االعلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية للحافظ عمر بن علي البزار رحمه الله ،وكتاب العقود الدرية في مناقب ابن تيمية لابن عبد الهادي رحمه الله. كتبه مرشد الحيالي