منقول من موقع الإسلام اليوم للدكتور جاسم سلطان

تحدث معهم، نصحهم، بيّن لهم أهمية الموضوع، بيّن لهم أثره الحاضر والمستقبلي، ذكّرهم بالله، ذكّرهم باليوم الآخر...
استمعوا إليه بكل إنصات، هزّوا رؤوسهم، اغرورقت عيون بعضهم بالدموع، أعلن بعضهم تقصيره، تعاهدوا على بداية جديدة للعمل لا تتوقف ولا تهدأ حتى تظهر الثمار....
وانتظر صاحبنا النتائج. وبداية الانطلاق والإنتاجية لكن شيئاً من ذلك لم يحدث...
كل شيء كما هو، فكلام الليل يمحوه النهار كما يقولون...
يحدث ذلك مع الأبناء ومع الموظفين ومع الدعاة.. يحدث في كل مكان... قصة مألوفة ومشهد متكرر.
والسؤال: لماذا يحدث ذلك؟
سنحاول أن نجيب عن هذا السؤال الهام من خلال محاولة كشف أسبابه ؛
لاشك أن عدد العوامل المحتملة المؤثرة على المشهد لا حصر لها، وهي معقدة بقدر تعقيد ظاهرة الإنسان ذاته. ولكنّ هناك مدخلاً جزئياً قد يعين على الفهم... ويسدّ بعض جوانب الإجابة عن هذا السؤال الهام. وسنتناوله من خلال الحديث عن ثلاث زوايا هامة متعلقة بالموضوع وهي:
زاوية× التفسيرات للظاهرة.
ظاهرة العقد النفسي.×
ظاهرة حساب الحافز.×

التفسيرات:
ولنبدأ بالتفسيرات التي أُعطيت للظاهرة، لعلها تضع حجر الأساس لبعض المداخل التي تعين في علاجها.
فالتفسير الأول: يقوم على فرضية تقول: "من يشعر بالرضا والراحة ينتج أكثر" بمعنى أننا لو وفّرنا ظروف عمل ملائمة، ووفّرنا دعماً معنوياً عالياً، فستكون الإنتاجية أعلى". والثابت علمياً أن الرضا والراحة تساهم في الاستمرارية في المكان أكثر من الفاعلية والإنتاج، وأنه إن كانت هناك علاقة بين الأمرين فيمكن القول إن الفاعلية والإنتاج يساهمان في الراحة والرضا.
أما التفسير الثاني: فيقوم على فرضية تقول "إن البشر يبحثون عن المكافآت..وغالبا ً المادية"، والثابت أن المكافآت تؤتي ثمارها تحت شروط معينة، مثل: أن يرى المتلقي أنها مكافِئة للجهد الذي وضعه، وأن يكون محتاجاً لها أصلاً..الخ.
والتفسير الثالث: يقوم على فرضية تقول "للإنسان حاجات متدرجة إذا لُبّيت زادت إنتاجيّته"، وهنا تُطرح الاحتياجات الفسيولوجية كالمطعم والمشرب، والحاجة للأمان العائلي والوظيفي، والحاجة للانتماء والحب، والحاجة للاحترام، والحاجة لتحقيق الذات والنجاح بصفتها متطلبات لزيادة الإنتاجية. وهذا جانب من الصورة.

العَقْد النفسي:
أما الزاوية الثانية من الصورة فهي تقع في دائرة ما يمكن أن نطلق عليه "العقد النفسي"، وهو مصطلح يبدو غريباً شيئاً ما، فنحن نعرف العقد القانوني، أو العقد الظاهر الذي نبرمه مع الأطراف الأخرى، سواء أكان مكتوباً أو شفوياً، أما العقد النفسي فهو أمر سنلقي عليه الضوء بإيجاز... ويمكن أن نقول إن المدخل لفهم الموضوع يمكن صياغته كالتالي: "عندما نبرم عقداً ظاهراً مع طرف ما فنحن نرى قمة جبل الجليد ولكن بقية الجبل لا نستطيع أن نراها؛ لأنها تغوص في عمق النفس الإنسانية"، وبالتالي يجب التمييز بين ثلاثة أنواع من العقود:
- العقد القهري: كما في السجون حيث أحد الطرفين وهو السجين لا حيلة له، مغلوب على أمره.
- العقد الحسابي: حيث ينظر كل من طرفي العقد إلى العائد، وتتم عملية تبادل المنافع، وهذا يقع في غالب العقود القانونية.
- العقد التعاوني: ويقع حين تشترك الأطراف في الغاية والهدف، ويصبح تحقيق الهدف مطلباً ذاتياً لكل طرف، كما هو في شأن الدين والأوطان والقضايا الكبرى، أو هكذا يفترض، ويمكن صياغة الموضوع كالتالي: "كلما اشترك الأفراد في الغاية والهدف كان التزامهم وإنتاجيتهم أكبر".

الحسابات:
أما الجانب الثالث من الصورة فيقول: "إن الإنسان سواء شعر أم لم يشعر يقوم بعملية حسابية قبل أن يوظف جهده في أي مجال، وبحسب نتائج هذه الحسبة يقرر الجهد الذي سيضعه في القضية". أما العناصر الداخلة في هذه الحسبة:
فأولها: هو قائمة وأولويات احتياجاته الذاتية، فكلما تباعدت أولوياته عمّا هو مطلوب كلما قلّ الجهد والإنتاجية.
وثانيها: عنصر الجهد والطاقة اللازمة للقيام بالمطلوب، فكلما زادت ضعفت الهمة وتقاصر العزم.
أما العنصر الثالث: فهو توقّعه لدرجة تحقق النتائج بعد بذل الجهد.
والخلاصة هنا أنه كلما كان المطلوب يقع في رتبة أعلى في سلم احتياجات الفرد، وكانت النتائج قابلة للتحقق في حساباته الداخلية، وكان الجهد المطلوب في حدود إمكانياته، كانت إنتاجيته أكبر.

والخلاصة: عندما نطلب زيادة الحماس من فرق العمل والأفراد، ونبحث عن الإنتاجية والفاعلية والكفاءة في قطاعات العمل المختلفة في الأمة، وخاصة في إدارة البشر في اتجاه فكرة النهضة والتقدم نحتاج إلى الاهتمام بعدد من العناصر مجتمعه في الأفراد :
أولها: تعزيز الشعور بقيمة الهدف والارتقاء به في سلم أولويات الفرد حتى يدخل من ضمن تكوينه الخاص واحتياجاته الداخلية، وبالتالي نتحول من العقد الظاهر إلى العقد النفسي.
وثانيها: وضع الهدف المرحلي القابل للتحقق في ضوء قدرات الإنسان وجهده بحيث يستشعر إمكانية تحقيق النتائج.
وثالثها: توفير ظروف العمل الملائمة ونظم المكافآت المناسبة وتوفير الاحتياجات الأساسية للفرد...الذي هو مرتكز النجاح في كل المشاريع.
هذه لمحة بسيطة تعين في فهم ظاهرة التقاعس عن المهام، والتي يعاني منها الكثيرون،

وللحديث بقية في لقاءات قادمة بعون الله.